في حركة التحرر الوطني القومي من الإمبريالية ...متابعة


محمود جلبوط
2006 / 10 / 3 - 10:02     

بعد أن حاولنا من خلال المقالتين السابقتين تحليل البنية الامبريالية والكولونيالية ووصف ما يجري من أحداث على تخومها وفي خضمها بالصراع الطبقي الذي أكدنا على رئيسيته وتحديديته لفهم ما يجري في البنية الامبريالية والكولونيالية التابعة لها , وما يجري على أرضنا العربية ومحيطها وتخومها بشكل خاص , عبر قراءة مستفيضة لما تناولاه في بحوثهما ونظريتهما الباحثان سمير أمين ومهدي عامل , سنحاول عبر هذه المقالة المتبعة في قرائتهما لتحديد الحقل الذي سيمارس هذا الصراع الطبقي قانونه في أيامنا هذه من خلال ما ارتأيا في بنيتنا , وذلك عبر عملية معقدة بين البنيتين , الامبريالية والكولونيالية , تحتاج من دعاة التغيير الثوري(تجاوبا مع النداء الذي وجهه إلي مشكورا الصديق سلامة كيلة حول اللقاء الذي جرى بين بعض الماركسيين الغيارى في باريس) , وللخروج من أزماتنا , جهدا مضنيا لكنه ضروري لفهم الآليات التي تتم بواسطتها تنضد القوى الاجتماعية عبر برامج أحزابها أوالفئات الدولانية وممارساتها وعلاقاتها مع الفئات الاجتماعية الاخرى أوالقوى الدولية وعلاقاتها عبر السوق العالمية , و على أساس هذا الفهم نتمكن من بناء قوى التغيير الحقيقية والروافع اللازمة لها , وبناء التحالفات المناسبة للخروج من هذا النفق المظلم الذي نتوه فيه مجتمعين منغمسين قهرا أو عن إرادة في كل ما نتج وينتج عن تحوير مقصود ومبرمج لعملية الصراع الحقيقي الذي أدار ويدير حياة الناس عبر تاريخهم , وتتنضد الفئات الاجتماعية على أساسه , هو الصراع الطبقي , لا ما تقوم به الأطراف الامبريالية وعملاؤها الطبقيون المحليون والجهلة والمتعصبون والموتورون في العراق ولبنان وسوريا ومصر وفلسطين من بذل كل المحاولات لاستبداله بصراعات وهم مدمرة من خلال انخراطهم في ممارسات القتل الفردي والجماعي الطائفية والمذهبية , أو من خلال اعتدائاتهم على المراكز الدينية للآخر (امتدت آثارها في الفترة الأخيرة إلى الأراضي الفلسطينية) , أو حتى في الإعتداء على النساء وتحليل اغتصابها لأنها „ صليبية „ ردا على تصريحات البابا أو لصور نشرت هنا أو هناك في صحيفة „ صليبية „ منخرطون بإرادتهم أو بدون إرادتهم في دعاوى الحرب على الإرهاب أو صراع الحضارات أو صراع الأديان أو صراع المذاهب , طوائف , إثنيات , عشائر , عوائل , ...إلخ..

إن بنية علاقات الإنتاج هي التي تحدد حقل الصراع الطبقي , وأن حركة هذا الصراع تتم بالضرورة في إطار تلك البنية وبالشكل الذي تتحدد فيه , ولأن البنية الكولونيالية هي في علاقة بنيوية مع البنية الامبريالية فلا يمكن لآلية الصراع الطبقي أن تتحدد بمعزل عن هذه العلاقة , إن السمة التي تحدد الصراع الطبقي بالعلاقة الكولونيالية تعطيه طابع الصراع الوطني والقومي وتحدده كحركة تحرر وطني قومي من الامبريالية , أما تحدده بالتناقض الأساسي , بعلاقات الانتاج القائمة في البنية الكولونيالية الداخلية , فيعطيه طابع الصراع الطبقي الكلاسيكي المعروف بين الطبقتين الرئيسيتين المتناقضتين وحلفائهما .
