الجزء الأول: محددات الرؤية انحطاط الرأسمالية .. مصر نموذجا


سامح سعيد عبود
2006 / 12 / 18 - 09:56     

يمكنك أن تنظر للعالم من زاويتين للرؤية، ومن ثم يمكنك أن تستنتج من كل زاوية ما يتناسب مع تلك الزاوية، و لا يعنى ذلك أن هناك رؤية أكثر صحة من الأخرى.
يمكنك أن ترى العالم البشرى كوحدة واحدة، وهى زاوية صحيحة حيث أن البشر منذ أكثر من خمسة قرون يتوحدون فى حضارة واحدة هى الحضارة الرأسمالية، بمركزها الكائن فى أوروبا و أمريكا الشمالية واليابان وأطرافها فى بقية العالم، وأن هذه الحضارة تتطور عالميا ككيان واحد سواء فى أساسها الاقتصادى الاجتماعى أو فى جوهر النظم السياسية لدولها المختلفة أو حتى على مستوى الوعى الاجتماعى السائد فى العالم، فالرأسمالية كنمط انتاجى سائد عالميا تطورت فى العالم كله عبر مراحل متشابه ومتزامنة فى كل مكان على الأرض تقريبا ، بدأت تجارية ما قبل الثورة الصناعية ثم صناعية تنافسية ليبرالية اعتمدت على الطاقة البخارية فى القرن التاسع عشر ، ثم بيروقراطية احتكارية مرتبطة بالدولة القومية و قد اعتمدت على الكهرباء والبترول فى القرن العشرين ، ثم المرحلة الأخيرة الكوكبية المستندة على الثورة التكنولوجية فى المعلومات والاتصال، وفيها تتفكك قبضة الدولة القومية على الاقتصاد وسائر مظاهر المجتمع، وهى مرحلة تتشابة لحد كبير مع ملامح رأسمالية القرن التاسع عشر الليبرالية التنافسية..و وفقا لهذه الزاوية فسوف ترى العالم كوحدة تحليل تتواجد به كل مظاهر ما قبل الرأسمالية ..البدائية و الزراعية التقليدية والصناعية والرأسماليات ما قبل الكوكبية التجارية والمالية والتنافسية والاحتكارية والبيروقراطية، سترى كل المظاهر الممكنة فى كل المجتمعات داخل كل مجتمع على حدة بعضها سائد وبعضها هامشى، من الاقتصاد إلى النظم السياسية إلى الوعى الاجتماعى ، فإذا كان لدى الولايات المتحدة شركات متعددة الجنسية تستثمر عبر العالم كله إنطلاقا من بلدها الأم، فلدينا أيضا فى مصر فودا فون التى تستثمر بجانب مصر فى العراق وباكستان وإيطاليا، لدينا أصولية إسلامية وتوجد فى الولايات المتحدة جماعات أصولية مسيحية، وإذا كانوا يزورون لدينا الانتخابات فقد نجح جورج بوش بالتزوير أيضا، يشترى المرشحون لدينا الناخبين بالأموال والخدمات الشخصية، و يشترى الأغنياء المرشحون فى الولايات المتحدة بتموليهم حملاتهم الانتخابية، يخرج لدينا نظام التعليم جهلاء وأميون وهناك أيضا فى الولايات المتحدة ملايين الأميين وغالبية من الجهلاء، ينتشر الفساد الإدارى فى مصر كما ينتشر فى الولايات المتحدة أيضا، يوجد لدينا تعذيب فى أقسام الشرطة والسجون ويوجد هناك أيضا عنف من الشرطة وانتهاكات لحقوق الإنسان، يوجد لدينا عمل جبرى يخضع له العديد من المواطنين، ويوجد هناك عمل جبرى يخضع له المهاجرين بشكل غير شرعى، وهلم جرا، ففى داخل كل مجتمع على حدى فئات وشرائح وعلاقات اجتماعية تنتمى لكل موجات التقدم الإنسانى من أكثرها بدائية إلى أكثرها تقدما،ويتجلى هذا فى البنية السياسية والثقافية كل المجتمعات فى صورة عدم تجانس وتفسخ وتفتت بين أفراده وجماعاته المختلفة.
