حول ملكية 2% من البشر لثروات العالم


محمود محمد ياسين
2006 / 12 / 15 - 11:15     

فى2006-12-05 نشر "المعهد العالمى لأبحاث الاقتصاد التنموى"، التابع لجامعة الامم المتحدة ومقره هلسنكي، دراسة بعنوان "توزيع الثروة فى العالم"، ووصف مدير المعهد السيد انطوني شوروكس, وضع توزيع الثروة فى العالم الذى عكسته الدراسة قائلا "ان الامر اشبه بمجموعة من عشرة أشخاص يمتلك فرد واحد منها 99 دولاراً ويقتسم التسعة الباقون دولارا واحدا".

خلافا للدراسات السابقة التى اهتمت بالتركيز على التوزيع العالمى للدخل (Bourguignon and Morrison, 2002; Milanovic, 2002 and 2005)، ركزت دراسة المعهد المذكور على توزيع الثروات بين سكان الأرض. وعرّفت الدراسة الثروة بانها القيمة الصافية (net worth)، اى الاصول العينية والارصدة المالية ناقصا الديون (الخصوم). وعليه، فان الدراسة تناولت الثروة الشخصية التى تحتوى على الاصول المالية والديون الواجبة السداد، الارض، المبانى، والاصول العينية الاخرى؛ ولم تتناول الدراسة الدخل فى شكل المرتبات والاجور، اوالمعاش، أو الفوائد المالية،الخ.

اكتفت الدراسة، كما هو متوقع!، بتقديم تفسير معمم وسطحى للتباين فى مستويات الثروة بين سكان مختلف الدول وبين الشرائح الاجتماعية المتعدده داخل الدولة الواحدة، مما يجعل مهمة وضع استنتاجات صحيحة ومحددة من الدراسة، تحتاج- قبل كل شىء- لاخضاعها واحصائياتها ومنهجها لفحص نقدى صارم. ولا ننوى القيام بهذه المهمة فى هذا العرض السريع، الذى نقدمه للقارىء من قبيل لفت لنظر لهذا العمل وكتفاعل اولى معه؛ فقط سنكتفى هنا بابراز النتائج الاساسية للدراسة ومحاولة الخروج منها باستنتاجات عامة:

• كشفت الدراسة، التى شملت كل اقطار العالم واعتمدت على بيانات عام 2000، ان 2% من البالغين يتحكمون فى أكثر من نصف ثروة العالم (العقارت والاصول المالية)؛ بينما نصيب أكثر من 50% من السكان الأفقر في العالم لا يتجاوز 1% من تلك الثروة.

• تتركز الثروات بشكل واضح في كل من أمريكا الشمالية وأوروبا ودول آسيا والمحيط الهادي ذات الدخول المرتفعة، حيث يمتلك سكان تلك الدول (حوالى 26% من اجمالى سكان العالم) نحو 90% من إجمالي ثروة العالم. وبلغ متوسط صافي الأصول لكل فرد في اليابان حوالي 181 ألف دولار، بينما في الولايات المتحدة كان 144 ألفا من الدولارات؛ هذا مقارنة بنصيب الفرد من الثروة فى الهند واندونيسا واثيوبيا الذى بلغ 1,000 و 1,400و 200 دولارا على التوالى.

• اشارت الدراسة الى ازدياد ثراء الأغنياء بشكل مبالغ فيه في الأعوام الأخيرة، اذ إن ذوي الثروات التى تفوق التصور ازداد ثراؤهم بشكل فاحش مما كان عليه خلال الخمسين سنة الماضية.

• تتكون الثروات فى الدول المتقدمة من الاسثمار فى الاوراق المالية كالاسهم والسندات والادوات المالية الاخرى كصناديق الاستثمار. فى حين تتكون الثروات فى الاقطار المتخلفة، اساسا، من حيازة الارض والادوات المتعلقة بالزراعة.