ومن الوهم والخطأ الكبير , والذي تحاوله بعض قوى الصراع محليا ودوليا للتضليل أو لخلط في الفهم , السعي لتمرحل صراعين أو الفصل بين صراعين , الصراع مع الامبريالية بحركة تحرر واحتمالية قيادة هذه الحركة في هذه المرحلة من قبل القوى البرجوازية المحلية (كما حدث ومازال يحدث في بلادنا العربية ) والفصل بينه وبين الصراع على المستوى الوطني الداخلي لتحديد المواقع الاجتماعية ضمن البنية ( يدعي منظرو اللبرالية أن التخلف في بلادنا نجم أصلا عن الدرجة الغير كافية من الرأسمالية في بلدان العالم الثالث وليس عن طريق عدم المساواة في الرأسمالية , وبالتالي علينا تشجيع الرسملة في الدولة والقطاع الخاص وتعميم التجارة الحرة والتعجيل في الارتباط بها في هذه البلدان , وقد انضم إلى هذه الدعوة في الفترة الأخيرة بعض قوى اليسار المتلبرلة).
إن هذا الفصل خاطيء في أساسه النظري وفي نتيجته العلمية والعملية , وإن الخطأ في هذا الفصل هو خطأ في فهم عملية وصيرورة التحرر الوطني القومي ومهامها , وفي فهم علاقة التبعية التي تربط بين أمم أوربية قدمت نفسها عبر أيديولوجيا عنصرية تعتبر فيها نفسها أمم متحضرة ومدنية ولديها من ملكة العقل ما يجعلها في مقدمة الشعوب , أعطت لنفسها الحق في فرض مدنيتها وعقليتها ومنظومتها الأخلاقية على الأمم الأخرى „الغير حضارية والغير مدنية ومتخلفة والأدنى عقليا“من وجهة نظرها , من خلال فرض نفسها كامبراطورية عالمية وقيامها بنهب منقطع النظير لثروات ولقوة عمل هذه الشعوب التي استعمرتها في السوق التي بنتها عولميا ضمن بنية كولونيالية معقدة وتبادل لامتكافيء نوهنا إليهما في المقالتين السابقتين من خلال ما رأى الماركسيون المحدثون سمير أمين ومهدي عامل .
إن الخطأ نتج من سوء فهم , قصدا أو عن غير قصد , للعلاقة الكولونيالية بالذات .
إن التحرر الوطني يعني فيما يعنيه تحرر من بنية علاقات الانتاج الرأسمالية هذه , لأن هذه البنية هي القاعدة المادية لوجود السيطرة الامبريالية وتجددها المستمر , ولا زوال لهذه السيطرة إلا بزوال قاعدتها المادية التي تولدها باستمرار , لماذا ؟ لأن الامبريالية , ومن خلال إخضاعها بلدان الأطراف لسيطرتها قد ولدت فيها علاقات الانتاج الكولونيالية المعيقة لتقدمها والشكل الذي عليه أن تكون طبيعة الرأسمالية كرأسمالية عميلة وخاضعة وتابعة لها في هذه البلدان في مرحلة الامبريالية , فحددت بالتالي بنية التبعية فيها .
فعلاقة التبعية التي حدد التطور الامبريالي للرأسمالية وجودها التاريخي الضروري في بلادنا , ولد فيها علاقات كولونيالية راح تجددها المستمر في إطار بنيتها المستقرة يولد تلك العلاقة نفسها .
