موسكو في ظل لينين - القسم الثاني 1921-1924

جوزيف سماحة
2006 / 8 / 29 - 10:09     

ترجمة جوزيف سماحة
بقلم: روزمير ألفريد

1- المسألة النقابية تطرح نقاشا حادا
بعد قليل من عودتـــي إلى موسكـــو التقيت بلوسوفكـــــي. وحدثني عن اجتماع نقابي مهم سيعقد في تلك الليلة: وأشار إلى موضوع ذلك الاجتماع بعبارات جد غامضة حتى أنني لم أستطع معرفة ما سوف يدور حقيقة. ذكرني هذا بمحادثة أجريتها مع تروتسكي وكان قد لمح خلالها بالدور الذي تلعبه النقابــــــــات في هذا الميدان. وتبع هذا الاجتماع لقاءات أخرى حول الموضـــوع نفسه. وأعطت الجرائد حينذاك موجزا عنها. واخذت المشكلـــــة حجما كبيرا، وتألفت، داخل اللجنة المركزية، عدة جماعات وتعارضت علانية، وقد أصبحت بعدها ممكنة معرفة طبيعة الموضوع المطروح بالضبط وملاحقة النقاش الذي سبب اضطرابات عميقة والذي حدد فترة مهمة في حياة الحزب.

كان من المفروض أن ينتهي نظام «شيوعيــــــة الحرب» مع هذه الأخيرة، إلاّ أنه استمر بعدها بفعل التردد حول ميزة التنظيم البديل، لقد كان يتم البحث وتلمس الحلول، ولكن القرار لم يكــن ليتخذ. ولعله من العدل – هنا – التلميح إلى أنه بعد الجهـــــود المضنية التي فرضتها الحرب، أصبحت الجماهير بحاجة إلى متنفــس شرعي، وفي مختلف شرائح المجتمع السوفياتي. وأصبح استمرار «شيوعية الحرب» يشكل أخطارا جدية إذ أنها كانت ضرورة فرضتها الحرب مع الروس البيض. ولمقاومة ضغط الثورة المضادة والتدخل الفرنسي والإنكليزي والأميركي خلال ثلاث سنوات متواصلة كان لابد من تسليح الجيش الأحمر تسليحا يمتص جزءا ضخما من ثروات البلاد. ولقد وضع الإنتاج ووجه نحو الحرب، ولتغذية الجيش وعمال المصانع هودر الإنتاج الزراعي في الأرياف، وكانت عملية المصادرة هذه عنيفة بحد ذاتها، فقلد أغاظت وأثبطت المزارعين الذين لم يبق لهم إلاّ ما هو كاف لبقائهم على قيد الحياة. وقد تحمل المزارعون المصادرة في بادئ الأمر ولكن صبرهم وإرادتهم الصادقة بدأا أخيرا بالنفاذ، وكان يتوجب على السوفيـــات أن تحل مشكلة ما يسمى بتحويل اقتصاد الحرب إلى اقتصــــاد السلام. ولأتت الساعة لفك الطوق عن الجماهير [27].

صور تروتسكي، هذا الافراط في المركزية التي أدت إليها الحرب المدنية، بهذا التشبيه «لقد وضعنا محبرة ضخمة في الساحة الحمراء ويتوجب على كل من يريد أن يكتب أن يأتي ويغمس ريشته منها».

تم تشكيل «المجلــــــس الأعلى للإقتصاد» لتنظيم الاقتصــــاد في البلاد ولكنه لأسباب متعددة لم يقم بدوره على ما يرام. حاول تروتسكي أن يكشف، هذه الأسباب عندما كان يعمل مفوضــا في النقل، وتمكن من حضور هذه الاجتماعات لكونه مندوبا لنقابـــــة النقل في الاتحاد العام للنقابات. ان أكثر ما استرعى انتباهــــــــــــه في هذه الاجتماعات، اللامبالاة التي تميز تحضير وطريقة عمل مختلف المندوبين. كان الأعضاء يأتون متأخرين عن الوقت المحدد لبدء الاجتماعات وهذا ما صدم تروتسكي الذي اعتاد على الدقة في المواعيد. وإذا كانت لا مبالاة كهذه قاعدة في رأس الهرم، يمكن أن نتصور إذن الفوضى بالقدر الذي نهبط فيه نحو القاعدة. ولقد حملته هذه التجربة أن يقترح بعض التعديلات على البنية النقابية وقد صاغها بمشروع قدمه إلى اللجنة المركزية.

لا يختلف اثنان على كون النقابات كانت في مرحلة شبــــه راكدة، ولكن الخلاف كان يكمن حول أسباب هذه الحالة وكيفية الخروج منها. كان وجود الأزمة صريحا ويجب الوصول إلى حــل ما وخاصة «بعد تسريح الجيش الأحمر وهذا ما جعل تروتسكي يتساءل حول ما يمكن عمله بهؤلاء الشباب الذين نشأوا داخـــل الجيش وتخلقوا باخلاقه، فهم منضبطون واراديون مؤهلون تعودوا على صيغ العمل الجماعية. أسوف يتم فقط تحويلهم إلى الحيـــاة المدنية من دون البحث عن كيفية الاستفادة القصوى من مؤهلاتهم؟ اقترح تروتسكي أن يوجهوا إلى العمل في النقابات، على أن تحدد نسبهم فيها، حيث يقدموا حافزا للعمل وعادات قيمة في الدقة والانضباط، عارض بعض أعضاء اللجنة المركزية، على رأسهم تومسكي أمين عام النقابات المركزية، بعنف تروتسكي وأنكروا وجود الأزمة أصلا. تردد البعض الآخر في اتخاذ موقف وحاولوا الوصول إلى حل وسط. واتخذت المشكلة بعدا واسعا حتى أن اللجنة المركزية قررت أن تفتح نقاشا علنيا، حيث يستطيع كل فريــــــــق أن يعبر عن رأيه ويشرح ويدافع عن أطروحاته في الجرائد وفي الاجتماعات العلانية [28].

كانت هناك، في البدء، خمسة اتجاهات ممثلة بتروتسكي، بوخارين، نيابنيكوف (الشبه نقابي بالرغم من كونه عضــوا في الحزب وكثير التعلق به) سابرونوف (ديموقراطي وسط)، والمدافعون عن الوضع الراهن وهم تومسكي، زينوفييف وكامينيف اختفت خلال الحملة الفريقات الوسطية بين هذه الاتجاهــــــات، فطور تروتسكي مشروعه بعد أن أخذ بعين الاعتبار النقد الصحيح الموجه إليه ولكنه ناهض بعنف كل من كان يدعي أنه يحاول عسكرة النقابات. اعتقد ريازاموف أن بمقدوره أن يعطي تفسيرا لمشروع تروتسكي، خلال اجتماع كنت حاضرا فيه، بطريقة هزليــة عندما تكلم عن عسكري شاب متكبر، يفاجئ الحضور بدخوله مكتبـــــا نقابيا ويبدأ بإملاء القرارات. غضب تروتسكي من هذا العمــــل واحتج معه قسم كبير من الذين كانوا في القاعة. وكانت أرضية مشتركة تجمع تروتسكي وبوخارين وزينوفييف ضد المدافعين عن الوضع الراهن الذين يدعمهم لينين من دون أن يرتبط بهم (كــان اتجاه نيابنيكوف ضعيفا بحيث لم يأخذ مكانا بين هاتين الجبهتين). ولقد عرف فيما بعد أن مآخذ لينين على اقتراحات تروتسكي تنحصر في كون هذه الأخيرة غير مناسبة. لقد كان يفكر بحل أكثر عمقـــا لأنه طور عدة نقاط أساسية في بنية النظام الاقتصادي السياسي هذا الحل الذي اعتمده بعد أشهر قليلة إلا وهو السياسة الاقتصادية الجديدة؟



--------------------------------------------------------------------------------

2- انتفاضة كرونشطاط


كان الحزب يستعد لعقد مؤتمره عندما اندلعت انتفاضة كرونشطاط، لقد كان هذا نبأ صاعقة وغير قابل للتصديق في البدء.. هل من المعقول أن تنتفض كرونشطاط ، ضد الجمهورية السوفياتية وهي البؤرة الأكثر مناصرة لثورة أوكتوبر؟ لقد فوجئ قياديـــو الحزب أنفسهم بهذه الأحداث. لقد كنا مذهولين. أرسلت اللجنة المركزية تروتسكي، كما هي العادة، إلى بيتروغراد مع تحميله مسؤوليات لم تكن له في الأصل!

1- كان تروتسكي على معرفة تامة بكرونشطاط وبمناضليها وقال عنها في كتابه «تاريخ الثورة الروسية»... لم تنطفــــــــئ شرارة التمرد لحظة في كرونشطاط وظلت مندلعة بعد الأحيان.. لقد التخذ مجلس السوفيات في 13 آذار 1917 هذا القرار «السلطة الوحيدة في كرونشطاط هي سوفيات مندوبي العمال والجنود». لقد ساد النظام بعدها وأغلقت المواخير. شكل بحارة كرونشطاط نوعا من «نظام عسكري للثورة». قررت القيادات العليا أن تعطي لأهالي كرونشطاط درسا، وكان تسرتللي هو النائب العام وقام تروتسكي بدور المدافع عنهم (المجلد الأول ص 392).

كان من الضروري دراسة أسباب هذه الحركة وتحديد طبيعتها، فكرونشطاط 1921 لم تكن ككرونشطــــــــــــــاط 1917 إذ انتقل عدد كبير من المناضلين إلى موسكو بعد انتقال الحكومة المركزية إليها وفقدت بتروغراد مركزها بعد أن كانت مسرحا لمختلف مراحل ثورة أوكتوبر ولم يكن بمقدور زينوفييف أن يديرها بمنهجية وخاصة أن اهتمامه كان منصرفا إلى الأممية الشيوعية وفروعها، أهملت المدينةـ إذن، واندلعت الاضرابات بعد تهاون المسؤولين عن تنظيم العمل وظروف العمال الحياتية. أصبحت بتروغراد عرضة للانفجار بعد أن أصبحت في وضع لا تحسد عليه من ناحية التموين.
كان من الطبيعي أن تستغل العناصر المضادة للثورة مثل هذا الوضع، فبدأت باثارة الاستياء وتصعيد حملات الانتقاد حتى تتمكن من جذب الجماهير نحوها. ويجدر التساؤل هنا حول أسباب إطلاق هذا الشعار «مجالس السوفيات بدون البلاشفة». ليس من الصعب تحديدها إذ أنه من المناسب طرح مثل هذا الشعار لتأليب كل أعداء الثورة وخاصة الاشتراكيين الثوريين والكاديت والمناشفة الذين أرادوا الثار لأنفسهم فاطلقوا هذا الشعار وغذوه بحملة مطالبة يمكنها أن تؤلب البحارة والجنود وأكثرية الشباب المجندين من أصل ريفي بعد أن وردتهم شكاوى أهلهم الحادة الذين تأثروا بالمصادرة. هذه هي النتائج التي توصل إليها التحقيق الذي قام به قياديو الحزب. وهذا ما أكده أندريه نان الذي كتب بالذكرى «السنوية» للإنتفاضة وكان قد قضى السنة الفائتة في روسيا السوفياتية وقد سمحت له ظروفه أن يتعلم ويدقق بمعلوماته [29]؟

عرضت أطروحات المعادين للبلاشفة في كتب كثيرة وخاصة تلك التي كتبها الفوضويون، ويمكن الاطلاع عليها في كتاب لايدامت صدر عام 1948 تحت عنوان «كومونة كرونشطاط، الانحطاط الدامي للسوفيات».

يوضح عنوان الكتاب جيدا استنتاجات المؤلف، ولكنه ادعى أنه لم يقم بعمله هذا إلاّ بهدف إجلاء الحقيقة التاريخية لهذا الحدث المؤسف. يعترف المؤلف أن العناصر المهمة للتحليل النهائي تعوزه، إذ لم يكن باستطاعته أن يطلع على أرشيفات الحكومة السوفياتية والجيش الأحمر. وبالرغم من ذلك نراه يورد ويحلل وينتقد مصادر مهمة. وللكن الأحكام والتقيمات التي يوردها، والتي تبعث في أكثريتها من أطراف شديدة العداء للبلاشفة، تزخر بالتناقضات.

كتب أحد قادة الحرب الأهليــــة، سنة 1926، عن أساس وأسباب الانتفاضة يقول أن استمرار نظام شيوعية الحــــــرب، بعد أن وضعت هذه الحرب أوزارها، أثار العمال ودفعهم للانتفـــــاض في وجه الحكومة السوفياتية. ولكن ألم تكن الحكومة السوفياتيــة ترغب بالانتقال من شيوعية الحرب إلى شيوعية الســــــــــلام؟ أيمكنها أن تطبق السياسة الاقتصادية التي كانت شغلها الشــــــاغل منذ عدة أشهر، قبل هذا الموعد؟ في الواقع كانت الأبحــاث والدراسات على قدم وساق، ويندرج النقاش حول النقابـــــــــــــات في إطار هذه الأبحاث. إنه لمن المغامرة الاعتقاد بإمكانية إعطاء الأجوبة عن هذه الأسئلة، مع العلم بصعوبة، لا بل باستحــــــالة، إعادة تشكيل الخالة العامة الموجودة آنذاك بدقة.
حتى إذا سلمنا أن هذه الانتفاضة كانت من عمل العمــال والبحارة وأنهم كانوا يتحركون باستقلال تام، وفقا لمبادرتهـــم الخاصة دون أن يكون لأعداء الثورة أية علاقة بهم، حتى إذا سلمنا بكل هذا يجب الاعتراف بأنه منذ انطلاق الشرارة الأولى للانتفاضة تسارع كل أعداء البلاشفة من اشتراكيين ثوريين بكل فئاتهم ومن فوضوييــــن ومناشفة، وهللت الصحافة الأجنبية دون أن تنتظر المرحلة الحاسمة من الصراع ومن دون أن تهتم لبرنامج المنتفضين، لم تكن لتفهم غلاّ أن هذا التمرد يمكن أن يحقق ما عجز عنه البرجوازيون المتحالفون: إسقاط نظام تمقته، وكانت تترصــــد سقوطه منذ عدة سنوات. كانت بعض المناشير الموزعة في كرونشطاط والموقعة من جماعة المناشفة تنتهي بهذه العبـــارات «أين أعداء الثورة الحقيقيين؟ إنهم البلاشفة والمفوضون. عاشت الثورة. عاشت الجمعية التأسيسية» وفي الوقت الذي ينفي فيه مارتوف اشتراك المناشفة والاشتراكيين الثوريين في هذه الأحداث، كان المراسل الرسمي للاشتراكيين الديموقراطيين الروس ينشر في الخارج أن «الشعارات المرفوعة في كرونشطــــــاط هي منشفية». ان أخذ المبادرة، بالنسبة لمارتوف، أكد للبحــــــــارة أن خلافهم مع الحزب لا يعود إلى المبادئ بل يعود إلى مسائل تنظيمية.

إن الوقائع الواردة في هذا الكتاب تظهر أن اللجنة الثورية المؤقتة هي التي أخذت المبادرة في الإجراءات العسكرية وتسرعت بعد وصول أنباء كاذبة، واحتلت المرافق الاستراتيجية ومبانــي الدولة الخ... وقد جرت هذه العمليات في 2 آذار ولم تتحــــــرك الدولة باتجاه الهجوم إلاّ في 7 آذار بعد ما فشلت كل مساعــي التسوية. وتم استخدام الاشتراكيون الثوريون لمنع الوصول إلى تسوية سلمية للصراع. ولقد صرح أحد قادتهم تشيرنـــــــــــوف: «لا ننخدع، إن السلطة البلشفيــــــة تجري مفاوضات بهدف كسب الوقت». من الواضح أن الحكومة لم تقدم على هذه الخطـــــوة إلاّ على مضض.. وهذا ما أثبته اعترافات لوتوفينوف، أحد قادة «المعارضة العمالية» عندما صرح في 21 آذار عند قدومه إلى برلين: «إن الأنباء التي تنشرها الصحافة الأجنبية مبالـغ فيها: فحكومة السوفيات قوية بشكل تستطيع فيه إنهاء التمرد بسرعــــة، وما يفسر بطء العمليات هي الرغبة في الحفاظ على سكان المدينة» وما يعطي قيمة استثنائية لتصريحات لوتوفينوف كونه من المبعدين إلى برلين وانتماؤه إلى «المعارضة العمالية».

إذا كان من المعقول ارتكاب الحكومة السوفياتية لبعض الأخطاء، ماذا يمكن أن نقول عن رجل كتشيرنوف الذي لم ير في هذه العملية إلاّ مناسبة لينتقم من البلاشفة الذين عزلوه عن كرسي الوزارة عندما حلت الجمعية التأسيسية؟. لقد عمل ما في وسعـــه ليثير البحارة، ويساهم بازهاق الأرواح البشرية مع علمه أن نتيجة هذه الفتنة هي الفشل، إذ أن في وضع كهذا، عند اندلاق القتــــــــال، لا بد وأن تكون الخسائر جسيمة بين الفريقين فريق المتمرديــن وفريق الجيش الأحمر.

أظهرت بحارة كرونشطاط، ولمرات عديدة، عن نفاذ صبرهم، وأعلنوا في 13 أيار، تحت ظل الحكومة المؤقتة أن «السلطــة الوحيدة في كرونشطــــاط هي سلطة السوفيات». عندها قام تروتسكي بالدفاع عنهم ضد الوزير المنشفي تسيرتللي كما مر معنا بعد شهرين من فترة الاضطرابــــــات المعروفة باسم «أيام آب» وبعد المبادرة الهجومية التي أخذها كيرنسكي تحت ضغط الحلفاء توافدت جماهير البحارة إلى بتروغراد، وتوجهوا إلى قصر توريد بعد القيام بمظاهرة في المدينة، وطلبوا من الوزراء الاشتراكيين أن يشرحوا لهم ماذا يحدث. ظهر تشيرنوف أولا وعلا الصـــــراخ من كل جانب: «فتشوه! تأكدوا من عدم وجود الأسلحـــــــة معه». بعد هذا الاستقبال غير الحار، أعلن «في مثل هذه الحالـــــــة، ليس لدي ما أقوله» وأدار ظهره للجماهير محاولا الدخول إلى القصر، وهدأ الصراخ بعدها. لقد كان بإمكانه أن يلقي خطابا قصيرا يهديء به المحتجين.

عندها حدث ما لم يكن في الحسبــــان، لقد هجم عليه بعض البحارة وأدخلوه في سيارة وأخذوه كرهينة، سبب هذا العمل غير المتوقع بلبلة في صفوف المتظاهرين. عندها خرج مارتوف وكامينيف وتروتسكي من القاعة مسرعين. وعمل تروتسكي جاهدا لإخلاء سبيل تشيرنوف وأخذه من يده وأعاده إلى السوفيات. ولقد نسي تشيرنوف بشكل تام سنة 1921 هذه الحادثة القديمة ولم يعد يفكر إلاّ بإثارة العمال والبحارة الذين عاملهم بطريقة أقسى بكثير من تلك التي عاملتهم بها البلاشفة.



--------------------------------------------------------------------------------

3- لينين يعرض السياسة الاقتصادية الجديدة في المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية


ثم عقد المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية في موسكو في 22 حزيران 1921 كما عقد في الوقت ذاته المؤتمر التأسيسي للنقابات العالمية الحمراء. لم تخل السنة الماضية أي منذ انعقاد المؤتمــر الثاني من أحداث مهمة. لقد تأسست أحزاب شيوعيـــة جديدة وتطورت أحزاب أخرى حسب الخطط التي وافقت عليها الأممية، وعلى المؤتمر أن يناقش هذه المسائل، لكن النقاش سوف يتناول بشكل أساسي «حركة آذار» في ألمانيا. لقد سبب تطور هـــــذه الحركة وسقوطها اضطرابات عميقة في الفرع الألماني وكذلك في فروع الأممية الشيوعية الأخرى. كذلك واجهت الصعوبــــــات مؤتمر النقابات العالمية الحمراء، ولوحظ نوع من التبـــــــاعد وأشكال مختلفة من التحفظات وفقدان الثقة بين النقابييــــــــن. ولم يكن باستطاعة جمهورية السوفيات كما كانت في أوائل صيف 1921 وما زالت ذكرى كرونشطــاط حية من جهة، وعشية تغيرات جدية في السياسة الاقتصادية من جهة ثانية والتي تغذي مختلف أشكـال النقد من اليمين ومن اليسار – لم يكن باستطاعتها بالتأكيد أن تعطي للمنذوبين صورة تبدد الشك وفقدان الثقة. ولم أكن أدري إذا كان زينوفييف يجهل أو يريد تجاهل هذا الوضع عندما طلب من فروع الأممية ومن المنظمات النقابية أن ترسل عددا كبيرا من المندوبيــن في بعثاتها. بعد هذا القرار، الذي يمكن تحديد نتائجـــــــــه فيما بعد، لم يكن يهتم بمسألة سكن هذه الأعداد الكبيرة من المندوبيــــن، ولم تكن الأماكن مهيأة عند وصول البعثات الأولى مما وضع الرفاق المسؤولين عن سكنها في وضع مضحك، فطلبوا مني عندئـذ أن نتصل بتروتسكي. لكن مع علمي بضرورة الإجراءات السريعة الواجب اتخاذها، رفضت أن أزعج تروتسكي بمسألة سكـن المبعوثين، إذ كنت أدرك حرصه على عدم التدخل في شؤون الرفاق وخصوصا عندما يتعلق الأمر «ببلاشفة قدامى» أمثال زينوفييف. بيد أن الوقت داهمنا فوافقت على عرض المشكلة عليه، وكما كنــت أتوقع رفض أن يتدخل في بادئ الأمر. لكنه عاد واهتــــــــــــم بالمسألة فيما بعد، وقرر الاتصال بزينوفييــــــــــــــــــف. فوجـــئ هذا الأخير بهذه الصعوبات التي كان يجهلها ووافق على تشكيــل لجنة يرئسها سكليانسكي مساعد تروتسكي في شؤون الحرب. وسارت الأمور بنشاط مع سكليانسكي، فتأمنت الأماكن وجهزت واستطاع المبعوثون أن يسكنوها لدى وصولهم. وقع حادث صغير آخر مع البعثة الفرنسية لا يخلو من المعاني، لقد تم القرار بإسكان البعثات وحدها في أماكن مريحة، وتشاء الصدف أن يتم إلحاق مترجمة بالبعثة الفرنسية، فتعلق بها أحد المندوبين في الطريـق وادعى فوق ذلك وجود صحافي أميركي معه. ومع علمه المسبق بالقاعدة، فوجئ برفض هادئ ومع ذلك أصــــــــــــــــر على الاتصال بـ«سلطات» مختلفة. )لقد كان الصحافي الأميركـــــــي لوي غانت محررا في الصحيفة الأسبوعية الليبرالية «The nation» ويعمل اليوم كناقد أدبي في مجلة نيويورك هيرالد تربيون).

