فريديريك انجلس والاقتصاد السياسي


شاهر أحمد نصر
2006 / 8 / 31 - 10:02     

عالج انجلس موضوع الاقتصاد السياسي بشكل علمي موضوعي في الفصل الأول من القسم الثاني من كتاب "أنتي دوهرنغ".
طور انجلس المفهوم الماركسي لموضوع الاقتصاد السياسي، وأعطى تعريفاً اشمل له، مبيناً أنّ الاقتصاد السياسي هو "علم الشروط والأشكال التي قامت المجتمعات البشرية المتنوعة في ظلها بالإنتاج والمبادلة، وعمدت إلى توزيع منتجاتها على هذا الأساس"(1)
عند التمعن في هذا التعريف من الضروري إعارة الانتباه إلى: الإنتاج (تكوينه التكنيكي والاقتصادي)، والتوزيع، والمبادلة، والاستهلاك ـ مجال الإنتاج الاجتماعي، حيث تظهر وتتبلور العلاقات الاقتصادية. بالتالي فموضوع الاقتصاد السياسي يعد أصل العلاقات الإنتاجية أو الاقتصادية.
يكتب إنجلس عن ديالكتيك العلاقة المتبادلة بين الإنتاج والتبادل والتوزيع وبين عدم الفهم المطبق من قبل دوهرنغ لمسألة التوزيع. لقد عالج دوهرنغ التوزيع بانفصال تام عن الإنتاج، وافترض أنّ العنف يكمن في أساس التوزيع، ونقل كل نظرية التوزيع من التربة الاقتصادية إلى تربة الأخلاق والحقوق. وفي الواقع فإنّ أسلوب توزيع المنتجات، كما بين انجلس، يتعلق بأسلوب الإنتاج والمبادلة. ولكن التوزيع ليس شيئاً غائباً بالنسبة إلى الإنتاج والتبادل "بل يؤثر بدوره عكساً على الإنتاج والمبادلة"(2)
كما يؤكد إنجلس على الطابع التاريخي للاقتصاد السياسي، فالشروط التي ينتج الناس الخيرات المادية فيها، ويتبادلونها، تختلف من بلد لآخر، كما تختلف في كل بلد من جيل لآخر.
من الملفت للانتباه أنّ انجلس وضع لأول مرة سؤالاً حول الاقتصاد السياسي بالمعنى الواسع والضيق للكلمة. لقد فهم الاقتصاد السياسي "بالمعنى الضيق للكلمة" كعلم اقتصاد حول أسلوب الإنتاج الرأسمالي: "إنّ هذا العلم الاقتصادي الذي في حوزتنا ـ يكتب انجلس ـ حتى الوقت الراهن يقتصر تقريباً على مجرد تكون الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج وتطوره...(3) وقيم انجلس دور ماركس في بناء الاقتصاد السياسي للرأسمالية.
أما فيما يخص الاقتصاد السياسي "بالمعنى الواسع للكلمة"، أي علم تأثير القوانين الاقتصادية في جميع مراحل تطور المجتمع البشري، فإنّه، حسب كلام انجلس، لا يبرح يتطلب التكوين.
ولأول مرة ينتصب في "أنتي دوهرنغ" سؤال حول ترتيب القوانين الاقتصادية في مجموعات. لقد عالج انجلس هذه المسألة من وجهة نظر انتقاده لطريقة تحليل دوهرنغ لهذه القوانين من منطلق لا تاريخي. من المهم تبيان، حسب انجلس، القوانين الخاصة بكل مرحلة، ولماذا تختلف عن القوانين الاقتصادية العامة. ومن الضروري تبيان أنّ بعض القوانين صالحة لعدد من التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية (كقانون القيمة مثلاً).
من المهم عند دراسة الاقتصاد السياسي متابعة خصائص فعل القوانين الاقتصادية العامة، وتلك التي تؤثر في شروط العديد من التشكيلات. إنّ مطابقة نتائج أثرها تخدم المحاولات الهادفة إلى البرهان على ما يتراءى من تقارب، ولاحقاً اندماج، بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي، كما يحلو للاقتصاديين البرجوازيين أصحاب نظرية تقارب النظامين.
قيمة البضاعة ـ العمل البسيط والعمل المركب:
عولجت مقولة القيمة من قبل انجلس في الفصل الخامس من القسم الثاني من "أنتي دوهرنغ": "نظرية القيمة"، وكذلك عند معالجته لمسألة "التوزيع" في الفصل الرابع من القسم الثالث.