لذا كانت مرحلة التحرر الوطني ومازالت بالضرورة تحررا من علاقات إنتاج هذه البنية الرأسمالية , لا من خلال سياق علاقة الانتاج السائدة أو من خلال إعادة إنتاج نفس علاقات الإنتاج و تحت قيادة برنامج الطبقة التي ولدتها بالأساس العلاقة مع الامبريالية , فلا نرى فصلا إطلاقا بين التحرر الوطني وبين الصراع الطبقي الذي تحدده هذه البنية , بل هو الصراع الطبقي المتطابق معه , وكأي عملية تاريخية أخرى قامت في الإنتقال من نظام إنتاج إلى نظام إنتاج آخر جديد ستمر عملية التحرر الوطني في مرحلة أو مراحل انتقالية , أو بمراحل مختلفة تحدد طبيعتها وتحالفاتها حركة الصراع الطبقي في البنية في اللحظة التاريخية المعينة والمكان المعين ودرجة تطور البنية فيه وطبيعة القوى المؤلفة له .
إن تناول الحديث حول حركة التحرر الوطني يعطفنا بالتأكيد للحديث عن المسألة القومية وتفاعلاتها في البنية الرأسمالية خلال المحاولات الأولى لبناء بدايات الأسواق للرأسماليات الأوربية , فالمسألة القومية التي كانت في القرن التاسع عشر محرك الأمم الأوربية المضطهدة قد انتقلت في العصر الحديث المعاصر إلى آسيا وأفريقيا والأمريكتين , الجنوبية واللاتينية , حيث أصبحت هي المسألة الكولونيالية , وأن هذا الإنتقال لم يكن فقط جغرافيا , بل استتبع تغييرا في طبيعة المسألة القومية بالذات والنظر إليها , فالمسألة القومية في الفترة السابقة كانت تندرج في عداد البورجوازية الغير مكتملة أما في العهد الحالي , عهد الامبريالية ومسألة الشعوب المضطهدة من قبلها , فإنها تندرج في أجندات الثورة الاشتراكية الصاعدة , أو بتعبير أدق هي أحد مهام „البورجوازية الديموقراطية“ والتي لا يمكن أن تلبى إلا عبر المرحلة البورجوازية من ثورة متواصلة تقودها البروليتاريا أو في إطار برنامجها ويصير من المحتم على قوى التغيير أن تخوض في الحقيقة ثورتين إن صح التعبير في ثورة واحدة , ويتحدد بالتالي المحور الرئيسي لمسألة القومية الجديدة بطابعها المناهض للإمبريالية .
حقا أنه لا يحق لنا أن ندعي أن التطور الرأسمالي في مراحله الأولى هو العامل الوحيد الذي تمخضت عنه بالضرورة تحول الأثنيات إلى أمم ولكن علينا التأكيد أن تكون الرأسمالية المركزية كان هو الكفيل الوحيد الذي أتاح للتشكيلة القومية فرصة التبلور عبر السعي في توحيد السوق , في المقابل فإن التطور الرأسمالي في أشكاله الطرفية يعمل على العكس من هناك , فهو يحكم على المجتمع بالتفكك والتحلل ويحول دون تبلور المجتمع على صورة أمة , والسبب هو أن هذه الرأسمالية لا تقوم على أساس الدعم الشامل للسوق المحلية , من بضائع ورأسمال وقوة عمل , كمحور لتطورها والذي هو بالتأكيد تطور متمحور على ذاته .
إن هذه الظاهرة الناجمة عن عدم تمفصل الاقتصاد بالمجتمع المتخلف تشكل عائقا في وجه التشكيلة القومية , وهي تبدل بالطريقة نفسها معنى الدولة ومضمونها , مما يدفع بعض المتطرفين في استنتاجاتهم بهذا الصدد أن الدولة في الأطراف هي مجرد جهازا إداريا للدولة الامبريالية المهيمنة , فبالتالي لا يجوز أن نطبق عليها التحليل الماركسي الكلاسيكي الذي يعرف الدولة كفئة مهيمنة مؤلفة من فئات بورجوازية محلية مستغلِة(بكسر الغين) .
