الأيديولوجيا والسياسة... إستقلال نسبي، وضوابط ضرورية


داود تلحمي
2006 / 9 / 12 - 10:15     

كلمة أيديولوجيا تعني، كما هو معروف، منظومة فكرية، أو عقائدية. وهي كلمة استحدثت في اللغات الأجنبية في أواخر القرن الثامن عشر، أي قبل زهاء القرنين من الزمن. والتعبير ينطبق على مختلف المنظومات أو المدارس الفكرية، السياسية والفلسفية والإجتماعية، اليمينية منها واليسارية، العقائدية والإيمانية... تلك التي تنطلق من العلوم والمعرفة، كما وتلك التي تنطلق من المعتقدات الدينية والغيبيات والأفكار الماورائية... تلك المدارس الشمولية التي تتناول تقريباً كل شيء في حياة البشر ومصيرهم، أو تلك التي تحتوي على مجموعة محدودة من الأفكار والمفاهيم العامة.
أما السياسة فهي ميدان آخر. هي ميدان حاضر دائماً، نظراً لعلاقته بالتعاطي مع الوقائع والأوضاع الفعلية للبشر، أو لمجموعة من البشر، بهدف تنظيم حياتهم الإجتماعية والسعي لتسييرها باتجاه معين.
وقد كتب وقيل الكثير عن هذين المجالين، الأيديولوجيا والسياسة. لكن ما يهمنا هنا هو التركيز على ضرورة التمييز بين هذين المجالين وقوانينهما، على أساس أن الأفكار، مهما كانت عميقة وقيمة وجادة، لا يمكن أن تنتقل الى الواقع بعملية تطبيق بسيطة، ميكانيكية. لا بل إن نظرة من هذا النوع للعلاقة بين هذين المجالين تضلّل، ولا تساعد على توضيح الصورة.
ومثل هذه النظرة المشوهة موجودة لدى بعض المتعاطين مع الشأنين، من اولئك الذين يجنحون نحو اعتبار المجال الثاني (أي السياسة) مجرد عملية تطبيق للأول، وهو ما يقود عادة الى نتائج غير تلك المتوخاة... وأحياناً الى كوارث. كما إن هناك، بالمقابل، من ينظر الى السياسة كلعبة، كحرفة بلا قواعد ولا ضوابط، سوى ما يحقق الفوز لصاحبها، والفوز هنا هو السلطة والنفوذ. وهذا هو الوجه الآخر، الأسوأ، للتشويه الأول.

إستقلال نسبي بين مجالي الأيديولوجيا والسياسة

وحتى لا نبقى في مجال التعميم، نعطي كمثل، من ناحية اليمين السياسي، حالة الأيديولوجيا الفاشية – النازية، التي نشأت في مطالع القرن العشرين، وخاصة على أرضية نتائج الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حيث وصل بعض أصحاب هذه الأيديولوجيا الى السلطة في عدد من الدول الأوروبية في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم، وخاصة في إيطاليا وألمانيا، وبصيغ مختلفة بعض الشيء في كل من إسبانيا والبرتغال. ولهذه الأيديولوجيا ومدارسها المختلفة تقاطعات وتنوعات، أي إنها ليست، بالضرورة، متطابقة في تفريعاتها، وإن كانت لها سمات وخلفيات إقتصادية - إجتماعية متشابهة. فقد تبلورت ووصل أصحابها الى السلطة في بلدان رأسمالية تميزت بكونها غير مكتملة التطور رأسمالياً، أو مأزومة سياسياً أو إقتصادياً - اجتماعياً.
وهناك، بالطبع، تلاوين وأيديولوجيات عديدة على الصعيد السياسي – الإجتماعي تتراوح بين أقصى اليمين (الفاشي) وأقصى اليسار ( الثوري الجذري). لنأخذ، مثلاً، إحدى أبرز الأيديولوجيات اليسارية في التاريخ البشري المعاصر، الأيديولوجيا الماركسية، التي كان لها تأثير كبير على مسار هذا التاريخ في العديد من بلدان العالم منذ تبلورها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على أيدي العالمين الألمانيين كارل ماركس وفريدريش إنغلز.
وجدير بالذكر أن كارل ماركس ما كان ليصف ما أنتجه من فكر ودراسات إقتصادية – إجتماعية للواقع القائم واستخلاصات تاريخية بهذه الصفة، أي باعتبارها أيديولوجيا. فهو استعمل هذه الكلمة، في كتاباته الأولى خاصة، بمضمون سلبي، أي بمعنى أنها تلك المنظومات الفكرية التي تنطلق من الذهن، وليس من الواقع الفعلي. ولكننا هنا سنستخدم هذا التعبير بمعناه الأعم والأكثر رواجاً بهدف تسهيل الطرح ووضوحه، ولتظهير التمايز والإستقلال النسبي ما بين مجالي الأيديولوجيا (الفكر) والسياسة.
ولنأخذ مثلاً آخر من الواقع السياسي العالمي الراهن. فهناك في الولايات المتحدة من يطلق عليهم تعبير "المحافظين الجدد"، وهم أصبحوا في إدارة جورج بوش الإبن منذ مطلع العام 2001 أصحاب نفوذ كبير. فهم ينطلقون من أيديولوجيا بلورها بشكل رئيسي أستاذ جامعي وفيلسوف سياسي أميركي من أصل ألماني اسمه ليو ستراوس، ولد في ألمانيا ثم انتقل الى بريطانيا فالولايات المتحدة عام 1937، وتوفي في العام 1973. وقد رأينا في احتلال العراق نموذجاً لمحاولات هذه المجموعة تطبيق أفكارها ورؤاها على المسرح العالمي، وإن كان شاركها الرأي في هذا المشروع المغامر مجموعة من رموز اليمين المحافظ في الحزب الجمهوري وطاقم إدارة بوش، وخاصة نائب الرئيس ريتشارد تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد.
