اليسار الجديد في أوروبا.. يدا بيد مع القوى الرجعية الإرهابية


حميد كشكولي
2006 / 11 / 30 - 11:31     

طارق علي ّ الشاعر والمثقف والموسوعي ّ والروائي والمخرج السينمائي غنيّ عن التعريف ، ويكفي أن تبحث عنه في محرك غوغول لتظهر لك النتائج بمئات الألوف. وإن ما يهمني هنا هو أنه أحد الوجوه المعروفة في اليسار الجديد في أوروبا، ورئيس تحرير مجلة نيو لفت ريفيو، وأنه يعبر في آرائه بشكل ما عن تيار" الإشتراكية الأوروبية" المعاصرة. و قد تبدو آراء طارق علي في القضايا الراهنة تبسيطية ومألوفة، وهذا ما يلاحظه المرء عند التمعن في كتاباته ، لكن الرجل يصرّ على أن يكون رجل موقف، أكثر مما هو منظِّر، إذ يبدو كداعية ثوري لمقاومة أميركا، ويمجّد بالمقاومة العراقية الإسلامية القومية ، وينحاز إلى ما يسمى بالعالم الثالث والدول الفقيرة ضد السياسات الإمبريالية، رغم أنه يقر بأن هزيمة أميركا عسكريا غير ممكنة، بل مستحيلة، وأنها لم تهزم عسكريا في فيتنام، وإنما في الداخل الأميركي. و يرى أنه بالإمكان هزيمة أميركا اليوم سياسيا من خلال المقاومة التي تظهر في أماكن متعددة، وبأشكال مختلفة. ويؤكد علي تأييده لرئيس فنزويلا شافيز، ورهانه على التحولات في أميريكا اللاتينية التي كانت بمثابة حقل تجارب قذرة للولايات المتحدة.
وقد كانت لطارق علي ّ علاقات واسعة مع الكتّاب والفنانين اليساريين في كل العالم، وأن المقابلة التي أجراها مع الفنان الراحل بوب ديلان من أشهر المقابلات التي تركت تأثيرا كبيرا على الشباب اليساري في العالم.