صحيح أن هذه الاستنتاجات لهذه الفئة لا تسمح لنا أن نفهم التباينات التي تفصل دولة إقطاعية_كومبرادورية عن دولة بورجوازية تابعة , أو دولة كولونيالية جديدة عن دولة شعبوية أو قومية ...ولكن لهذه الرؤية الفضل في لفت انتباهنا إلى خضوع هذه الطبقات المستغِلة في البلدان الطرفية للتحالف الدولي ولتمثيلها المباشر لمصالح الطبقات الأجنبية .
وضمن هذا السياق حاول مهدي عامل في تناوله لطابع الهيمنة الطبقية الخاص بالبرجوازية الكولونيالية تحليل آلية هذه الهيمنة , فبرأيه أن وجود علاقات إنتاج محددة يفترض بل يستلزم بالضرورة طبقة مهيمنة أو فئة مهيمنة من هذه الطبقة المسيطرة , في مواجهة طبقة مهيمنة نقيض خاضعة لسيطرتها الطبقية حاليا , هذه الطبقة هي التي عليها بحكم المنطق أن تقوم بعملية التحويل الثوري للبنية , وهو يرى أيضا أن طابع الهيمنة الطبقية الخاص بالبورجوازية الكولونيالية يختلف عن طابع الهيمنة الطبقية الخاص بالبورجوازية الامبريالية , فالبورجوازية الكولونيالية ليست مهيمنة بذاتها بل بتبعيتها للامبريالية , ولكن هذا لا ينفي , وفي شروط تاريخية معينة من تطورها , من وقوع بعض التناقضات بينها وبين البورجوازية الامبريالية , ولكن هذا التناقض يختلف كل الاختلاف عن علاقة التناقض التي تربط الطبقة المهيمنة النقيض (الطبقة العاملة) مع البورجوازية الامبريالية .
إن منطق التحرر الوطني يقود بالضرورة لصيرورة هذه الطبقة المهيمنة النقيض(الطبقة العاملة)طبقة مسيطرة , أي وصولها إلى السلطة , لأن تحويل علاقات الإنتاج القائمة لا يقوم به إلا تحالف طبقي مهيمن ونقيض للتحالف المهيمن الحالي , وهذا يستلزم وبالضرورة أيضا خضوع الطبقة المتوسطة(أو ما يمكن أن يسمى كذلك)لهيمنة الطبقة العاملة في إطار من التحالف الثوري ضد البورجوازية الكولونيالية المسيطرة , وإن موقف الطبقة المتوسطة الطبقي لا يتحدد في إطار عملية التحرر الوطني كموقف وطني إلا بمقدار ما يتفق مع منطق وجودها كطبقة سند في تحالف طبقي مع الطبقة العاملة كطبقة رئيسية مهيمنة , لأن الحركة التاريخية التي جرت في الواقع التجريبي للبلدان التي وصل إلى سدة الحكم فيها أنظمة منبتها الطبقي من هذه الشريحة المتوسطة والتي سميت تقدمية و“ اشتراكية“ في مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن وليبيا , أظهرت أن موقفها الوطني في عدائها للامبريالية لا يلبث أن يتحول بعملية الصراع الطبقي في تحدده بعلاقات الانتاج الكولونيالية إلى موقف غير وطني لا عداء فيه فعليا للامبريالية , بحكم صيرورتها طبقة مسيطرة عبر انقلاباتها العسكرية وفي إطار تلك العلاقات بالذات تقوم بممارسات طبقية تهدف إلى تأمين إعادة إنتاج علاقات الانتاج التي تقوم على أساسها سيطرتها الطبقية والتي تكون القاعدة المادية لتجدد السيطرة الامبريالية , وهناك عاملا آخر في تحديد هذا التحول في موقفها الطبقي من العداء للامبريالية إلى اللاعداء , هو حركة التفارق الطبقي الذي جرى داخلها , فهي لم تعد الطبقة المتوسطة أو البورجوازية الصغيرة السابقة , بل انفصلت عنها بانفصال الفئة العليا منها التي وصلت إلى السلطة وانصهرت أو تحالفت مع فئات طبقية أخرى مكونة معها ما يسمى بالبورجوازية الكولونيالية المتجددة , وتبقى الفئات البورجوازية الصغيرة وطنية ومعادية للامبريالية وتبقى هناك امكانية جديدة أن تكون سندا طبقيا في تحالفها مع الطبقة العاملة المهيمنة النقيض , أما منطق تجدد علاقات الانتاج الكولونيالية يقود إلى تأبيد تلك العلاقة من التبعية البنيوية للامبريالية , وبالتالي إلى استحالة التحرر الوطني القومي , بل نفيه , على أساس برنامج البورجوازيات الكولونيالية المسيطرة .