ومع المآزق التي تواجه مشروع السيطرة الأميركية على العراق، تزايدت الضغوط داخل الإدارة الأميركية وخارجها لاتباع سياسة أكثر براغماتية، وهو ما قد يعني تراجعاً نسبياً لدور "المحافظين الجدد"، دون أن يعني، بالضرورة، تخلياً من قبل هذه الإدارة الأميركية عن مشروع السيطرة على العراق، وعبره على مجمل منطقة الخليج والشرق الأوسط الغنية بمصادر الطاقة، وتحديداً النفط والغاز. فبالرغم من إدخال قدر معين من الأيديولوجيا في السياسة الخارجية الأميركية في عهد الإدارة الحالية، تبقى البراغماتية التقليدية قوية في صنع السياسة الأميركية، كما كانت دائماً، مع أن الأمر يتعلق الآن بواقع عالمي جديد منذ انهيار وتفكك الإتحاد السوفييتي، ومع صعود قوى عالمية جديدة، من بينها الصين، مرشحة للتأثير على احتكار الولايات المتحدة للنفوذ الكوني في العقود القادمة. يبقى أن ما ستنتهي إليه الأوضاع في العراق خلال الأشهر والسنوات القليلة القادمة سيلعب، بلا شك، دوراً كبيراً في بلورة ملامح الخارطة العالمية الجديدة ومدى استمرارية الهيمنة الأميركية عليها، وبالتالي مصير بعض الأيديولوجيات التي انتشرت، في الولايات المتحدة خاصة، بعد انهيار التجربة السوفييتية مباشرة والإنفراد الأميركي بمرتبة القوة الكونية العظمى.

خطأ في النظرية...أم في التطبيق؟!! في الفكر أم في السياسات؟!!
في حالات عدة في التاريخ العالمي المعاصر، ظن بعض الذين أخذوا بأيديولوجيات معينة أن السياسة هي محاولة لتطبيق هذه الأيديولوجيا أو تلك في الواقع، على الأرض، على المجتمعات البشرية.
لنأخذ، على سبيل المثال لا الحصر، الأسئلة التي طرحت بعد انهيار التجربة السوفييتية، وتجارب أوروبا الشرقية والوسطى القريبة منها. فقد دفعت هذه التطورات العاصفة في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الى الواجهة سؤالاً كبيراً على المتابعين لهذه التجارب والمهتمين بها: ما الذي قاد الى هذه الإنهيارات؟ هل هناك مشكلة في النظرية، في الفكر، أي الماركسية أو الماركسية – اللينينية، أم في التطبيق؟!
وفي الواقع، فإن السؤال، بحد ذاته، يتضمن إشكالية جوهرية: فالنظرية، أو المنظومة الفكرية، لا تطبّق. فمجال النظرية شيء، ومجال السياسة شيء آخر. فتملك النظرية مهم ومفيد، خاصة عندما يتعلق الأمر بنظرية ذات أرضية واقعية علمية وذات أبعاد إنسانية تقدمية. ولكن هذا التملك لا يقود بالضرورة وحتماً الى ممارسة سياسية صائبة. لأن هذه الممارسة بحاجة الى شيء أكبر وأوسع من هذا التملك... الى قدرة على قراءة صحيحة وعميقة للواقع وبلورة سبل التعاطي الخلاق معه، أي ابتداع السياسات الملائمة لكل بلد أو بيئة أو مرحلة تاريخية، لإحداث التحرك المجتمعي باتجاه الهدف، الذي يتحدد إنطلاقاً من الرؤية الفكرية.
فالتحول من النظام الرأسمالي الى نظام إشتراكي إنساني يخلو من الظلم والإستغلال لا يتحقق بوصفة طبية أو بتصورات نظرية مسبقة لما ينبغي أن يتخذ من إجراءات على الأرض. ولذلك، وجدنا الكثير من التنوع في التجارب التي شهدتها بلدان عدة سعى حكامها لنقلها من نظام الى آخر، من المفترض، من حيث المبدأ، أنه أرقى وأفضل وأكثر عدالة واحتراماً لإنسانية البشر.
وفي بعض الحالات، ذهبت الأمور باتجاهات إرادوية بلغت حداً مريعاً من العنف والبطش والاستهتار بحياة البشر ومصيرهم المباشر، كما حصل، مثلاً، في بلد مثل كامبوديا في جنوب شرق آسيا بين العامين 1975 و1979.
ففي هذا البلد، وصلت الى السلطة في ربيع العام 1975، ابان هزيمة الأميركيين في حربهم الطويلة على منطقة الهند الصينية (فييتنام، كامبوديا، لاووس)، مجموعة من الثوار كانت قد مارست المقاومة ضد العدوان الأميركي على هذا البلد، المتاخم لفييتنام، كما وضد النظام التابع لأميركا الذي فرض على البلد في انقلاب عسكري مدعوم من الأميركيين في العام 1970، في أوج الحرب على فييتنام. وتحقق لهؤلاء الثوار النجاح، كما ولجيرانهم الأقوى في فييتنام، عندما انسحب الأميركيون من عموم المنطقة في ربيع العام 1975.