يحدد انجلس الطابع الاجتماعي والتاريخي للقيمة، مع انتقاده لقانون القيمة الذي يبين أن القيمة تنشأ وترافق الأشياء من الطبيعة. فالقيمة توجد طالما يوجد الإنتاج البضاعي. وهي تعبر عن علاقات اجتماعية معينة، كمقولة اقتصادية. تلك العلاقات التي تنشأ بين منتجي البضائع أثناء عملية الإنتاج، وتظهر أثناء عملية التبادل. توجد القيمة فقط، عندما يوجد مكان للقيمة الاستعمالية. وهي تفترض عضوياً خلق الخيرات التي تلبي حاجات معينة للناس.
يصف انجلس مفهوم القيمة بشكل واسع، فهي تعبير عمومي عن الظروف الاقتصادية للإنتاج البضاعي. ونتيجة لذلك، كما يبين انجلس، فإنّ هذا المفهوم لا يتضمن بذرة النقد فحسب، بل يشمل كذلك بذرة سائر الأشكال الأكثر تطوراً من إنتاج البضائع ومبادلتها.
"يحتوي شكل المنتجات القيمي سلفاً، المتضمن في بذور كل الشكل الرأسمالي للإنتاج، التضاد بين الرأسماليين والعمال المأجورين، كما يحتوي على الجيش الصناعي الاحتياطي، والأزمات الاقتصادية". ولتبيان ذلك يبرز انجلس ثلاث نقاط هامة.
لتحديد مقدار القيمة، يكتب انجلس، من الضروري بشكل أساسي فصل زمن العمل الفردي عن الاجتماعي الضروري.
يتضمن "أنتي دوهرنغ" صيغة لقانون القيمة، تبين أنّه ذلك القانون "الذي بموجبه، كما يبين انجلس، تقاس قيمة بضاعة ما، بوقت العمل الضروري اجتماعياً والمجسد فيها"(4)، وهو يؤكد مبدأ تعادل التبادل الناتج عن ضرورات هذا القانون، ويستنتج أنّ قانون القيمة ـ هو قانون الإنتاج البضاعي، "وبالتالي الشكل الأعلى له، أي للإنتاج الرأسمالي".
ويبحث انجلس في الفصل السادس من القسم الثاني من "أنتي دوهرنغ" مقولة العمل البسيط والعمل الموسع، بشكل أعم مما ورد في "رأس المال" لماركس.
تحدد قيمة البضاعة، كما يبين انجلس، بوقت العمل الضروري لإنتاجها. يقصد بذلك اهتلاك قوة العمل البسيط، واستهلاك زمن محدد للعمل البسيط. العمل المركب هو عمل بسيط متزايد الشدة، أو عمل بسيط مضاعف، وفق نسب متنوعة، على اعتبار العمل البسيط وحدة قياس لها، وتتقرر هذه النسب بعملية اجتماعية دون علم المنتجين.
وينشر دوهرنغ فكرة مساواة قيم زمن العمل كلياً (سواء عند الأجير أو المهندس) ليبرهن على أنّ العمل ليس فقط مصدر القيمة، بل وله قيمة أيضاً. في الواقع العمل ليس سلعة (بضاعة) ولا يملك قيمة. العمل هو خالق سائر القيم.
رأس المال وفضل القيمة:
عند دراسة الفصلين السابع والثامن من القسم الثاني من "أنتي دوهرنغ" من المهم إعارة الانتباه إلى النقاط التالية:
يوضح انجلس أولاً، الفرق بين النقود ورأس المال، استناداً إلى المجلد الأول من رأس المال، إذ تتحول النقود إلى رأسمال في ظروف محددة، عندما تباع بها بضاعة من نوع خاص ـ قوة العمل؛
ثانياً، يؤكد على الطابع التاريخي للرأسمال؛
ثالثاً، يبين جوهر رأس المال كعلاقات اقتصادية معروفة، علاقات السيادة والخضوع، واستغلال الرأسماليين للعمال. إنّ هذه العلاقات لم تخلق من الطبيعة، ولا تعد علاقات عامة لجميع المراحل التاريخية، بل هي خاصة فقط بالرأسمالية؛
رابعاً، ينتقد انجلس دوهرنغ الذي يفسر ظهور رأس المال بفضل العنف، وتأكيده بأنّ رأس المال هو "إنتاج وسائل الإنتاج"، وانطلاقاً من هذه النظرة ينتج أنّ رأس المال يميز طبيعة المجتمع البشري، وهو موجود وباقٍ طالما توجد المجتمعات البشرية،
وأخيراً خامساً، يتابع انجلس خطى ماركس ويعير الانتباه إلى تعليل وبرهنة مصدر فضل القيمة، التي تعد من نتاج عمل العمال الأجراء فقط.