كان فرنان لوريو وبوريس سوفاريــــن على رأس البعثة الفرنسية، وكانا قد خرجا حديثا من السجن بعد قضاء بضعـــــــة أشهر بتهمة «التآمر ضد أمن الدولة»، ولقد أطلق سراحهمــــــــــا بعد أن برأتهما المحكمة.

وأبعد بول ليفي عن البعثة الألمانية التي ترأسها في المؤتمر الثاني بعد أن انتقد بشكل غير مقبول حركة آذار ووصفها «بالانقلاب». وبقيت كلارا زتكين في الحزب الشيوعي مع أن نقدها لهذه الحركة لم يكن أقل قساوة من نقد ليفي.

كلف تروتسكي بوضع التقرير الأساسي حول «الأزمة الاقتصادية العالمية والمهام الجديدة للأممية الشيوعيـــة». وهكذا كانت المسألة الألمانية ومسألة خطط الأممية الشيوعية مسألتين متعلقتين ببعضهما البعض خلال المؤتمر.

استقبل تروتسكي، في بداية السنة، بيلاكـــون، الذي أتى خصيصا ليتباحث معه حول التكتيك الذي يجدر بالأممية أن تتبعه. ولقد كان ضروري جدا، حسب رأي بيلاكـــــون، أن يصار إلى التزام عميق في تكتيك مذهبي هجومي واستخدام كل إمكانيات جمهورية السوفيات. إذ أن الأنظمة البورجوازية، خصوصــــــا النظام الألماني، مازالت ضعيفة ويجب أن تتم مهاجمتها باصرار، قبل أن يفوت الأوان، بسلسلة من الانتفاضات والاضرابات والفتن.

رفض تروتسكــــــي هذا الرأي منذ سماعه وحاول أن يفهم محدثه أن الحقيقة الأساسية في العمل الثوري تتطلب عدم القيام بالفتن، ومتى أردنا وبأي ثمن كان، فكل عمل عسكري أو في ظروف غير ملائمة قد يؤدي بالطبقة العاملة إلى نتائج مشؤومة. ولكن بيلاكون لم يقتنع، بل بالعكس استطاع أن يكسب إلى رأيه بعض المناضلين المهمين في عدد من فروع الأممية وخاصة الفرع الألماني والإيطالي.

حتى نفهم معاني «حركة آذار» ونتائجهـــــــــــــا لابد من التذكير بالتمرد العسكري الذي حصل في آذار سنة 1920 والمعروف باسم «انقلاب كاي- لوتويتز». لقد تحالف بعض أعضــــــــاء الأركان العامة مع «الفرق المتطوعة» - التي تتألف من قدامى الضباط المسرحين بعد تخفيض عدد الضباط على إثر معاهدة فرساي – واقترحوا توجيه ضربة حاسمة لجمهورية ويمار. وكان الجنرال فون لوتوتيز وكاي من كبار الموظفين الأساسييـــــــــــن لهذه الحركة. وجه لوتوتيز انذارا للرئيس إيبــــــرت، ويتوجب على الرئيس أن يعين حكومة من الخبراء المحايدين، أي من قدامــى موظفي الامبراطورية، مكان الحكومة الاشتراكية، ويجب أن يحل الديسنتاغ وأن يستقيل ايبر، ويتم تعيين رئيس جديد بعد استفتـــــاء عام. أخيرا طرح المتآمرون نوسك – الذي قمع بوحشية التحرك العمالي في تشرين الثاني 1919 – كديكتاتور. ومن ثم توجهت القوات المسلحة إلى برلين في 13 آذار بعد رفض عملية الاستفتاء الشعبي، عندها طلب إيبر المساعدة من الجنرال فون سيكـــت وشليستر فما كان منهما الا أن تواريا عن الأنظار غير راغبيــــــن في التصدي للمتمردين. عندها هرب أعضاء الحكومة إلى درسد ومنها إلى شتوتغارت. أحس كارل لوجين، رئيس الاتحاد العــام للعمل، بالخطر ورأى بوضوح كيفية تطويق التمرد. فأعلـن الإضراب العام السلاح الأمثل والأمضى في يد الطبقة العاملـة. وشكل مع ممثلين عن مختلف التنظيمات العمالية ومن بينها الحزب الشيوعي، شكل لجنة عامة للاضراب. كان هذا الاضـــــــراب ضربة معلم إذ وجد الاقتصاد الألماني نفسه مشلولا بشكل كامل وتوقف كل نشاط في البلاد. بلبل هذا الإجراء المتمردين وأجبرهم على ترك السلطة في اليوم الثالث.

بقيت ذكرى هذا الحدث المهم لاصقة بأذهان العمال وحددت السياسة الألمانية لوقت طويل، هذا الحدث الذي حرك البروليتاريا بشكل عام وسيطرت على المحاولات الانقلابية التي قامت بها القيادات العليا للجيش متحالفة مع بقايا آل هوهنزولن بعد هذا الانتصار للطبقة العاملة في سنة 1920، ظهرت حركة اذار كحركة غير واضحة، مشتتة وقلقة وخصوصا بعد الفشل الذي انتهت إليه.

بدت الحركة مصطنعة غير مهيأة منذ انطلاقها من آبـــــــار الفحم الحجري في منسفلد من أعمال ألمانيا الوسطى حيث شهــدت هذه المنطقة تحركات مستمرة أوحت أنه بالامكان، في ظل هذه الظروف الملائمة، إعلان إضراب عام، في الواقع كان هذا الإضراب في البدء فعالا، ولكنه كان جزئيا في شمنيتز وتورنيخ وساكس، وحدثت محاولات في مدن أخرى ولكنها لم تؤد إلى نتيجة تذكر. في النهاية أجهضت الحركة وكانت العواقب وخيمة جدا.

سمح فشل هذا التحرك، ذي الطابع الغريب، للصحافة البورجوازية ولصحافة الاشتراكيين-الديموقراطييـــــــــن أن يؤكد منذ اليوم الأول أن موسكو فرضت ووجهت مثل هذا التحرك ولكن هذه الصحافة لم تقدم أي دليل فيما زعمت. ولم يتوقف الأمر عنـدها بل أن عددا من قياديي الحزب الشيوعي الألماني توصلــوا إلى استنتاج مماثل، وقال بول ليفي أن هذه الحركة مستوحـــاة من باكونين وليس من ماركس. هذا في ألمانيا، أمّا في خارجها فقــد سارع بعض الشيوعيين، ومن بينهم بعض قيادي الحزب الشيوعي الفرنسي والتشيكوسلوفاكي، ليفضحوا ما أسموه بالتدخل غير المسموح به من جانب الأممية الشيوعية. وأثيرت عـدة نقاشات حامية، قبيل المؤتمر الثالث، تعرض فيها المناقشون لقياديي الحزب الشيوعي الألماني مطالبين بإظهار الدور الذي لعبه الحزب وإبعاد المعارضة. وعلى أثرها تم إبعاد بول ليفي أمّا كلارا زتكين فلقد وافقت على الذهاب إلى موسكو لتتحاور مع لينين وتروتسكي اللذين لم يكونا موافقين، وبدون تحفظ، على تكتيك هذا العمل المغامر. أظهرت الأحداث والنقاشات التي تبودلت قبل المؤتمر أن عليها الوقوف في وجه معارضة شديدة. عرضت البعثة الألمانيـــــــة، بشكل معمم وممذهب، «تكتيك مارس» تحت شعار «المهاجمة الثورية»، كانت أكيدة من أنها سوف تلقى الدعم من البولونيين والنمساويين والإيطاليين. فما كان من لينين وتروتسكي بعد معرفتهما بضرورة المعارضة الشديدة لمثل هذه الستراتيجية ذات النتائــج السيئة على الحركة العاملة، ما كان منهما إلاّ أن ارتضيا لعب دور «اليمين» مع معرفتهما بإمكانية وجود أكثرية ضدهما خلال المؤتمر.

لقد منيت «حركة مارس»، بالنسبة لبيلاكون، بفشل ذريــع، وكان على علم بالنقد الذي سوف يوجهه له الروس، ومن لينيــــن أكثر من تروتسكي، فهو الذي أطلق شعار «المهاجمة الثورية» ويبقى المسؤول عن هذا التحرك. لذا بدأ يحضر الدفاع عن نفســــه مستعينـــا بالتأييد الذي لقيه بألمانيا. وكان يأتي مرارا لمشاهدتي – لم تكن بيننا علاقة وطيدة – وهو يحمل صحيفة «الانسانية» L’humanité ويطلب مني بعض الشروح الدقيقــــــــة حــول بعض الأشخاص والمقالات والأحداث. لقد كان يبغي من مناورته هذه، كما استطعت أن أتبين، أن يحيد مسبقا البعثات التي كانــــت تميل إلى إدانته أو يعيق عملها، لذا أخذ يجمع الوثائق ضد البعثة الفرنسية عندما علم أنها سوف تدينه. لقد كان يتصل بالوفود عند وصولها واستطاع أن يحرض جماعة لوكسمبورغ ضد الحزب الشيوعي الفرنسي وضد «الانسانية».

وكذلك استطاع أن يؤلب جماعة بلجيكا الذين لم يكونــــوا موافقين على شعاره إنما كانت لهم بعض التحفظات على الحـــــــزب الشيوعي الروسي ويجهلون تماما مخططات بيلاكــون. ولقد استطاعوا التدخل في سير أعمال اللجنة التنفيذية الموسعة. أمّا البعثـــة الفرنسية فلقد دخلت اللجنة بفكرة مقررة سلفا وهي الطلب من اللجنة بتقديم شروحات كاملة حول موضوع الأحداث في ألمانيا، لقد أنذر البعض بدوافع هذا العمل المثير للشكوك أمّا الانتهازيون الذين أتوا إلى الأممية رغما عنهم، فلقد كانوا مسرورين لاغتنامهم فرصة فضح التدخل المزعوم من قبل الأممية في نشاط الفرع الألماني، وانطلاقا من هذا التحذير من التدخل في الفروع الأخرى.

قبل البدء بالمناقشة العامة حصل نزاع حاد، لقد بدأت النقاشات كما هي العادة بالتقرير الذي قدمه زينوفييف حول نشاط الأمميـة خلال السنة الماضية، وكان المندوبون يأتون ليناقشوا، ليشرحوا. ليردوا على النقد، وأخيرا تمت الموافقة على هذا التقريـــــــــر. ولكن، كما نوهنا سابقا، كانت البعثة الفرنسية معبأة جدا إذ تـــم إقناعها أن قيادة الأممية هي التي حركت أحداث مارس، وكانـت البعثة تطالب من الأممية أن تشرح وجهة نظرها وأن تقوم بنقـــد ذاتي قبل كل شيء ورفضت الموافقة على تقرير زينوفييـــــــــف. كان هذا الموقف مثير للدهشة. لم يكن هذا الادعاء وبالشكل الذي أطلق فيه يتناسب مع المركز والسلطة اللذين يتمتع بهما الحزب الشيوعي الفرنسي داخل الأممية. أكثر من ذلك، لقد كان مثــــــــــل هذا الادعاء عبثيا إذ أن الكل يعلم أن أحداث مارس سوف تناقش بعمق، وهذا ما حاول زينوفييف توضيحه. لكن الفرنسيـــــــون تصلبوا في موقفهم بعد دعم الألمان لهم وهذا ما أغضب راديك وجعله يصف، عرضا، الحزب الشيوعي الفرنسي بالاشتراكية-الديموقراطية وبالانتهازية. هنا أعلنت البعثة الفرنسيــــــــــــة انسحابها من المؤتمر وأخلت القاعة. لقد كان عمل البعثـــــــة الفرنسية مثيرا للاستهجان إذ أن راديك هو مندوب كبقية المندوبين وله ملء الحق في التعبير عن رأيه. التقيت بعد تعليق الجلسة بزينوفييف فقال لي: «يعتقد أصحابك أنهم في البرلمان، إنهم مزعجون بأسئلتهم الاجرائية» فكان جوابي «أنني هنا لا أمثــــــل أحدا ولا أستطيع أن أفعل شيئا، وهم لا يستشيرونني قبــــــل أن يقوموا بحماقاتهم». لقد أتت البعثة، على ما يبدو، بتفويـــــــض غريب ولكن محدد بالنسبة لقيادة الأممية وكانت تخشى أن يمنعها اشتراكي في هذه القيادة من الوصول إلى أسرار الأممية، إذ كان هنالك من أسرار. تركتها تناور كما يحلو لها إذ أن مؤتمر النقابات العالمية الحمراء يكفي لاشغالي بمشاكله.

عندما بدأت المناقشة في المؤتمر دافعن البعثة الألمانية بحدة عن أطروحتها حول «المهاجمة الثورية» عندما عرضتها في المؤتمر. كان يجب، حسب رأيها، ابقاء الجماهير في حالة من التأهــب ومحاربة السلبية التي كانت تجري محاولات فرضها عليهـــــا، لم تكن هذه الأطروحة جديدة على تروتسكي لقد سبق وناقشها مع بيلاكون ورفضها. لكن الأحداث أثبتت أن بيلاكون لم يكن المدافع الوحيد عن مثل هذه الأطروحة، فلقد كان لها مناصرون كثر في مختلف فروع الأممية وما يدل على هذا التأييد ذلك الإصرار وتلك الحرارة التي دافع بها أمثال تالهيمر [30] عن هذه الخطوة، والوفـــاق التام حول هذا الموضوع بين الحزب الشيوعي الألماني وحزب العمل الشيوعي الفرنسي اللذين نادرا ما يتفقا، والدعم الذي لقيتـــــــــــــه من فروع مهمة، كان هذا يكفي للدلالة على أن القصة تتجاوز كون هذه الأطروحة هي بنت ساعتها تم اختلاقها لإخفاء الفشـــل الذي منيت به حركة مارس وإلصاقه بتدخل خارجي.

اعترفت الأطروحات حول التكتيك التي قدمها راديك إلى المؤتمر بأن «حركة مارس» هي خطوة نحو الأمام قام بها الحزب الشيوعي بعدما توحد مع أكثرية المستقلين، ولكنه عاد وشدد على ضرورة إرساء التحرك على قواعد من الدراسة الجدية للموقف وعلى وجوب التحضير له بدقة، لذا فالهجوم ليس دائما وفي كل الحالات التكتيك الصحيح. لم يرض مثل هذا الكلام البعثة الألمانيـــــة وحلفائها، فطلبوا من المؤتمر أن يعترف بكون «حركة مــــارس» هي تحرك جماهيري فرض على الطبقة العاملة بعد افتراءات أرباب العمل والسلطة، وأن الحزب تحمل مسؤولية القيادة وقام بدوره بشجاعة، واستطاع أن يبرهن عن مقدرته في قيادة الطبقة العاملــــة في نضالاتها حتى الثورة.

عند ذلك أعلن تروتسكي عن عدم تمكنه من الموافقة على مثل هذا، ولكي يبرهن على أن الدراسة الجدية للظروف لم تكن قـــــد تمت بالفعل قبل التحرك قام بعدة اتصال مع عدد من المسؤوليـن، فكان التناقض بارزا في أقوالهم. لقد أكد البعض أن الوضع كان واضحا والحالة أصبحت لا تطاق: بالتهديد باحتلال روهر ومسألة سيلازيا العليا والأزمة الاقتصادية والبطالة والاضرابات جعل الظروف ملائمة بشكل استثنائي. أمّا بالنسبة للبعـــض فقد كانت الحالة أكثر تعقيدا: فالعمال لم يكونوا مهتمين بسيليزيا العليــــا، وكانت النقابات «ضدنا»، وصلت السلبية عند العمال إلى حــــــــــد لا يصدق، فكان من الضروري إذن تحريكهم بمبادرة ثورية.
استخلص تروتسكي بعد كل هذا أن التأكيد التــام الـــــذي يطلبونه بدون أي نقاش وتحليل للأحداث أصبح مستحيلا. وأن اهتمامهم ينصب على امكانية عودتهم إلى ألمانيا بنتيجة لا يبدو فيها أثر للنقد. كانوا يريدون تغطية من الأممية أمام جماهير الحـــزب. لكن النقد ينبعث من تصريحاتهم عندما تكلموا عن جدار كثيف من السلبية ومن الركود العام وأطلقوا، مع هذا صيحاتهـــــــم «إلى الأمام» فكان من واجب الأممية الشيوعية أن تحذر فروعهـــا من مغبة الوقوع في خطأ افتعال الأحداث، ويجب على المؤتمر أن يقول للعمال الألمان أن خطأ ما قد وقع وأن محاولة الحزب في تحمل مسؤولية حدث جماهيري كبير لم تكن تدعو إلى السرور، أمّا الإيطاليون فقد أعلنوا، بقصد دعم تكتيك «المهاجمــــــة» أصبحنا الآن أحرار، لقد تخلصنا من الزعماء الإصلاحيين ويمكننا الآن أن نقوم بمهمتنا، ويمكننا أن نقوم بأعمال جماهيرية وكان جواب تروتسكي لهم «ليس في العالم الا الإنتهازيون. لقد عملتم لإقصائهم من صفوفكم، هذا عمل جيد. ولكن هناك المجتمع الرأسمالــي والشرطة والجيش، هناك ظروف اقتصادية محددة وعالم معقـد.. يجب أن نثبت مقدرتنا على جمع اللغة الباردة للاحصاء مع الارادة المحمومة للعنف الثوري».

لم تستقبل هذه الحقائق الأولية في ساعتها كما يجب ولكنها أعطت في مستقبل قريب ثمارها. ففي دراسة حول «الصــراع الطبقي في ألمانيا خلال سنة 1922» كتب تالهايمر بالنسبة لحركة آذار ما يلي: «لم يكن هذا التحرك إلاّ نزاعا بدأته الطليعة واستباقا للمعركة التي لا يستطيع خوضها إلاّ الطبقة العاملة وحدها. لقـــد انتهى إلى انحسار وإضعاف مؤقت لعناصر الطليعة. لم تكن أكثرية الطبقة العاملة مهيأة بعد.. حتى لأهداف مباشرة ومحددة جيــدا وسارت موجة القتال نحو الضعف. لقد سعت الرأسماليــــــة وأعوانها، مستفيدة إلى أقصى حد من انتصارها، لقد سعـــــــــت داخل الطبقة العاملة إلى اضعاف وعزل العناصر القيادية ضمن البروليتاريا التي ركزت نضالها حول مسألة العمل ثماني ساعات يوميا، مسألة الأجور، حق الإضراب.. لكن الحزب الشيوعـــــي تمالك نفسه وبدأ تحركا جديدا بعد أن أدرك أن تحرك آذار كان تحركا غير ناضج» (حولية العمل Annuaire du travail ص 363-364) لم يكن النقاش حول «حركة آذار»، برغم أهميتـــه، إلاّ إيضاحا للموضوعة التي وسعها تروتسكي في تقريره الكبيــر «الأزمة الاقتصادية العالمية والمهام الجديدة للأممية الشيوعيــــة» لقد أدى التحليل الذي قام به إلى ابراز السمات للوضع الراهن «فألمانيا سنة 1921 لا لا تشبه ألمانيا سنة 1918» كما صرح أحد المراقبين للوضع في ألمانيا. وأكدت منشورة «الوقت Le temps» «إن الأزمات التي سوف تأتي يمكن تجاوزها». وقال تروتسكي في نهاية هذا التحليل: «لقد أعطى التاريخ للبورجوازية مهلة يمكن خلالها أن تستجمع أنفاسها. لقد كان انتصار البروليتاريا غداة الحرب امكانية تاريخية ولكنها لم تتحقق. أظهرت البورجوازية عن قدرة في استغلال ضعف الطبقة العاملة.. إلاّ أن الوضع في الحقيقة يبقى ثوريا: فالحالة سوف تكون لنا أكثر ملائمة وفي الوقت نفسه أكثر تعقيدا. لا يمكن أن نحقق النصر آليا، يجب أن نستفيد من مرحلة الهدوء النسبية لنبسط تأثيرنا داخل الطبقة العاملة ونكسب أكثريتها إلى جانبنا قبل حدوث تطورات حاسمة».

قدم مؤيدو «المهاجمة» نقدهم بكل حيوية، لقد أظهروا «جميعـــا»، مهما تنوعوا أكانوا ألمانا أم هنغاريين أم بولونيين أم إيطاليين، لقد أظهروا تلهفا طفوليا وخطرا باستعمالهم عبـــــــارات من هذا الطراز: نقوم بالثورة بإشهار السيف وليس بالقيام بإحصاءات، نحن لسنا بحاجة إلى إظهار ضرورة الثورة وإنمـــا يجب القيام بها، تلعب روسيا السوفياتية، منذ فترة السياســة الاقتصادية الجديدة، دور صمام الأمان للرأسمالية... وانتقــد تالهيمـــر تروتسكي واتهمه «باختزان طاقة البروليتاريا الثورية». أجاب تروتسكي على كل الإنتقادات بشروحات وإيضاحـــــــات جديدة، وتوصل إلى الاستنتاجات نفسها التي توصل إليها بالنسبة لمسألة التكتيك. لقد شدد، خلال عرضه، على الحدث الأساســــي الذي كان منسيا أو مهملا، المتمثل بالدور المتعاظم الذي تلعبه أميركــا في العلاقات الدولية: لقد أشار أن أميركا احتلت مكان بريطانيا و«أصبح الدولار مسيطرا في السوق العالمية».