وسعى بعد ذلك ثوار "الخمير الحمر" في كامبوديا، كما كانوا يسمون، الى تغيير بنية المجتمع في بلدهم بصورة قسرية وفورية، كما لو كان الناس بيادق على طاولة شطرنج كبيرة... فأفرغوا المدن (وخاصة العاصمة بنوم بنه) من السكان، وحوّلوهم جميعاً الى العمل في الأرياف في مجال الزراعة، بحجة القضاء على الفساد المتفشي في المدن، وخاصة العاصمة، والسعي لتجاوز التناقض التاريخي بين المدينة والريف. وكانت النتيجة أن قاد ذلك الى إبادة فعلية لقسم كبير من الشعب الكامبودي، حوالي ربعه وربما أكثر، سواء بسبب الإجراءات التعسفية والتصفيات الجسدية التي مورست من قبل القيادة الجديدة، أو بسبب المرض والإنهاك وسوء الأوضاع الصحية في الأرياف. وهكذا، عندما دخلت القوات الفييتنامية الى كامبوديا في أوائل العام 1979 وأطاحت بنظام "الخمير الحمر" (الذي كان يقوده الزعيم الذي عرف باسمه الحركي، بول بوت)، كانت غالبية الناس في كامبوديا، أو من تبقى منهم على قيد الحياة، غير مجابهة لهذا التدخل، بالرغم من الحساسيات القومية التاريخية بين الشعبين، الفييتنامي والكامبودي- والأول منهما أكثر عدداً بزهاء العشرة أضعاف من الثاني-، وهي حساسيات لمسناها مباشرة عندما قمنا بزيارة البلدين بعد أشهر قليلة من دخول القوات الفييتنامية الى عاصمة كامبوديا في مطلع العام 1979.
ومن المعروف أن التجربة الفييتنامية، بالمقابل، شهدت إلتفافاً شعبياً واسعاً حول القيادة الثورية الفييتنامية ومؤسسها هو شي مينه. ومن الواضح أننا في الحالتين أمام نمطين من القيادات، أولاها، الفييتنامية، ذات قدرات قيادية كبيرة وذات رؤية متقدمة للواقع وسبل تغييره نحو الأفضل، مما بعث الثقة العميقة لدى المواطنين بهذه القيادة، بحيث جرى استنهاض ناجح لطاقاتهم الكامنة في عمليات تغيير هائلة بالمقاييس التاريخية، عمليات انتزاع حرية البلد واستقلاله الناجز من براثن قوتين عالميتين كبيرتين على التوالي (فرنسا بين العامين 1945 و1954، ثم الولايات المتحدة بين 1956 و1975)، وتوحيد البلد بعد دحر مشاريع الإجتياح ومحاولات إدامة الهيمنة الخارجية... والنمط الآخر من القيادات، كالقيادة الكامبودية المعروفة باسم "الخمير الحمر"، لم يتوفر لها الحد الأدنى من هذه الصفات، ولم تكن تتمتع بقدرات تضاهي حجم التحدي بعد الخلاص من الإحتلال المباشر، سواء في ما يتعلق بقراءة الواقع بشكل صحيح أو بالقدرة على استنهاض طاقات الشعب وتعبئته وتوحيده في مسيرة إعادة البناء والتنمية والتطور.
وما قيل عن كامبوديا في تلك الحقبة يمكن أن يقال، بحدود معينة، عن تجربة اليسار في أفغانستان بعد الحركة التي أطاحت في ربيع العام 1978 بنظام محمد داود، وهي حركة استقبلت في البداية بترحاب من قبل الجمهور الواسع في هذا البلد. لكنها سرعان ما بددت هذا الرصيد بارتكاب جملة من الأخطاء في التعاطي مع واقع البلد ومستوى تطوره، مما ساهم في إضعاف وضع النظام الجديد، وسهل محاولات التخريب الخارجي التي كانت تقودها الولايات المتحدة، ودفع الى تورط القوات السوفييتية للتدخل المباشر في أواخر العام 1979 لحماية هذا النظام ومحاولة منع انتقال هذا البلد المتاخم للإتحاد السوفييتي الى المعسكر الأميركي، ومحاولة إنقاذ علاقات تاريخية مميزة متصلة لهذا البلد مع الإتحاد السوفييتي، عملياً منذ الثورة البلشفية واستقلال أفغانستان. ومعروف أن علاقات ودية أقيمت منذ العشرينيات الماضية بين قيادتي الإتحاد السوفييتي وأفغانستان، وتوطدت منذ الإتصالات الأولى بين الزعيم السوفييتي الأول فلاديمير لينين والملك أمان الله (الذي حكم أفغانستان بين العامين 1919 و1929).
وبات معروفاً، الآن، أن الولايات المتحدة بذلت جهوداً عملية ملموسة لاستدراج التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان منذ وقت مبكر، كما اعترف بذلك مؤخراً مستشار الأمن القومي الأميركي، آنذاك، زبغنيو بريجنسكي، وهو التدخل الذي وفّر لواشنطن لاحقاً فرصة لشن هجمتها المضادة الشاملة على الإتحاد السوفييتي وحلفائه، بنتائجها المأساوية المعروفة.



