الازدواجية! التناقض بين ما ندعيه عن أنفسنا، و بين ما نمارسه فى الواقع!


سامح سعيد عبود
2006 / 9 / 5 - 10:29     

عبر نشاط جماهيرى بمركز للشباب، تعلم جيل أصغر على يد جيل أكبر من ماركسيى جيل السبعينات بجانب الماركسية ،العديد من الهوايات الفنية التعبيرية والتشكيلية التى تحولت لدى العديد منهم لوسائل لكسب العيش على نحو احترافى، وخصوصا أنهم كانوا إما طلابا أو متخرجين حديثا، ويعانون البطالة شأن الكثير من أفراد جيلهم ،ولكن ماركسيتهم لم تحول دون أن يتنافسوا فيما بينهم فى عملهم الاحترافى بالضبط كما تعلموا نفس التنافس فى عملهم السياسى، فقد انخرطوا فيما بينهم فى صراعات فردية وشللية استخدمت فيها شتى الوسائل من العنف الرمزى إلى العنف البدنى، و قد مارس بعضهم الاستغلال والقهر على زملاء النضال وغير النضال الآخرين، و لاشك أنه كان يمكن بالطبع لهؤلاء لو كانوا ماركسيين بالفعل أن يحولوا نشاطهم الاحترافى لنشاط جماعى تعاونى يحققوا به التخلص من البطالة لهم وللآخرين كان يمكن أن يضم المئات إليهم، و هذا لم يكن مستحيلا و لا خياليا على أى نحو، ولكن حالت بينه وبينهم الفردية التى لم يتم تخلصهم منها.
و مرة أخرى اتيحت للعديد من الماركسيين من جيل السبعينات وما بعدهم، فرص تلقى تمويل لدعم نشاطهم العام، والذى تركز على إنشاء مؤسسات تهتم بقضايا حقوق الإنسان وغيرها من القضايا سواء فى إطار الأبحاث والنشر أو تقديم الخدمات، وبصرف النظر عن رأينا فى التمويل الذى ليس هو موضوع هذا المقال، إلا أنه لوحظ أن معظم تلك المؤسسات تقوم على أساس النموذج البرجوازى فى إدارة المؤسسة، فهناك ملاك للمؤسسة أو مسيطرين على إدارتها بيروقراطيا هم غالبا من متلقى التمويل على نحو مباشر، و هم يستأثرون باتخاذ القرار فى كل ما يتعلق بالمؤسسة، و هناك عمالة مأجورة سواء من الزملاء السابقين أو غيرهم، هؤلاء الذين لم يتح لهم تلقى التمويل مباشرة، ولكنهم على قوائم انتظار الفرصة لو اتيحت، و هم غالبا لا علاقة لهم بالإدارة التى يتحكم فيها متلقوا التمويل ومديروا تلك المؤسسات، والسؤال هو طالما أن اهتمام هذه المراكز هو العمل العام الذى لا يستهدف الربح فلماذا لم تدار تلك المؤسسات على نحو تعاونى وديمقراطى بين شتى العاملين فيها، متلقوا التمويل ومن يرغب فى التعاون معهم والعمل معهم على السواء، والإجابة هى الرغبة فى السيطرة، و الاستئثار بالمغانم بالتناقض مع الشعارات المعلنة، ونظرا لسيادة تلك الطريقة فى هذا المجال فلم يسلم المنخرطون فى هذا النشاط من آثار التنافس والصراعات القذرة فيما بينهم شأنهم شأن كل البرجوازيين فى السوق الرأسمالى.