في 7 تموز عرض لينين تقريره حول «الوضع الداخلي في روسيا السوفياتية ومهام الحزب الشيوعي الروسي. وكان قــد حضر للمؤتمر كراسا تحت عنوان «الضريبة الغذائية» يستعيــــــد فيه عددا من المقالات كان قد كتبها في أوراق متفاوتة، وخص ببعضهـــــا النظام الذي سماه«برأسمالية الدولة» مدخل النظام الاشتراكي على حد قوله. وكان قد كتب، في ربيع 1918، كراسا مهما حول الموضوع نفسه «المهام الأساسية الراهنة» حيث يمكن إعادة بعض من مقاطعه المهمة.

«تصبح رأسمالية الدولة، في المرحلة الراهنة، وفي جمهورية السوفيات، خطوة كبرى نحو الأمام.. لا يوجد أي شخـــــــــــص، على ما أعتقد، أنكر السمة الانتقالية للإقتصاد الروسي. ليــــــس بوسع أي شيوعي أن ينكر أن عبارة «جمهورية السوفيات الاشتراكية» تترجم فقط رغبة السلطة السوفياتية بتحقيــــق الاشتراكية وأن العلاقات الاقتصادية الحالية هي علاقات اشتراكية ماذا تعني إذن عبارة «انتقال»؟ ألا يعني هذا، أنه من وجهة نظر اقتصادية، أن النظام الحالي يتضمن، في الوقت نفسه، عناصر من الرأسمالية وعناصر من الاشتراكية؟ من الطبيعي أن يكون الجواب بالايجاب. ولكن ليس بمقدور الجميع أن يميزوا بين مختلف هذه العناصر. وهذا ما أود توضيحه. يمكن أن نميز بين الأنماط التالية:

1- الاقتصاد البطريركي الذي يبلغ في أعلى مراتبه الاقتصاد الطبيعي.
2- الاقتصاد الريفي التجاري (ويتضمن المزارعين الذين يبيعون القمح).
3- الرأسمالية الخاصة.
4- رأسمالية الدولة.
5- الاشتراكية.

تشتمل روسيا في الوقت نفسه على مختلف هذه الأنماط الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما يشكل طرافتها، .. تصبـــح رأسمالية الدولة تقدما كبيرا، وهذا جدير باكتساب الخبرة لأن أهم شيء بالنسبة للطبقة العاملة هو القضاء على الفوضى وعدم التنظيم التي يمكن أن تبيد جهودنا إذا لم نقض عليها بنجاح. ولهذا فإن دفع الضريبة المهمة التي هي رأسمالية الدولة تشكل مدخلا للاشتراكية. وهذا أمر لا يمكن إنكاره. تشكل رأسمالية الدولة تنظيما اقتصاديـا أكثر تقدما من تنظيمنا الحالي، ولا خوف إذن طالما السلطة بأيدي العمال والمزارعين الفقراء. ولنوضح المسألة أكثر، سوف نعطـي مثلا عيانيا لرأسمالية الدولة: ألمانيا، «فالكلمة الأخيرة» هنا هي للتقنية الرأسمالية الحديثة في دولة إقطاعية – رأسمالية. وإذا وضعنـــا مكان الدولة، دولة أخرى ذات بنية اجتماعية مختلفة تصبح لدينا ظروف تجعل من الممكن إقامة الاشتراكية».

لقد كانت السياسة الاقتصادية الجديدة خطوة إلى الوراء، ولــم يكن لينين يفكر في إنكار ذلك إذ أن هذه الخطوات وضعت روسيا في طريق هي مجبرة أن تسير عليها تحت وطأة الإجراءات المختلفة التي تشكل ما يسمى «شيوعية الحرب» ولقد تمكن المندوبون من التأقلم مع هذه التحديات والشروحات، وليس على لينين إلاّ أن يشير إلى المبادئ التي وجهت مهام الحزب الشيوعي. لقد قال: «لقد اعتبرنا دائما أن ثورتنا هي طليعة الثورات في أوروبا، لقد اعتمدنا على الثورة العالمية وبالتالي اعتبرنا أن مهمتنا التاريخية هي التحضير لهذه الثورة. إن وعي الجماهير الثورية لم يصل إلى هذا الحد وكانت عاجزة من أن تطلق الثورة في مكان آخر، بالرغم من ذلك كانت من القوة بحيث منعت البرجوازية من مهاجمتنا» «هناك بعض الأمثـولات يجب أن تؤخذ من تجاربنا. لقد أثبتت هذه التجارب أن الفلاحين، بطبيعتهم، لا يمكن أن يكونوا إلاّ تحت قيادة البرجوازيــة أو قيادة البروليتاريا. إن التحالف الذي عقدته البروليتاريا مع الفلاحين ذو سمة عسكرية بحتة، يدعم الفلاحون العمال، قبل كل شيء، لأنهم يرون، وراء البيض، قدامى الملاكين المتلهفين للعودة إلى ملكياتهم. لقد أعطت البروليتاريا الأرض للفلاحين وبفضل ثورة أكتوبر استطاع الفلاحون الاحتفاظ بالأراضي التي طردوا منها الملاكين واستولوا عليها. بالمقابل يتوجب على الفلاحين أن يقدموا المنتوجات الغذائية من أجل إعاشة المدن: هذه هي المصادرة. قبل نهاية الحرب المدنية ولدت ظروف جديدة تضمنت مهاما جديدة، لقد تم ارساء قواعد السياسة الاقتصادية الجديدة من أجل تحقيق هذه المهام».

عندما أراد لينين الإجابة على الانتقادات التي أطلقت، شــدد بشكل خاص على تيراسيني الذي عارض مقولة «اكتساب أكثرية الطبقة العاملة» بمقولة الأقلية الفاعلة وإعادة أطروحة «المهاجمة» بقصد التحرك المستمر.

كان جواب لينين صارخا: «يجب على المؤتمر أن يقف بحزم بوجه هذه الطفولية اليسارية. يقول تيراسيني أننا نحن البلشفيك لم نكن أكثرية في أكتوبر. هذا صحيح، ولكننا استطعنا أن نكسب أكثرية سوفياتات العمال والفلاحين وكان معنا نصف الجيش على اقــل تقدير. لقد انتصرنا بوجود عشرة ملايين عامل وفلاح مسلح».

أعادت الكسندرا كولونتاي النقد المعروف «للمعارضة العمالية»، ويتلخص هذا النقد بالمكانة الكبرى المعطية للتقنيين على حساب مبادرة الطبقة العاملة وإمكانياتها. فانبرى تروتسكي ليرد عليها، قال: «من وجهة نظر المبادئ، مما لا شك فيه أن إمكانية البروليتاريا ومبادراتها هي أكثر من كافية وأن الإنسانية ستتحول جذريا بفضلها. ولكن لم نزعم أبدا أن الطبقة العاملة تستطيع بناء المجتمع الجديد منذ حدوث الوعي عندها. ما يمكن أن تفعله هــــو خلق الظروف الاجتماعية والسياسية الضرورية. بالإضافة إلى ذلك عندما تسيطر سيطرة مباشرة على السلطة يمكنها أن تجد القوى الثانوية الضرورية لها».
قدم الألماني كوونين تقريرا مطولا حول «بنية الأحزاب الشيوعية طرقها وعملها». وتمت مناقشته ومصادقته في جو اللامبالاة الذي سيطر في أواخر المؤتمر. لقد كان الهدف من هذا التقرير هو مساعدة الأحزاب الشيوعية الناشئة في مهمتها الصعبة، لا تفتقر هذه الأحزاب إلى الإخلاص والصدق التدريبي اللذين يلهبان القاعدة، إنما النقص في الكوادر والنقص في الخبرة تمنعها من الإفادة إلى أقصى حد من القوى المتوافرة لديها. إلاّ أن كوونين لم يقترح سوى نسخة متواضعة عن الحزب الشيوعي الروسي. لقد خلا الحل من أي اجتهاد وتلافي الفوضى في الصعاب الحقيقية وجانب المواضيع الحقيقية. لقد كان هذا الحل ضارا أكثر منه مفيدا وأدانه لينين بشدة في مؤتمر مقبل. لقد توصل بعض المندوبين الذين اشتركوا في هذا المؤتمر إلى استنتاجات مقلقة، إذ لم يبق شيئا يذكر من الحماسة الثورية التي كانت الطابع المسيطر في بدء المؤتمر إنما على العكس لقد أحسوا بالشك والارتياب. لقد كان زينوفييف يريد أعدادا ضخمة في البعثات، وهذا ما أدى إلى أنها حوت فيما حوت صحفيين وأساتذة وكتابا لم يتوان البعض منهم إلى الإعلان أنهم ليسوا شيوعيين وأنهم أتوا إلى المؤتمر لدراسة هذا الوجه أو ذاك من أوجه النشاط السوفياتي. لقد ساعدت الاختلافات في وجهات النظر التي ظهرت بالنسبة للتكتيك، والفشل الذريع في بولونيا وإيطاليا، ساعد كل هذا لإشاعة نوع من الانفعالية بين المندوبين. أدت هذه الانفعالية لخلـق جو من الارتياب في النهاية.



--------------------------------------------------------------------------------

4- النقابات العالمية الحمراء تعقد مؤتمرها التأسيسي


انعقد مؤتمر النقابات العمالية في ظروف غير ملائمة ولأسباب تختلف عن تلك التي ذكرناها سابقا. كان العمل التحضيــــــــري، الذي امتد خلال السنة المنصرمة، يهدف إلى تحقيق البرنامج الذي وضع منذ تشكيل المجلس الأممي المؤقت: كان هذا البرنامج ينطوي على الجمع في أممية واحدة كل من التنظيمات النقابية، التي بوسعها الالتزام المطلق، والأقلية النقابية الإصلاحية، إذ أن التطور المستمر لهذه الأقليات – التي ما برحت تزداد عددا وتأثيرا – يسمح بالتأمـل ان بوسعها دحر المقاومة التي يبديها الزعماء الاصلاحيون ودفع التنظيم بكامله نحو الأممية النقابية الجديدة.

لكن الأمور جرت بشكل مختلف.فبعد المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية ابتعد كل من بستانا، مندوب الاتحاد الوطني للعمل، وأرماندو بوركي الأمين العام للاتحاد النقابي الإيطالي، ابتعدا عن الأممية الثالثة وتحولت انتقاداتهم للنظام السوفياتي تدريجيا إلى انتقادات فظة. بيد أن هذين التنظيمين كانا قد صوتا للالتزام بالأممية الثالثــــة.

وعليه يحدث فراغا مهما بدون هذين التنظيمين وبدون الأعضاء النقابيين الثوريين الذين يمثلهم هذان التنظيمان. لكن الأمر تعدى كل هذا. لقد كان لموقف بستانا وبوركي تأثير جدي في الأوساط النقابية عامة وفي فرنسا خاصة. لقد قفزت، إلى المرتبة الأولى، مسالة العلاقات بين الأممية الشيوعية وبين النقابية العالمية الحمراء، وكذلك أيضا مسألة العلاقة بين الحزب والنقابات. انحصر النقــــاش في هاتين المسألتين وكأن المقصود معرفة من يضع القوانين للآخر الحزب أو النقابة. في حين أن قبل الحرب، وفي فرنسا مثلا، وافق الاتحاد العام للعمل على اللقاء مع الحزب الاشتراكي وأن يتحركا سوية في المجالين الوطني والعالمي عند اشتداد خطر الحرب. عندما انحازت القيادتين: قيادة الاتحاد العام للعمل وقيادة الحـزب الاشتراكي، إلى سياسة الحكومة المحاربة تشكل حلف عفوي يضم الأقلية الاشتراكية والنقابية مع بعض الفوضويين. وتم، في تلك الفترة، انعقاد مؤتمر زميروالد حيث تم تشكيل لجنة لإعــــادة العلاقات بين الاشتراكيين والنقابيين والفوضويين والدعوة للالاتفاف حول برنامج مشترك وعمل مشترك. ولقد كان الاعتقـــاد السائــــد بأن إذا ما وجدت صعوبات حول مسألة العلاقة بين الحزب السياسي والنقابات فبالامكان تخطي مثل هذه الصعوبات.

لكن الأمور سارت بشكل سيء خلافا لهذه التوقعات المتفائلــة. لقد تم طرح عبارة «الارتباط العضوي» للأمميتين خلال النقاشات ودارت مختلف المساجلات حول هذا الموضوع. في فرنسا، لقد فهم «النقابيون الخلص» هذا الكلام على أنه التحاق النقابات بالحزب، وهذا ما يرفضه بشكل مطلق النقابيون الثوريون على حد زعمهم. وهكذا وجدوا أنفسهم، صدفة، في قيادة الأقلية النقابية شكلوا بعثـــة إلى المؤتمر تواجدت فيها مختلف الاتجاهات النقابية، ولكن من يذهب إلى المؤتمر بتفويض صوري لمعارضة كل اقتراح «للإرتباط العضــوي؟».

كان لمسألة العلاقات بين الأمميتين مكانا بارزا في جدول الأعمال الذي وضعناه للمؤتمر. وكان على زينوفييف أن يقدم التقرير الأساسي وتم تكليفي بإعداد تقرير آخر يكون بمثابة مشاركة. لقد عالجنا المسألة بطريقة مختلفة بالرغم من كون النتائج التي توصلنا إليها غير مختلفة.

لقد وجدت أنه يجري الحديث، وبطريقة غير ذكية أحيانا، عن «مزاعم نقابية»، واقترحت التذكير أن مثل هذه «المزاعم» لم تمنع النقابيين من أن يمثلوا الصف الأول في المقاومة وفي الدفاع عن ثورة أكتوبر. لكن في اللحظة الأخيرة أصبح نوع من التغيير ضروريــا. لقد وجد زينوفييف، عشية المؤتمر، أنه لا يتمتع بتأييد زائد وأن النقابيين، على خطأ أو على صواب، لا يحبونه. وهو الذي أظهـر قليلا من بعد النظر عندما انفجرت الأحداث في كرونشكاك، ولكنه لم يفهم بشكل حسن التطور الذي طرأ في الأوساط النقابية. لقد قرر، بعدما لاحظ هذا الجو غير الودي، بأن يتخلى عن تقريـره وأن ينسحب من المؤتمر. وقال لي لوسوفكي، عندما أخبرني بهذا القرار: «لن يكون هناك غير تقرير واحد بدلا من التقريرين، وهذا التقرير هو تقريرك». فأجبته أن هذا مستحيل، ويعني انهيار عملي الشخصي وهذر الجهود التي كنت سوف أبذلها من أجل الوصول إلى تسويـة بين وجهات النظر التي لم تكن على خلاف مبين والتي تجب، في كل الأحوال، الا تمنع التواجد في أممية واحدة، ويجب أن يتم إيجـاد أساس المشاركة بين رجال لهم آفاق سياسية مختلفة ولكنهم مخلصون لقضية الثورة الشيوعية. ولقد اضطررت للرضوخ لإلحــاح لوسوفكي. عملت البعثة الفرنسية على تعقيد مهمتي. لقد كان لــــي بين أعضائها أصدقاء يوافقون على موقفي وعلى وجهات النظر التي سوف أدافع عنها ولكنهم لم يكونوا الأكثريةولا في موقع القيادة بالرغم أنهم الأكثر أهليية بينهم. اختار الآخرون ناطقا باسمهم، مجهولا حتى الآن، وهو فوضوي متقلب ومزاجي كرس نفسه منظرا للنقابة الثورية وأثاروا مسالة إجرائية: لقد سمعوا أن موضوع العلاقات بين الأمميتين قد تم نقاشه في مؤتمر الأممية الشيوعية. وهذا موقف فريد لأشخاص يدعون الرغبة بجهل الأحزاب السياسية. وكرروا مرارا أن بعثة الحزب كانت تشترك في مؤتمر الأممية الشيوعية. أكان هذا هوسا عند الفرنسيين؟ لقد كان المقصـــود، من كل هذا، شيئا مغايرا ولكنني لم أنتبه أنا شخصيا إليه إلاّ فيما بعد وسوف أتحدث عنه لاحقا.

لم تعد الأكثرية الساحقة تتحمل الفرنسيين في المؤتمر، وخاصة عندما أراد هؤلاء «النقابيون الخلص» طرح أنفسهم كمعلمين، وإعطاء الدروس للبعثات الأخرى، وصياغة المبادئ الحقيقية للعمل النقابي بشكل ديكتاتوري، وهذا ما أغضب المؤتمرين، فراحوا يصرخون «إنكم تتحدثون عن إضراب عام ولكنكم لم تقوموا بإضراب أبدا، نحن الذين نقوم به».. لم يكن لديهم شيء يجابهــــون به هذا الكلام، إذ أن العمال الفرنسيون لم يقوموا خلال فترة ما بعد الحرب المضطربة إلاّ بإضرابين، الأول قام به عمال سكك الحديد وكان الثاني من المفروض أن يثير إضرابا عاما، ولكن قياديي الاتحاد العام للعمل لم يوفروا جهدا من أجل إحباطه. عارض الاشتراكيون – الديموقراطيون الذين ما زالوا يحتفظون ببعض العداء للنقابيين، عارضوا ما أسموه بالموقف الفرنسي غير المسموح به، وطلب أحدهم – ديمتروف (البلغاري) الذي يحضر للمرة الأولى إلى موسكو ويشارك في مؤتمر – طلب بكل بساطة طردهم من المؤتمر.
لقد لقيت كل تشجيع من البعثة النقابية الاسبانيـــــة، بعكس ما جرى معي والبعثة الفرنسية. تألفت البعثة الاسبانيــة من أربعة أعضاء شبان، مناضلين متحمسين هم: نين ومورين من كاتالونيا، أرلانديز من فالنسيا وجيوز إيبانييز من بسكـاوا. وكانوا يمثلون الاتحاد الوطني للعمل. أرسل الاتحاد مندوبيه وكان متحفظـا في قراره ولم يعطه بشكل نهائي إلاّ بعد المؤتمر. وكانت المفاجأة الجميلة عندما استنتجت عدم الفرق بين موقفه وموقفي الذي دافعـــت عنه أمام المؤتمر. لقد انقاد أرلانديز وحده، الذي كان سهل التأثير، إلى مواقف «النقابيين الخلص» وكان يسبب لنا بعض المتاعب وقد انتهى عضوا في الحزب وستالينيا كذلك بستانيا الذي انتهى قائد «للحزب النقابي» الذي أنشأه. كان للفوضويين عضو خامس، رديـــــف في البعثة ويدعى ليغال، وكنا نراه قليلا، إذ أنه انفصل عن بقيـــة البعثات، وشكل جبهة تضمه مع معارضي الارتباط!

أطلعني لوسوفسكي على النص النهائي الذي يحوي خلاصة النقاشات وكان هذا النص موقعا من كل أعضاء المكتب ومن بينهم توم مان. وكانت إحدى الفقرات تنص على «الارتبــاط العضوي» بين الأحزاب السياسية والنقابات. وكان هذا جوابا للموقف المثيـر الذي أخذه «النقابيون الخلص» والبعثة الفرنسية. ولقد تمكنــــت في مناسبات أخرى أن أضع نصا أخف لهجة، إذ أن النص الأول يمكن أن يظهر غير ذي فائدة ويثير السخط ويعطي للاصلاحيين سلاحا ضد الأقلية التي سوف تستعمله، لقد كان هذا واضحا بالنسبة لي كما كان بالنسبة لأصدقائي، وكل ما استطعت الحصول عليه هــو ألاّ يكون «الارتباط العضوي» كشيء مفروض بشكل مطلــق إنما كشيء موصى به «كمرغوب فيه كيدا».

بالرغم من هذا النقاش غير المجدي والوقت الذب هـــدر، استطاع المؤتمر أن ينهي جدول الأعمال وأن يقوم بعمل مفيد. لقـــد تم التوصل إلى برنامج مشترك ودرس بطريقة معمقة مسائـــل التكتيك من أجل نضال مزدوج:

أولا: الوقوف في وجه الهمجية الرأسمالية في الوقت الذي تسعى فيه البرجوازية لاقتناص الإصلاحيين عندما تروعها الثورة.
ثانيا: العمل للتصدي لرغبة الانشقاق عند الزعماء الإصلاحيين.

اتخذت البطالة في بعض البلدان طابعا جديدا بأبعاد استثنائية وأصبحت تهدد باستمرارها، لم تعد تستطيع جماهير واسعة من العمال إيجاد عمل لها في المصانع، ومن هنا ضرورة إيجاد الرابط الذي يوحدها داخل النقابات مع رفاق العمل.
لقد وصل ايرل براودر، مساعد وليام فوستر، إلى موسكو ممثلا عن العصبة، وكان وصوله قبل عدة أسابيع من افتتاح المؤتمر واستطاع، هكذا، الاشتراك في النقاشات التحضيرية حيث تعرض البعثات وجهات نظرها. ولقد مر برادور في فرنسا لدرس الحركة النقابية الثورية، وتحالف هناك مع قياديي الاتحاد العام للعمل وبشكل خاص مع بيير مونات الذي ساعده في دراسة اللغة الفرنسية. لقد أدى به ما رآه وتعلمه في فرنسا إلى تطوير أفكاره حول التكتيك لقد اقتنع بأن النشاط والجهد المبذولين في التنظيمات يمكن استخدامها بنفعية أكثر للعمال داخل النقابات حيث تمكن محاربة الإصلاحيين بفعالية أكثر من الداخل. وهذا هو الرأي الذي دافع عنه في أميركا. لقد أدهشني موقف براودر، خلال الاجتماعات المصغرة. لم يكن يتدخل في النقاش إلاّ لتأييد لوسوفسكي وبكلمات مختصرة. في حين أن وجهات نظر لوسوفسكي لم تكن متفقة مع وجهات نظر العصبــــة. لقد حاولت أن الفت انتباهه لمناقشة مثل هذه الأمور، ولكـــــن جهودي باءت بالفشل، لقد كان يريد في الظاهر مثل هذا التأييد الذي لم يجد براودر نفسه حتى لتبريره. فهمت بعدها أن فوستـــــــــر أرسله مسبقا لتحضير الأجواء. لقد كان ماضي فوستــر مثقلا، لقد كان خلال الحرب شريكا للحلفاء قام بحملة لدخول أميركـــــــا الحرب وباع خلالها «قسائم الحرية». ونظم بعد الحرب وبمساعدة الاتحاد العمالي الأميركي إضرابا كبيرا لعمال الصلــــب. كانت هيمنة أرباب معامل الصلب قوية جدا واستطاعوا ضرب مقاومة العمال والحصول على إذن قانوني بملاحقة «قيـــادة» الإضراب. كان موقف فوستر يخلو من الصلابة أمام المحاكم بحيث أثار هزء الزعماء الإصلاحيين. لم يأت فوستر إلى موسكو إلاّ بعد عدة أسابيع من انتهاء المؤتمر وتميزت هذه الزيارة بالسرية... مع الوقت أصبح فوستر من قياديي الحزب الشيوعي الأميركي.

