الجزء الخامس- جذور وثمار انحطاط الرأسمالية .. مصر نموذجا


سامح سعيد عبود
2006 / 12 / 23 - 10:00     

من واقع التحليل الطبقى كما ورد فى الأجزاء السابقة،يمكنا التعرف على جذور الكثير من المظاهر السياسية والاجتماعية والثقافية التى نصفها بالانحطاط، من تدهور التعليم وتفشى الجهل والخرافات إلى اضمحلال الحياة السياسية وتدهور المجتمع المدنى، من الاستبداد وتوريث الحكم و المناصب و المهن والحرف المختلفة إلى العودة للطائفية المذهبية والدينية والعرقية، ومن انتشار الأصوليات الدينية إلى الهوس الجنسى، ذلك لأن كل هذه المظاهر هى ثمار عطنة لرأسمالية منحطة، وهذه الجذور الاقتصادية الاجتماعية هى السبب فى ثمار الفقر و التهميش و التخلف التى تعانيه الغالبية الساحقة من السكان، و هى السبب فيما تتبناه غالبية السكان من قيم وسلوكيات وأفكار لا تنتمى للحداثة التى صاحبت الرأسمالية فى فترات صعودها التاريخى.
فبرغم أن علاقات الإنتاج السائدة فى المجتمع هى علاقات رأسمالية إلا أن رأسماليتها تلك لا تجعل الأساس الاقتصادى الاجتماعى للمجتمع فى غالبه ينتمى للحداثة الرأسمالية القائمة على تقديس العمل والعلم والحرية الفردية والمساواة بين الناس وغيرها .
إذ أن ذلك التخلف المزمن المتجسد فى علاقات الرأسمالية الرثة السائدة لدينا يعود لأسباب تعرقل عمليات النمو والتراكم أمام رأسالمال المالى والتجارى وتطوره لرأسمال إنتاجى فى الصناعة والزراعة والخدمات. ففى حالة حدوث هذا التطور من مجتمع تعتمد غالبية أفراده على المضاربة والتجارة و الريع العقارى والفوائد على الودائع، لتشبع نهمها الاستهلاكى إلى مجتمع تعتمد غالبية أفراده على الإنتاج لإشباع احتياجاته المادية، سوف يتم زيادة الطلب على البحث العلمى والإبداع التكنولوجى والتعليم الجيد والديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان، و سوف يقترن بهذا الطلب تفشى الثقافة العلمية بين الناس وارتقاء ثقافاتهم ووجدانهم، و سوف يتخلى الناس عن فرديتهم وسلبيتهم السياسية وطائفيتهم العرقية والمذهبية للدفاع عن مصالحهم الجماعية كطبقات اجتماعية فى شتى منظمات المجتمع المدنى والأهلى من أحزاب ونقابات وغيرها وليس كطوائف دينية أو عرقية عبر الجمعيات الدينية كما هو حادث الآن.. سيكون لدينا حياة سياسية حقيقية تعبر عن نفسها فى أحزاب طبقية تدافع عن برامج سياسية و تخوض انتخابات تنافسية على أساس من تلك البرامج.. أما فى حالة استقرار الوضع فى المجتمع على مجرد تربح رأسماليته من التجارة والمضاربة على السلع والعقارات، و الحياة على فوائد الودائع والأسهم، فلن يكون لتلك الرأسمالية حاجة ماسة لا للعلم و لا للبحث العلمى والتكنولوجى و لا حاجة للتعليم الجيد و لا طلب لديها على العمل الماهر المنتج و لا حاجة لها للسلطة السياسية إلا بمقدار حماية تلك السلطة لاستثماراتها التى يمكن أن تضمنها بمافيات الفساد الإدارى فحسب دون وجع دماغ الحياة السياسية الحقيقية.
فالديمقراطية البرجوازية لم تصاحب صعود الرأسمالية لأن البشر اكتشفوا أنها طريقة فى الحكم أفضل من الحكم الاستبدادى، ولكن صاحبت الديمقراطية صعود الرأسمالية للسلطة لأنها كانت تعبر عن مصالح تلك الطبقة الصاعدة اجتماعيا، وذلك لأن البرجوازيون أصبحوا مصدر موارد الدولة الرئيسى عبر دفعهم للضرائب ،فضلا عن ما تربحه الدولة مما يصدره هؤلاء من سلع للدول الأخرى ، ومن هنا فقد دافع الرأسماليين عن حقهم فى سؤال تلك الدولة عن سبل انفاق تلك الموارد المسحوبة من جيوبهم والتى تسببوا فيها، ومن هنا بدأت مراقبة السلطة التشريعية باعتبارها ممثلة لدافعى الضرائب على الحكومة التى تحصل على تلك الضرائب، ولما كان لهؤلاء الرأسماليين مصالح مختلفة ومتناقضة فيما بينهم فقد صاغوا نظام انتخابى لتدوال السلطة فيما بين ممثليهم السياسيين عبر انتخابات البرلمان الذى أصبح لا يكتفى بمراقبة الحكومة بل امتدت حقوق الرأسماليين ليختاروا الحكومة بأنفسهم عبر تطور تاريخى طويل ، وقد حرموا الطبقة العاملة لفترات طويلة من تلك الحقوق التى حصلوا عليها لأنفسهم، لأنهم كانوا يرون فى أنفسهم أصحاب المصالح الحقيقية فى الأمة، و لكن مع التطور التاريخى حصل جميع المواطنيين على الحقوق السياسية للرأسماليين كما نعرفها الأن ، وإن يكن هذا الحق مجرد حق قانونى شكلى، لا علاقة له بالواقع حيث مازال الرأسماليين وممثليهم السياسيين يحتكرون تلك الحقوق عمليا.