الفكر يرشد ويضع ضوابط، ولكنه لا يطبّق تلقائياً على الواقع

كل هذه التجارب التاريخية المعاصرة تؤشر الى أن تبني حزب أو جماعة أو نظام لأيديولوجيا معينة، كالفكر الماركسي مثلاً وليس حصراً، لا يعني تلقائياً أن صيغة محددة من السلوكيات والسياسات والنتائج على الأرض ستبرز بمجرد إشهار هذا التبني. وهذا ما ينطبق طبعاً على كل الأيديولوجيات، الفلسفية والسياسية والاجتماعية، اليمينية واليسارية، المادية والغيبية، الخ.... ومن هنا القول بأن التعاطي العملي مع الواقع، بكل تعقيداته وديناميكيته وحركته الدائمة، مجال مختلف عن التعاطي مع النظرية والأفكار المسبقة، ويحتاج الى قدرات وكفاءات من نوع مختلف. وقد أظهر التاريخ البشري حالات قليلة من تزاوج الكفاءة في المجالين الأيديولوجي والسياسي لدى عدد محدود من القادة الاستثنائيين.
والاستخلاص يكمن، إذاً، في ضرورة اعتبار السياسة، بما هي تعاط مع الواقع الملموس واليومي، مجالاً له قوانينه وآلياته الخاصة التي تتجاوز كونها، أي السياسة، مجرد تطبيق لوصفة أيديولوجية، أو فكرية، أو عقائدية.
وهذا ما يفسّر، كما ذكرنا، تنوع ما جرى في بلدان عديدة أخرى غير فييتنام وكامبوديا وأفغانستان... من الإتحاد السوفييتي الى الصين... الى كوبا وكوريا وألبانيا ويوغسلافيا في ما يتعلق بتجارب السعي الىالتحول نحو الإشتراكية.
والأمر نفسه ينطبق على تجارب الأنظمة العربية التي تبنى حكامها أيديولوجيا قومية عربية. حيث اختلفت التجارب بين مصر الناصرية وسورية والعراق، وكلا البلدين الأخيرين حكمهما منذ أوائل الستينيات الماضية نظام يستمد مرجعيته الفكرية من مبادئ وأدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تأسس في أربعينيات القرن العشرين. كما ينطبق ذلك على القوى والأحزاب العربية المختلفة التي انبثقت من حركة القوميين العرب، والتي لم يصل منها الى السلطة إلا جناح اليمن الجنوبي، الذي تحول يساراً، وانتهى الى الإبعاد عن السلطة بعد سنوات قليلة من عملية توحيد الجنوب والشمال اليمنيين في مطلع التسعينيات الماضية.
وحتى الفكر النازي- الفاشي، الذي نشأ في أوروبا الغربية والجنوبية في مطالع القرن العشرين، كما ذكرنا، إتخذ تلاوين مختلفة بين كل من ألمانيا وايطاليا، وبينهما وبين كل من إسبانيا والبرتغال وبلدان أوروبية أخرى، وتلاوين أشد اختلافاً عندما انتقل النموذج الى العالم الثالث. فتجربة خوان بيرون في الأرجنتين (1946-1955)، مثلاً، اتخذت، رغم جذورها ومظاهرها الفاشية، طابعاً شعبوياً تنموياً ومناهضاً للهيمنة الخارجية (الأنغلو- أميركية خاصة). وفي منطقتنا العربية، نشأت عدة أحزاب على نمط الأحزاب الفاشية الأوروبية، بعضها انقرض وبعضها لا زال حياً. ومن بين الأحزاب التي لا زالت قائمة، هناك حزب الكتائب اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي، اللذين نشأا في لبنان في ثلاثينيات القرن العشرين بوحي من تجارب الأحزاب الفاشية الأوروبية، لكنهما اتخذا لاحقاً مناهج ومواقف سياسية متباينة. فتحول الحزب الثاني، أي الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي كان نفوذه الأوسع في لبنان، بالرغم من كونه ينادي بوحدة سورية الطبيعية وكانت له امتدادات في بلدانها الأخرى، تحول الى حزب وطني متحالف، في السبعينيات الماضية، ابان الحرب اللبنانية، مع القوى الوطنية والتقدمية اللبنانية الأخرى ومع المقاومة الفلسطينية، ومناهض للمشروع الطائفي... الذي تمسك به، بالمقابل، الحزب الأول (حزب الكتائب)، الذي لعبت قيادته دوراً رئيسياً في تفجير هذه الحرب الأهلية- الإقليمية في لبنان في العام 1975.
وبإمكاننا أن نشير أيضاً، في هذا السياق، الى الأحزاب التي رفعت شعارات أو يافطات دينية، سواء في منطقتنا العربية – الإسلامية أو في بلدان أوروبا الغربية وأميركا اللاتينية، حيث تأسست أحزاب هناك حملت أسماء من نمط "الحزب المسيحي الديمقراطي" أو "الديمقراطي المسيحي" في بلدان مثل ألمانيا وإيطاليا وغيرهما. فالمرجعية الأيديولوجية الواحدة لم تقد الى سياسات واحدة أو متطابقة، بل أحياناً الى سياسات شديدة التباين، كما هو الحال مثلاً بين الأحزاب "المسيحية الديمقراطية" في أوروبا، ذات الطابع المحافظ اليميني عادة، من جهة، وبعض الحركات الأميركية اللاتينية، التي تم تصنيف بعضها تحت تعبير "لاهوت التحرير"، وقد اتخذ معظمها طابعاً يسارياً مناهضاً للغبن الاجتماعي وللإمبريالية والتبعية للقوى الخارجية (وخاصة الولايات المتحدة) من الجهة الأخرى.