كان فيكتور كودوناش، من أعضاء البعثة الفرنسية الأصدقاء، من أول الموافقين على أعمال اللجنة في الأممية الثالثة وقام بأعمال الأمانة العامة عندما كان بيير مونات موقوفا بتهمة «التآمــر»، وأصبح بعد الانشقاق الأمين العام المساعد للإتحاد العام الموحد للعمل. بعد ظهر أحد الأيام وبينما كان آتيا إلى الكريملين بمفــرده سمع أحدهم يناديه «بالفرنسي؟» وكان صاحب هذا الصوت لينين بالذات متوجها بسرعة نحو كودوناش لمحادثته. واستمر الحــوار حتى قاعة المؤتمر حيث طلب منه لينين، قبل الدخول، أن يحدثـــه عن الحركة العمالية وعن رأيه بالمؤتمر وعن انطباعاته. بعدها أتى كودوناش ليحدثني عن هذه المغامرة غير المألوفة. لقد تأثر كثيرا ببساطة لينين وحميمية كلامه وبكون استمرار الحوار وكأنه بين صديقين اعتادا الحوار عندما يلتقيان صدفة.



--------------------------------------------------------------------------------

5- ختام إقامة مدة 17 شهرا


لم تكن البعثات على عجلة من أمرها عندما انتهت المؤتمرات، لقد وجد المندوبون الحياة شيقة في موسكو وخصوصا الفضوليون منهم، وكانوا يتحدثون، كمراقبين، عن النقاشات وعن القـــرارات التي تم اتخاذها في المؤتمرات. وكانوا يسخرون من حدة صوت زينوفييف، لقد أحبطهم الزعماء وخصوصا لينين الذي كان يختلف كثيرا على نمط «الثوري الروسي» الذي خبروه في الغرب والذي أحبوا ملاحقته في موسكو. في مطلق الأحوال كان الرحيل ضروريا، وخصوصا عندما تحول النقاش عن المسائل الدسمة التي طرحت في المؤتمر إلى المسائل العادية، وعليه ازدحمت المكاتب التي تنظم الرحيل بالمندوبين.

مددت إقامتي لبعض الوقت. كنت قد جمعــــــــــــت، خـــــلال الـ 17 شهرا، كمية من الأوراق والملاحظات المتوجب تنظيمها، وكان يتوجب علي الانتظار حتى ينهي مارتان ترجمة البرقيات والتقارير الديبلوماسية التي كان يجب أخذها إلى فرنسا. وفي اليوم المحدد لسفرنا أتى تروتسكي لوداعنا في المحطة.

لقد قادنا القطار حتى روفال حيث استقلينا مركبا ظريفا لنصل إلى ستاتيــــن. كنا عشـــــرة مندوبيــن. لقد تمتعنا بالعيـــش الهنيء بعد التقشف الذي عشناه في موسكو: نزلنا في غرف مريحة وكان كل ما نطلبه مؤمنا من الأشياء النادرة حتى أنواع المآكل الفاخرة. كان البحر هادئا والمركب ينساب بدون أي ارتجاج، لقد كنا مسترخيــن في بحر ن الهدوء عندما انتشرت إشاعة أقلقت مضاجعنا «نحن جميعا موضع معاينة». لقد بدأنا نجتمع جماعات صغيرة لمناقشة الأمر ودرس ما يجب عمله والإجراءات التي يجب اتخاذها، إذا كان الموضوع يتعلق بعملية توقيف في ستاتين فيجب التنبه منــــذ الآن. لقد كان بيننا أحد البولونيين الذي ظهر حزينا بشكل استثنائي ولكنــه ما لبث أن قال لي كأنه قد وجد مخرجا لفمه ومفتاحا لبؤسه «إنها غلطة تروتسكي أيضا، ما الذي أتى به إلى المحطة». لم يكن باستطاعتي إلاّ طأطأة الرأس أنني كنت المسؤول... في الواقـــع لم يدم حزننا طويلا، لقد عادت إلينا قابلية الطعام واسترجعنا جميعا بسرعة ابتهاجنا باستثناء البولوني المسكين... أقلعنا إلى ستاتيـــن بدون أي إشكال. ولكن من ذا الذي يلهو بنا؟ لقد كان يسافر معنـــا على المركب ناقل البريد للأممية الشيوعية، وكنت أعرفه، لقد كان رجلا مرحا، يقوم بواجبه كاملا ويميل إلى التشكيك. لقد أصبح واضحا أنه هو الذي كان يعبث على حسابنا فأطلق هذه الشائعـــــة.





--------------------------------------------------------------------------------
(1922)


1- العودة إلى موسكو – الجبهة الموحدة: شيابنيكوف وكاشين
أوصى المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية الأحزاب الشيوعيــــة اتخاذ «التوجه إلى الجماهير» شعارا لها وذلك بقصد استقطـاب أكثرية الطبقة العاملة، وهذا ما يجنب الأحزاب الشيوعية خطر الانغلاق على ذاتها ويحذرها من التورط بأعمال لم يتم تحضيرها بشكل كاف.

كانت «موسكو» تفهم جيدا التغييرات الأساسية والثانويــــــة التي طرأت على الوضع العالمي وفي بعض البلدان، بالرغم من اتهامها أحيانا بعدم معرفتها بالخطوط السياسية لبعض الأمم الديموقراطية. يمكن الاستنتاج أنه منذ أوائل سنة 1922 بدأت المبادرة الثورية تخبو وظهر التردد عند العمال، فيما كانت البرجوازية، شبه المحتضرة في أواخر الحرب، تستعيد ثقتها بنفسها وتبدأ بالهجوم وهذا ما قامت به ببعض النجاح، والتكتيك المناسب الناتج عن هذا الوضع هو التشديد على المطالب المباشرة للعمال. وبفضل هذا التكتيك لا خوف على الأحزاب الشيوعية أن تبقى معزولة عن الطبقة العاملة، بل يمكنها، بالعكس، تأليب الأكثرية الكبرى من البروليتاريين حول برنامجها.

لم يعط المؤتمر، بصدد ممارسة هذا التكتيك، إلاّ إشــــارات عامة قد يساء فهمها. رأى لينين ضرورة، استكمال قـــرارات المؤتمر الثالث، لإيضاح شكل محدد للممارسة وأسمى التكتيــك الجديد «الجبهة الموحدة للبروليتاريا». اصطدمت ردة البرجوازية، منذ الآن، بمجموع العمال التي فرقتها الانشقاقات السياسيـــة والنقابيـــة.

أقرت اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية تكتيك «الجبهـــة الموحــدة» في جلستها المنعقدة في 4 كانون الأول 1921. شرح زينوفييف هذا التكتيك وبرره في خطاب مهم، وعرض راديك، بشكل ممتاز، أساس هذا التكتيـــــــــك ومعناه. كتب في هذا الصــــدد: «وجه الحزب الشيوعي الألماني الموحد، بعيد المؤتمر وبعد الانشقاق داخل الحزب الاشتراكي-الديموقراطي المستقل، وإلى الحزبيين الاشتراكيين-الديموقراطيين وإلى النقابة المركزية «كتابا مفتوحا» يدعوهم فيها إلى العمل المشترك من أجل الدفاع عن المصالح المشتركة للطبقة العاملة. لقد وجدت أكثرية أعضاء الحزب هذا التكتيك ممتازا، ولكن هذا صدم، في الوقت نفسه، بعض مناضلي الحزب وبعض مناضلي الأممية الشيوعية: إذ «كيف يمكن أن نقترح عملا مشتركا على أناس وصمناهم بخيانة البروليتاريا». وكان لطبيعة المطالب المطروحة في «الكتاب المفتوح» الأثر نفسه، إذ لا يوجد فيها كلمة واحدة حول ديكتاتورية البروليتارييا. لقد تفادت، بلهجة متعقلة ومعتدلة، كل مبالغة ذات طابع دعائي... كانــت الجماهير تعتبر، بوجود ردة فعل أرباب العمل، ان كل انشقاق جديد هو بمثابة جريمة. هذا في الوقت الذي يتوجب فيه على الشيوعيين الاقتراب أكثر فأكثر من الجماهير. ولكن كيف؟ بالتأكيد على ضرورة ديكتاتورية البروليتاريا؟ ولكن لم يبق قسم كبير من العمال في الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية لأنهم لم يفقدوا الثقة بالطرق القديمة. يبقى الطريق الوحيد، إذن، للاقتراب من هذه الجماهيــــر غير الشيوعية هو أن نستلهم من بؤسها الحاضر وأن ندعمها في مطالبها المباشرة. يبرهن الحزب الشيوعي أكثر من أي وقــت مضى، بتحمله هذه المهمة، ضرورة النضال من أجل ديكتاتورية البروليتاريا. عند انفجار الأزمة ونظراللتفكك الحالي للنظام الرأسمالي، يفضي نضال الجماهير الواسعة، من أجل زيادة الأجور الذي يعوض إلى حد ما عن غلاء المعيشة المتزايد، يفضي إلى إظهار التناقض بين البروليتاريا والديموقراطية البرجوازية وضرورة تحقيق مطالب أكثر حيوية كمراقبة العمال للإنتاج مثلا. ويجبر في الوقت نفسه الزعماء الاشتراكيين الديموقراطيين إلى التوجه نحو اليســـار أو إلى الإفلاس. ولا يحسم هذا الأمرعن التعرض لمسألة ديكتاتورية البروليتاريا أو مسألة الديموقراطية، حيث يمكن خلق التعارضات، ولكن يصبح عنصرا حاسما في ساعات العمل وعند التعرض للخبر اليومي حيث يكون الوضوح على أشده في أذهان العمال.

«إن خير دليل على صحة تكتيك الحزب الشيوعي الألماني هي المقاومة العنيدة التي أبداها الزعماء الاشتراكيون-الديموقراطيون والزعماء النقابيون. لقد قام الحزب الشيوعي بخطوة إلى الـوراء، هذا صحيح، لقد اكتفى بالتعرض إلى المطالب المباشرة، هذا صحيح أيضا، ولكن بدلا من أن يضعف ازدادت القوة الاستقطابية عنــــده. لقد نجح الاشتراكيون-الديموقراطيون بتدارك الضربة لكن الحزب استطاع أن يوسع مواقعه في النقابات وأن يدعمها. لقد أصلح «الكتاب المفتوح » الأخطاء التي سببتها ممارسات «أحداث أيار». ككل يتغير في تكتيك حزب كبير، لم يكن هذا الأمر نتيجة تأملات نظرية، ولم يكتشفه أحد. عندما عرضته اللجنة المركزية في جمعية عمومية لمختلف ممثلي الفروع اتضح أن عددا كبيرا من رفاق المقاطعات يعملون في هذا الإتجاه. لقد ولد هذا التكتيك من الحاجات العملية للحركة الألمانية، كما أنه يتجاوب مع حاجات البلدان الأخرى». لقد كان الاستشهاد بهذا المقطع الطويل ضروريا لأنه يصف بدقة معنى هذا التكتيك الذي سيكون، لأشهر عديدة، موضع نقاش. وتمكن الملاحظة هنا أن لا علاقة له مع «الجبهة الشعبية» التي طرحت فيما بعد أو مع «حصان طروادة».

لقد تم طرح «الجبهة الموحدة» بكل صراحة ووضوح كما هي: أداة لحشد الطبقة العاملة انطلاقا من مطالبها المباشرة، ولكن دون إخفاء الهدف الذي هو الثورة الاشتراكية، هذا الهـــــــدف الذي يوجه التكتيك من خلال التطور المعتاد للحركة، والذي يعيد للطبقة العاملة ثقتها بنفسها والثقة الثورية:

لم يرحب قياديو الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية وزعماء النقابات الاصلاحيون بتكتيك الجبهة الموحدة، لقد وصفوه كتراجع عن الأممية الشيوعية تارة، وطورا كمناورة. لم يكن هذا العـــداء الذي أبدوه مثيرا للدهشة، إنما المدهش هو الجواب الذي تلقتـــه الأممية من الأحزاب الشيوعية. لقد كان لهذا التكتيك، بالإضافة إلى قيمته الذاتية، أثرا مهما وغير متوقع داخل الأممية، إذ أبرز الحالة الحقيقية للأحزاب الشيوعية عامة ولقيادتها خاصة. كيف يمكن لأحزاب جديدة، لا يزيد عمرها عن السنتين، تشكلت بظروف مختلفة، كيف يمكنها أن تكون فروعا في الأممية، وأندادا لحزب كبير تتعاطى معه على أساس برنامج مشترك ونشاط مشابه؟

لقد تم الإصرار على الطابع المميز للأممية الجديــدة: لقد كان هذا الحزب ممركزا بشدة، يناقش مشاكله بمؤتمرات تعقد سنويـا، حيث كانت النقاشات مطولة وحرة، ولكن القرارات المتخذة تلزم الجميع. لا يبدو هذا الوضع مشابها للأممية الثانية حيث تبقــــــى حرية التحرك متروكة لكل حزب. لعل الازدراء الذي تم إظهاره حيال هذه الأممية يحمل على الاعتقاد أن كل الذين إلى الأممية الثالثة كانوا متفقين حول هذا المفهوم الأساسي. لكن يظهر أن تكتيـــك الجبهة الموحدة، منذ الوقت الذي عرض فيه على الأحزاب الشيوعية أن الأمر لم يكن كذلك.

أثار هذا التكتيك ردات فعل مختلفة، راوحت بين الموافقة المتحفظة – لم يكن التكتيك مناسبا – والرفض المطلـــــق. وقيـــل عنه أنه تراجع وتنازل من قبل الشيوعية. تطور هذا التكتيك في ألمانيـا حيث كان للحزب قاعدة عمالية عريضة، من دون عقبات، عند ممارسته للمرة الأولى، وكانت ألمانيا لا توال تحت تأثير السبارتاكية وأثير روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت وخصوصا في برلين حيث لاقى معارضة صاخبة ترددت أصداؤها في الخارج.

بيد أن المعارضة الأكثر طرافة التي أثيرت في وجه الجبهة الموحدة كانت تلك التي أثارها الحزب الشيوعي الإيطالي، ولا عجب فإن تشكيل الحزب نفسه لا يخلو من الطرافة أيضا، إذ يختلف هذا التشكيل عنه في الأحزاب الشيوعية الأخرى ولا يندرج في النموذج نفسه. لم يكن في قيادته أحم من قدامى الحزب الاشتراكـــــــي، وكانت تخضع بجملها للبورديغيين (نسبة إلى بورديغا) في كل الأحوال. لقد ترك بورديعا ومن كان حوله من الشيوعيين بصماتهم في برنامج الحزب ونشاطه، وكان هذا الأثر متحررا كلية من كل اتجاه نحو اليمين أو الوسط. كانوا بأكثريتهم من العناصر الشابة والمثقفة والنشيطة ولكنهم كانوا على هامش الحركة العماليـة أو فوقها، وكان الحزب الشيوعي، بالنسبة إليهم، كجند الصـــــــدام للثورة وقيادته تلعب دور هيئة الأركان العليا. وهكذا اعتقــــــــــدوا أن باستطاعتهم تلبية دعوة الأممية. شعار جبهة موحــــدة في النقابات؟ نحن لا نقف ضده، يمكن أن تقام اتصالات بين النقابيين الشيوعيين وبين الإصلاحيين بقصد العمل المشترك من أجل مطالبهم. لكن الأمر لا يطرح بالنسبة للحزب إذ يجب أن يحافظ على نقائه الثوري ولا يمكن أن يعرض نفسه للتعامل مع القادة الاشتراكيين الذين تخلى عنهم.

بلغ الإضراب أعلى الدرجات داخل الحزب الشيوعـــــي الفرنسي ووضعت الجبهة الموحدة الحزب بموضع الأزمــة. لقد أعلنت أكثرية قيادته رفضه، ووجدت هنا مناسبة للتوجه بصراحة ضد قيادة الأممية الشيوعية. لقد ظهر الحزب، الأقل شيوعيــــــــة بكل تأكيد، متشددا إلى أقصى حد، ويمكن لدراسة تشكيل قيادتــــــه أن توضح بكل بساطة هذا التناقض. إنها تضم بعض الصحافيين والنواب الذين تركوا الحزب القديم، وكانوا قليلي التعلق بالحركة النقابية وكانت اللفظية طاغية عند الأكثر صدقا بينهم، وكانت الأكثرية الساحقة من أعضاء هذه القيادة تتحمل بصعوبة انتقادات الأممية الشيوعية. لقد اعتقدوا أن هذا التكتيك سيسمح لهم بالثـــــأر في نقاش حيث يستطيعوا هم نضح «انتهازية» قيادة الأمميـة الشيوعية وعدم تجانسها، لقد كانت صحافة الحزب تزخر بالانتقادات من كل نوع، الساخرة والناقمة، وذلك من دون أن تعرض بنزاهة مضمون هذا التكتيك. اجتمعت اللجنة القيادية لمناقشة الأمـــر وخرجت بنتيجة لا تتوقف عن حد الإعلان عن «عدم إمكانية» تطبيق هذا التكتيك، وإنما «قدرت» أنه «يمثل أخطارا يجب أن تؤخــــذ حيالها بعض الضمانات». ودعا، إثر ذلك، أمين عام الحـــزب فروسار، إلى المجلس الاستثنائي لأمناء المقاطعات العامين حيـــث انه كان متأكدا من الموافقة التي سوف يلقاها. وهكذا عقد المجلس في باريس في 22 كانون الثاني سنة 1922.

كان الحزب لا يخلو من اتجاه يساري، يضم خصوصا الملتزمين الجدد المخلصين بصدق للثورة الروسية، لقد كان هذا الاتجـاه هو الذي فرض التجانس في الأممية الشيوعية وكان مؤهلا دائما للموافقة على قراراتها، ولكنه قام بهذا العمل، هذه المرة، من دون حماس يذكر. بالرغم من ذلك توجه أحدهم إلى المنصة ليدافع عن التكتيك، بعد أن أدانه أمناء المقاطعات العامون (وعددهم 46) ووافق عليه (12) بفتور، وقام بمداخلة اعتبرت مأساة حقيقية، فهو الذي أطلــــــق، في هذه المناسبة، العبارة التي أصبحت شهيرة فيما بعد «نتف ريش الطيور». لقد أشار أن هذا ما هو إلاّ مناورة ذكيــــة تسمح بتجديد الأحزاب الاشتراكية والإصلاحية من أعضائها عضوا اثر عضو كريش الدجاج. ويمكن أن نتصور بعدها الرج والمرج اللذين سادا في «الخم» بين فرح المتفرجين العظيم ووجوم أصدقاء «ناتف الريش».

أمام هذه البلبلة التي أثارها تعثر الفهم، تم فرض نقاش عام. كانت قيادة الأممية الشيوعية قد قررت جمع لجنة تنفيذية موسعة منذ البدء. كانت هذه اللجان الموسعة، بعد أن تحولت إلى لجـــــــــان دائمة عمليا، بمثابة مؤتمرات مصغرة. التحقت البعثـــات التي أرسلتها الفروع بأعضاء اللجنة التنفيذية الدائمين. وهكذا أصبــــح عدد المشاركين يربو على المئة. ثم عقد الاجتماع من 21 شباط إلــى 4 آذار سنة 1922 في الكرملين، في قاعة ميتروفانوفسكـــي حيث عقد المؤتمر الأول في آذار 1919 وتم إقرار الأممية الثالثة. لقــد كانت السجالات مفيدة للغاية إذ أن الإطار العام والسمة المميزة تفترض الالتزام بالرصانة، يجب على المرء أن يكون دقيقا ومحددا وكفوءا لتقديم البراهين الجدية لتبرير المواقف التي يتخذها والتفسيرات التي يعطيها وخصوصا الاتهامات التي يطلقها. لم يلبث الفرنسيون، الذين كانوا عدوانيين بشكل استثنائي، أن يتبنوا هذا الأمر. أمّا الذين كانوا أكثر اعتدالا بينهم فلقد دعموا المقولة التالية: إن تكتيك الجبهة الموحدة هو بدون هدف بالنسبة لفرنسا. لقد أكدوا أن «المنشقين» - الذين خرجوا من الحزب اثر التصويت على الالتزام بالأممية الثالثة – لم يكونوا إلاّ أقلية، لم ينجحوا إلاّ بجلب أكثرية النواب إلى جانبهم ولم يكونوا يطبعون إلاّ أعدادا قليلة من صحيفتهم، «أمّا نحن فكنا نؤثر في الطبقة العاملة كلها بصحيفتنا «الإنسانية» وكان الأمر كذلك بالنسبة للنقابات. كان الانشقاق، الذي أراده الزعمـاء الاصلاحيون، بالنسبة إليهم مضرا.
هناك بعض الصحة في هذه التأكيدات لكن الصورة تبدو في كل الأحوال أكثر تفاؤلا. لقد أظهر الانشقاق النقابي، بشكل لا لبـــــس فيه، أن «جوهو» وجماعته لم يتوصلوا إلى قيادة الاتحاد العـــام للعمل إلاّ بفضل المناورات والتزوير. لم يبق معهم إلاّ عددا محدودا ولكن لا يمكن التغاضي عنه. هنا تبدو وحدة الجبهة البروليتاريـــة أكثر ضرورة لأنها تعيد العمال إلى النقابة وإلى العمل النقابي بعد أن استبد بهم اليأس وخرجوا من التنظيمات النقابية بأعداد كبيرة ناهزت المليــــــون عاملا.

أمّا الذين تشنجوا في موقفهم فلقد شكلوا مجموعة مختلطة ودافعوا عن يسارية متطرفة ولكن لفظيا. انزعجوا كثيرا من تروتسكي – المكلف بتقديم التقرير – عندما أظهر، بالاستنـــــــــاد إلى المقالات التي كتبوها في باريس ولم تكن لديهم الشجاعة لجلبها معهم إلى موسكو، أن التصلب اليساري ليس إلاّ رغبة الانشقاق – إرادية كانت أم لا – عن الحركة العمالية وتفسيرا مخطئا للتكتيك المطروح وعداء واضحا للأممية الشيوعية.