فى الوقت الذى كان معظم المصريون يعيشون فيه على زراعة القطن وتصنيع المنسوجات القطنية، وزراعة قصب السكر وتصنيع سكر القصب، كان هناك طلب من الرأسمالية السائدة على العلم و العمل الماهر والديمقراطية السياسية وشتى مظاهر الحداثة ،أما حين أصبح معظم المصريون يعيشون على السياحة وريع كل من البترول والغاز وقناة السويس وإيرادات المصريين العاملين بالخارج والمعونات الأجنبية وتضاءل حجم من يعيشون على الصناعة والزراعة، أصبح لا يوجد أى طلب فعال على العلم والعمل الماهر والديمقراطية . فقد سعت الرأسمالية التى حكمت البلاد قبل يوليو إلى الحداثة سياسيا وثقافيا واجتماعيا فى إطار صراعها من أجل الانفراد بالسلطة السياسية ومشاركتها فى تلك السلطة ،أما بيروقراطيوا يوليو فقد أعادوا البلاد لما قبل الحملة الفرنسية باعتبارهم المماليك الجدد...وتعاملوا مع الرأسماليين كما تعاملوا مع باقى طبقات المجتمع باعتبارهم عبيد احساناتهم، ولما كان هؤلاء الرأسماليين لا يدفعون ضرائب بالمعنى الحديث وإنما يدفعون أتاوات لهؤلاء المماليك الفاسدين المحتكرين للسلطة، ولما كانوا يستطيعون حل التناقضات والصراعات فيما بينهم مستغلين علاقاتهم برجال الدولة وشللهم، فأن الديمقراطية أصبحت لا تشكل لديهم طلبا فعالا يسعون لتحقيقه ، أما الذين يدفعون الضرائب من المنبع فهم العمال و الموظفين وجماهير البرجوازية الصغيرة وصغار الرأسماليين الذين يعملون فى الاقتصاد الرسمى الذى يشكل 40% من الاقتصاد المصرى،أما من يعملون فى الاقتصاد غير الرسمى فإنهم بطبيعة الحال لا يسددون أى ضرائب وإن كان بعضهم يدفع أتاوات لرجال الإدارة الحكومية.
من أبرز الأسباب التى تعرقل عملية تجاوز التخلف السابق الإشارة إليها فى المجتمع المصرى هو تشوه تلك العلاقات الرأسمالية السائدة بالأتاوات والعمل الجبرى وعقود الإذعان التى تفرضها إما بيروقراطية الدولة المملوكية الحديثة و موظفوها من المماليك على النشاط الفردى والرأسمالى أو تفرضها بلطجة الخارجين عن القانون على نشاط المواطنين كما كان يفرض الفتوات الأتاوات على الحرافيش ومن لا يصدق ذلك فلينزل لأى موقف لسيارات الميكروباس أو أى سوق للخضار أو أى منطقة عشوائية من المناطق التى لا يجرؤ رجال الشرطة الدخول إليها بعد الغروب ، ليعاين الوضع بنفسه إذ سوف يجد عالم والحرافيش الجدد المطحونين ما بين أتاوات رجال الشرطة والتموين والصحة وأتاوات البلطجية، هذا المناخ المملوكى يجعل المستثمرون يعزفون عن الاستثمار الصناعى والزراعى والخدمى.
هذا العزوف المزمن عن التحول الاجتماعى من الاستهلاك إلى الإنتاج يجعل الرأسمالية الغالبة تنتمى فى معظمها لرأسمالية ما قبل الثورة الصناعية وليس لرأسمالية ما بعد الثورة الصناعية، حيث يغلب علي نشاط تلك الرأسمالية الطابع التجارى والمضارب أو تجدها مازالت محصورة فى الإنتاج الفردى والعائلى والسلعى البسيط العاجز عن التراكم والنمو إلى رأسمالية صناعية أو زراعية، ومن هنا فإن الغالبية الساحقة من المصريين مازالوا يوفرون احتياجاتهم المادية بنفس الطرق التى كان يوفر أجدادهم بها تلك الاحتياجات فى العصور الوسطى، والفرق الوحيد بينهم وبين هؤلاء الأجداد أنهم يستلكهون ويستخدمون سلع وتكنولوجيات مستوردة، على سبيل المثال السيارات بدلا من العربات الكارو فى نقل المواطنين والبضائع، و من ثم فلابد وأن يفكر هؤلاء ويسلكوا كما كان يفكر أجدادهم و يسلكون، فأنشطتهم غالبا ما تدور ما بين التجارة والخدمات و ممارسة الحرف والمهن المختلفة سواء فى الصناعة أو الزراعة أو أداء الوظيفة الحكومية بنفس الطريفة التى كان يؤدى بها المماليك وظائفهم.أما من يوفرون احتياجاتهم المادية من الاستثمار أو العمل فى استثمارات رأسمالية متطورة فى الصناعة والزراعة والخدمات فقد لا يتجاوزون المليونين من بين ثمانين مليون، وهؤلاء هم الناجون من التخلف والتهميش الذى يقع فيه معظم السكان.