من الخطأ الحديث عن إخفاق في تطبيق النظرية، في الإتحاد السوفييتي مثلاً

ولا نريد هنا أن نبسّط الموضوع ونجري تعميماً على مختلف هذه الظواهر والتجارب التي لكل منها خصوصيته وظروف نشأته وتطوره وقاعدته الاجتماعية. ولكن ما يهمنا في هذا المجال هو التأكيد، مرة أخرى، على كون الأيديولوجيا، أو المنظومة الفكرية أو العقائدية، لا تعكس نفسها بالضرورة في سياسات متشابهة ومتطابقة. فمن الخطأ، مثلاً، الحديث، بصدد فشل التجربة السوفييتية، عن إخفاق في تطبيق النظرية أو الأفكار. فالأفكار لا تطبّق كما هي على واقع، هو، بالضرورة، أكثر تعقيداً بكثير من كل النظريات والتعميمات. فالنظرية الصائبة تساعد في فهم جاد، وليس سطحياً، للواقع القائم وآليات حركته، كواقع النظام الرأسمالي السائد حالياً في العالم مثلاً، ولكنها لا تغني عن القراءة الملموسة للواقع في كل بلد ومنطقة، وفي سياقها الزمني، كما هو هذا الواقع فعلاً، واشتقاق السياسات الملائمة لإحداث التغيير المطلوب في الإتجاه الذي تضيئه النظرية أو المنظومة الفكرية.
ولا شك أن الكثير من الإخفاقات التي حصلت في تجارب القرن الأخير في شتى المدارس الفكرية، كتلك التي أشرنا إليها أعلاه، تعود في أحيان كثيرة الى إخفاق سياسي، أي بالدرجة الرئيسية الى إخفاق في التعاطي مع الواقع، ليس فقط الجغرافي- السياسي، وإنما أيضاً الإجتماعي – الإقتصادي – البشري، وأحياناً حتى الى إخفاق في قراءة هذا الواقع قراءة صحيحة، بما يجعل محاولات إسقاط الأفكار الجاهزة على الواقع محاولات محكومة مسبقاً بالفشل، طال الزمن أم قصر.
فمسألة مركزية هامة هي قدرة رجل السياسة الذي يتبنى أيديولوجيا معينة على أن يقرأ الواقع جيداً، ويجد السبل الملائمة والمداخل لإحداث التغييرات المطلوبة فيه في الاتجاه الذي يخدم الفكرة والهدف المستوحيين من الأيديولوجيا. فتملك الفكر النظري مهم، ولكنه لا يكفي، كما سبق وذكرنا، لرسم سياسات صائبة وملائمة وقادرة على إحداث التغيير المطلوب. فإنجاح أي تغيير، خاصة إذا ما كان جذرياً، يعتمد في عصرنا، بالضرورة، على إشراك الناس في صنع هذا التغيير، سواء كان الأمر يتعلق بشعب بأكمله أو بطبقة أو تحالف طبقي أو تيار من هذا الشعب، حسب الهدف المتوخى.
ولا شك، إذا عدنا الى التجربة السوفييتية في بداياتها، أن غياب فلاديمير لينين المبكر (توفي بعد أقل من سبع سنوات على ثورة اكتوبر 1917، لكنه كان، عملياً، في دفة القيادة لأقل من خمس سنوات، حيث أقعده المرض وشل دوره في العامين الأخيرين من حياته) غياب لينين المبكر هذا، وهو صاحب القدرات الفكرية والعملية السياسية الكبيرة، وضع التجربة الوليدة في أيد لا تتمتع بنفس درجة الكفاءة والحكمة والثقافة والقدرات السياسية الإستثنائية التي كانت تتطلبها مرحلة الإنتقال المعقدة هذه.
وإذا كان لينين قد اضطر، بسبب صعوبة الأوضاع الاقتصادية في روسيا بعد الثورة والجهود الكبيرة لصد الاعتداءات الخارجية ووضع حد للحرب الأهلية، وكلها استنزفت البلد وأفقرته، الى اعتماد "سياسة اقتصادية جديدة" في العام 1921، اشتهرت بالأحرف الأولى لهذا التعبير باللغة الروسية "ن.ي.ب."، وجرى التساهل خلالها مع استمرار الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وخاصة في المجال الزراعي، فإن السؤال الذي طرح نفسه على القيادات التي خلفت لينين في قمة هرم السلطة السوفييتية كان، في أواخر العشرينيات الماضية، يتلخص في إذا ما كان يجب الإستمرار في هذه السياسة المتساهلة مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (بدء بالإنتاج الزراعي الغالب آنذاك في الإقتصاد الروسي) لفترة أطول من الزمن لتحقيق تراكم جاد لرأس المال وإعادة بناء الإقتصاد الروسي المتهدم والمدمر، أو وقف هذه السياسة المرنة للتحكم بشكل أكبر بعملية الإنتاج وتوجيه فائض مردود الثروة الزراعية للإسراع في عملية التصنيع.
ومعروف أن القيادة السوفييتية كانت منقسمة في آرائها حول الموضوع. فكان نيكولاي بوخارين، أحد قادة الحزب البلشفي أبان ثورة 1917، مثلاً، من أنصار الإستمرار لمدة أطول في هذه السياسة، في حين كان ستالين وغالبية القيادة آنذاك مع وقف هذه السياسة والإسراع في عملية تأميم الأراضي وتجميعها واعتماد نظام ملكية الدولة لها.