أبدى الإيطاليون مساعدة للفرنسيين لم يكونوا يأملون في الحصول عليها. كان موقف الإيطالييــــــــن، كما رأينا، مختلفــــــا. لم يتذمروا أبدا من «ديكتاتورية موسكو». كان توغلياتــــــي – المدعو حينذاك باركولي – يترأس البعثة، وكان قدر كـــاف من الثقافة بحيث استطاع مجابهة الانتقادات التي انهالت عليــــــــه من كل جانب. تصدى لوناتشارسكي لتوغلياتي، وكان الأول يتقن الإيطالية وبوسعه التحدث مع الإيطاليين بسهولة، فما كان من توغلياتي، أخيرا، إلاّ أن وقع على تصريح مشترك مع الفرنسيين.

يمكن الاستنتاج من القرار الذي اتخذته اللجنة أن النقاشات أظهرت أن تكتيك الجبهة الموحدة لا يعني مطلقا إضعافا لمقاومة الإصلاح إنما يتمم التكتيك المتخذ في المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية ويطوره ويعطي ممارسة دقيقة لشعار «التوجه إلى الجماهير»، وكان مكتب اللجنة مكلفا، تؤازره البعثات الأخرى، بإيقاف «الإجراءات العملية التي يجب اتخاذها في كل بلد وبدون تحديد مهلة لها، هذه الإجراءات التي تساعد على ممارسة التكتيك الذي يجب تكييفه حسب الوضع في بلد».

أعلنت الأقلية، بعد انضمام الاسبان إلى الفرنسيين والإيطاليين (لا يمكن للإسبان الادعاء، كما فعل الفرنسيون، أنهم لا يواجهـــون إلاّ حزبا اشتراكيا ونقابات صورية)، أعلنت بعد اظطرارهـــا للرضوخ للأكثرية «يمكنكم أن تتأكدوا، في هذه المناسبة كما في كل مناسبة أخرى، إننا سوف نبقى منضبطين وأمناء لقرارات الأممية التاليـــــــة».

لم تتوقف اللجنة التنفيذية عند حد نقاش مسالة التكتيك فقـــط إذ أن جدول أعمالها ينص على قضايا أخرى من بينها مسألة داخليــة في الحزب الشيوعي الروسي. لقد تم الإفصاح عن رسالة «المعارضة العمالية» الموقعة من 22 عضوا. لقد ورد في هذه الرسالة أنهــــــم إذا قرروا التوجه إلى اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية بالتحديـــد فذلك لأن مسألة الجبهة الموحدة ستناقش فيها، وأضافوا: «إننا، كمناصرين للجبهة الموحدة كما فسرتها أطروحات الأممية الشيوعية، نطرح أمامكم برغبة صادقة مسألة وضع حد للعراقيل الموضوعة أمام وحدة هذه الجبهة داخل الحزب الشيوعي الروســــــي... ان القوى البيروقراطية في الحزب المتحالفة مع النقابات تسرف في سلطتها وتتجاهل قرارات مؤتمرات مؤتمرنا الداعية إلى تطبيق مبادئ الديموقراطية العمالية. لقد تم منع بعض مناصرينا، في النقابات وحتى داخل المؤتمرات، من حقهم في التعبير عن إرادتهم في انتخابات اللجنة المركزية... تؤدي مثل هذه الطرق إلى الاحتراف والعبوديـــــــة».

بعثت هذه الرسالة إلى لجنة من بين أعضائها كلارا زتكين وكاشين وتيراسيني. ونص القرار المتخذ بالإجماع حـول هذه الرسالة: «لا يمكن الموافقة على اعتراضات المقدمة من الرفاق، فالمخاطر التي يلحظوها لم تكن مطلقا مهملة من قبل قيادة الحزب الشيوعي الروسي، والطريقة الفضلى لمحاربتها تكمن في التحرك داخل الحزب كمناضلين منضبطين». وكان كاشين هو المكلــف بوضع التقرير أمام اللجنة. لم يكن هذا الخيار موفقا إذ أنه لا يمكن لأحد غيره أن أن يملك المواصفات لتقريع قدامى الثوريين الروسيين وإعطاء النصائح لهم. لقد كان مشهورا، منذ بدء الحـــــــــرب العالمية الأولى، لعلاقته بموسوليني وشوفينيته وانتقاداته للبلشفية وإمكانيته الخارقة في السير مع التيار. لقد رأى شيابنيكوف، الذي عاش وناضل في فرنسا، في هذا الاختيار تحقيرا جديدا. لقد قال لي بحدة عند تركه اللجنة «لا يمكنكم أن تجدوا، أحســــن من هذه، الرداءة لإدانتنا».
ضاعفت الحرب الإمبريالية التي استمرت ثلاث سنوات والحـرب الأهلية التي استمرت ثلاث سنوات أخــــــــــرى، ضاعفــت المشاكل المتراكمة. كانت روسيا السوفياتية تصل بالجهد إلى بناء البلاد المهدمة وتجميع الموارد لتنظيم اقتصاد السلام عندما تنقض عليها كارثة جديدة. لقد أفسدت موجة من الجفاف الإنتاج بأكمله إذ أمتدت من أوائل الربيع واستمرت خلال فصل الصيف كلـــه. لقد أحرقت الشمس كل المزروعات. لقد كان هذا كارثة بعد ست سنوات من عملية الهدم وامتدت المجاعة إلى مقاطعات بأكملها. ولم يكن الجفاف شيئا جديدا في روسيا، لقد اجتاحها عدة مرات خلال النظام القيصري وكانت المرة الأخيرة سنة 1891. وبالرغم من ذلك لم يمتنع أعداء السوفيات من جعل البلاشفة مسؤوليــن عن هذه الكارثة وهذا ما أعطاهم مبررا جديدا ليصموا آذانهم عن النـداءات التي أطلقتها الجمهورية السوفياتية في كل العالم مستنجدة بكل الذين ما زالوا يتمسكون بمعنى التضامن الانساني. لقد وجد الذين اعتمدوا على التدخل المسلح لإسقاط النظام في هذه المجاعة حليفا متأخرا يمكن أن يثأر لهم. حتى الذين لم يعميهم الحقد كانوا ينتظرون بفارغ الصبر اللحظة التي يضطر فيها السوفيات للرضوخ لشروط الغرب، وكان يتم الحديث عن «روسيا المحتضرة». وهذا ما فعلته «أوروبا الجديدة» عندما نشرت مقالا كبيرا تحت عنوان «الغرب في مواجهة روسيا المحتضرة» حيث أكد الكاتب على رغبة الغرب في قهر الويلات، وتابع متحدثا عن وجوب وضع تخطيط إجمالي. يذهب الغرب إلى روسيا، كما يذهب المستكشف إلى أقصى المستعمرات، مع مواد طرق الحديد وتجهيزات صحية. وعندها فقط يصبح عمله مستمرا. يجب أن تفرض الضمانات بكل تأكيد».

وهذا يعني بكل وضوح استعمار روسيــــا. لكن هؤلاء كانوا على عجلة من أمرهم. لقد تن اغتيال روسيا بكل وحشية، ولكنهـــــا لم تصل إلى مرحلة الاحتضار. لقد مرت روسيا بتجارب جد قاسية، ولكن هذه الأخيرة كانت أكثر إيلاما إذ أنها فجعت بأفلاذ أكبادها.



--------------------------------------------------------------------------------

2- الأزمـــة الاقتصاديـــة العالميـــة. لويد جــــورج يقترح مؤتمر «كان»


كان لروسيا السوفياتية مشاكلها الداخلية. وكان من الطبيعـــــي أن تنشأ الأممية الشيوعية وتبنى مع بعض المشاكل. لكن خلال السنوات الأولى من السلام، لم تجد القوى الكبرى في العالم أمامها طريقا واحدا فبعد فترة قصيرة من التقدم المصطنع نشأت أزمة اقتصادية حادة بهذا القدر أو ذاك حسب البلدان. لقد وفرت أوروبا الجديدة كما خرجت بعد المعاهدات لفرنسا الإمكانية لتصبح القوة الكبرى في القارة. كما سمح لها امتلاكها مناجم الحديد في اللوريــن أن تفرض شروطها على ألمانيا لتحصل على الفحم الضروري من الروهر، ضمنت المعاهدة الصغيرة بين تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا ورومانيا وبولونيا أمانها في أوروبا الوسطى.
لكن البرجوازية الفرنسية لم تكن بحجم يسمح لها أن تقــــوم بدور كهذا، أمّا بسبب خسارتها في الحرب – مليون ونصف من القتلى – وضعفها، أمّا بسبب عدم تملكها القدرة والنشاط من أجل إدارة المشاريع الضخمة. لقد كانت تحتقر المخططات الواسعـة لتتقوقع في فكرة الثأر من ألمانيا. لم يكن بإمكان وطنييها المحترفين التفكير بغير عبارات المطالب الاقليمية: الألزاس واللورين وإقليم السار الضفة اليسرى من نهر الرين حيث حاولوا عبثا إقامة «كسيلينغ» [31]. وكان همهم الأول «على ألمانيا أن تدفع الثمن».

تبدو بعض التصريحات، التي أعطتها شخصيات مختلفة إلى روبير دوجوفونيل، مفيدة، صرح راتونو: «لا يريد الفرنسيــون نظاما كهذا (الاشتراك مع ألمانيا في مشاريع كبيرة مشتركة). إنهم حانوتيون يعيشون في خوف تحقيق مشروع كبير حيث يبدو أن أصحاب المشروع يكسبون المال» (سياسة اليوم ص 219). وصرح بارتيس رئيس رابطة الوطنيين: «لقد أرادوا الضغط على تطور صناعتنا وتوجيه أمثل شيء من نشاطنا نحو التوسع الاقتصادي وهكذا نخطأ سعادتنا» (ص 68). وصرح تارديو «إن هذه المسائل هي قبل كل شيء أخلاقية». (ص 82).

لقد أفشلت هذه السياسة المؤتمرات المتكررة التي حاول الحلفاء خلال حل المشاكل لما بعد الحرب، ووجدت فرنسا نفسهـــــــا معزولة ومتعارضة مع أميركا التي أخذت تذكرها بديونها، مع إنكلترا القلقة لنشوء تبادلات تجارية ضخمة ضرورية لاقتصادها، ومع إيطاليا التي تزاحمها على سوريا التي أوكل الحلفاء شأنها لإنكلترا، في أيار 1915، كثمن لدخولها الحرب إلى جانبهم.

لقد عيل صبر إنكلترا المهددة بجيش كبير من العاطلين عن العمل، فدعت إلى عقد مؤتمر تدعي إليه كل الأمم لدراسة مسألة إعادة بناء الاقتصاد الأوروبي. تم اجتماع تحضيري في «كان». وقع حادث مفاجئ في نهايته: لقد طلب من بريان – كان رئيسا للمجلس حينذاك – العودة إلى باريس وأرغم على الاستقالة. وكان ميلليران وبوانكريه قد أعدا، في غيابه، مؤامرة ضده. وعاد بوانكريه إلى السلطة وأخذ حقيبة الخارجية وجعل بارتو نائب رئيس للمجلـــس. كان بريان قد حقق عملا يتطلب القوة خلال حكمه مع الجبهة الوطنية. أراد بوانكريه أن يتم وضع شروط للقبول بروسيا كعضو في المؤتمر. وهنا أيضا وضع في الدرجة الأولى مسألة المال: يجب على روسيا أن تدفع مثل ألمانيا، أن تدفع الديون عن النظام القديم، أن تدفع ديون الحرب، أن تدفع المبالغ التي صرفتها فرنسا عندما دعمت المشاريع المضادة للثورة ودعم جنرالاتها البائسين. وهذا ما دفع صحيفة «الديلي نيوز» الليبرالية الانكليزية أن تسال بونكريــــــــه عن استعداده للطلب من الانكليز والأميركان الضمانات عينها التي يفرضها على روسيا السوفياتية. في نهاية مؤتمر «كان» دعيت روسيا السوفياتية رسميا للاشتراك في المؤتمر العالمي الذي سوف يعقد في شهر آذار في «جين» أشار راديك إلى مغزى هــــــذا التغيير، في سياسة القوى الكبرى حيال روسيا، وأهميته: لقد اضطرت الحكومات البرجوازية لتقبل روسيا السوفياتية وللتعامل معها بعد أن عجزت عن قهرها بالسلاح». وهذا ما اضطـــرت صحيفة «الوقت» إلى الاعتراف به عندما كتبت هذه الجملة الحزينة: «بالرغم من جرائمه، يدافع النظام عن استقلال الأمة ويتحـــــــــــــدث باسم الشعب الروسي».

كان من الممكن، بعد الحرب، في أوائل سنة 1919 أن يعقد مؤتمر عام يشترك فيه البلاشفة لو انتصرت أفكار الرئيس ويلسون. لقد لاقت اقتراحاته معارضة من بيشون، وزير خارجية كليمانصو، الذي كان يحاول التدخل عسكريا لقلب البلاشفة بدلا من أن يعقد مؤتمرا معهم. حاول ويلسون أن يفهم منافسيه أنه لا يمكن قهر البلاشفة بقوة السلاح. ولقد وجد آذانا صاغية عند لويد جـــــورج الذي كان يخشى تحركا ثوريا في إنكلترا، أعلن هذا الأخير، لينقذ المظاهر، أنه يجب ألاّ يوضع البلاشفة على قدم المساواة مع أعضاء المؤتمر الآخرين، ولكن يجب دعوتهم «وفقا لتقاليد الدعوات التي كانت توجهها الإمبراطورية الرومانية لرؤساء الدول المجاورة والخاضعين لها». كان يجب أن يعقد المؤتمر في بريكيبو، إحدى جزر بحر مرمرة. ولكنه لم يعقد، لأن من يسمون بحكام روسيا غير البلاشفة رفضوا اللقاء بهم، وكان يعوز كليمنصو الوقت حتى يتم التخلي عن فكرة المؤتمر بحد ذاتها.



--------------------------------------------------------------------------------

3- مندوبو الأمميات الثلاث في برلين


هكذا دفعت صعوبات الوضع الداخلي الدول الكبرى لمحاولة إيجاد مخرج لمشكلة إعادة بناء الاقتصاد الأوروبي وحتى العالمي. ولكن ألا يمكن للمنظمات العمالية أن تقول شيئا، أتترك، مــــرة أخرى، ممثلي القوى الرأسمالية يتحركون بمفردهم؟ في نهاية مؤتمراتهم لم يتوصلوا إلاّ لزعزعة الاقتصاد الأوروبي، وسوف لا يحاولون إعادة بنائه على حساب الطبقة العاملة عندما يدركون فشلهـم؟ أخذ الاتحاد العالمي للأحزاب الاشتراكية، المدعو الأممية الثانية والنصف لأنه يقع بين الثانية والثالثة، أخذ مبادرة الدعوة لمؤتمر يجمع ممثلي الأمميات الثلاثة يعقد في الوقت نفسه الذي يتابع فيه مؤتمر الدول الكبرى أعماله (لقد اقترح هذه الفكرة دانــوا ستينينغ) ويضع برنامج عمل خاص من أجل إعادة بناء أوروبا.

عقد « الاتحاد العالمي للأحزاب الاشتراكية» مؤتمره الأول في فيينا من 22 إلى 27 شباط بعد عدة اجتماعات في برنــــــاد وانسبرغ. يستند برنامجه على «نضال الطبقات الثورية»، ويدعو إلى ضرورة الدفاع عن روسيا السوفياتية والالتزام بعمل عام ضد التجاوزات الإمبريالية للوفاق «لا يمكن للبروليتاريا العالمية الوصول إلى هذا الهدف إلاّ إذا ما اتحدت على قاعدة المبادئ الاشتراكية الثورية وإرادة لا تتزعزع في مواصلة النضال، وجمعت قواها كلها في تنظيم عالمي قوي».

لا يمكن أن تكون الأممية الثالثة هذه المنظمة «لأنها تدعي إخضاع الأحزاب كلها للجنة قوية واحدة»، وكذلك أيضــا «ما يسمـــى بالأممية الثانية» لأنها «عاجزة عن جمع قوى البروليتاريا الحية»، ولأنها «منذ الآن وصاعدا تشكل عثرة في طريق الوحدة الاشتراكية العالمية».

كان الاتحاد يشتمل، عند تأسيسه، على الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية في كل من النمسا ويوغسلافيا وليتوانيا وروسيا (المنشفية)، وعلى المستقلين في ألمانيا، وعلى الأحزاب الاشتراكية في كل من فرنسا والولايات المتحدة، وعلى حزب العمل المستقل في بريطانيا العظمى والحزب الاشتراكي الألماني في تشيكوسلوفاكيا وعلى قسم من الحزب الاشتراكي السويسري والمنظمة الاشتراكية اليهودية «بولي-زيون». كان الاتحاد يؤكد، على عدم كونــــــه أممية، ولكنه «اتحاد سيصبح وسيلة لتشكيل أممية».

كانت الأحزاب الاشتراكية التي ضمها هذا الاتحاد هي تلك الأحزاب التي رفضت الانضمام إلى الأممية الثانية، وكانت تأمل في عدم الذهاب إلى موسكو ولكنها ترفض في الوقت نفسه اللقاء مع أحزاب نوسك وشيدمان وفاندرفلت وهنديرسون. كانوا يوجهــون إليهم الانتقادات بحدة. وبالرغم من ذلك كانوا يتحالفون معهم، في نهاية الأمر، عندما تطرح مسألة قرار مهم. كانوا يتكلمون كثيرا ويعملون قليلا: هذه هي المأساة الشخصية للزعيم المنتفي ليون مارتوف. قررت اللجنة التنفيذية الموسعة، عندما أخذت علمــا بمبادرة أممية فيينا، إرسال بعثة إلى الاجتماع المقترح. وأضافـــت أنها تقترح، من جهتها، بإشراك كل الإتحادات ونقابات الوسط، الوطنية منها والعالمية في هذا المؤتمر: اتحاد النقابات العالمي في أمستردام، اتحاد النقابات العالمية الحمراء، الاتحاد العام للعمل، الاتحاد النقابي الإيطالي، الاتحاد الأميركي للعمل، المنظمات شبه النقابية ولجان المعامل. واقترحت أيضا أن يضاف إلى جــدول الأعمال «التحضير للنضال ضد الحروب الإمبريالية في المستقبل وإعادة بناء المقاطعات المتهدمة وإعادة النظر في معاهدات فرساي الامبريالية. ويجب تطبيق تكتيك الجبهة الموحدة في هذا المجال». وانتهت اللجنة التنفيذية إلى القول بأن إمبرياليي العالم بأسره قـد انتقلوا إلى هجوم منظم ضد الطبقة العاملة في الوقت الـذي «انخفضت فيه الأجور وتمت زيادة ساعات العمل اليومية وتعاظم فيه بؤس العاطلين عن العمل».

لقد تمت الدعوة إلى المؤتمر في الثاني من نيسان في برلين بعد أن وافقت الأممية الثانية على اقتراح اتحاد فيينا.

كان راديك وبوخارين على رأس بعثة الأممية الشيوعيــة ومثل فويوفيتش الأممية الشيوعية للشباب، وكلارا زتكن عن الحزب الشيوعي الألماني، ومثل بورديغا الحزب الشيوعي الإيطالي وفروسار الحزب الشيوعي الفرنسي، وأتى سميرال ممثلا الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي ومثلت أنا بدوري النقابات العالمية الحمراء.
وضع القسم البرلماني في الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني تحت تصرفنا القاعة الكبرى للريشتاغ. جلس المندوبون حول الطاولة بشكل حرف T. جلس فرتز ادلر الذي كان يترأس الاجتماع مع مندوبي اتحاد فيينا وأحاط به من الجانب الأول مندوبو الأممية الثانية ومن الجانب الثاني مندوبو الأممية الثالثة. القى فريتز آدلر الخطاب الافتتاحي المتفائل ثم تبعته كلارا زتكن وأعلنت ما كان يجب أن تعلنه في فتح باب النقاش في المؤتمر، لقد كان نقدا للقرار الذي اتخذنه اللجنة التنفيذية.

كان للأممية الثانية جيوشها أيضا: الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني، حزب العمل، حزب العمل البلجيكي، وكان من زعمائها فندرفلت، دوبروكار، هيزمن (الأمين العام للأممية قبل 1914) وتكلم رامزي ماك دونالد أولا باسمه الشخصــــي. كانت لهجة الخطـــاب معتــــدلة، وبــــدون أن تكــــون مشجعـــــة لأنه أراد أن يضع شروطا لحضور الأممية الشيوعية ولمتابعة أعمالهــا. لقد قال يجب على الأممية الشيوعية أن تقلع عن النقـــــــد الذي توجهه لزعماء أحزاب الأممية الثانية، وأن تتخلى عن ممارســة عملية إنشاء نوايا لها، ويجب أخيرا أن يطلق ســـــــــراح الاشتراكيين المعتقلين في روسيا. وبعد ذلك تبعه ويلز، الــــذي أراد أن يظهر بمظهر قائد الحركة الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، وفندرفت اللذان تكلما بالاتجاه نفسه الذي تحدث فيه ماك دونالد، وعارض فندلفلت، علاوة على ذلك، إدخال إعادة النظر بمعاهدة فرساي في جدول الأعمال: «إننا نتعرض لخطر الوقوع في لعبة شين» [32].

أشار راديك إلى الميزة المستهجنة لمثل هذه الإدعاءات. لقد تجاوبنا مع دعوة فيينا، إننا لا نضع شروطا على أحد، إننا لا نهتـــم إلاّ بتنظيم الدفاع عن العمال ضد الهجمة الإمبريالية، ولكن «إذا أردتم أن يكون المؤتمر للنقاش والسجال فنحن مستعدون لذلك، ولكن يصبح هذا اللقاء بدون هدف».

لم تكن هذه النقاشات وفظاظاتها شيئا جديدا، فلقد الفتهــــــا أحزاب الأممية الثانية، في ألمانيا ضد برينشتاين وأتباعه التحريفيين. في فرنسا، خلال عملية دريفوس ومن بعدها عند دخول ميللران الوزارة إذا كال أتباع «كاسد» الشتائم لخصومهم، ففي المؤتمـــر الذي عقد عشية الحرب العالمية الأولى، اتهم كاســد جوريس «بالخيانة العظمى للإشتراكية» لنه وافق مع كيرهاردي – فايـــان على إعلان الإضراب العام استنكارا للحرب. أمّا بالنسبة للتنويــه، فلقد مارسها الاصلاحيون بدون تردد عندما رأوا ضرورة لذلك وللدفاع عن سياستهم، وفعلوا ذلك من دون أن يصرحوا به.