شرح دوهرنغ كيفية إنتاج الربح من الرأسمال عن طريق العنف. لكن بالعنف يمكن توزيع الربح وليس إنتاجه، كما يبين إنجلس.
ويثمن انجلس تعليل وبرهان ماركس لمسألة مصدر فضل القيمة. إنّ حلّ هذه القضية "يشكل أعظم انجازات ماركس. لقد نشر ضياء النهار الواضح على ميادين اقتصادية كان الاشتراكيون يعثرون في ظلماتها الدامسة، مثلهم مثل الاقتصاديين البرجوازيين تماماً. ويعود تاريخ الاشتراكية العلمية إلى اكتشاف هذا الحل، كما أنّ بنيانها قد شيّد حوله"
الريع العقاري:
يتضمن الفصل التاسع من القسم الثاني نقداً لنظرة دوهرنغ إلى الريع العقاري. عرّف دوهرنغ الريع العقاري بأنّه الدخل الذي يغنمه المالك من الأرض بوصفه مالكاً. وهو يؤكد أنّ مكاسب المزارع تعتمد على استثمار "قوة العمل الريفية"، وبالتالي، من الواضح أنّها "جزء من الريع" الناجم عن "إنقاص الريع الكامل" ويعلمنا ذلك شيئين:
أولاً: إنّ المزارع "ينقص" ريع الملاك بحيث لا يعود المزارع عند الهر دوهرنغ هو من يدفع الريع للمالك، كما كان الناس يعتقدون، حتى ذلك الحين، بل إنّ الملاك هو من يدفع الريع للمزارع ـ ومن المؤكد أنّ تلك نظرة "فذة بكل معنى الكلمة"؛
ثانياً: يصبح الريع العقاري، حسب وجهة نظر دوهرنغ ـ كامل المنتج الفائض الناتج عن الزراعة، نتيجة استثمار العمل الريفي. لكن في الواقع لا يطابق الإنتاج الفائض الناجم عن استثمار العمل الريفي الريع العقاري بشكل تام، إنّه يتوزع إلى ريع عقاري وريع رأسمالي.
* * *
يحتل موضوع التناقضات الأساسية في الرأسمالية، مكانة بارزة بين المواضيع الاقتصادية التي لاقت تطويراً خلاقاً من قبل انجلس في أنتي دوهرنغ (انظر، لمحة نظرية).
يعالج انجلس مسألة ظهور الإنتاج الاجتماعي من خلال عملية نشوء وقيام الرأسمالية. وظهور التناقض الأساسي، نتيجة لذلك النشوء، التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والملكية الرأسمالية الخاصة لوسائل الإنتاج، هذا التناقض الذي يتضمن جميع التناقضات الاجتماعية الحالية".
يحلل انجلس أشكال ظهور التناقض الأساسي في الرأسمالية، ويتجلى ذلك في التناحر بين الطبقة العاملة والبرجوازية، كتناقض بين تنظيم الإنتاج في المصنع الفردي، وفوضى الإنتاج في المجتمع على العموم، وكذلك كتناقض بين نمو الإنتاج والإطار الضيق للطلب في الرأسمالية. ويعلل حتمية ازدياد حدة التناقض الأساسي مع تطور الرأسمالية. وهذا ما أتاح له لاحقاً صياغة أسباب الأزمات الاقتصادية لإعادة الإنتاج. من المعروف أن "رأس المال" لكارل ماركس لا يتضمن فصولاً أو فقرات خاصة بنظرية الأزمات، مع العلم أن المجلدات الأربعة تتضمن أهم أسسها.
ومن الملفت للانتباه في "أنتي دوهرنغ" قبل كل شيء الطرح الدقيق لموضوع السبب الرئيسي للأزمات الاقتصادية ـ التناقض الأساسي في الرأسمالية؛ ويقدم وصفاً كاملاً وواضحاً ولامعاً حقاً بعمقه للأزمات الاقتصادية، ولدورة الرأسمالية كاملة. فالأزمات ، كما يؤكد انجلس، تخلق من قبل النظام الرأسمالي نفسه، وهي تشهد على أنّ علاقات الإنتاج الرأسمالية وصلت إلى تناقض لا يساوم مع طابع نمو قوى الإنتاج.