وفي الوقت الذي لا يمكن فيه التقليل من حجم الانجازات الإقتصادية والعلمية والعسكرية التي تحققت طوال العقود الأولى من التجربة السوفييتية، وهي إنجازات هائلة بكل المقاييس، لا يمكن تجاهل كون المركزة الشديدة للقرار، بما في ذلك على الصعيد الإقتصادي، وسمات أخرى يمكن الاستفاضة في الحديث عنها في مجال آخر، أوصلت التجربة الإقتصادية السوفييتية، منذ الستينيات الماضية بشكل خاص، حسب بعض المصادر السوفييتية، الى إستعصاءات في عدد من المجالات. وهي استعصاءات تراكمت في السنوات اللاحقة، بالرغم من استمرار الإنجازات الهامة في مجالات عديدة، علمية وعسكرية، تعليمية وصحية، الخ.... الى أن تزايدت التحديات والإستعصاءات خلال الثمانينيات مع تشديد حملات الحصار والتضييق الخارجية، على خلفية التدخل السوفييتي العسكري في أفغانستان بشكل خاص، ومع التصعيد الأميركي في مجال سباق التسلح (برنامج "حرب النجوم" الشهير في أواسط الثمانينيات في عهد إدارة رونالد ريغن)... الى أن حدث الإنهيار المريع للتجربة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وهو انهيار له أسبابه العديدة الأخرى طبعاً، ولكن السبب الاقتصادي يأتي، برأينا، في مقام أساسي، بما في ذلك البعد المتعلق بالتحولات التي جرت في بنية المجتمع السوفييتي بفعل تطور الوضع الإقتصادي للبلد والمستوى الثقافي للمواطنين.


إجتهادات ومسارات مختلفة في الصين

وما يجري الآن في الصين من تطوير سريع للإقتصاد، مع مجال واسع مفتوح لاقتصاد السوق وللإستثمارات الخارجية، يمكن أن يتم النظر إليه، من زاوية ما، وكأنه استخلاص لسلبيات نمط التطور الإقتصادي السوفييتي... مع ان الظروف الدولية المحيطة مختلفة تماماً بين الحقبتين (حوالي ثمانين عاماً من الفارق الزمني، وتطورات هائلة في خارطة العالم خلال هذه الفترة)، الى جانب الإختلاف الكبير بين التجربتين، بما في ذلك في درجة التطور الإقتصادي السابق للثورة في كل منهما، حيث إن الصين بدأت من مستوى تطور أكثر تخلفاً من روسيا ما بعد ثورة 1917. هذا، مع التأكيد على أن لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأمور في نهاية المطاف في أي من التجارب التي لا زالت قائمة. وإن كان أنصار المستقبل الإشتراكي العادل للبشرية يأملون أن يروا نموذجاً ناجحاً يتجسد على الأرض في بلد أو أكثر من بلدان العالم، يعيد فتح الآفاق أمام المشروع التاريخي الذي حملوه، والذي ضحّى الملايين من البشر في شتى أنحاء الكرة الأرضية من أجل تحقيقه.
ولنتذكر، هنا، أن نهج التطور الإقتصادي المتسارع المنفتح على اقتصاد السوق في الصين لم يعتمد في حياة قائد الثورة الصينية ومؤسس جمهورية الصين الشعبية، ماوتسي تونغ، الذي كانت لديه تصورات ورؤية أخرى، حتى وفاته في العام 1976. فصاحب نهج التطور الإقتصادي المنفتح على السوق والملكية الخاصة هو دينغ كسياو بينغ، الذي كان رفيق درب ماوتسي تونغ طوال حرب التحرير وفي السنوات الأولى لقيام جمهورية الصين الشعبية، حين كان دينغ الأمين العام للحزب الشيوعي، بينما كان ماو رئيس الحزب. وقد انفجر الخلاف بين النهجين في أواخر الخمسينيات وخلال الستينيات الماضية، خاصة خلال ما سمّي بالثورة الثقافية، التي حاول ماو عبرها إزاحة دينغ وأنصار أفكاره من مواقع المسؤولية، لكنه تفادى النيل من حياته، في اختلاف آخر عما حصل في الإتحاد السوفييتي في ثلاثينيات القرن الماضي، حين جرت تصفيات واسعة طالت عدداً كبيراً من قيادات المرحلة الأولى من الثورة السوفييتية. وقد عاد دينغ الى واجهة النفوذ في الصين بعد وفاة ماو، وأصبح المرشد والأب الروحي لكل التحولات الإقتصادية اللاحقة، والتي ما زالت متواصلة الآن، بعد زهاء عقد من السنين من رحيل دينغ في العام 1996. ويلفت الانتباه أن دينغ وأتباع سياساته الذين خلفوه في قمة السلطة في الصين لم يسعوا الى النيل من مكانة ماوتسي تونغ كمؤسس وقائد تاريخي للثورة الصينية وللصين المستقلة الموحدة الحديثة. حيث ما زالت صور ماو وتماثيله منتشرة في أنحاء الصين، وما زال هناك تأكيد على دوره التاريخي الكبير.
والتباين في الرؤية بين ماو ودينغ يؤشر، هو أيضاً، الى تعقيدات التعاطي مع الواقع، بمعزل عن الإتفاق على الأرضية الأيديولوجية. فالتاريخ سيحفظ مكانة الرجلين في بناء الصين الحديثة، وإن كان المستقبل وحده هو الذي سيحدد مدى صوابية السياسات التي اتبعت في العقود الأخيرة من منظار التحول اللاحق نحو الإشتراكية. مع التأكيد بأنه بات واضحاً، منذ الآن، أن التطور الإقتصادي الهائل الذي شهدته الصين، خلال العقدين الأخيرين خاصة، جعل هذا البلد الكبير وكثيف السكان ينتقل، وبشكل متزايد، الى مصاف القوى الإقتصادية – السياسية الكبرى في العالم، مهما كان مسار التحولات الداخلية اللاحقة المحتملة على الصعيدين السياسي والإجتماعي. وهو، في كل الأحوال، تطور هام من منظار الشعوب المتضررة من تفرد قوة كبرى وحيدة بالنفوذ على مستوى العالم.