عندما رفع الرئيس الجلسة استطعنا أن نرى سيراتي يتحدث بحيوية مع أوتوباور. لقد كان سيراتي منزعجا في الحزب الاشتراكي الإيطالي وقد تم قص جناحه اليساري. كان ينظر دائما إلى موسكو، لقد قيل عن تجمعه الصغير أنه الأممية الثانية وثلاثة أرباع. سمعنا باور يقول لسيراتي وبصوت عال، عندما هما بالافتراق: «إننــي لست موافقا معك» وقالها بلهجة لا تقبل الرد. خلال الترجمة غامر أحد الشيوخ بالتقدم إلى ناحيتنا. إنه كاوتسكي. لقد اندهش الذيــــــــن لم يكونوا قد شاهدوه سابقا، لم يكونوا يتمثلون «زعيم» نيوزايـت لفترة ما قبل 1914والمدافع عن الأرثوذكسية، لم يكونوا يتمثلونــــه هكـــــذا.

كتب راديك وحده الجواب النهائي لبعثتنا على المقترحات التي عرضت في المؤتمر. كان الاتفاق، كما يبدو، يسيطر على بعثتنـــا، لقد جمعنا راديك ليقرأ علينا نص الجواب قبل ارساله إلى فريتز ادلر. فوجئنا، عند القراءة، أننا نلتزم بمسالة تفوق قدرتنا. كنا أحــــــرارا في القرار حول الشطرين الأولين (نقد الأممية الثانية، التخلي عن سياسة التنوية) كممثلين للجنة التنفيذية في الأممية الشيوعية، ولكن بالنسبة للشرط الثالث المتعلق بمسألة السجناء الاشتراكيين فإن الحكومة السوفياتية وحدها هي التي تملك حق التقريـــــر في مصيرهم. وهذا ما أشار إليه بوخارين، ولقد دعمت أنا شخصيا بوخارين في هذه الملاحظات، لكن راديك خاطب بوخارين بكل قساوة وقال له، بعد أن قذف بالملف على الطاولة: تكلف أنـت بالجواب بما أنك تنتقد ما قمت أنا به».

كما كان من السهل التوقع، عاتبنا لينين عند عودتنا إلـــى موسكو. ولقد قيم المؤتمر ونتائجه بمقاله تحت عنوان «لقد دفعنــا الثمن غاليا». «ماذا يمكن أن نستنتج؟ في بادئ الأمر يمكننا أن نستنتج أن الرفاق راديك وبوخارين وسائر أعضاء البعثة قد أخطأوا. أيعني ذلك أنه يجب علينا تمزيق الاتفاق الذي وقعوه؟ كلا، لأن ذلك هو نتيجة خاطئة. يمكننا أن نستخلص أن الديبلوماسيين البرجوازيين كانوا، هذه المرة، أكثر مهارة من دبلوماسيينا. لم يكن خطأ راديك وبوخارين والآخرين كبيرا، إنه خطأ صغير بالقدر الذي نستطيع فيه منع أعداء روسيا السوفياتية من تنظيم مؤامراتهم بنجاح. إنهـم يعرفون مسبقا، منذ الآن فصاعدا أنهم يستطيعون التصويب على الشيوعيين مع إمكانية لجوء هؤلاء إلى مؤامرات، كمؤتمر برلين، تمنعهم من إعادة التصويب على الامبرياليين».

لقد توصل القرار إلى إمكانية تأسيس مفوضية من تسعة أعضاء – ثلاثة عن كل أممية – تتابع أعمال مؤتمر «جان» وتدعــــــــــو إلى مؤتمر عمالي عالمي. لم يوقع مندوبو الأممية الثانية على هذا القرار إلاّ شكليا، كانوا لا يريدون بأي ثمن مثل هذا المؤتمر، لقد حددوا خيارهم نهائيا: إنهم يريدون التعامل مع البرجوازية. كانوا يناورون لمنع المفوضية من الاجتماع، وبالفعل لقد انتهت هذه المفوضية من دون أن تعيش حقيقة».



--------------------------------------------------------------------------------

4 - جان [33] ورابلو [34]
ارتدى المؤتمر العالمي في «جان»، لمجرد انعقاده، طابعـــا هاما إذ إنها المرة الأولى، بعد الحرب، يمكن فيها لممثلي الأمم جميعا الجلوس حول طاولة واحدة، وانتهى فيها التصفيف بين حلفاء وأعداء. لكن هذا لا يعني أنه سوف يجد الجميع أنفسهم على أرضية واحــدة من التفاهم أو أنهم سوف يحققون الحد الأدنى من الوفاق. لقـــد أشارت العملية السياسية الصغيرة التي كانت سببا في إنهاء الاجتماع التحضيري في «كان»، إشارة إلى أن فرنسا تعتزم التصلب في مواقفها، وهذا ما أظهرها، أمام العام، تلعب دور شيلوك [35] غير المستحب. أظهر بريان تفهما للأحداث وللأوضاع الأوروبية، ويعود ذلك ربما لتربيته الاشتراكية الثورية، وهذا ما كان يفتقده معظــم القادة السياسيين الفرنسيين. لقد اقترح بريان أن تدريس الخطـوات التي تؤدي إلى السلام مع النمسا وألمانيا بشكل ملائم، ووضع، فيما بعد، مشروع اتحاد أوروبي اصطدم بالعراقيل التي وضعهـا الوطنيون المحدودون والذين أثارت فيهم الحرب النعرات الوطنيــــة. إذن كان لبوانكاريه الأسباب الكافية التي تجعله يحذر من بريان. وأرسل بارتو إلى «جان» ليتأكد من ضبط الموقف. وكان بارتــــو هذا قد نشأ في جو سياسي نفسه الذي نشأ فيه بوانكاريـــــــــــــه، وكان عديم الفهم في الاقتصاد مثله، ومتعصبا ضد الألمان، ويكن الحقد عينه لروسيا السوفياتية.

ظهر منذ البدء لمختلف المشاركين في المؤتمر أنهم أمام فرنسا الدولة التي تشكل حجر عثرة أمام أي فهم صحيح للاقتصاد الأوروبي. بالنسبة لبريطانيا، كانت، أكثر من أي وقت مضــى، بحاجة ماسة إلى إعادة التبادل التجاري. لقد خرجت من الحـرب، وهي أيضا، منهكة، وكانت ثمار النصر مرة جدا، واستطاعـــــــت مع الحلفاء أن تنزل الهزيمة بعدوتها القارية، ولكنها الآن أمـــام أميركا التي تنافسها على دور الحكم الذي ترغب فيه، والذي طالما مارسته في أوروبا. ولكنها أظهرت تفهما للحقيقة وكان سياسيوها أكثر استعدادا للتكيف مع الظروف والأوضاع المتغيرة. أمّا بالنسبة لايطاليا فإنها كانت تدعم مساعي الوفاق نظرا لعدم تمكنها من إيجاد فرص العمل لقسم كبير من الأيدي العاملة عندها. لكن لا شــــيء ينفع أمام التصلب الفرنسي. لقد فرضت فرنسا على روسيــــــا شروطا تعسفية تضارع تلك التي تم فرضها على ألمانيا في معاهدة فرساي. لقد كانت فرنسا تعتقد أن روسيا منهكة لدرجة أنها سوف تضطر معها للقبول بمثل هذه الشروط. لكن النتيجة كانت مغايــرة لهذه التوقعات: توصلت روسيا السوفياتية وألمانيا إلى عقد اتفاقية رابللــــــو.

غضب الشوفينيون الفرنسيون إذ أن هزيمتهم كانت نكراء، وكذلك أيضا اغتاظ ممثلو الأمم الأخرى من الموقف العنيد والأحمق الذي أخذته فرنسا ومنع التوصل إلى حد أدنى من الاتفاق. ذكر راديـــــــــــــــــك، بعدهــــا مارتـــــو (الــــــــــذي وضع كتابــــا عن ميرابــــو) بطريقـــــــــة لا تخلــــــو من الخبث بعبــــــــارة لخطيب الجمعية التأسيسية «: لا تلـــــــزم المعاهــــــــدات التي يوقعها الطغاة سيادة الشعب».

شجبت أميركا تصرفات نيلسون، لم تكن تريد الدخــول في عصبة الأمم، ولكنها كانت تتابع عن كثب القضايا الأوروبية، وسياســة دول أوروبا. كانت تتابع باهتمام أكثر الأحداث المتعلقة بالدول المدينة لها، ولم تلبث أن أظهرت استياءها من فرنسا. طلب الشيخ الأميركي ماك كوميك، في أوائل كانون الثاني سنة 1922، «طلب من وزير الخارجية أن يبلغ مجلس الشيوخ عن مصاريف الدول الأوروبية التي هي مدينة بالمال لأميركا وعن أسباب عجزها الدائم، وخصوصا الأموال التي ترصدها هذه الدول للتسلـــح، وما هي الفائدة السنوية التي يجب أن تدفعها كل من الدول المدينــــــــة إلى الولايات المتحدة». وأضاف: «إذا كانت السياسة الفرنسيــــــــة قد عزلت فرنسا عن حلفائها الأوروبيين خلال الأربعة عشر شهرا الماضية، فإن هذه السياسة ذاتها قد أدهشت الشعب الأميركــــــي خلال الأسابيع الماضية».

لقد كان الشيوعيون يأملون أن مؤتمر «جان» سوف يساعــد على تشكيل جبهة عمالية موحدة، ويستطيع أن يحــــــــــرك المنظمات العمالية والاشتراكية التي تدعم المندوبين السوفيات في هذا المؤتمر، وذلك بطرح الأسس الصلبة لإعادة بناء الاقتصاد الأوروبي، لكن شيئا من هذا لم يتحقق لقد تابعت الطبقة العاملة المؤتمر كمشاهدة فقط. في فرنسا، صعد الشيوعيون، أعداء الجبهة الموحدة، حملتهم ضد الأممية الشيوعية، واستغلوا صفاء كـلارا زتكين لتوريطها بجماعتهم. كل ذلك بعد أن التزموا بمقررات اللجنة التنفيذية. احتجت كلارا زتكــن، المناضلة القديمة على هذه التصرفات، لكن رسالتها التي نشرت في «الإنسانية» كانت مناسبة لتجديد الهجوم ضد الأممية الشيوعية.

عقدت الأممية النقابية الهولندية، في الوقت نفسه، اجتماعــــــا في روما، اكتفت خلاله بالتظاهر اللفظي وأقرت توصية تدعو إلى الإضراب العام ضد الحرب.



--------------------------------------------------------------------------------

5- محاكمة الاشتراكيين-الثوريين


لقد تم البدء في محاكمة الاشتراكيين الثوريين في 23 أيار في موسكو. أبلغت كلارا زتكن فريتز ادلر موعد الافتتاح في 8 أيار باسم بعثة الأممية الشيوعية، بالعبارات التالية:

«أبلغكم باسم بعثتنا ما يلي:
1- لقد تم قبول هيئة الدفاع التي ذكرتموها في رسالتكــــــــم في محاكمة الثوريين الاشتراكيين، وكذلك أيضا، ثم قبول الاشتراكيين-الثوريين الثلاثة الذين أبلغتم عنهم. سوف تعمل الحكومة السوفياتية كل ما في وسعها لتسهل دخولهم إلى روسيا. يمكن للمسافرين أن يحصلوا على تأشيرات الدخول من سفارة روسيا في برلين، وتم تعيين المحاكمة في 23 أيار. إننا نناشدكم إبلاغ المعنيين بالأمر، بأسرع وقت ممكن، بهذا التاريخ.
2- ترجو بعثتنا منكم إبلاغ مندوبي الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية إلى مفوضية التسعة ما يلي: لقد قيدت السلطات الألمانية حرية عمل بعثتنا في ألمانيا. منع وزير داخلية بروسيا الرفيق راديك من الكلام علانية في دوسلدورف بينما سمح لقائد رفلت الذي وقع معاهدة فرساي، وذهب وزير الخارجيــــة إلى ابعد من ذلك عندما منع الرفيق راديك من الذهاب إلى دوسلدورف.
3- صدرت مذكرة توقيف بحق فليكس وولــف، أمين عام بعثتنا، بتهمة المشاركة في أحداث آذار سنة 1921، نحن ننتظر التدخل المباشر لمندوبي الاشتراكية الديموقراطية بكل القوة المطلوبة لوقف هذه الاجراءات. في حال الرفض، سوف تدرس بعثتنا إمكانية نقل اجتماعات المفوضية إلى موسكو حيث يتمتع ممثلو مختلف الاتجاهات بحرية تامة ومتساوية».

تأجلت الجلسة الأولى إلى 8 حزيران لإفساح المجال أمام هيئة الدفاع لتنظيم عملها. تألفت هذه الهيئة من فاندرفلت، وروزينفلد تيودور ليبكناخت، موته، واتر ومن بعض المحامين الروس كجدانوف ومورافييف وتاغر.

كانت التهمة واضحة. لقد سعى الاشتراكيون-الثوريــــون للتعامل مع الأميرال كولتشاك في الأورال عندما قرروا شن حـــرب لا هوادة فيها ضد النظام السوفياتي، تعاملوا أيضا نع دانيكين في الجنوب ودعموا كل التحركات المضادة للثورة، لقد طلبوا مساعدة السفارات وقبلوها، ورضخوا لإغراءاتها للقيام بأعمال تخريب مجرمة، وأعدوا عمليات اغتيال للقادة السوفيات وكانوا هم المسؤوليـن عن اغتيال أورتيسكي وفولودارسكي وأعدوا محاولة اغتيال لينيـــن. لقد كانت مختلف التهم إليهم مقرونة بالأدلـــــــة بشكل لا يتمكنوا فيه حتى من التفكير برفضهـــــا. بالرغم من ذلك كان دفاعهم مستميتا، وأثاروا مسائل تتعلق بالشكليات واعترضوا على التفاصيل الثانوية. وأعطوا تبريرا عاما لأعمالهم: كانـــت الحرب التي شنوها ضد النظام السوفياتي إجراء موجها ضــد البلاشفة لحلهم الجمعية التأسيسية، لقد ظهروا كأعداء سياسييــن قرروا بشكل قاطع عدم إنكار أية من أفكارهم.

أجاب بياتاكوف – الذي كان يترأس المحكمة – على فاندرفلت الذي اعترض على حيادة المحكمة بما يلي: «لقد رفض الاشتراكيون دائما الادعاء بحيادية المحاكم، إن المحاكم، في البلدان البرجوازية، هي أجهزة بيد الطبقات المسيطرة لإنزال العقاب، أمّا في روسيــا فإنها تدافع عن مصالح الجماهير العمالية. إنها تدرس بموضوعية القضايا التي تطرح عليها».

لا يمكنني إعطاء الإنطباعات الشخصية حول هذه المحكمـــة التي كانت الأولى من نوعها. لقد كنت مضطرا للعودة إلى باريـس قبل أن تبدأ. لقد دافع المتهمون عن أنفسهم بصلابة خلال النقاشات وكانوا يتمتعون بحرية تامة في عملهم هذا، وإذا كان من الممكن الاعتراض على آرائهم السياسية فلا يستطيع أحد أن ينكر شجاعتهم الشخصية وروح التضحية لديهم أو أن ينسى الماضي التاريخي لأحزابهم. لم تكن المسألة تتعلق بمسألة الحط من قدرهم أو إجبارهم على أن يحطوا من قدر أنفسهم، لقد كانوا أمام المحكمة يتمتعــون بكامل قواهم ويملكون كل الوسائل غير مجبرين على التراجع عن قناعاتهم. وكان الذي يتزعمهم هو غوتز. [36]

كان للشهادة التي أدلى بها بيار باسكـــــــــال تأثيرا كبيــــــرا. لقد استطاع أن يشاهد عن كثب التحركات الخفية، بوصفه عضـــوا في البعثة العسكرية الفرنسية، التي قام به رؤساؤه من أجل الثورة المضادة، يقول: «لقد فكيت بنفسي رموز برقية كانت تتحدث عن مسألة الإرهاب، إنني اؤكد بشكل قاطع أن البعثة الفرنسيـــة قد شجعت محاولات الاغتيال في روسيا. عندما عدت إلى مبنى البعثة في اليوم التالي لمحاولة اغتيال لينين، أتى نحوي الجنرال لاميرن وقال لي وهو يحمل جريدة في يده «أسمعت ماذا يقولون عنا؟». لم أجاوبه بشيئ. فاستطرد قائلا: «لا أدري إذا كان لوكهـــارت [37] موجود في روسيا للقيام بشيء ما، ولكني أنا هنا لا أقوم بأي شيء». لكنني عندما رأيت الانفعال على وجه رئيسي شعرت بشكل واضـح أن نفي هذه الاتهامات، الذي لا مبرر له بوجودي، يمكن تفسيره بعصبية المذنب. (مراسلات دولية، 23 حزيران 1922).
بصدد محاولة اغتيال لينين كتبت صحيفة الحزب الاشتراكي الثوري التي تصدر في سامارا حيث يتواجد معظم أعضاء اللجنة التنفيذية. كتبت مقالا بعنوان: «عقابا وليس ثأرا».

«أصيبت السلطة البلشفية – السوفياتية بضربة قاسية: لقد جرح لينين وأقصي الرئيس المشهور «للسوفناركوم» (مجلس مفوضيات الشعب) إلى حين أو إلى الأبد (اخترقت الرصاصة رئته).

«إنها ضربة موجهة لسلطة السوفيات، إن هذا النظام عاجز بدون لينين، إن هذا النظام هو جبان وأحمق بدون لينين

«من هم إذن الشخصين الذين أطلقا النار على زعيــم دولة العمــــــــــال والفلاحين؟.. هذا ما نجهله. لكن وبما أن العمل قد حصل بعد اجتماع عمالي يمكننا أن نفترض، كما فعل تولودارسكي أن العمال هم الذين عاقبوا لينين، في كل الأحوال إنها عملية في الأوساط الديموقراطية».

كتب تروتسكي مقالا، ثم نشره عشية المحاكمة، حيث أعطى لمحة تاريخية خاطفة عن الحزب الاشتراكي الثوري. كتب يقول:

«ها أن الحزب الاشتراكي-الثوري في روسيــــــــا يثير الانتبـــاه العام من جديد، ولكن ليس كما فعل في ثورة شبـــــاط. قد يحدث أحيانا أن يعيد التاريخ ذكرى حزب أو رجل بعد دفنه.

امتد الحزب الاشتراكي-الثوري سنة 1917 خـــــــلال عدة أشهر أو عدة أسابيع في روسيا، لكنه اختفى بالسرعة ذاتها، تسمح لنا المحاكمة الحالية أن نلقي نظرة على قدر هذا الحزب المدهش.

أطلق بليخانوف، منذ السنوات الأولى من هذا القرن اسم «الاشتراكيين-الرجعيين» على الحزب الاشتراكي-الثـــوري. لكن هذا الحزب لعب دورا ثوريا في النضال ضد القيصرية وضد العبودية. كان يحرض الفلاح، ويدعو الشبيبة الطلابية إلى النشاط السياسي، ويجمع تحت رايته عددا كبيرا من العمال المرتبطيــــن ماديا أو أخلاقيا بالريف وينظرون إلى الثورة ليس من وجهة نظر بروليتارية، طبقية إنما من وجهة نظر غير محدودة عن «العمل». كانوا يسعون للقتال الشخصي ويقدمون حياتهم من اجل اغتيـال أعوان القيصر. انتقدنا هذه الطريقة الإرهابية، لكن خلال المظاهرة كان يحدث أحيانا، حتى لأكثر العمال الماركسيين تفانيا، أن يقاوموا الشرطة والكوزاك جنبا إلى جنب مع عمال «نارودنيكي». التقى الطرفان فيما بعد في السجون أو في المنفى في مجاهل سيبريا. منذ ذلك الوقت انفصل الاشتراكيون-الثوريون في بتروغراد، الذين كانوا مستعدين أن يقدموا حياتهم للطبقة العاملة، انفصلوا عن المثقفيــــن من نمط أفكسانتييف وعن الفلاسفة من أيباع كانـــــــط ونيتشه الذين لا يتميزون بشيء عن البرجوازية-الصغيرة الفرنسية الجذرية.

تضافرت الحرب والثورة لتفكك الحزب الاشتراكي-الثوري . وكان انهيار زعماء هذا الحزب سريعا لأن الأحداث الكبرى تفرض اعطاء أجوبة واضحة ومحددة».

انتهت عملية التفكك هذه بانشقاق خطير في الحزب: التحق الزعماء بكولتشاك ودينيكين، بينما توجهت جماهير العمال والتحقت بالمدافعين عن النظام السوفياتي.
في نهاية السجالات والنقاشات صدر الحكم بالإعدام على أربعة عشر متهما لكن اللجنة التنفيذية اتخذت قرارا بأن «لا يطبق هذا الحكم إلاّ إذا تابع حزبهم سياسته الإجرامية تجاه روسيا السوفياتية وتصعيد الحملات والتجسس ومحاولات الاغتيال وتسميم العقول».



--------------------------------------------------------------------------------

6- الذكرى السنوية الخامسة لثورة تشرين –المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية


تجب الدعوة إلى انعقاد المؤتمر الرابع في شهر تموز حسب القاعدة التي تتبعها الأممية الشيوعية – يعقد مؤتمر عن كل سنة- ولكن جرى تأخير هذا الموعد بضعة أشهر حتى يتناسب انعقاده مع الذكرى الخامسة لثورة أكتوبر. تم انعقاد هذا المؤتمر من 9 تشرين الثاني حتى 15 كانون الأول من سنة 1922. تم نقل المؤتمر، مرة جديدة، إلى بتروغراد حيث جرى إعلان النظـــام الجديد. كانت الجلسة الافتتاحيـــــــة في 5 تشرين الثاني الساعة التاسعة والنصف مساء في «بيت الشعب».

