مدخل جديد لدراسة تاريخ عصبة التحرر الوطني في فلسطين الحلقة الأولى


ابراهيم حجازين
2006 / 12 / 12 - 11:38     

1) مقدمات النشأة
تمثل القضية الفلسطينية لب الصراع في المنطقة ، والتي ما تزال منذ 58 عاما تشكل بؤرة عدم استقرار في الوطن العربي والعالم . ولهذا فإن حل القضية على أسس عادلة له أهمية كبيرة من أجل السلم الدائم والتقدم في هذا الجزء من كوكبنا .
ومنذ نشأتها قبل أكثر من 80عاما تم طرح العديد من المشاريع المختلفة لحل القضية الفلسطينية من جانب عددا من القوى والحركات السياسية والدول المختلفة. واستندت هذه الحلول إلى المصالح المتمايزة والمتناقضة لأصحابها في المراحل والظروف المختلفة التي رافقت نشأة وتطور هذه القضية .
واحدة من أهم المحاولات المتميزة التي طرحت لحل هذه القضية المعقدة ، والتي أخذت بعين الاعتبار مصالح الشعب الفلسطيني في ضوء المتغيرات في الظروف وموازين القوى في العالم والمنطقة ارتبطت بفكر ونشاط عصبة التحرر الوطني في فلسطين والتي تشكلت كتنظيم سياسي ديمقراطي فلسطيني بعد الانقسام القومي في الحزب الشيوعي الفلسطيني ،وانتمى لهذا التنظيم الجديد ممثلي الفئات المتوسطة والمثقفين ومن ممثلي النقابات العمالية والأندية الوطنية الثقافية . كما انضم إلى العصبة ممثلي التجمعات الديمقراطية وأعضاء سابقين في الحزب الشيوعي الفلسطيني ، حيث توحد الجميع باسم النضال ضد الانتداب البريطاني والصهيونية ، ومن أجل إقامة الدولة الفلسطينية في حدود فلسطين الانتدابية .
لقد ظهرت العصبة كنتيجة للتغيرات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في فلسطين بتأثير تطبيق المشروع الصهيوني المدعوم من الانتداب البريطاني .
إن دراسة تاريخ العصبة منذ نشأتها وحتى عام 1953 حين أوقف أخر جزء منها نشاطه مهم جدا للكشف عن مختلف التغيرات والعوامل الموضوعية والذاتية التي أدت إلى تشكيل العصبة .الأمر الذي يساعد في تحديد طابع هذه المنظمة في المرحلة الأولى من تشكيلها وهذا بدوره يساعد على فهم دور العصبة اللاحق في النضال الوطني الفلسطيني وسلوكها السياسي قبل وبعد عام 1948 . وفي هذا يتم اكتشاف العوامل التي أدت إلى التحول في التوجه الفكري والسياسي للعصبة وخاصة فيما يتعلق بموقفها من القضية القومية .
ينطلق العديد من الدارسين لتاريخ العصبة من مواقف مختلفة في تقييم ظروف تأسيس وطابع عصبة التحرر الوطني في فلسطين . ومن أشهر من أهتم بهذه المسألة من الباحثين العرب الدكتور موسى خليل وسميح سمارة والدكتور ماهر الشريف .
لقد نشأت عصبة التحرر الوطني في فلسطين تحت تأثير العمليات الموضوعية التي جرت في البلاد بعد الحرب العالمية الأولى . إن هذه التغيرات كانت نتيجة لسياسة الانتداب البريطاني والنجاحات التي حققها المشروع الصهيوني ، وقد أدى هذا كله إلى تغيرات اقتصادية-اجتماعية وسياسية وديمغرافية في فلسطين . وهكذا عشية الحرب العالمية الثانية كان الشعب الفلسطيني قد دخل في صراع قومي مكشوف وخطير مع حوالي 400 ألف يهودي مهاجر من اجل مستقبل ومصير البلاد . فبين السكان العرب الأصليين واليهود المهاجرين كان من الطبيعي أن تنشأ هوة عميقة حيث لا أرضية مشتركة تجمعهم ، فالمجتمع العربي له مصالح وطموحات قومية مختلفة ومتناقضة مع المشروع الصهيوني وتجسيده التجمع الاستيطاني اليهودي ( اليشوف) ، هذا المشروع الذي بدأت ملامحه تتجسد على الأرض نتيجة الدعم البريطاني والأمريكي له خلال الحرب العالمية الثانية .