وإذا كان النموذج الصيني يؤكد ما ذهبنا إليه من الإستقلالية النسبية لمجالي الأيديولوجيا والسياسة، فإن لدينا، في المنطقة العربية، كما ذكرنا، نماذج التجارب القومية العربية، مثلاً، في مصر الناصرية وما بعد الناصرية، كما في سورية والعراق. ودون المبالغة في دور القائد الفرد في التاريخ، إلا انه لا يمكن الاستهانة بدور أفراد إستثنائيي الطاقات والقدرات في مواقع وظروف تاريخية محددة. حيث لا بد من ملاحظة وتقدير دور وقدرات هذا القائد أو ذاك في مجال التعاطي السياسي الصائب مع الواقع واشتقاق السياسات والمهمات الملائمة لكل وضع ناشئ ومستجد، وابتداع أشكال جديدة من التعاطي مع الواقع ومع مكونات المجتمع المعني، لاستنهاض العوامل الذاتية بهدف الدفع باتجاه التغيير المطلوب.
ولدينا في منطقتنا العربية، كما في أنحاء العالم، نماذج عديدة للنمط الآخر من القيادات، الذي يكتفي بالتعاطي البراغماتي التكتيكي البحت مع أمواج التطورات المتلاطمة، على قاعدة الدفاع عن الذات القيادية أو الحفاظ على وضع معين أو نظام معين، كما كان عليه الحال في مراحل لاحقة من التجربة السوفييتية – الأوروبية الشرقية، وكما هو الحال في العديد من الأنظمة التي شهدتها بلدان منطقتنا ومعظم بلدان العالم الثالث في العقود الأخيرة. هذا دون أن نغفل، طبعاً، الفروق الهائلة بين وضع بلدين كبيرين مثل روسيا والصين، من جهة، ووضع بلداننا العربية الصغيرة ومتوسطة الحجم، والمبعثرة، أي غير المتكاتفة في مسيرة تطورها، والخاضعة لضغوط وتأثيرات خارجية هائلة، لها علاقة في كثير من الأحيان برغبة القوى الخارجية في منع تشكّل قوة عربية كبيرة مهيمنة على منطقة مهمة من مناطق العالم، تضاعفت أهميتها منذ مطلع القرن العشرين، مع اكتشافات الثروة الإستراتيجية ذات القيمة العالمية التي شكلها النفط، والذي يتوفر معظم احتياطيه المعروف حالياً في المنطقة العربية - الخليجية.

الوجه الآخر السلبي...ممارسة السياسة بدون ضوابط أو قيم
-لكن، لا بد، مع التأكيد على الإستقلالية النسبية بين مجالي الفكر (الأيديولوجيا) والسياسة، من التشديد على أن السياسة، لمن يتبنى فكراً أو أيديولوجيا معينة لا يمكن أن تكون بلا ضوابط، أي أن يكون كل شيء مباحاً في السعي لتحقيق النتائج أو الأهداف المتوخاة، وفق المقولات التاريخية الشهيرة التي تبرر كل الوسائل من أجل تحقيق الهدف (تنسب هذه الأفكار عادة الى المفكر السياسي الإيطالي نيكولو ماكيافيلي، الذي عاش في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، والذي كشف في كتابه الشهير "الأمير" آليات وتقنيات ترسيخ سيطرة الحاكم المستبد). فبعض الوسائل التي يمكن أن تتبع من قبل رجل السياسة في هذا السياق قد تمس صلب مشروعه الفكري – الأيديولوجي وتحدث تشويهاً، قاتلاً أحياناً، فيه. فإذا كانت محاولات نقل الأيديولوجيا الى الواقع وتغليب الرؤى الفكرية – المبدئية في عملية التطبيق هذه محكومة بالاصطدام بتعقيدات الواقع وديناميكيته المتغيرة دائماً، فإن اعتبار المرجعية الأيديولوجية – الفكرية مجرد يافطة شكلية للخداع والتضليل، والتعامل مع السياسة العملية اليومية بدون ضوابط ولا أخلاق، هما، في حالات كثيرة، الوجه الآخر، والأسوأ، للفهم الميكانيكي للعلاقة بين المستويين، الفكري والسياسي.