استعرض زينوفييف أحداث السنوات الخمس الماضية. في 7 تشرين الثاني تم تنظيم الاجتماعات في كل أنحاء المدينة، وكان عددها يربو على المئتين. تم تعييني للذهاب إلى كرونشطاط مع لوسوفسكـــــــي. ذهبنا أولا إلى نادي البحارة حيث رأينا بعض الأشياء المتنوعة التي تذكر بالتحالف الفرنسي – الروســـي - «لبحارة كرونشطاط» - ووجدنا هنا موضوعا جيدا لخطاباتنـــا: حلف بين الحكومات، البارحة، من أجل الحرب، وحلف اليــــــوم، بين البروليتاريا من أجل تحرير العالم. لم تسمح لنا زيارتنا الخاطفة من التأكد من وجود بعض الأثر في القلوب لأحداث السنة الماضية المؤسفة إذا ما وجدت، يمكننا أن نستنتج فقط أنه خيــــــــــــم جو مؤثر على الاجتماعات.

عدنا إلى بتروغراد متأخرين عند المساء. لقد كان النهار متعبا وعند وصولنا إلى الفندق لم نفكر إلاّ بالراحة. واستطعنا التملص من الاحتفال الكبير الذي يجري في إحدى قاعات الفندق الكبير بمناسبة هذا العيد الوطني.

كان موضوع الاستقبالات والولائم موضوعا يطرح دائمــا مشكلة جدية بالنسبة للشيوعيين الروس وخصوصا عندما يتعلـق الأمر بوفود أجنبية. أيجب أن يعاملوا حسب نظام روسيــــــا السوفياتية أم تجب معاملتهم حسب الضيافة الروسية التقليديـــــة؟ طرحت المسالة للمرة الأولى في ربيع سنة 1920 عندما أعلنــت بعثة عمالية مهمة عن زيارتها لروسيا. لقد ناقشت اللجنة المركزية الموضوع لمعرفة إذا ما سوف تحوي وجبات الطعام على النبيذ. تمكنا في أحد المرات، من حضور احتفال تقليـــــــــــدي. كان ذلك بعد يوم متعب من اجتماعات اللجنة التنفيذية في الأممية حيث استقطب جدول أعمال هذه الجلسات عددا ضخما من الشيوعيين الروس. ابتدأت الجلسة منذ الصباح واختتمها زينوفييــــــف بعد الظهر. انتقلنا بعد تعليق الجلسة إلى قاعـــة مجاورة حيث وجدنا أنواعا مدهشة من المقبلات تم وضعها على طاولات مغطاة بأغطية جميلة بيضاء. بعدها قدم لنا الغذاء الفخم. لقد كنا إلى طاولــة كولونتاي. وكنا رأيناها سابقا، ولكن، في ذلك اليوم، كانــــــت المناسبة الأولى إجراء حديث جدي معها. سألناها عن «المعارضة العمالية» التي كانت على رأسها مع شليابنيكوف. لكننا لم نحصـل على أجوبة شافية، فالحزب الشيوعي الروسي قد أدان المعارضة العمالية ووافقت الأممية على هذا القرار.. مرت الأحداث بسرعة وأصبحت هذه القضية جزءا من الماضي.
كانت قاعة القصر الكبرى، حيث عقد المؤتمر، مزدحمة بشكل استثنائي قبل افتتاح الجلسة في 13 تشرين الثاني. وكان جميع المندوبين في أماكنهم في حين جلس المستمعون في القسم المعد لهم. خصصت الجلسة السابقة لمناقشة تقرير زينوفييـــــف. أمّا الآن فالكلام سيعطى للينين. وكان أصيب منذ أوائل أيار بمرض تصلب الشرايين الذي أشغله خلال السنة. صفع هذا المرض الجميــــــــــع في الحزب وفي الحكومة، لقد احتل لينين مركزا مهما لدرجة يصعب معها الاعتياد على فكرة متابعة الثورة من دونه. وكان الجميـــع يأملون أن تكوينه القوي وعناية الأطباء الاستثنائية سوف تتغلــب على المرض، عندما وصلنا نبأ قدومه اعتقدنا أنه شفي من المرض.

لم يكن يحضر الجلسات كلها عادة بالرغم من تتبعه النقاشـات عن كثب. كان يأتي ويذهب دائمـــــــــــا، بدون ضجـــــة وأحيانــا من دون أن يلاحظ أحد. أمّا في صباح ذلك اليوم فسوف يتكلم في البدء. كان المندوبون ينتظرونه وهم عرضة لانفعال عميق. عندما دخل إلى القاعة وقف الجميع له بحركة عفوية وأنشدوا نشيد «الأممية». عندما استقر على المنصة بدأ بإدلاء تقريره بالكلمات التالية: «أيها الرفاق، لقد تمت تسميتي على اللائحة كخطيـــب أساسي، لكنكم تفهمون أنني لست قديرا لإعطاء تقرير طويل بعد مرضي الطويـــل»... كان تعليق الذين شاهدوه للمرة الأولــــــــى: إنه لينين كما كان دائما. أمّا بالنسبة للآخرين فإنهم لم ينخدعوا بالأوهام. كان أمامهم رجل قد أثر فيه الشلل بشكل ظاهر، بـــــــدلا من لينين النشيط الذي يعرفونه. لقد تجمدت قسماته وأصبحــــت مشيته الإنسان الآلي. لقد تبدلت لهجته الخطابية المعتـــــــــادة البسيطة السريعة الواثقة من نفسها إلى أداء كتردد وصعـــــــب، كانت أحيانا تخونه بعض الألفاظ فيساعده بشكل سيء الرفيق الذي انتدب لهذا الأمر مما دفع راديك إلى إبعاده وأخذ مكانه.

بيد أن تفكير لينين بقي ثابتا، عرض الأفكار الرئيسية ووسعها بمهارة. لقد كان مجبرا أن يقصر حديثه على مدخل إلى المسائل الأكثر أهمية، كما قال، وكانت المسالة الأكثر أهمية هي مسألة السياسة الاقتصادية الجديدة.

تم عيجاد هذه السياسة منذ 18 شهرا ويمكن الحكم عليهــــــــا من نتائجها. إن ما قاله لينين هو أساسي ويطبع الرجل بطابــــــع مميز كما يطبع تقنيته وطريقة عمله. وهذه هي المرة الأخيرة التي تدخل فيها لينين بحياة الأممية الشيوعية، وبهذه الصفة يشكــــل خطابه وثيقة ذات قيمة استثنائية، سأقتصر هنا على إيــــــــراد الأفكار التي طرحها. تبدو السياسة الاقتصادية الجديدة صحيحـــــة في كل مكان وتفرض نفسها على الجميع. إذن يجب التنبؤ بها والتحضير لها في كل مكان. ويمكننا القول، إذا ما تفحصنــــــا النتائج، أننا مررنا بالتجربة بنجاح. لقد تمكننا من أن نعطـي الاستقرار للروبل – يلزمنا المال الآن لمبادلاتنا التجارية. ويدفع المزارعون الآن الضريبة – ولقد اختفت معظم الاحتجاجات المتولدة من استيائهم. في ميدان الصناعة الخفيفة، تتحسن ظروف العمال ويبدو أن الانطلاق عام. تبقى المشكلة الكبرى في الصناعة الثقيلة حيث ما زال الوضع صعبا. لكن يجب حل هذه المشكلة لأن تطور الصناعة الثقيلة ضروري لبناء مجتمعنا الاشتراكي. لم تلق الامتيازات التي أعطيناها للرأسمال الخاص، والتي جعلت كثيرا من الرفاق هنا وفي الخارج يأسفون، لم تلق أذنا صاغية بين الرأسماليين. فالرأسماليون يقتربون قليلا ومن ثم يبتعدون لأنهم لم يجدوا هنا ما يبحثون عنه: العلاج المباشر لمشاكلهم الحاضرة. هذا هو الوضع: «لقد ارتكبنا كثيرا من الحماقات، بدون شك، ولا أحد أدرى منــــي في هذا الموضوع»... وبعد أن أنتقد بعنف جهاز الدولة انتقــــــل لينتقد مطولا القرار الذي تم التصويت عليه في المؤتمر الثالث والمتعلق ببنية الأحزاب الشيوعية وطريقة عملها وتكتيكها، يقــول عن هذا القرار: «إنه ممتاز، لكنه روسي بمجمله.... نحـــن ارتكبنــــــا خطأ كبيرا عندما صوتنا عليه». واستخلص في النهاية هذه العبارة المليئة بالمعاني: «لم نتوصل بعد إلى الصيغة التـــي يمكن بها تقديم خبرتنا الروسية إلى عمال البلدان الأخــرى». إنه إنذار نهائي بقي حرفا ميتا. لم يصحح الرجال الذين أخذوا مكان لينيـــن هذا «الخطأ الكبير» إنما بالعكس لقد أخذوه منطلقا لهم وأعادوا ارتكابه مرارا وأعطوه أبعادا أوسع.

كان على تروتسكي أن يكمل التقرير الذي لم يستطع لينيــن حسب تصريحه الافتتاحي، أن يكتب إلاّ مقدمته.

أعاد تروتسكي إلى الأذهان كيفية قيام ثورة أكتوبر والظروف التي اندلعت فيها، قال:

«لم يكن أحد ينظر إلينا بجدية، كان يعتقد أنه بمقاومة سلبية وببعض أعمال التخريب وبتدخل سريع من جانب الحلفاء يمكن قهرنا. وعندما أصبح جليا أن الأمور لا تسير على هذا المنوال تألبت كل قوى الثورة المضادة ضدنا. كان يتوجب علينـا إذن أن نصادر أكثر مما كنا نريد وأكثر بكثير مما كان باستطاعتنا عمله. تسمح هذه الوقائع بصياغة القانون الأول: يمكننا أن نؤكد، بالنسبة للأحزاب الغربية والحركة العاملة بشكل عام، أن المهمة ستصبح أصعب بكثير قبل الثورة الحاسمة ولكنهــا أسهل بكثير بعدها. تنبع شيوعية الحرب عندنا من الحرب الأهلية نفسها. لقد كـــان من الضروري إعطاء الخبز للعمال وللجيش وانتزاع كل ما يحتاجه الجيش لمواصلة الحرب من صناعة أفسدتها البورجوازية وخربتها... لو استطاعت البروليتاريا في أوروبا الاستيلاء على السلطة سنة 1919 كانت مظطرة أن تأخذ على عاتقها بلدا متخلفا. لم تكن المواد البديلة التي كنا نسعى إليها مفيذة إلاّ من أجل تأمين حاجات صناعة الحرب.»

تركت شيوعية الحرب هذه مكانا لرأسمالية الدولة. لم يكن تروتسكـــــي يستعمل هذا التعبير إلاّ مكرها لأنه يؤدي إلى الخلـط، إلاّ أن لينين حدد بوضوح المعنى الذي أعطاه لهذا التعبير.

حلل تروتسكي تعقيدات النظام الجديد: «عندنا حوالي مليون عامل تقريبا. كم يعمل من بينهم في المنشآت المستأجرة؟ 80 ألفا ليس بين هذا الرقم إلاّ حوالي 40 أو 45 ألفا يعملون في مؤسسات خاصة، وتم تعيين عدد منهم في المؤسسات السوفياتية».

بالنسبة للامتيازات الكبرى التي وضعت لائحة بها والتي هي معدة للشركات الكبرى الأجنبية، لخص الوضع كما يلي: كثير من النقاش وقليل من الامتيازات.

.. ثم قال عندنا تعرض لمردودية الإنتاج ان فوائد الاشتراكية تجب أن تثبت نفسها بمردودية أعلى. «هذا برهان لا يمكننــــا أن نقوم به لأننا ما زلنا فقراء. لكن لم يمض على روسيا السوفياتية إلاّ خمس سنوات وإذا أردنا أن نقابل وضعنا مع وضع فرنســـا، مثلا، في سنوات بدء «ثورتها الكبرى» نرى أن اللوحة التي نقدمهــا هي أقل تشاؤما. لنأخذ بعض معطيات المقارنة من المؤرخ الفرنسي «تان»: لم تكن باريس تحصل إلاّ على الثلث وأحيانا على خمـس كمية الطحين الضرورية لها سنة 1899، بعد عشرة سنوات من اندلاع الثورة، وانخفضت نسبة السكان من جراء المجاعة والأوبئة. لقد ظهر الادراك المسبق الذي أعطى عنه تروتسكي أمثلة كثيرة خلال حياته وخصوصا في كتابه «البروليتاريا والثورة»، لقد ظهر خصوصا عندما تحدث عن إمكانيات الثورة العالمية. كان بوانكاريه يحكم في فرنسا عام 1922 وائتلف الليبراليين المحافظيــن في إنكلترا. تكهن تروتسكي بمحاولة ستبرز فيها الميول السلمية والإصلاحية لا محالة: «ستشهد فرنسا بروز أوهام السلمية والإصلاحية التي سوف تأتي إلى السلطة بشكل جبهـــــــــة مع اليساريين، هذا بعد أن شهدت أوهام الحرب ونشوة النصــــر... اتكهن بتطور مماثل في إنكلترا حيث ستحل حكومة سلمية وديموقراطية مكان حكومة المحافظين والليبراليين. سيكون لدينا إذن حكومـــة جبهة اليسار في فرنسا وحكومة عمالية في إنكلترا. ماذا سيحــــدث في ألمانيا في هذه الظروف؟ ستتنفس الاشتراكية-الديموقراطيــة الهواء العليل، سيكون لدينا طبعة جديدة من الولسونيــــــــة على قاعدة أوسع ولكنها لن تدوم كالأخرى. ولهذا السبب إنه من الضـــرورة بمكان تحضير أحزاب شيوعية صلبة يمكنها أن تقاوم هذه المرحلة من السلمية والإصلاحية. لأن العمال سوف يتوجهون نحوها عندما تسقط الأوهام فتظهر الأحزاب وحيدة تدافـــع عن الحقيقة ولا تكذب على الطبقة العاملة.

كانت مسألة برنامج الأممية الشيوعية مدرجة على جدول الأعمال، وتم طرح مشاريع كثيرة ودافع أصحابها عنها. كــــــــان هذا النقاش مناسبة لنزاع حاد بين بوخارين وراديك. قدم راديك تقريرا عن هجمة رأس المال: لم تكن اللوحة واضحة. انتقــدت عناصر اليسار غياب الرؤيا الثورية التي لا يتوانى الوسطيون عن استعمالها عند هجومهم على الشيوعيين. دخل بوخاريـــن في نزاع مع راديك حول مطالب العمال المباشرة، أيجب إفراد مكان لها في برنامج الأممية الشيوعية؟. صرح بوخاريــــــن أنه ضد هذا العمل أمّا راديك فقد دافع بحيوية عن مسألة إدراجها. لقد كان جليا أن المسالة تستوجب الدري. وتم القرار في النهاية بإحالـــــة هذه المشاريع إلى لجنة مختصة تضع تقريرا للمؤتمر القادم.



--------------------------------------------------------------------------------

7- الحزب الشيوعي الفرنسي ومصاعبه


إذا استأثر الموضوع المهم الذي تطرق إليه لينين وتروتسكي بانتباه المندوبين فإن حشريتهم كانت مركزة حول مسألة أخرى أقل أهمية.. لقد تم إدراج الحزب الشيوعي الفرنسي، مرة أخـــــــرى، على جدول الأعمال، كان تطوره صعبا. صوت الحـــــزب الاشتراكي القديم على الدخول إلى الأممية الشيوعية بأكثريـــة ساحقة، كما مر معنا، في مؤتمر «تور» في أواخر كانـــون الأول سنة 1920. أصبح الحزب الشيوعي يتشكل من قسم كبيـــر من الحزب القديم [38]. واحتفظ «المنشقون» بأكثرية البرلمانيين وقسما من الكوادر، «زينة الحزب» كما يقول جان لونجيه. اتجهت القاعــــدة إلى الشيوعية بشجاعة، كانت قاعدة صافية تشتمل على العناصر الجديدة والشابة قدامى المناضلين والنقابيين وعلى قسم صغير من الفوضويين.

اتخذت البعثات التي أرسلت إلى موسكـــــــــــو، كما رأينا، موقفا منفردا في مؤتمر الأممية الشيوعية وفي مؤتمر النقابات العالمية الحمراء. واظهر المؤتمر الأول للحزب، الذي تم عقــــــده في مرسيليا في كانون الأول سنة 1921، عن اضطراب وقلق ومناورات غير مستحبة في سير عمل الحزب. لم يعد انتخــاب بوريس سوفارين، مندوب الحزب إلى اللجنة التنفيذية للأمميــــــة، في موسكو يبرر الأمر أو يشرحه. هنا قدم رفاقه، أصحاب الميل نفسه، استقالتهـــــــــم عندما عقدت الجلسة. كانت هذه الأزمـــة الأولى. نددت الأممية بالمستقلين واستنكرت مناورة القيـــادة وفرضت إعادة المستقلين عن استقالتهم.

أتت، بعدها، مسالة تكتيك الجبهة الموحدة. وقد أظهرت كيف تم استقالتها. في حين أن المعارضين قد أعلنوا، في اللجنــــــــــة التنفيذية الموسعة، عن خضوعهم لقرارات الأممية. وبعد مضـــي عدة أشهر أعلن فروسار، الذي وافق على الذهاب إلى موسكـــو، أعلن في نهاية النقاش: «أن لهذه الأسباب... تلتزم بعثة أكثريـــة الحزب الفرنسي بنقل القرارات التي سوف تؤخذ إلى الحــزب، وتلتزم بشرحها ونقدها والدفاع عنها.. وأتمنى ألاّ تستأثر المسألة الفرنسية انتباه الأممية الشيوعية بشكل خاص في مؤتمرها الرابع». وعاد بعدها إلى باريس حاملا توصية إلى مؤتمر الحزب المقبــــل وقد تم توقيع هذه التوصية باسم فروســار – سوفاريــــــن. كان الاتفاق إذن بين اليسار والوسط، وهذا هو المحور الذي بنــــــــى عليه الحزب الشيوعي الفرنسي.

من المفروض أن يتم انعقاد المؤتمر الثاني للحزب في 15 تشرين الأول، قبل انعقاد المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية بقليل، الذي سوف لن يبحث بالمشكلة الفرنسية الدائمة، حسب تمنيات فروسار. كان مانويلسكي المبعوث إلى المؤتمر. نظم عدة اجتماعات بين ممثلي الاتجاهين ليرسخ الاتفاق بشكل نهائي. واقترح تعديلا في التمثيل بين اتجاهي الوسط واليسار، في اللجنة القيادية، وعلــى مندوب الأممية أن يحسم الخلافات التي قد تقع عندما يصر أعضاء كلا الاتجاهين على مواقفهما. وأضاف: عندما يرفض الوســــط لا يعد الحزب الشيوعي مستقلا وعندها يصبح ممثل الأممية الحكم ويتخذ القرار المناسب. طالب اليسار بالأكثرية. كانت سلطة مانويلسكي وخطوته ضعيفة حتى أنه تم افتتاح المؤتمر من دون التوصل إلى اتفاق.

انفجرت الفضيحة بعد النقاشات الأولى. صعد «كيـــر»، مساعــد فروسار في الأمانة العامة، إلى المنصة ليدلي بتقريــــره. كان رجلا نشيطا يتمتع بإمكانيات جيدة، ويحبه الجميـــــــــع وصاحب ميول ائتلافية. وأنطلق في اتهام صارخ لليسار، وسط الوجوم العام، ووصف المحادثات مع مندوب الأممية كمؤامرة تحاك في الكواليس. وهكذا سوف تطبع النقاشات اللاحقة بهذا الطابع. مــــاذا يريد الوسط؟ إنه هو المسيطر على مواقع القيــــــادة. ففروسار في الأمانة العامة، وكاشين في رئاسة تحرير «الإنسانية» وتتبعه أكثرية اللجنة القيادية. لكن مسألة الانضمام إلى الأمميـــة تثقلــه فهو لا يتفق دائما مع قراراتها. في حين انه يتحفـــــــظ دائما من التوجه طرحه ضد الأممية. أيريد اليوم الذهـــــــــــاب إلى أبعد من ذلك؟ في نهاية النقاش، استطاع أن يجمع أكثرية الأعضــاء، ولكنها أكثرية طفيفة، 1698 ضد 1516 لليسار. وامتنــع 814 عضوا عن التصويت معبرين عن استيائهم. بيد أن الوسط [39] طالب بالسلطة كلها. سيحكم منفردا «بالاتفاق مع الأمميـــة» بالرغم من كونه غير متفق مع الرجل الذي يمثلها. ماذا تعني هذه العمليــة المعقدة بالضبط؟ لا ضرورة للتدخل في القضايا السرية لمعرفة ما يجري. فالرجال الذين الذين لا يستطيعون احتمال سلطة الأممية معروفون، والبعض منهم يصرح به علانية. بيد أن الذي يحضـــر هذه المناورات ويوجهها هو الأمين العام نفسه، السيد فروســــــــار. إنه لم يتجاوز الأربعين من عمره لكنه محنك في أمور الحـــــــزب، لقد اقترب خلال الحرب، من زيمروالد. واعتبره مرهايـــم، الذي خبره عن كثب، كرفيق قليل الإيمان، وعندما نظم لونجـــه اتجاه الأقلية في الحزب أسرع فروسار للتقارب منه. لقد ضم هــــــذا الاتجاه كثيرا من النواب. كان يتم نقد سياسة الحكومة في الحــرب في الوقت الذي كان فيه التصويت يتم على مخصصات الحــــــرب. لقد كان هذا موقفا غير خطر وأصبح فيما بعد مفيدا عندما انتصرت الأقلية ووزعت المراكز. أخذ كاشين رئاسة تحرير الصحيفة اليومية بينما حصل فروسار على أمانة الحزب العامة.

كنت قد التقيت بكلا الإثنين في موسكو عند انعقاد المؤتمــر الثاني للأممية، كانا مراسلين «للإطلاع». كان فروســـار يجلس وراء كاشيـــــن يترك له مجال الرد منفردا. وهكذا أعيدت اللعبة نفسها عندما طلبت اللجنة التنفيذية منهما المجيء إلى موسكـــو. لقد رفض الاثنان بحدة الذهاب إلى موسكــــــو في البدء. وعندما طلب منهما ذلك بإلحاح، ترك فروسار كاشيـــــــــن يتخبط لوحده إدراكه أنه سوف يرضخ في نهاية الأمر وهكذا يمكنه هو الاحـــتفاء. وهكذا بعد أن رفض كاشين الذهاب وأعلن ذلك بصوت عال بدأ يتحضر للذهاب وفي الوقت نفسه حضر خطابا عاطفيا ليثير الرحمة في قلوب منتقديه.