ومرة ثالثة قررت مجموعة من رجال الأعمال اليساريين إنشاء شركة للإعلام والدعاية بغرض إنشاء صحيفة يومية يسارية مستقلة، و قد دعيت للمساهمة بها كما دعى غيرى كصغار مساهمين لتوسيع قاعدة المساهمين، ولما كنت و مازلت حسن النية بالناس فقد تحدثت فى الاجتماع الوحيد الذى حضرته للمساهمين المؤسسين بأن علينا أن لا نكتفى بان تكون الصحيفة الصادرة عن الشركة يسارية، بل يجب أن نقدم الشركة نفسها للمجتمع كنموذج مؤسسة يسارية فى قواعد عملها ، و أن كان هذا يحتاج منها بعض التحايل على القانون لنوائم بقدر الإمكان بين الشكل القانونى الإلزامى ذو الطابع الرأسمالى، وبين مضمون فعلى يحدده النظام الداخلى للشركة يقترب من مبادىء التعاون، و من ذلك مثلا إشتراك العاملين فى الإدارة والأرباح، وقد اتفق معى فى الرأى أحد الحاضرين، ولكن ما علمته بعد ذلك وأتمنى أن تكون معلوماتى غير صحيحة، أن كبار المساهمين لن يسمحوا إلا بشكل ومضمون رأسمالى تماما لكى يضمنوا سيطرتهم علي المؤسسة وتوجه الصحيفة السياسى، ومن ثم أحسست بورطة شخصية، فلو كنت أرغب فى الربح من تلك النقود القليلة فلم يكن من الحكمة إطلاقا أن أساهم فى مؤسسة فرص ربحيتها محدودة جدا، وأسهمى المحدودة للغاية بالمقارنة بكبار المساهمين لن تتيح لى التأثير فى إدارة تلك المؤسسة الرأسمالية طالما كانت كمية الأسهم هى التى تحدد قيمة الصوت، و أما فرص الكتابة بالنسبة لى فهى متاحة وبحرية أكبر على الانترنت كما أنها فرصة لا تشترطها المساهمة أصلا إذ يمكن أن أكتب فى الصحيفة دون أن أكون مساهما فى المؤسسة التى تصدر الصحيفة، فلما ساهمت إذن، الإجابة هى يبدو أنى صدقت أننا يمكن أن ننشأ مؤسسة منظمة على نحو يساري، إلا أنه للأسف فإن شرطها الوحيد لم يتوفر بعد وهو وجود يساريين.
و لعدم الإطالة اكتفى بهذا القدر من الأمثلة لنحلل المسألة
* عندما ينشأ تناقض بين أفكارنا، و بين ما نقول، وبين ما نمارسه فعليا فى الواقع، يصبح الواحد منا أكثر من شخص فى نفس الجسد، أحدهما يفكر و الثانى يقول ليس كما يفكر الأول تماما، والثالث يفعل عكس بعض ما يقوله الثانى، و على الضد من بعض ما يؤمن به الأول، و لاشك أنه عندما تتسع المسافات بين الفكر و القول والفعل لدينا، فأننا إما أن نكون انتهازيين أو منافقين أو مجرد ظاهرة صوتية، إيمانهم لا يصدقه العمل، وحيث نقتصر على الكلام الذى لا يوجد أسهل أو أرخص منه. وحيث نرغب دون ممارسة،و نريد دون فعل.
* فى الحقيقة أننا قد نكون مضطرين لتلك الازدواجية بحكم الظروف الاجتماعية الحاكمة التى تمنعنا أحيانا أن نعيش متسقين مع ذواتنا، ألا أنه عند الخضوع الكامل للواقع دون محاولة تجاوزه ولو قليلا لو اتيحت لنا الفرصة، فأننا نتحول من بشر ذوى إرادة و وعى إلى مجرد أشياء كأشياء الطبيعة الجامدة من حولنا تفتقد إرادتها الحرة لتخضع للظروف الخارجية، ومن ثم لا يمكن لنا الإدعاء بقدرتنا على تغيير هذا الواقع. وبالطبع فليس المطلوب منا هدم المسافات تماما بين الأفكار والأقوال والأفعال أيا كانت الظروف التى تحول دون ذلك، بل المطلوب هو السعى لتضيق هذه المسافات كلما كان هذا ممكنا، وإلا فأننا نكون كمن ينشد المستحيل، ويطالب الناس بما لا يطيقون أو لا يقدرون ، فالناس عبيد الإضطرار، ولكن ذلك لا يعنى عدم إمكانية انتقالهم من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية. إلا أن مراعاة ظروف الواقع سوف تكون "قولة حق يراد بها باطل" لو تم استخدامها لتبرير الازدواجية، وذلك لو كان من الممكن للإنسان أن يتسق مع نفسه بأن يتخلص من تلك الازدواجية.