ويمكنك أن ترى العالم أيضا منطلقا من المقارنة بين المجتمعات المحلية والقومية والإقليمية كوحدات متجانسة، ذلك لو ركزت الرؤية على ما هو سائد وشائع فقط فى تلك المجتمعات ، ومن هنا ووفقا لدرجة كثافة التقدم والاندماج من ناحية و التخلف والتهميش من ناحية أخرى فى كل مجتمع سينقسم لديك العالم بكل وضوح ، إلى أربع لا عالم واحد، العالم الأول الذى تشكله مجموعة البلاد الرأسمالية المتقدمة فى أوربا وأمريكا الشمالية واليابان التى تزداد فيه درجات التقدم ومظاهره إلى حدها الأعلى وتقل مظاهر التخلف والتهميش إلى حدها الأدنى، ثم العالم الثانى المتمثل فى الدول المصنعة حديثا فى بعض دول شرق وجنوب شرق آسيا و فى بعض دول أمريكا اللاتينية، ثم ننتقل للعالم الثالث المتمثل فى بعض دول الشرق الأوسط وجنوب وجنوب غرب آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية ، ثم ننتقل للعالم الرابع المتمثل فى بعض دول الشرق الأوسط وجنوب وجنوب غرب آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية، حيث تزداد في تلك البلاد درجات التخلف ومظاهره إلى حدها الأقصى وتقل مظاهر التقدم والاندماج فى الحضارة العالمية إلى حدها الأدنى.
ومن ثم فإن من هم دون مستوى العالم الأول فى التقدم والتحضر والثراء أن يضعونه نموذجا للمقارنة فيما بين بلادهم وبينه، و أن يتمنون لحاق مجتمعاتهم به ، فبرغم التشابه فى الانحطاط بين مصر والولايات المتحدة كما سبق وأشرنا، إلا أن هناك فروقا لا مجال للشك فيها بين البلدين اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، والمسألة يمكن فهمها بأن التطور الرأسمالى الحالى يعمل على توحيد البشر عبر العالم كوحدة من البشر المنفصلين عن انتمائهم المحلى والقومى والإقليمى، و المجتمعات المحلية والقومية والإقليمية فى هذه الحالة لا تتمتع بأى تجانس داخلى بين أفرادها وجماعاتها المختلفة، إذ تتفسخ داخليا لشرائح متناقضة، بين التقدم والتخلف، والثراء والفقر ،والاندماج و التهميش..وهلم جرا ... فالتطور الرأسمالى الكوكبى الحالى يقسم البشر إلى ثلاث طبقات ملاك الثروة والمسيطرين عليها من الرأسماليين والبيروقراطين الذين لا يتجاوزون 2% من إجمالى السكان فى العالم، و هم الذين يسيطرون على كل الثروة والسلطة و يستأثرون بجل الدخل ، و العمالة المأجورة المنظمة والمستقرة لا تتجاوز 20% من السكان وهم الموكول لهم إنتاج كل السلع والخدمات وكل الثروة والقيمة المضافة، وهؤلاء يحصلون على دخول تكفيهم شر التسول والبطالة والتهميش، أما الباقين فمصيرهم هو البطالة والتهميش والحرمان من الثروة والسلطة والعمل المنتج ، وأما أسعدهم حظا فيقوم بالأعمال الرثة والتافهة التى لا علاقة لها بالإنتاج و التى لا تدر سوى عوائد محدودة عليهم أشبه بالصدقات والحسنات، ولن يجد العاطلون والمهمشون والمحرومون سوى فتات الطعام و فيوض من أشكال فى غاية التنوع من التسلية ومن المخدرات المادية والمعنوبة وشتى صنوف الإلهاء عن الواقع كى ينفصلوا عقليا عن واقعهم البائس، المشكلة أن أحجام الرأسماليين والعمال المأجورين والمهمشين بالنسبة لعدد سكان كل مجتمع ستتفاوت من بلد ينتمى للعالم الأول كالولايات المتحدة ينتج سكانه ما يزيد عن ربع الإنتاج العالمى بسكانه الثلاثمئة مليون، وبلد ينتمى للعالم الثالث كمصر لا يزيد ما ينتجه سكانه المقتربين من الثمانين مليون عن واحد بالألف من الإنتاج العالمى، إلا أن أصحاب فودا فون المصريين يتوحدون فى نفس الوضع مع ملاك مايكروسوفت وول مارت الأمريكيين، كما يتوحد المبرمجون فى بنجالور الهندية مع مبرمجوا أيرلندا، و كما يتوحد باعة الأرصفة فى لندن و باعة الأرصفة فى القاهرة. والفرق سوف يظل ملحوظا فى الأحجام النسبية التى تحوزها الشرائح والطبقات المختلفة فى كل بلد على حدى .
كان التمهيد السابق ضرورى كى نفهم أن ما سوف نرصده من مظاهر الانحطاط فى مصر لا تنفرد به مصر وحدها فى هذه السلسلة من المقالات، وأن الرأسمالية كنمط إنتاج وحضارة تشهد انحطاطا فى مصر كما تشهده فى العالم، وهذا على عكس ما يبشر به الليبراليون الجدد الذي انتقل بعضهم بقدرة قادر من التبشير باليوتوبيا الاشتراكية اللينينية إلى التبشير بيوتوبيا جديدة هى اللحاق بجنة العالم الأول باعتبارها نهاية المطاف وغاية المطلوب من رب العباد.