صحيح أن تحول البورجوازية الصغيرة , والتي قفزت إلى السلطة عن طريق انقلابات عسكرية في هذه البلدان , إلى بورجوازية كولونيالية متجددة يخضع لمنطق تجدد علاقات الانتاج الكولونيالية , إلا أن هذا لا يجري بهدوء بل يولد أزمة هيمنة طبقية هي نتيجة لتطور التناقض بين تلك الفئة المهيمنة التي تعتمد في هيمنتها الطبقية على ما أنجزته من قطاع دولة , أسمته للتمويه قطاع عام , وبين الفئات الأخرى , الريفية والمدينية , التي تسيطر على القطاع الخاص .
إن التناقض المأزقي لهذه الطبقة المتوسطة , أو البورجوازية الصغيرة , بين مهام التحرر الوطني ومنطق سيطرتها الطبقية يتحول إلى أزمة هيمنة طبقية نتيجة لتطور التناقض داخل البورجوازية الكولونيالية المتجددة ككل بين الفئة التي تستند بهيمنتها على قطاع الدولة في الحقل الاقتصادي وبين القوى التي ترتبط مصالحها بتطور القطاع الخاص , والتي تطمع من خلال هذا التطور للوصول إلى الهيمنة من خلال استيلائها على السلطة , الذي يفسر لنا الكثير من الصراعات التي نشأت في هذه البلدان التي تسمى أنظمة تقدمية في أواخر السبعينات من القرن الماضي .
إن إنشاء قطاع الدولة لم يقد إلى القضاء على البورجوازية الكولونيالية كطبقة مسيطرة بل قاد إلى تجددها , وبما أن الهيمنة الطبقية لتلك الفئة المهيمنة من البورجوازية الكولونيالية المتجددة تقوم أصلا على أساس من تجدد علاقات الانتاج الكولونيالية , فإن وجود قطاع خاص مزدهر إلى جانب قطاع الدولة هو في خدمة المصالح الفردية المباشرة لهؤلاء الأفراد لهذه الطبقة , لتحويل أموالهم المنهوبة من قطاع الدولة إلى رساميل منتجة , هذه الحركة بالذات في تطور العلاقة بين القطاعين , كعلاقة طبقية بين فئات الطبقة المسيطرة المتجددة , تقود إلى ضرورة هيمنة القطاع الخاص على القطاع العام .

ويرى سمير أمين أن على الأطروحة الصحيحة لفهم وظيفة الدولة في الرأسمالية الطرفية المعاصرة أن تنطلق من التحليل العيني للكتلة المحلية المهيمنة , والقائمة بدور صلة الوصل للهيمنة الامبريالية , ولأن هذا التحالف الطبقي ثانوي في سياق البنية الكولونيالية وتابع فإن البلدان الطرفية تكون الحلقة الأضعف في السلسلة الامبريالية مما ييسر لتشكيل تحالف ثوري يسهل عليه أن يشكل , في إطار استراتيجية عامة للثورة المستمرة على مراحل , تحالفات تكتيكية فعالة قمينة بأن تضعف وتفتت التحالف المسيطر في هذه البلدان التابعة , ولكن عبر التأكيد بالتمسك ببرنامج ثوري اشتراكي مناهض لبرنامج التحالف المسيطر , لا بتبني البرنامج البورجوازي ذاته .