* أمثال هؤلاء الذين تم ذكرهم فيما سبق ينتقدون كل أشكال العبودية بما فيها عبودية العمل المأجور و لا يحاولون أن يحرروا أنفسهم منها بل أن البعض منهم يعيد إنتاجها والدفاع عنها، وبل يشترى من من يبيع له قواه وجهده، ويبيع لمن يدفع له ثمن قواه وجهده، ينتقدون كل أشكال الاستغلال للآخرين، و لا يمانعون من أن يمارسوا استغلال الآخرين فعليا، يعرفون أن الاغتراب لا يطول فحسب المحرومين من الملكية الخاصة بل يطول وعلى نحو أشرس الملاك أنفسهم، وبرغم ذلك يسعون للتملك والمزيد من التملك، واستخدام هذا التملك فى السيطرة على الآخرين واستغلالهم، ويفقدون حريتهم بسبب هذا النزوع الغريزى للتملك والسلطة والهيمنة على الآخرين. يعرفون أن ثقافة الاستهلاك ما هى سوى أحد وسائل السيطرة التى تهيمن بها البرجوازية على المجتمع، تلك الثقافة التى تحول كل شىء لسلع ذات طبيعة صنمية،مع ذلك ينجرفون للتزود منها و الانخراط فى طقوس عبادتها بما يتجاوز حدود استخدامها الضرورى ، مضحين بحريتهم وسعادتهم من أجل مجرد الاستمتاع بحيازتها بما يتجاوز ضرورتها لديهم، يقدسون بجانب الملكية الخاصة اللذة والمنفعة الأنانيتين، وينغمسون فى الاستمتاع على حساب الآخرين، و يمارس الرجال منهم قهرهم الذكورى على النساء، و تمارس النساء منهن قهرهن الأنثوى على الرجال، يعرفون أن العمل البشرى المنتج هو المصدر الوحيد الجدير بالاحترام لكسب العيش ولكن لا مانع لديهم من أن يعيشوا على حساب عمل الآخرين، برغم أنهم يدركون أن تلك الظواهر الاجتماعية مدمرة للبشر وحريتهم وعلاقاتهم الإنسانية السوية.
* يتصور أغلبهم أن الطريق الوحيد للتغيير الاجتماعى من أجل تجاوز الواقع الاجتماعى الراهن، يكون حصرا عبر ثورة سياسية سوف تحدث فى لحظة تاريخية فى المستقبل، وهم يبشرونا أنه عند هذه اللحظة فقط يمكن أن يتم القضاء على تلك الظواهر الإنسانية المخربة للبشر، و هم يطالبون الجميع أن يحذوا حذوهم بانتظار يوم القيامة الثورية، و برغم أن الثورة السياسية قد لا تحدث فى حياة هؤلاء أى أنها لن تحل لهم شخصيا مشاكلهم هم مع هذا الواقع الذى يرفضوه ويعلمون مدى تأثيره الضار عليهم، إلا أنهم يكرسون حياتهم ونشاطهم ليوم الخلاص الشامل، وكأنهم قاب قوسين أو أدنى منه، و قد قرروا أن ما عليهم أثناء هذا الانتظار الطويل ، سوى أن يحيوا نمط الحياة الذى ينتقدوه كاملا، وأن يتكيفوا تماما مع الواقع الذى يرفضوه وينشدوا تغييره، بل و يعيدون انتاج الاستغلال والقهر فى كل علاقتهم الاجتماعية سواء فى العلاقة بين المرأة والرجل ، أو فى العلاقة بين الأباء والأبناء، أو فى علاقات العمل بين الرؤساء والمرؤوسين، أو فى المنظمات السياسية وغير السياسية، أو فى علاقاتهم فيما بينهم وبين معارفهم. فهم يتصورون أن دورهم المنوط بهم هو نقد الواقع الاجتماعى الراهن بالفكر والقول فقط دون محاولة تجاوزه عمليا حتى فى إطار العلاقة فيما بينهم أو بينهم وبين الآخرين.
* يتحدثون عن المساواة والحرية والأخوة، ويعلنون سعيهم لإقامة مجتمعات لاطبقية لكنهم فى نفس الوقت يبنون مؤسساتهم المختلفة على نحو هرمى وطبقى، ينقسم فيه الأعضاء لمن يستأثرون بالأوامر واتخاذ القرار، ومن يكتفون بالطاعة والامتثال، و يناور الجميع من أجل التسلق إلى قمة الهرم فى المؤسسة،والتنافس على المكانة فيها، وهى معركة لا توجد فيها أسلحة غير مشروعة أو محرمة، و لا يجب أن ننتظر من هؤلاء حين يحوزون على السلطة السياسية إلا إعادة إنتاج نفس المجتمع القديم القائم على القهر والاستغلال والطبقية حتى ولو كان القديم يرتدى أقنعة جديدة، و هذا هو ما حدث فعليا، و لا يحتاج لتأكيد.
* و فى الحقيقة أنهم بتلك الازدواجية يفقدون مصداقيتهم فعليا سواء فيما بينهم أو بينهم و بين الآخرين، فكيف يمكنك أن تقنعنى بفكرة وأنت تمارس عكسها، كيف يمكنك أن تقنعنى بنمط حياة آخر، وأنت تعيش عكسه، كيف تبرهن للناس أن ما تبشرهم به من واقع بديل عن الواقع الذى يعانونه ممكن دون أن تبرهن لهم بنموذج عملى ملموس على أنه ممكن و واقعى فى حدود ما يسمح به الواقع. هذا هو منطق معظم الناس البسيط، الذين قد لا يدركون تعقيدات الحياة.و لا يهتمون إلا بايجاد حلول عملية لمشكلاتهم، و لا يلتفتون كثيرا للأفكار والكلام، ولا تستهويهم النظريات.