الحقيقة أن لحاق كل المجتمعات البشرية بمستوى مجتمعات العالم الأول فى ظل استمرار نمط الإنتاج الرأسمالى سوف يعنى تسريع استنزاف الموارد الطبيعية لإنتاج سلع وخدمات لن تجد من يستهلكها، مما سوف يعجل فى تدمير الأرض وتحويلها لكوكب غير صالح للحياة، فلحاق الجميع بنفس مستوى العالم الأول لا يمكن أن يتم إلا إذا تم الإنتاج من أجل إشباع الاحتياجات الاستعمالية وليس من أجل التبادل والربح ، وهذا يتطلب نمط إنتاج آخر ليس رأسماليا بالتأكيد.فالرأسمالية تواجه مأزق لا حل له إلا مع نفيها، فهى حين تسعى للهرب من ميل معدل الربح للهبوط، تحصر العمل المنتج فى عدد محدود من البشر، وفى نفس الوقت تطرد من السوق أعدادا تتزايد من المستهلكين المحتملين لسلعها وخدماتها مما يقلل فرصها فى الربح وتوسيع السوق.
من واقع دراسة علاقات الإنتاج وأنماطه يمكن لنا تلمس مظاهر المجتمع المختلفة وجذورها المادية، ويمكن لنا عبر هذة الدراسة تفسير تقدم مجتمعات معينه و تخلف بعضها،ثراءها وفقرها،اندماجها وتهميشها.. وهذا التفسير العلمى والموضوعى يختلف بالطبع عن التفسيرات الخرافية الشائعة فى الكثير من الكتابات التافهة التى تستند لعنصريات عرقية وثقافية لتفسير التقدم والتخلف، أو تستند على نظريات المؤامرة. فالطريقة التى ينتج بها الناس احتياجاتهم المادية هى المحدد الحاسم لعلاقاتهم الاجتماعية المختلفة وما ينتجون من أفكار وما يسلكون من سلوك والمسألة لا علاقة لها بالجينات أو بالثقافة والأديان.
بداية يجب أن أشير إلى أنه تتواجد فى المجتمع المصرى كما فى العديد من المجتمعات العديد من علاقات الإنتاج، بعضها ظاهر وقانونى يمكن رصد حجم الداخلين فيها بالإحصائيات ومن ثم تعترف بها الدراسات الجافة التى لا تهتم إلا بكل ما هو شرعى وقانونى فحسب ومن ثم لا تهتم برسم صورة واقعية دقيقة عن الواقع الاجتماعى، وتتغاضى عن هذه العلاقات لأنه لا يمكن رصد حجمها بدقه نظرا لعدم شرعيتها وسريتها غالبا ولذلك لا يتم تناولها بحثيا، إلا أننا على العكس نعتبر آلية الاستغلال عبر استخدام السلطة أو عبر استخدام العنف معنويا كان أم بدنيا أو بمجرد التهديد بأحدهما، وليس عبر ملكية وسائل الإنتاج فقط تشكل علاقة إنتاج من هذا النوع، ولو تغاضينا عن هذا فأننا سنتغاضى عن حقيقة موضوعية هى أن استغلال السلطة واستخدام العنف المادى والمعنوى و سلطة وسائل المعرفة والفساد الإدارى والجرائم الاقتصادية وغير الاقتصادية،سواء عبر بيروقراطية الدولة أو عبر الجريمة المنظمة وغير المنظمة، تشكل أدوات هامة لاستغلال عمل الآخرين وتحقيق التراكم الأولى لرأسالمال والدفع به لاستثمارات فى السوق، و من ثم تعتبر أداة من أدوات الحراك الاجتماعى فيما بين الطبقات المختلفة، فضلا عن أنها آليات أيضا لتحقيق الأرباح، و هذه الأليات تشكل مصدر من مصادر الدخل غير الرسمى التى تحدد موقع من يمارسها من العلاقات والصراعات الاجتماعية و تحدد مواقفه منها.
لكى نحدد مكانة شخص ما فى التكوين الاجتماعى بشكل عام، سوف نستند على علاقة هذا الشخص بمصادر السلطة المادية، و هى الثروة والعنف المادى أو المعنوى و وسائل المعرفة،
أما عن المعايير التى سوف نعتمدها والتى تحدد مكانة الشخص طبقيا فيمكنا توضيحها على النحو التالى:.