إن السمات الأساسية والمميزة التي يتجلى من خلالها غياب البناء الوطني القومي في تشكيلة الأطراف(بينها بلادنا العربية)هو الهوية الأجنبية لثقافة البورجوازية الكولونيالية المحلية , فهذا التحالف المسيطر الذي فقد قوميته وثقافته الوطنية , اكتسب بالتدريج ملامح الغرباء في دياره بالذات بسبب طراز حياة أفراد هذا التحالف اليومية , طراز منسوخ عن طراز حياة الإنسان المستهلك العام(نموذج فضة المعداوي إحدى شخصيات مسلسل الراية البيضاء لمحمد الفاضل) , فكيف لنا في هذه الحال الحديث عن أمة أو عن ثقافة قومية ؟ .
إن شعوب البلاد الطرفية(الكولونيالية) , البلاد العربية مثالها الصارخ , تفصل بينها حدود هي في أغلب الأحيان اصطناعية أو اعتباطية , ولا تشكل لا أمة واحدة ولا حتى عدة أمم , بل إنها تتألف من أثنية كبيرة أو عدة أثنيات صغيرة , تتقارب تارة وتتحارب تارات , منفصلة عن بعضها أحيانا ومتعايشة في اتحاد وثيق أحيانا أخرى , إلى جانب أنها متفاوتة فيما بينها أشد التفاوت من حيث تعدادها البشري , وأن أشكال مختلفة من الإضطهادات المتبادلة , العائدة أحيانا إلى عهود قديمة أو لعهود حديثة , تسم العلاقات فيما بينها , فهناك الشعوب الفاتحة والأخرى المقهورة المتحدرة من العصور السابقة , شعوب تمثل الغالبية الإثنية وشعوب أقلية إثنية , شعوب تستأثر بالنخبة المدينية وأخرى مقصاة عنها , سيطرة المذهب الفلاني في فترة زمنية ما ثم المذهب الآخر وهكذا ...إلخ .
إن هذه الوقائع مجتمعة تخلق شروطا غير مواتية لنضوج وعي طبقي أو على الأقل تعيقه , فكثيرا ما تفصح الصراعات الطبقية عن نفسها في بلادنا في صورة صراعات إثنية أو طائفية أو مذهبية , وهذا ما يجعلها أرضا خصبة للتلاعب فيها من قبل التحالف الطبقي الرجعي المسيطر والحليف للامبريالي تارة أو من خلال الامبريالي مباشرة تارة أخرى .
ولذلك نرى أن كثيرا ما تكون حركة التحرر في هذه الشروط حركة قومية من دون أمة , لهذا فإنه لمن المؤكد أن وحدة الفئات الاجتماعية المناهضة للإمبريالية قد توفر في مرحلة من المراحل الوسيلة المثلى للتغلب على هذه الانقسامات , إلا أن هذا النوع من الوحدة القومية يستمر بصعوبة بعد زوال الظروف التي سمحت به في فترة من الفترات , فبعد استكمال الاستقلال من المرجح أن تطفو على السطح من جديد التناقضات الداخلية , فجميع الأحداث التاريخية التي حدثت في هذه الدول دلت على هشاشة هذه الوحدات الدولانية اللاقومية .
إذاً ما هو الموقف الذي يتعين على التحالف الشعبي الثوري المناهض للامبريالية إتخاذه في مثل هذه الشروط إزاء المسألة القومية؟ وهل يكفي أن تدرج في برنامجها المطالبة بإلغاء الاستغلال الطبقي فقط؟
بالتأكيد لا يمكن للقوى المناهضة للامبريالية , والتي تخوض الصراع الطبقي معها , أن تنفي الوجود القومي , كما أنه لا يجوز أن تكتفي بمطالبتها بالقضاء على الاستغلال الطبقي , بل هي مدعوة لأن تدرج في برامجها على نحو واضح وصريح , النضال المباشر والفعال ضد جميع أشكال التمييز والتفاوت , وضد أي اضطهاد قائم على الإثنية أو اللغة أو الدين أواللادين أو العادات . وفي كل الأحوال إن النضال من أجل القضاء على الاستغلال الطبقي يقتضي مناهضة جميع أشكال الإضطهاد .