تناقضت آراء دوهرنغ مع هذا التعليل العلمي العميق للأزمات الاقتصادية، إذ اعتبر دوهرنغ الأزمات "انحراف شاذ" عن الحالة الطبيعية، ليس إلاّ، ورأى أسبابها في "فتور الطلب الشعبي".. إلاّ أنّ نقص الطلب الشعبي ظاهرة ليست حديثة، كما يبين انجلس، بل عرفتها جميع المجتمعات الاستغلالية، في الوقت الذي تظهر فيه الأزمات فقط في مراحل معينة من تطور الرأسمالية. إنّ نقص الطلب عند الجماهير هو مقدمة واحدة فقط للأزمات، ويلعب دوراً فيها.. لكنه ليس سببها، وإلاّ لماذا لم توجد الأزمات سابقاً؟
زوال أسلوب الإنتاج الرأسمالي
يختتم انجلس بحثه في تطور الرأسمالية باستنتاج ثوري عميق، حول استبدال الرأسمالية بالاشتراكية. وأخيراً تنتهي خدمة أسلوب الإنتاج الرأسمالي، تحت ثقل وضغط التناقضات التي يخلقها نفسه. وتنضج في أعماق أسلوب الإنتاج هذا المقدمات الذاتية والموضوعية للاشتراكية. ومن المعروف أنّ ماركس كتب عن ذلك أيضاً، فما الجديد في مؤلف انجلس "أنتي دوهرنغ"؟
بين انجلس أن زيادة حدة تناقضات الرأسمالية، التي تشهد الأزمات عليها، تجبر الرأسماليين على معاملة القوى المنتجة أكثر فأكثر على اعتبارها قوى إنتاجية اجتماعية، وذلك بقدر ما يكون هذا الأمر ممكناً في الظروف الرأسمالية. استناداً إلى ذلك يبحث انجلس في التغيير في تنظيم الإنتاج الرأسمالي، مع ظهور مثل هذه الظاهرة ، كالانتقال من الملكية الرأسمالية الفردية إلى الجماعية، في شكل الشركات المساهمة. كانت هذه العملية في بداية الطريق في عهد انجلس. لقد بيّن انجلس الأسباب الموضوعية لهذه العملية، واعتبرها درجة على طريق اجتماعية الإنتاج، وتكديس لاحق للمقدمات الموضوعية للاشتراكية.
وتعد معالجة انجلس لمسألة دور الدولة في الاقتصاد البرجوازي مسألة جديدة فائقة الأهمية. لقد لاحظ الميل العام لتقوية هذا الدور، وبين أنّه نتيجة زيادة حدة التناقض الأساسي في الرأسمالية، وسمى أشكال التأثير الفعال للدولة على الاقتصاد. تجلى هذا الشكل في ذلك الوقت بظهور ملكية الدولة لبعض المؤسسات والفروع. لقد عرّى انجلس جوهر ملكية الدولة في الرأسمالية. لا يلغي ظهورها الطابع الرأسمالي للقوى المنتجة بأي شكل من الأشكال. ويفسر ذلك بأنه "كائناً ما كان شكل الدولة الحديثة، فهي في جوهرها آلة رأسمالية، دولة الرأسماليين، والتجسيد التالي للرأسمال الوطني الإجمالي".
"وبقدر ما تعمد إلى الاستيلاء على القوى المنتجة، وبقدر ما تصبح الرأسمال الوطني بصورة فعلية، فإنّها تضاعف من استغلالها للمواطنين. ويظل العمال عمالاً مأجورين. ولا يقضى على العلاقات الرأسمالية، بل يطلق لها العنان حتى الذروة. لكن عند الذروة يحدث الانعطاف".
هكذا يختتم انجلس استنتاجاته.
ومن الهام أخذ ذلك بعين الاعتبار، خاصة في الوقت الذي يحاول فيه المنظرون التحريفيون المعاصرون إظهار ملكية الدولة في الرأسمالية وكأنّها اشتراكية. إنّ هذه المواقف ليست جديدة، بل لقد لاحظ انجلس في حينه مثل هذا الطرح. وسمى مناصري هذه الأفكار بـ"الاشتراكيين المزيفين"، "إذا كان احتكار الدولة لصناعة التبغ هو اشتراكية (تدبير اشتراكي) ـ يلاحظ انجلس ـ فإنّه يجب أن نعد نابليون ومترنخ من بين مؤسسي الاشتراكية".
طرطوس 2006 شاهر أحمد نصر
[email protected]
الهوامش
(1) ف. انجلس ـ أنتي دوهرنغ ـ ترجمة فؤاد أيوب ـ دار دمشق ـ 1965 ـ ص181
(2) المصدر نفسه ص179
(3) المصدر نفسه ص181
(4) المصدر نفسه ص229-230