• يتميز توزيع الثروة بتركيز عالى داخل البلدان وخاصة المتقدمة، حيث يوجد تفاوت كبير فى نصيب الشرائح الاجتماعية المختلفة من الثروة. فمثلا 10% من العائلات تمتلك نسبة من الثروة تبلغ فى الولايات المتحدة الامريكية70% ؛ كما تمتلك نفس النسبة من العائلات 56% و 44% من الثروة فى كل من انجلترا والمانيا على التوالى. وتشير الدراسة الى ان نسبة فقر بعض العائلات فى البلدان المتقدمة تعادل فى بعض الاحيان رصيفاتها من العائلات فى الدول الفقيرة!

من النقاط السابقة التى تشمل النتائج الاساسية لدراسة معهد الامم المتحده، يمكن وضع الاستنتاجات الرئيسية التالية:

• يتضح من الدراسة ان تركيز رؤوس الاموال فى الدول الراسمالية المتقدمة، الذى بدا كشىء طبيعى لتطور الراسمالية نتيجة لتمركُز الانتاج فى مؤسسات كبيرة منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قد بلغ مستوى غير مسبوق خلال العقود الخمسة الاخيرة مما جعل الثروة تتركز فى ايدى حفنة من سكان كوكب الارض. فقد شهدت هذه الفترة الاندماجات (mergers) الكبرى بين الشركات العملاقة، وخاصة بين البنوك التى تسارعت اندماجاتها بوتائر لم ُتعرف من قبل وهذا لمواجهة المنافسة الشديدة في السوق المصرفي.

• تاتى نتائج الدراسة كتاكيد جلى للقاعدة الاساسية التى تقرر انه لا راسمالية بدون العمل الماجور، فوضع توزيع الثروة فى العالم يعكس ان بلايين البشر لايملكون شروى نقير ويعتمدون فى معيشتهم (بلا طائل!) على بيع قوة عملهم.
• كشفت الدراسة أن الثروات فى البلدان الفقيرة تشتمل اساسا على ملكية الارض والاصول المتعلقة بالزراعة، وهذا يعكس سيادة انماط الانتاج القبل-راسمالية فى هذه البلدان. فهذه البلدان ظلت تخضع منذ اكثر من قرن للاستغلال من قبل رؤوس الاموال المالية الوارده من الغرب فى سعيها لفتح اسواق خارجية بعد ان صارت أسواقها القومية غير قادرة على استيعاب حجم نشاطها الذى عظمّه التركيز المتزايد للانتاج. كان الهدف، وما زال، من تصدير رؤوس الاموال الاجنبية للبلدان المتخلفة هو تحقيق مستوى من الارباح لا يمكن ان يتحقق فى بلدان المنشأ لتلك الاموال؛ فالارباح فى البلدان المتخلفة عالية لشح رؤوس الاموال، ولانخفاض اسعار الاراضى، ولوجود العمالة والمواد الخام الرخيصتين. وهكذا حُولت البلدان المتخلفة لمصدر ارباح فاحشة وتدفقات نقدية هائلة للشركات العالمية، وكانت النتيجة الافقار المريع لهذه البلدان وحبسها فى حالة التخلف لضمان وضعها كبقرة حلوب للاستثمار القادم من وراء الحدود. وتفاقم الامر فى السنوات الاخيرة بظهورالتكتلات والاندماجات، التى لم يُعرف لها مثيلا من قبل، على صعيد الشركات الاستثمارية العالمية المتعطشة لتحقيق أعلى الارباح.
قبل ان نترك القارئ للتامل فى هذا الامر العجيب المتعلق بتوزيع ثروة العالم، نختتم ونقول ان نظام التملك سيظل يمثل الاساس المعيارى (benchmark) لاصدار الحكم النهائى على النظام الحالى ( الراسمالى)؛ وكما قال كارل ماركس (راس المال، الجزء الثالث، الفصل 46) قبل اكثر من مائة ونيف عام فانه:

" من وجهة نظر نظام اقتصادى اعلى (الاشتراكية)، فان الملكية الخاصة للعالم بواسطة حفنة من الاشخاص ستبدو على درجة من السخف تماثل نظام الملكية الخاص الذى كان الانسان فيه يمتلك انسانا آخرا. فالمجتمعات، بل الامم باجمعها لا يمكن ان تمتلك العالم. فهى فقط مقيمة فيه، منتفعة به، وافرادها كأى سكان يقطنون فى مكان ما، تقع عليهم مسؤلية تسليمه للاجيال اللاحقة على احسن حال".