إن عملية النضال للقضاء على المظالم الاجتماعية والاستغلال الطبقي تحتم علينا مناهضة جميع أشكال الاضطهاد , ونرى في تطبيق الاشتراكية ديموقراطية جماهيرية فعلية لاممركزة تعطي كل الحق للفرد أن يعبر عن نفسه فكيف بالجماعة .
لكن هل يتعين على قوى هذا التحالف أن ينادي بحق القوميات والإثنيات في تقرير المصير ولو أدى ذلك للانفصال ؟
لقد أكد الماركسيون الأوائل وعلى رأسهم لينين على هذا الحق , فقد صرح لينين في سجال طويل مع البولانديين : إن التخلي عن إنجاز حق تقرير المصير في ظل النظام الاشتراكي يعتبر خيانة للاشتراكية , ولكن التجربة السوفياتية التطبيقية أعطت إجابات تحوي على إشكالات جمة حول هذا الموضوع والتجليات العملية لهذا المبدأ عبر التطبيقات الاشتراكية الأولى بعد انتصار الثورة مباشرة وقبل أن تنقلب التحولات بعد ذلك إلى الشكل الذي باءت إليه , وفي هذا العصر وفيما يخص هذه المسألة في بلاد الأطراف ثمة رأيان يحكمان توجهات التحالف: رأي يقر بحق تقرير المصير ولو أدى ذلك إلى الإنفصال , ورأي يقر الحق ولكنه يستبعد الإنفصال ولا يقبل به إلا في حال فشل التحالف الثوري في حمل الجماهير المستغلَة والمضطهدة على النضال من أجل استقلال ذاتي محلي حقيقي في إطار دولة موحدة , فقوى التحالف المناهض للامبريالية لن تستفيد من إضعاف دول الأطراف عن طريق بلقنة أو لبننة أو عرقنة , ومن المهم قبل كل شيء وفي كل الأحوال أن لا نطلق وصف قومية على أي جماعة إثنية أو دينية بشكل مسبق , فتستند الجماعة الإثنية تلك بعد ذلك على هذا الوصف فتتطالب بحقوقها بالإنفصال .
لا تزال دول الأطراف تعاني من هشاشة في تكوينها ولكن بشكل متفاوت تبعا لخصائص ماضيها ما قبل الرأسمالي وتبعا لطبيعة الفئة المهيمنة والمسيطرة على مقاليد السلطة , ووفقا لنظرية سمير أمين قد يكون ماضي بعضها أمم خراجية(نمط إنتاج خراجي) وإثنيات قوية التلاحم , وقد يكون البعض الآخر لها ماضي تفتت قبلي بلا وحدة تاريخية ولا لغوية , هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى قد تتكون الفئة المهيمنة والمسيطرة على السلطة تارة من ملاكين زراعيين ذو جذور عميقة في التاريخ القومي للفترة ما قبل كولونيالية (شرق آسيا)وتارة من بورجوازية صناعية واضحة التكوين ولو حديثة , أو من شريحة بيروقراطية كومبرادورية لا جذور لها ولا وزن قد صنعها الاستعمار (البلاد العربية) .