أولا:ـ ملكية وسائل الإنتاج (ا) يملك وسائل الإنتاج (ب) لا يملك وسائل الإنتاج (ج) يملك وسائل إنتاج محدودة لا يعتد بها.
ثانيا:ـ موقفه فى سوق العمل (ا) يشترى أو يبيع قوة عمله (ب) يشترى كمية محدودة من قوة العمل (ج) لا يشترى ولا يبيع قوة عمل (د) يشترى قوة عمل الآخرين و يبيع قوة عمله فى نفس الوقت.
ثالثا:ـ الكيفية التى تتم بها عملية بيع أو شراء قوة العمل فى ظل العلاقات الإنتاجية المختلفة (أ) وفق قواعد الإذعان التى يضعها المشترى للبائع، (ب) وفقا لتوازنات القوى بين البائع والمشترى وظروف سوق العمل (ج) استخدام العمل الجبرى والمجاني (د) الخضوع للعمل الجبرى والمجانى من قبل البائع.
رابعا:ـ فيما يتعلق باتخاذ القرارات الرئيسية للإنتاج والتراكم الرأسمالى (ا) يتخذ القرارات الرئيسية للإنتاج والتراكم الرأسمالى (ب) لا يتخذ القرارات الرئيسية للإنتاج والتراكم الرأسمالى (ج) يشارك فى اتخاذ القرارات الرئيسية للإنتاج والتراكم الرأسمالى.
خامسا:ـ فيما يتعلق بممارسة السلطة داخل النطاق المباشر للإنتاج (ا) يمارس السلطة داخل النطاق المباشر للإنتاج (ب) لا يمارس السلطة داخل النطاق المباشر للإنتاج (ج) مهيمن وخاضع فى نفس الوقت داخل هرم السلطة.
سادسا:ـ فيما يتعلق بممارسة السلطة على مستوى النظام فى مجموعه (ا) يمارس السلطة على مستوى النظام فى مجموعه (ب) لا يمارس السلطة على مستوى النظام فى مجموعه.
سابعا:ـ فيما يتعلق بإمكانية استغلال السلطة لتحقيق منفعته الشخصية (ا) يمكنه استغلال السلطة لتحقيق منفعته الشخصية (ب) لا يمكنه استغلال السلطة لتحقيق منفعته الشخصية .
ثامنا:ـ الاستغلال (ا) يمارس استغلال ناتج عمل الآخرين (ب) لا يمارس استغلال ناتج عمل الآخرين (ج) خاضع للاستغلال ولكنه قد يشارك فى استغلال الآخرين.
تاسعا:ـ مصدر استغلاله لعمل الآخرين (ا) ملكية وسائل الإنتاج (ب) ممارسة السلطة.
عاشرا:ـ من حيث امتلاكه معرفة أو مهارة تميزه داخل طبقته تعطيه قدرا من السلطة والامتيازات بالمقارنة مع باقى أفراد طبقته (أ) يملك معرفة أو مهارة تميزه (ب) لا يملك معرفة أو مهارة تميزه.
حادى عشر:ـ مصدر الدخل (ا) عوائد التملك (الربح والريع والفائدة) (ب)عوائد العمل (الأجر)
وجدير بالذكر أن هناك الكثير من الأفراد الذين يمكن أن تنطبق عليهم كل أو بعض تلك المعايير والمعايير المتناقضة معها فى نفس الوقت أى أنهم مزدوجى بل و متعددى الوضع الطبقى، و من ثم لا يمكن تصنيفهم طبقيا بدقة، ولا يمكن حصرهم إحصائيا حيث يمكن أن يتكرر ذكرهم احصائيا فى العديد من الحالات. ويستحوز هؤلاء و أسرهم على نصيب من عوائد التملك من أرباح وفوائد وريع فضلا عن ما يحصلون عليه أيضا من أجور من جراء بيع قوة عملهم، وهذه الظاهرة واسعة الانتشار فى المجتمع المصرى، الذى يتمتع الكثير من أفراده بتعددية الأنشطة والأوضاع الطبقية، أو ارتباطهم أسريا بأشخاص ينتمون لأوضاع طبقية متنوعة ومتناقضة، و لا شك أن هذا سبب من أسباب عدم تبلور الطبقات الاجتماعية المصرية سواء على مستوى العلاقات الاقتصادية الاجتماعية أو على مستوى التعبير السياسى عن الطبقات الاجتماعية أو على مستوى الوعى الاجتماعى.
فى الجزء الثانى من الدراسة سيتم تناول الرأسماليين فى مصر وفى الأجزاء التالية سيتم تناول الطبقات المختلفة فى المجتمع المصرى.