* تقديم النموذج البديل لهذا النمط العفن من الحياة وصموده ونجاحه عمليا يجيب على سؤال مصيرى فى غاية الأهمية لكل المنخرطين فى العمل السياسى، هل يمكن للبشر أن يدخلوا فى علاقات اجتماعية فيما بينهم كأفراد أحرار متساويين متعاونين دون أن يستغل أحدهم الآخر أو يقهره؟، أم أن هذا مستحيل لأن البشر بحكم مورثاتهم البيولوجية ومقوماتهم النفسية مجرد حيوانات أنانية، ينقسمون فى كل علاقاتهم بحكم طبيعتهم إما لوحوش سادية أو فرائس مازوخية؟... سننقسم فى الإجابة لثلاث اتجاهات البعض سوف يدعون أن النموذج البديل لعلاقات اجتماعية تخلو من القهر والاستغلال ممكن فى كل لحظة ولو على نحو هامشى طليعى ريادى برغم ما هو سائد و مهيمن فى الواقع..... والبعض سيقول بأن هذا ممكن ولكن فى المستقبل بعد انجاز الاستيلاء الثورى على السلطة السياسية التى تحول دون تلك العلاقات واستمرارها ونجاحها، وهذا الحلم المرحل للمستقبل، وحتى يمكن أن يصبح واقعا يتطلب أن ينتظم هؤلاء فيما بينهم على الأقل على أساس قواعد هذا المستقبل المأمول فى الحاضر حتى يبرهنوا لنا أنهم لن يعيدوا إنتاج العلاقات القديمة حين يصلون للسلطة... والبعض سينفون أى إمكانية لوجود تلك العلاقات الاجتماعية بحكم نظرتهم المتشائمة للإنسان الذين يرونه مجرد قرد عارى متوحش لا يمكنه أن يتجاوز حدود غرائزه وعواطفه ودوافعه الحيوانية.
* يتساءل الكثيرين وأنا منهم تساؤلا مشروعا لماذا علينا أن ننتظر التغير الثورى الشامل الذى قد يحدث أو لا يحدث ونحن أحياء، لماذا لا يمكنا أن نعيش متسقين مع ذواتنا بأقصى قدر ممكن، لماذا لا يمكنا أن نقلل المسافة بين ما نؤمن به وبين ما نمارسه فعليا فى حدود ما هو ممكن. سوف يجيب البعض إن هذا مطلب خيالي يسقط من حسابه سلطة الواقع وهيمنته، وسطوته التى لا يمكنا الفكاك منها، و الذى لو تحقق فإنه يعزلنا اجتماعيا، ويبعدنا عن المسألة الجوهرية وهى الاستيلاء على السلطة السياسية، ذلك أن الحياة الاجتماعية بكل شبكات علاقاتها المعقدة والمتعددة المستويات تنحصر لديهم فى السلطة السياسية، فلا شىء يمكن أن يحدث إلا بمعارضتها أو النضال ضدها أو التحالف معها أو الاستيلاء عليها،و لا شىء يمكن أن يتحقق بعيدا عنها، و لذلك لا مجال لدى هؤلاء للتفكير فى أنهم يمكن أن يغيروا بعض هذه العلاقات حتى ولو على نطاق محدود، و أن يبنوا علاقات اجتماعية بمعزل عن السلطة السياسية و بالرغم منها، و هذا هو عين ما تفعله الجماعات الإسلامية المختلفة التى يعيش أفرادها فيما بينهم ويتعاملون مع الآخرين بالاتساق مع ما يؤمنون به، و هم يؤثرون فى المجتمع فى نفس الوقت ويغيرون الكثير من عاداته وتقاليده وقيمه بدرجات متفاوته وعلى مستويات متعددة، ويقتربون من الاستيلاء على السلطة السياسية فى نفس الوقت بأكثر من هؤلاء الذين انعزلوا عن الواقع الحى ليعيشوا فى عالم من الرؤى الخيالية و أن يكتفوا بالتعلق فقط بالسلطة السياسية والدوران حولها ، والذين لا يرون فى العالم سواها. و بحكم هذا التصور المبتذل عن التغيير الاجتماعى بالضربة القاضية الفنية عبر الاستيلاء على السلطة السياسية، وانتظارهم لتلك الضربة، يؤبدون الواقع الراهن بالتكيف معه، و من ثم لا يساعدون على تغييره.