فإن الأمم التي كانت خراجية مكتملة في مرحلة الماقبل الرأسمالية أو من هذا القبيل(تتسم بالقوة والتجانس) خاضت مرحلة تحررها الوطني القومي وكافحت في شروط مختلفة عن الأمم التي افتقرت لهذا الشرط , كالأمة العربية وأمريكا اللاتينية أو في أفريقا , لماذا ؟ لأنه ستثار في خضم الكفاح لحركة التحرر القومي ضد العلاقات الانتاجية الامبريالية إشكالات نوعية تتعلق بمهام بناء الأمة ودولتها , فلننظر إلى الإشكاليات الحادثة للأمة العربية أو إشكالية الأسبنة في أمريكا اللاتينية , أو الإشكاليات التي حدثت في الكونغو خلال مرحلة 1960_1963 مما أدى إلى فشل الحسم لدى الحركة المناهضة للامبريالية بالرغم من أهميتها واتساع رقعتها الاجتماعية لصالح الثورة وذلك لتعثر كبير ومعقد في مساعيها للتجذر والتبلور حول استراتيجية صحيحة , بينما بالمقابل في آسيا الشرقية , حققت حركة التحرر نجاحات باهرة , من وجهة نظر سمير أمين , من خلال توفر ثلاثة عوامل : _أولا الطابع السافر للتمايز الطبقي الريفي لفجاجة الإقطاع هناك وقسوته , هذا التمايز كان وراء انتفاضة الفلاحين الثورية .
_ثانيا وجود نواة بروليتارية وفئة مثقفين أرست جذورها الثقافية في التاريخ القومي وقد اصطدمتا كلتاهما بالواقع الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي للاستغلال الامبريالي .
_ثالثا الطابع المميز للشعوب((وربما للمذهب الكونفوشوسي)) لأنه ليس من قبيل المصادفة أن كان التحرر الوطني القومي في هذه المنطقة بالذات قد مهد الطريق أمام قيام دول قومية قوية وشعبية التزمت الطريق الاشتراكي بقدر كبير من النجاح وفشلت في المناطق الأخرى .

إن ما ماجرى من مساجلات ماركسية قديما أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لم تتناول المسألة الكولونيالية ومسألة حركة التحرر الوطني بشكل كاف وتعتبر مساجلات فقيرة ومحدودة ولا تؤلف في الواقع وحدة متكاملة يمكن أن نستخلص منها لأيامنا هذه استنتاجات متبلورة , لأن تأويل بعض النصوص لماركس أو إنجلز إلى ما لانهاية لم يكن كافيا , ولكن ما جرى في المرحلة الثانية من إنتاج الفكر الماركسي في إطار الأممية الثالثة وبشكل خاص ما قام به لينين قد زودنا بالشيء الكثير ولكن لم يسد النقص الحاصل لتحليل ما جرى في الثلث الأخير من القرن العشرين ولغاية أيامنا هذه من تغيرات وأحداث عينية شملت البنية الامبريالية والبنية الكولونيالية والعلاقة البينية فيما بينهما , وإن الوضع اليوم يقتضي دراسة بل دراسات عينية لتمفصل الصراعات الطبقية مع الصراعات القومية .

وإننا نرى أن خوض مرحلة التحرر الوطني القومي(والتي نراها من وجهة نظرنا نضالا من أجل الاشتراكية) من خلال تحالف شعبي ثوري بقيادة برنامج بروليتاري كفيل وحده بأن يقود هذا النضال ذو المهمات المزدوجة إلى تحقيق أهدافه , والتوكيد على استقلالية هذا البرنامج على الصعيدين النظري والعملي هو الذي يضمن النجاح لاستراتيجية الثورة المتواصلة على مراحل , لأنه في حال غيابه سينحصر دور القوى الشعبية في مساندة الاستراتيجيات البورجوازية التي لا تؤدي سوى إلى المآزق والطريق المسدود كما هو حادث في مناطقنا , بل على قوى هذا التحالف أن تبذل قصارى جهدها من أجل التغلب على التناقضات القومية في صفوف الشعب وتبني تكتيك مرن قائم على تحليل معمق لطبيعة التحالف المحلي المهيمن والمسيطرعلى الدولة ونقاط ضعفه والتناقضات التي تعتمل فيه وتحين أي فرصة لإضعافه , والتنبه واليقظة إزاء الدول الامبريالية خصوصا أمريكا لأنها ستستغل جميع القوى التي ستنشط في أجواء فوضاها الخلاقة لتسخرها لخدمة استراتيجياتها .

نفس المراجع السابقة