هذا التعقيد الناشئ والتناحر بين السكان العرب والمهاجرين اليهود أدى بالضرورة إلى صراع تناحري بين القوى السياسية الممثلة للجانبين . وانعكس هذا الصراع يشكل مباشر على القوة السياسية الوحيدة في فلسطين والتي ضمت في صفوفها أعضاء عرب ويهود ، حيث أن الهوة القومية وطموحات الشعب الفلسطيني المتناقضة مع أهداف المشروع الصهيوني قد نفذت إلى داخل الحزب الشيوعي الفلسطيني ، الذي لم يقدر بسبب خصوصيات نشأته في التجمع الاستيطاني وتركيب العضوية فيه أن يستوعب جوهر القضية الفلسطينية كقضية قومية تحررية لشعب يسعى إلى استقلاله الوطني ولإقامة دولته المستقلة . وهكذا تبلورت داخل الحزب عوامل الانقسام بين أعضاءه العرب واليهود . فالأعضاء العرب وخاصة الجدد منهم لم يروا في الحزب الشيوعي الفلسطيني الإطار الذي يعبر عن مصالح شعبهم القومية . أما أعضاء الحزب اليهود، فقد اصبحوا يشعروا أنفسهم مرتبطين مصيريا مع التجمع اليهودي في فلسطين .
حدث الطلاق الفكري والسياسي بين المجموعتين وتجسد تنظيميا في شهر أيار 1943 في ظروف الحرب العالمية الثانية ، حيث تشكل في تلك الحرب تحالف سوفيتي – غربي معاد للفاشية وتم حل مركز الحركة الشيوعية العالمية ( الكومنتيرن ) في موسكو الأمر الذي خفف من قبضة المركز على الفروع وبالتالي ساعد على تشكيل ظرف مناسب للانقسام في الحزب الشيوعي الفلسطيني . وهكذا وبغض النظر عن الرغبات الفردية للأعضاء العرب في الحزب أو تصوراتهم جرى الانقسام على أرضية موضوعية كحل وحيد لهذه الإشكالية المعقدة .
إن هذه التغيرات والعمليات التي جرت في فلسطين والحزب الشيوعي الفلسطيني لم تتم بمعزل عن التطورات التي شهدها المجتمع الفلسطيني في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من هذا القرن لا بل وجرت على أرضيتها أيضا . ففي هذه الأعوام حدث نمو وتطور اقتصادي في القطاعات الصناعية والزراعية والخدماتية ، فبدأت تحدث تغيرات على البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التقليدية للمجتمع الفلسطيني والتشكل التدريجي لطبقات وفئات اجتماعية جديدة . هذه الفئات الاجتماعية الحديثة بدأت تصيغ إطارها الفكري والسياسي وتبحث عن مكانها داخل الحركة الوطنية الفلسطينية وخارج دائرة تأثير القيادة التقليدية للحركة . وكانت هذه العمليات تجري في ظل الظرف الدولي والصراع العالمي ضد الفاشية .
فبدأت في هذه الظروف وخاصة في صفوف المثقفين تنتشر الأفكار الديمقراطية واليسارية وعمل الجزء الأكثر نشاطا منهم على تشكيل أطر تنظيمية نقابية واجتماعية ونوادي ثقافية وخاصة بين العمال . وهكذا تشكل في فلسطين تيار سياسي جماهيري يناضل من اجل إلغاء الانتداب ومن أجل التحرر الوطني ومرتبط اشد الارتباط بالمطالب الاجتماعية والمعيشية للمواطنين العرب . وعلى هذه الأرضية وتلبية لحاجة موضوعية تفعل العامل الإنساني والتقى قادة هذا التيار السياسي مع أعضاء عرب من الخارجين من الحزب الشيوعي الفلسطيني وأسسوا معا عام 1944 عصبة التحرر الوطني في فلسطين .
إن طابع العصبة يتحدد من خصائص تشكيلها لحظة الولادة والقوى الاجتماعية والسياسية التي شكلتها والمرحلة التي ظهرت فيها ، فهي من جهة منظمة مبنية على أساس قومي وتشكل جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية ومن جهة أخرى تختلف فكريا وسياسيا عن القيادة التقليدية للحركة الوطنية الفلسطينية ومعبرة عن المصالح المعيشية والاجتماعية للشغيلة من عمال وفلاحين ومستخدمين ومثقفين ،ويلاحظ أن العصبة أيضا حاولت أن تبقي على علاقات إيجابية مع الحركة الشيوعية العربية وخاصة الحزب السوري خلال الحرب ضد الفاشية . وهكذا نشأت العصبة كمنظمة وطنية تحررية ذات توجه اجتماعي أضفى عليها ذلك طابع يساري خاصة بسبب الخلفية الفكرية والسياسية لأغلبية أعضائها.
وككل منظمة سياسية تتأثر العصبة في مسيرتها بقوانين التطور والتغيرات ذات الطابع العالمي والمحلي والتي تضع بصماتها على الرؤية الفكرية والسلوك السياسي للقوى الاجتماعية المكونة لها ، ولهذا فإننا نلاحظ تغيرات في سياسة وشعارات العصبة في كل مرحلة من مراحل التطور العاصف الذي شهدته فلسطين في تلك السنوات.