فبعض السياسات يمكن أن تقود في نهاية المطاف، أي طال الزمن أو قصر، الى فشل كامل أو فقدان ثقة قطاعات واسعة من المجتمع المعني بالمبادئ والأهداف والأفكار المعلنة، كما رأينا بالنسبة لتجربة "الخمير الحمر" في كامبوديا، الذين أعطوا صورة بالغة السلبية لدى قطاعات واسعة من شعبهم عن مشروعهم "الإشتراكي" المفترض. ولدينا، مع الفروقات طبعاً بين بلد وآخر، واقع اليوم في بلدان التجربة الإشتراكية السابقة في أوروبا الشرقية وجمهوريات الإتحاد السوفييتي المتفككة، حيث تغيرت الخرائط السياسية في هذه البلدان، فبرزت قوى يمينية (ذات جذور داخلية مرتبطة بالتحولات الإقتصادية الإجتماعية التي جرت بعد الإنهيارات، وغالباً ذات تأثر أيضاَ بقوى ومصادر دعم خارجية). وتراجع، في العديد من الحالات، دور القوى اليسارية وتلك التي ورثت الأحزاب التي كانت حاكمة في بلدان التجربة الإشتراكية، وهو ما يمكن أن يفسّر، جزئياً، بحالة الإنفصام العملي التي كانت قائمة بين الجمهور الواسع، الذي يفترض أن التجربة قامت لصالحه ومن أجل مستقبل أجياله، من جهة، والقيادات المتبقرطة التي سيطرت على العديد من هذه التجارب، من الجهة الأخرى، فأقصت هذا الجمهور، بما في ذلك وخاصة الجمهور العامل، عن المشاركة الفعلية في القرار وفي عملية التطوير والإنتقال هذه. هذا، دون أن ندخل في التبسيط ونهمل العوامل العديدة الأخرى التي قادت الى هذه الإنهيارات والتي تحتاج الى دراسة جادة من قبل كل العاملين من أجل استنهاض المشروع التحرري الإشتراكي بوجه أكثر إنسانية وعدلاُ وديمقراطية، يستخلص العبر من أخطاء التجارب السابقة ويواصل مسيرة البشرية نحو مجتمعات متطورة وعادلة، خالية من الإستغلال والظلم، ومن الإغتراب أيضاً.
***
ولا بد هنا من الإشارة الى استمرارية التطور في التاريخ البشري، بما في ذلك في مجال القيم والمعايير، المقبولة أو المرفوضة، خاصة على ضوء التطور العلمي الهائل في وسائل الإتصال ونقل المعلومات. فما كان يحدث في الماضي، وكان يعتبر أمراً عادياً أو طبيعياً في حينه، قد يصبح اليوم أمراً غير مقبول وغير جائز في مناخ القيم العامة الجديدة السائدة، مع التطور المتواصل في المعايير القيمية. فإبادة "الهنود الحمر" في الولايات المتحدة الأميركية وفي بلدان أخرى من القارة الأميركية، مثلاً، مرّت في القرون الماضية، منذ أواخر القرن الخامس عشر، كجزء من السلوك المألوف من قبل المنتصر والأقوى في عالم القرون الوسطى. لكن العالم الراهن لم يعد يتقبل، بنفس البساطة، عمليات إبادة بهذا الشكل المنهجي والواسع والمكشوف.
فلا شك، مثلاً، أن بعض المدارس الفكرية والسياسية الصهيونية كانت تتمنى لو أتيح لها التصرف مع السكان العرب الفلسطينيين منذ بدايات القرن العشرين ثم قيام الدولة الإسرائيلية كما أتيح للأميركيين البيض العمل مع سكان القارة الأصليين. لكن العصر الحديث لم يعد يحتمل بنفس البساطة، كما ذكرنا، عمليات الإبادة الجماعية الجسدية المنهجية، مما دفع قيادة الحركة الصهيونية الى الإستعاضة عن الإبادة الجسدية الشاملة بمحاولة إبادة سياسية، تتضمن، بالطبع، أشكالاً من الترهيب والقتل والتشريد الجماعي، واستعراض وممارسة القوة الرادعة في مجمل المحيط الجغرافي، لفرض نتائج هذه السياسة ومحاصرة ردود الفعل عليها.
والأمر نفسه ينطبق على مسألة العبودية، التي كانت في مراحل ماضية تعتبر أمراً عادياً، لا بل مكونّاً أساسياً من الأنظمة الاقتصادية السائدة في تلك المراحل. وفي زمن غير بعيد، ساهم المواطنون الأفارقة السود الذين استجلبوا من القارة السوداء بنسبة هامة من الجهد والتضحيات لبناء الإقتصاد في أميركا، الشمالية والجنوبية، في ظروف اضطهاد وامتهان مريعة. لكن العصر الحالي لم يعد يتقبل فكرة الاستعباد بهذه الفجاجة. مما يدفع "المستعبدين الجدد" لابتكار أشكال جديدة من تسخير جهد قطاعات واسعة من الشعوب والشرائح الإجتماعية في بلدان العالم لصالح مراكمة الثروات لدى النخبة النافذة والمسيطرة، نخبة كبار الملاك والرأسماليين وأرباب الشركات ما فوق القومية. فالعبودية المعاصرة واستغلال البشر يتخذان في عصرنا أشكالاً مختلفة، تبدو أحياناً أقل فجاجة. وإن كانت عنجهية القوة تعيد أحياناً انتاج أشكال لا تقلّ، في الجوهر، بشاعة وقهراً وامتهاناً لكرامة الإنسان.
***
باختصار، لم تصل البشرية بعد الى الحد الأدنى من التحضّر الذي يؤمّن لكل إنسان، مهما كان لونه وعرقه وثقافته وعقيدته ومنشأه، كرامته واحترامه وحقوقه في أنحاء العالم. ولكن تطورات كبيرة حصلت، لا يمكن إغفالها من قبل أي متابع لمسار التاريخ، في القرنين الأخيرين خاصة. ولذلك، يتميز القادة التاريخيون عادة بمقدرتهم على قراءة الواقع، المحلي... والعالمي أيضاً، في واقعه كما في مساره التاريخي وديناميكيته وتطوره المستمر، للتعاطي مع هذا الواقع بالأساليب الملائمة للتأثير عليه وتغييره وتسخيره لتحقيق الأهداف المرجوة والمستوحاة من الفكر أو الأيديولوجيا والرؤية المستقبلية للمصير البشري أو مصير أي مجتمع من المجتمعات البشرية المعاصرة.