فهذا "اليسار الجديد" ليس من بقايا اليسار السوفيتي، إذ له تاريخ مختلف، وهو من الوجهة الأيديولوجية عبارة عن نزعات برجوازية صغيرة ووطنية، يتخذ من أوساط المثقفين والطلبة والأكاديميين ميدانا لعمله ونشاطاته. و يتمثل جوهر أغلب سياسات هذا التيار في معاداة العولمة ، و كونية الإقتصاد الرأسمالي. ومن الوجهة السياسية ليس له أي ّ نقد أساس وجذريّ للنظام الرأسمالي الراهن، ولا تتجاوز مطالباته اصلاحات ٍ وتغييراتٍ في اطار هذا النظام.
وقد كان هذا اليسار يتعرض للإتحاد السوفيتي السابق قيل انهياره بالنقد الشديد، ما اكسبه خاصيته التي ميزته عن التيارات اليسارية الأخرى. وفي فترة الحرب الباردة حظي بمكانة خاصة في الوسط الأكاديمي في العالم الغربي، لكن بسقوط الكتلة الشرقية، لم يعد للكتلة الغربية أيضا وجود ، ما أدى إلى أن يفقد هذا اليسار مواقعه الخاصة إلى حد كبير، فانهارت بورصة أسهم معاداة السوفيتية بزوال الكتلة الغربية ، وبالتالي خسر هذا اليسار مكانته في الغرب وأهميته عند الرأسمالية، لكنه أصبح يروج لنفسه وسياساته في مواقف اليسار المعادي للامبريالية و المعادية لأمريكا، و يسعى في ذات الوقت لاكتساب خصائصة وسماته الخاصة به.
وطارق علي يقف في الطليعة يحمل راية هذا اليسار اليوم، إلى جانب شعارات القوميين والإسلام السياسي المواجهين لأمريكا في الشرق الأوسط . ولا يهم اليسار الجديد و لا طارق علي ّ أن يكون القوميون و الإسلاميون السياسيون يشكلون إحدى جبهتي الإرهاب العالمي ، وغارقين في رجعيتهم وظلاميتهم، أو يلجأوا حين يأخذون الزمام بيدهم إلى ذبح الإشتراكيين والشيوعيين و تعكير الحياة المدنية للمجتمع ، طالموا يقفون اليوم ضد أمريكا. فمواقف اليسار الجديد من القوى الرجعية المعادية للشيوعية في منطقتنا ناتجة عن أفقه الفكري الضيق ، ونزعاته الوطنية والقومية . لهذا لا يعني له شيئا إن قُتل الشيوعي بسكينة زرقاوي ّ يحارب الأمريكان في العراق.
ومن المفارقات العجيبة أن المفاهيم التي يتبناها هذا اليسار مصدرها أوربا التي تلعب دور المرشد الذي يحدد اطاراته السياسية والفكرية. ومن المؤسف حقا ، أن نشهد أن الجماهير المسحوقة والمحرومة تناضل ، وتحلم بالخلاص من شرور قوى الإسلام السياسي والقومية السياسية والأنظمة القائمة عليهما، ويقوم هذا " اليسار" بدم بارد و بكل هذه السهولة باحباط كفاح المناضلين والمكافحين ضد القوى الرجعية الظلامية وأنظمتها المجرمة، بالتضحية بهم تحت شعار معاداة الامبريالية والصهيونية، وطالما الهدف ليس بناء الإشتراكية ومجتمع المساواة والحريات.
هذا اليسار الجديد أصبح حليفا للقوى الإرهابية الإسلامية والبعثية في العراق، و يرفع أنصارُه في التجمعات الإحتجاجية على العولمة وف يمناسبات مختلفة شعارات القوميين الفاشست ، وصورا لرموزهم المجرمين، ويساند كل مطالب القوى الرجعية في بلدان الغرب في نشر الخرافة ، والظلامية والقومية والطائفية تحت شعار الوقوف بوجه الغزو الثقافي للغرب الإمبريالي الكافر. ولا يمكن تصور أن قادة اليسار الجديد يجهلون تاريخ القوى القومية الفاشستية في منطقتنا. لا يمكن أنهم لم يقرأوا أو يسمععوا أن هذه القوى التي يؤازرونها اليوم قد كانت تحظى بدعم الإمبريالية التي أوصلتها إلى الحكم في الماضي ، والإنقلاب البعثي في شباط عام 1963 مثال بارز اعترف به سكرتير حزب البعث بقوله إنهم وصلوا الحكم بقطار أمريكي ، و يشهد كل ذلك على معاداة كل من الإمبريالية الأمريكية ، والقوى القومية البرجوازية للتقدم والإشتراكية والرفاه والمدنية وحريات الإنسان وحقوقه.
هذا اليسار الجديد يلتقي اليوم مع اليسار التقليدي المعادي للإمبريالية في تيار داعم للقوى الرجعية في منطقتنا، بعد انتهاء الحرب الباردة، وكما اسلفت فقدانه لسماته التي كانت تميزها عن التيارات اليسارية الأخرى.
كما أن هذا اليسار الذي يمثله المفكر طارق علي ، تماهى في الميول والنزعات القومية، إذ يلاحظ المراقب أن الجوهر القوميّ لهذا اليسار يكمن في سياسته الإقتصادية التي يتبناها لمواجهة نزعة عولمة الرأسمالية. ونشاطاته تجلت في السعي للاحتفاظ بالحدود القومية والوطنية ، وتنمية الرأسمالية في اطار البلد الواحد، وبالتالي اكساب العمال هوية وطنية وقومية بالضد من الطابع الأممي سواء للعمال وأحزابهم ونقاباتهم والرأسماليين. أما على الصعيد العالمي يبني كل سياسته على أساس معاداة مواجهة السياسة الخارجية الأمريكية. أنه يسار يعادي الامبريالية ، لا يعادي الرأسمالية والعلاقات الرأسمالية، مثل الغاء العمل الأجير، ومحو الفوارق الطبيقية في المجتمع. وإن اشتراكيته عبارة عن اقتصاد مبرمج و نوع من تدخل السوق في إدارة الشؤون الإقتصادية. وقد فشل هذا اليسار الجديد في تقديم بديل ايجابي لمواجهة آفاق البورجوازية والقومية. وما يلاحظه المرء في أحسن الأحوال في هذا اليسار هو ضيق الأفق والاكتفاء بالأهداف الثانوية اليومية.

وسياسته العمالية تقتصر على ابقاء الحركة العمالية كل في حدود بلدها لمواجهة الطبقة الحاكمة فيه. لكن هذه السياسة المقتصرة على حدود البلد الواحد لن تصمد أمام نزعة الرأسمال للتوسع وتحطيم الحدود القومية. والمثلة لا عد لها في هذا المجال ، فلم تعد اليوم ثمة من شركة كبيرة يمكن أن تحمل هوية وطنية معينة. وإن هذا اليسار الجديد، واليسار القومي التقليدي الإصلاحيان يدينان بوجودها للنزعات القومية والوطنية البرجوازية والقوى الرجعية في المجتمعات الأوروبية والشرقية.
واليوم أصبح اليسار الشيوعي والإشتراكي في وضع أصعب بسبب التلقي الخاطئ للمفاهيم و اشتباكها. فمهمة الشيوعيين اليوم هي في النضال على جبهات عديدة . عليهم مواجهة جبهة الإمبريالية الرأسمالية ، وجبهة الإرهابيين القوميين والدينيين السياسيين ، والنضال ضد التحريفية و التشويهات بحق الشيوعيية والإشتراكية .