إن فروسار نفسه هو الذي شرح لي، صدفة، تقنيته فــــــي العمل. كان قد اتخذ موقفا صلبا من موضوع المؤتمر التأسيســي للإتحاد العام الموحد للعمل الذي سوف يعقد في ســــان-اتيان: خـــلال وجوده في موسكو كأمين عام للحزب جمع مندوبي حزبه قبل المؤتمر ليضعوا جميعا البرنامج والتكتيك. كانت النقاشـــــــــات صلبة، ووقف الفوضويون و«النقابيون الخلص» موقفا عدائيا من الحزب الشيوعي وأعضائه لأنهم لم يستطيعوا نيل الأكثريـة في الوقت الذي كانوا فيه يسيطرون على الأمانة العامة وعلى اللجنة التنفيذية في الاتحاد العام الموحد للعمل. وعندما تكلم أحدهم، أميــن عام قسم مهم، وقف في وجههم ولكن بطريقة غير سليمة، عندها اقترب فروسار مني وقال لي: «لقد أقنعـــــــت الأخ». لقد أعجبني هذا التصريح وخصوصا أنه لا يوجد بيننا أي نوع من الصداقة. فيمـــا بعد، أعطاني هذا التصريح مفتاح الأحداث المتكررة، عندما قمت بدراسة لمجمل تطور الحزب الشيوعي الفرنسي: كان فروسار يظل بين الكواليس «يتصنع الإخوان». لقد أقنعهم في المؤتمـــر الثالث للأممية الشيوعية وفي المؤتمر الأول للنقابات العالمية الحمراء كما «أقنع» كير المسكين في مؤتمر باريس، كما «أقنـــــــــع»، بشكل خاص، القياديين الجدد في الاتحاد العام الموحد للعمــــل، وكانوا من محبذي الشيوعية وراغبين في دخول النقابات العالمية الحمراء، لكنه كان من السهل أن يثاروا ضد «الفرمانات القيصرية» في موسكــــو، هنا كانت تكمن ورقته الرابحة، لقد أصبـح من الصعب تشكيل حزب شيوعي حقيقي انطلاقا من اتحاد عام يقف موقفا عدائيا.
[40]
ارتدت الأزمة، هذه المرة، طابعا حادا وأصبح من الضرورة وضع حد لهذه المناورات التي تخلق وضعا لا يطاق. تم تشكيـــل لجنة ذات أهمية استثنائية من حيث عدد المندوبين واختيارهــــــــم من أجل تحضير السجالات والنقاشات في المؤتمر. لقد تمثلت البعثات، في هذه اللجنة، بأعضائها البارزين، وأعطت البعثـة الروسية المثل بتسمية لينين وتروتسكي وزينوفييف وبوخاريــــن. لم يحضر لينين ولكنه كان يتابــــع النقاشات عن كثب. تقــــــــرر مصير الحزب الشيوعي الفرنسي بين أيدي هذه اللجنة، لقد واجهها مجزءا: الوسط بادعائه الحكم منفردا، هذا الادعاء الذي تشكل في باريس لم يستطع أن يقف على رجله في موسكو، اليسار المتعلق بالأممية الشيوعية بعمق ولكنه لا يستطيع أن يصل إلى القيـادة لضعفه. وأخيرا اليمين، الذي تحدثت عنه في مناقشة الجبهــة الموحدة، المتشبث باليسارية اللفظية والذي يكن عداء للأممية الشيوعية. يمكنني أن أحكم على كل فريق بالتجرد، وذلك لأنني لم التزم في الحزب إلاّ بعد عودتي إلى فرنسا في الأشهر الأخيرة من سنة 1921. لقد ظهرت مخاطر طريقة العمل التي أقرت في سنة 1920 من أجل تشكيل الأحزاب الشيوعية، ظهرت هذه المخاطر بوضوح، ورآها زينوفييف وأشار إليها في تقريره عندما كتب: «يتواجد عندنا في الحزب ميولا وسطية واشتراكية- ديموقراطية بالقدر الذي دخلت فيه أجزاء كثيرة من الحركة الاشتراكية – الديموقراطية القديمة». لم يكن الحزب الشيوعي الفرنســـي حالة فريدة من نوعها إنما ما كان يميزه بشكل مغضب هو خبـــــث عدد من قيادييه. كنت قد استلمت العدد الأخير من «النشرة الشيوعيــة» في اليوم ذاته الذي كان يتوجب فيه علي التكلم أمام اللجنـــــــــة. لقد تم إعادة نشر الانتقادات القديمة الموجهة ضد الأممية الشيوعيـــة، بكل صفاقة، في هذا العدد. وأعطاني هذا الأمر مدخــــلا إلى الموضوع وهذا ما أنهك اليمين. فطأطأوا رؤوسهـــــــــم خلال القراءة وهم يشعرون باستنكار اللجنة العام. طرحت الســـــــؤال التالي على ممثلي الوسط: «إنكم تدعون ممارسة القيـــــــادة منفرديــن وباتفاق مع الأممية. لكن من يثق بتصريحاتكم». بدأ، هنـــا، بعضهم بالدمدمة. عندما تكلم تروتسكي في نهاية الجلسة خــص «كير» باسمه ونوه بأنه كان ماسونيا وهذا ما كان يجهله الكثيرون بيننا، كيف يمكن للمرء أن يكون شيوعيا وماسونيا في الوقت ذاته؟ كان هذا الأمر متناقضا.
[41]
استمر النقاش خلال عدة جلسات. سوف أقتصر هنا على ذكــــــر حادثة واحدة، قصيرة ولكنها مهمة، طبعت الجلسة الأخيرة بطابعها. لم تكن، في الواقع، بعثة الوسط متجانسة، إذ يمكـــــــن للمرء أن يلاحظ بجانب المحتكين بالسياسة والحزب أعضــــــــاء جدد اعتنقوا الاشتراكية بعد الحرب وبسببها. وتتركز الملاحظة على أحدهم المدعو «جان رونو» الذي كان يحاول دائما على ألاّ يتبع أحـــد الاتجاهات. كان ينحدر من أصل ريفي. لقد جــــــــرح خـــــلال الحرب جرحا بليغا، وتمكن من أن يقرأ كثيرا خلال فترة النقاهة. كان يكتب بشكل جيد، ويعبر بعنف عن غضب الرجــال الذين تألموا في الخنادق وعادوا منها مقتنعين بضرورة طرد الحكام وقلب النظام المسؤول عن المذبحة غير المفيدة. حملت الأصول الريفية «رونو» ليعارض الفلاحين، الذين حاربوا في الخنـــادق، مـــع عمال المصانع المستفيدين من تأجيل موعد تجنيدهم. يظهر ادعاؤه بأخذ مواقف شخصية ومستقلة، يظهر بوضوح أنــه لا يلتــــزم بالشيوعية وبالأممية من دون تحفظ. كان يريد، أخيــــــرا، أن يكون المناضل غير المنتقد. تبدو هذه التفاصيل ضرورية لفهم الحادثة التي حصلت بعد جلسة طويلة. بعد أن تمت مناقشة جدول الأعمال طلب مندوب الشبيبة الشيوعية الإذن بطرح ســــؤال. قــــــال: «يتلقى اتحادنا إعانات مالية من أممية الشبيبة الشيوعية، يبدو لنا أنه من الطبيعي أن يساعد المركز أحد الفــــــروع. لكن بعض الرفاق وخصوصا «الرفيق رونو» يهاجموننـــــــا لهذا الأمر. أطلــب، في هذه الجلسة، من المسؤولين أن يعيدوا إلى ذاكرتــــــــه أن المسالة هي مسألة إظهار التضامن الطبيعي في منظمة عمالية». ولـــم يكد هذا ينهي طلبه حتى وقف رونو وتقدم نحو الطاولة وبدأ بشرح مشوش حتى اضطر تروتسكي إلى إيقافه مع شيء من القســـوة قائلا له ليس بين الأممية الشيوعية والمعرض، حيث يقـــــوم المزارعون بمساوماتهم بدهاء، شيئا مشتركا. انسحب، عنـدها رونو مرتبكا. ورفعت الجلسة مع شيء من الامتعاض. بالطبـع كان من الممكن لتروتسكي أن يشرح وجهة نظره بروية أكثر كما فعل في اليوم التالي في لقاء خاص. لكن الساعة كانت قد تجـاوزت الثانية صباحا ويمكن أن يفهم نفاذ الصبر، فالجميع على عجلة من أمرهم. ولعله قد أسيء اختيار الوقت لطرح مسألة لم تكــــن من دون أهمية وتستحق مناقشة مطولة. لم يكن رونو الوحيد الذي يعتقد أن على الأممية أن تتصرف بروية وأن تراقب عن كثب الأموال التي توضع تحت تصرف الفروع.

كان الموضوع الصعب، بشكل خاص، هو موضوع علاقة الحزب بالنقابات. كان للحركة النقابية الثورية جذور عميقـــــة فــــــي الحركة العمالية الفرنسية. ويتوجب على ثورة أكتوبر وعلى الأمميــــة الشيوعية أن تمحو العداء الذي تكنه النقابات للأحزاب السياسية. بالرغم أن العداء كان قد اختفى فإن الشك ما زال مستمـــــرا ولم يكن بمقدور قيادة الحزب أن تبدده. بالمقابل، بقي بعض التحفظ عند النقابيين، حتى الملتزمين منهم في الحزب، حول مسألة تدخل الحزب في الاضرابات. من جهة أخرى إذا كان على الاضرابات وعلى الحركة العمالية أن تسير بمعزل عن اشتراك الحزب، لا يستطيع هذا الأخير مطلقا أن يصبح حزبا شيوعيـــا. اتبعت قيادة الحزب هنا، لأسباب شتى، سياسة أقل قـــدر ممكـن مـــــن المقاومة، أي أنها كانت تندثر كلية أمام النقابات. إن هذا الموضوع هو صعب بشكل استثنائي. لقد رأيت النقابيين الأكثـــر تقربا من الحزب يبتعدون عنه عندما يلاحظون أن شبانا مناضلين يتركون العمل النقابي من أجل نشاط انتخابي يؤمن لهم مقعدا في البرلمان. لم تكن سياسة الحزب سلبية فقط. بل كانت أبعد من أن تخفف الاختلاف وأن تقرب وجهات النظر وأن تجد الأسس الصالحة للتفاهم من أجل حركة مشتركة، كانت تسعى لتغذية الخلاف حتى تتمكن من الضغط على موسكو. لا يمكن الادعاء مطلقــا، أنـــه بفضل انقسام العمل هذا بين الحزب والنقابات تسير الأمور لصالح الحركة العمالية الفرنسية. لقد عدد تروتسكي الاضرابات الفاشلة والخسائر الجسيمة التي كان من الممكن تفاديها.
قدمت اللجنة برنامج عمل بعد نقاشات طويلة جرى خلالهـا درس نشاط الحزب وخصوصيات الحركة العمالية والصراع بين الأطراف والصحافة والمسألة الريفية والسياسة الاستعماريــة. وطلبت بالإجماع من أعضاء الحزب المشايعين للماسونية ولعصبة حقوق الإنسان أن يتركوا مباشرة «هذه الآلات البرجوازية التي وضعت من أجل تخدير الوعي الطبقي عند البروليتاريا». اقترحت اللجنة، لإخراج الحزب من الأزمة التي وضع فيها، أن يصار إلى تشكيل اللجنة القيادية على قاعدة نسب الأصوات في مؤتمر باريــــس، وتسمي البعثات نفسها المسؤولين، وأعلن الممثلــــون عــن قبولهم بهذا الحل من دون تحفظ.



--------------------------------------------------------------------------------

8- فروسار يستقيل، وكاشين يبقى


في الوقت الذي كان فيه المؤتمر يناقش ويقرر، كان فروسار الذي بقي في باريس، بالرغم من نداءات الأممية المتكررة، يجمع أنصاره وينظمهم ليقف في وجه أي قرار يتخذه المؤتمر وتصبح معه الأعمال الخفية مستحيلة. كان المتآمرون يتشكلون من أكثرية أعضــاء اللجنة القيادية ومن قسم كبير من محرري «الإنسانية». كانوا يعتقدون أن بوسعهم الوقوف في وجه الأممية لأنهم يسيطرون على الأمانة العامة بواسطة فروســار وعلى الصحيفة بواسطة كاشين. بيد أن القرارات المتخذة في باريس أوقعتهم في المحنــــة. فكل شيء أصبح منظما: تشكيل لجنة القيادة وتشكيل مجلس إدارة للصحيفة. لم يستطع مندوبو الوسط من مقاومة ضغط إجمــاع المؤتمر في موسكو، غير أنهم لم ييأسوا، أوجدوا الأعذار لتأجيل تطبيق القرارات. لقد كان تكتيك فروسار، الذي أعلن عنه صراحــة في اجتماع اتحاد «السيــــن»، كان «كســــب الوقت». لكنه لـــم يلبـث أن فهم أن هذا التكتيك أصبح مستحيلا منذ الآن فصاعــــدا، لأنه بالتحديد خبير فيه.

يجب هنا الاختيار، تردد فروسار وأصر على أن يكون في مركز يجعل منه القائد الحقيقي للحزب. وجد نفسه محصورا بين الأممية وبين أنصاره، وبدأ هؤلاء يضغطون عليه، فأحس بفشلــــه فقد استقالته.

انتظمت الأمور بسرعة، ذهبنا، أنا وهمبردروز مندوب الأممية إلى عند كاشين لوضع قائمة بأسماء المحررين في «الإنسانية» بعد أن تم استبعاد كل الذين تآمروا مع فروسار. حاول كاشين أن يدافع عن بعضهم ولكن بفتور، ولم يتحمس إلاّ للاعتراض على إعادة بيير مونات المكلف بزاوية الحياة الاجتماعية.

اعتبر المتآمرون كاشين مسؤولا عن كل هذا فراحوا يفتشون عنه، عبثا، في مكاتب الجريدة، إلاّ أنه بقي طوال الوقت في بيته ليتحاشى الضربات.
[42]
تألب المتآمرون حول فروسار وحاولوا تشكيل حزب صغير، وأصدروا صحيفة أسبوعية ووجهوا كل انتقاداتهم فيها إلى الأمميــــــة وإلى الشيوعية. وطلبوا من «الإنسانية» تعويضات عن صرفهم كما لو كانوا يعملون في جريدة برجوازية.

أمّا بالنسبة لفروسار فقد انخرط بسرعة في الطريق التي سبقــــــه بريان ولافال إليها. لقد عاد إلى الحزب الاشتراكي ومــن ثــم تركه، أصبح وزيرا وانهى حياته السياسية كالعديد من وزراء «بيتان». نشر، سنة 1930، مذكرات عن دخوله إلى الحزب الشيوعي تحت عنوان: «من جوريس إلى لينين» حيث يمكن قراءة مــا يلي: «هل كنت شيوعيا؟ بالقدر الذي تمكن فيه من استعـــادة أجواء «تــــــور» أشعر بأنه يمكنني أن أعطي جوابا سلبيـــــــا علـــى هذا السؤال. لقد سعيت عشرات المرات لأفك ارتباطي بالحزب... لقد كنت، في الواقع، أقرب إلى «بلـــوم» من لينيـــن» (ص. 177). تصور هذه العبارة جيدا نمط السياسي الصغيـــر المتفرد الذي كانه فروسار. وتكتمل الصورة أكثر إذا ما أضفنا هذه الجملة الواردة في الصفحة نفسها حيث يدعي أنه كان «مخدوعا» بأناس من دون شرف ومن دون ضمير».
يفرض تقديم عرض شامل عن مؤتمر الأممية الرابع أن نفرد مكانا واسعا للفاشية. لقد حصلت الأحداث الحاسمة. استدعـــــــى الملك موسوليني لتشكيل الوزارة، وبعد سنة من تعبئة العصابات الفاشية المسلحة التي تعمل في البلاد بالاشتراك مع السلطــات وبعدمها وبعد القيام بما اسمي «الزحف على روما» الذي كان خدعة موسوليني الأولى. وصلت الفاشية إلى الحكم في 30 تشريــــــن الأول أي قبل افتتاح المؤتمر ببضعة أيام. لقد تحدث بورديغـــا، في 16 تشرين الثاني، بانفعال غير مألوف عنده وخصوصا عندما تــــــلا تقريريه عن الفاشية. لقد قال أن «الظروف الخاصة» لم تسمـح له بأن يحمل معه كل المستندات. وعرض، في البدء، تاريخــــا موجزا للحركة الفاشية، متحاشيا ذكر الشخصيات، وذكر بعدها ما أصبح واضحا للجميع «لم تستطع الحركة البروليتارية الاشتراكية الثورية التي تدعمت بعد الحرب بفضل الحمــــــاس الــذي سيطر على الجماهير، لم تستطع الإفادة من الظروف الملائمة... يمكننا القول انه في سنة 1919 والقسم الأول عن سنــــــــة 1920 كانت البرجوازية الإيطالية مستسلمة إلى حد بعيد، وكان من الممكن أن تنتصر الثورة. الطبقات الوسطى والبرجوازية الصغيرة سلبية، ولكنها في نهاية الأمر تنحاز للبروليتاريــا». أدت هذه التبسيطية المعروفة عند بورديغا إلى خطأ واضح في تقييم الفاشية: الديموقراطية والبرجوازية والفاشيــة تمثــل الشــيء نفسـه، إذن «لا أقول أن الوضع ملائم للحركة البروليتارية والاشتراكية عندما أتوقع تحول الفاشية إلى الليبرالية والديموقراطية... إن وضعنا ليس مأساويا». كان قد وصل البارحة مبعوث من الحزب يحمل معلومات حول التطورات الأخيرة. قال عنه بورديغا «هذا الرفيــق هو عامل ويقود تنظيما محليا في الحزب، إنه يقدم رأيا مهمـــــا يوافقه عليه كثير من المناضلين، ويمكننا منذ الآن وصاعد العمل أحسن من ذي قبل».

قيم الرفيق راديك الوضع بدقة أكثر في تقريره حول الهجمة الرأسمالية، وأظهر عن فطانة أكثر فيما يتعلق بفهم هذه الأحداث وبتطورها، قال: «لا أرى في انتصار الفاشية انتصارا ميكانيكيا للقوات الفاشية فقط، إنني أرى فيها الهزيمة الكبرى التي لحقت بالاشتراكية والشيوعية منذ أوائل الثورة العالمية. إن هذه الهزيمــة هي أكبر من هزيمة هنغاريا السوفياتية، لأن انتصار الفاشيــة هو نتيجة العجز الأخلاقي والسياسي المؤقت للاشتراكية ولكل الحركات العمالية الإيطالية».

أمّا زينوفييف فلقد اعتقد بالعكس، بضرورة نشر تفاؤله بين المندوبين: «تتم المناقشة الآن، بين الرفاق الإيطاليين، لمعرفـــة طبيعة ما يجري حاليا في إيطاليا: أهو انقلاب أم مسرحيـة؟. من وجهة نظر تاريخية إنها مسرحية. سيتغير الوضع، في غضــــون عدة أشهر، لصالح الطبقة العاملة». وهكذا يحول زينوفييف الهزائـــــم إلى انتصارات ويعلن عن انتصار الشيوعيـة... في غضون عدة أشهر.
اكتسبت المسألة الإيطالية، المدرجة على جدول أعمال المؤتمــر، أهمية جديدة. لقد سبب تطور الفاشية تحركا ملموسا داخـــل الحزب الاشتراكي الإيطالي. وجد سيراتي وأصدقــــاؤه، الذين أرادوا المحافظـــة على وحدة الحزب بأي ثمن، وجدوا أن التعايــــــش مع اليمين المتمثل بتوراتي وتريفيس أصبح مستحيلا: حصلت القطيعة في المؤتمر الذي تم عقده في روما في تشرين الأول سنة 1922. وترك الاصلاحيون الحزب نعد أن أصبحوا أقلية. بيــــــد أنهم ضاعفوا عدد الأصوات التي تؤيدهم: 29 ألف صوت بدلا من 14 ألف، لأنهم لقوا دعم قياديي اتحاد عام لافارو. نقض داراغونا، بعد المؤتمر، الميثاق الذي يربط الاتحاد بالحزب الاشتراكي وتحصن بموقف استقلالية النقابات وحياديتها. لقد قـــــــال: «نحن لا نريد أن نعمل بالسياسة» وأضاف، بينما كان ينحني باحترام لموسوليني «نريد تحركا نقابيا في إطار القانــــون. هذا ما طرحت به منذ زمن. إن التاريخ يثبت أن اتحاد عـــام لافـــــرو لا يشترك مطلقا في اللا شرعية. لقد خدعنا كثيرا به في موسكو، خلال المؤتمر الثاني، عندما أكد تعلقه بالشيوعية ووقع معنـــا نداء إلى كل الثوريين المنتسبين إلى النقابات من أجل تشكيل النقابة العالمية الحمراء. إنه مثل ساطع عن الخطر الواضح المترتـــب عن وجود أشخاص غير مؤتمين على رأس المنظمات الثورية. إن التيار يجرفهم عندما يكون قويا ولا يستطيعون حصره ولكنهم في الظروف المناسبة يخونونه من دون تحفظ.

عاد سيراتي، الذي لم نره في المؤتمر الثالث، إلى موسكو على رأس حزب قليل العدد ولكنه أكثر تجانسا. واستطاع عندئــــذ أن يقول: «بعد أن طرد مؤتمر روما الإصلاحيين ومؤيدي القانون مع البرجوازية صوت بالإجماع على الالتزام بالأممية الثالثة».

حلل زينوفييف الوضع الجديد الذي وجد الحزب الإيطالي نفسه فيه، ووصل إلى بعض الاستنتاجات. تطرح الجبهة الموحـــــدة نفسها أكثر من أي وقت مضى أولا، تنبع مسألة الانضمـــــام إلى الحـــــزب الاشتراكي من تصويت هذا الحزب نفسه على الالتزام بالأممية ثانيا. وأضاف: «لقد ارتكب حزبنا أخطاء عقدية، احتمـــــــت وأراد أن يتجاهل كل تحرك خارج عن نطاقه. إن لينين نفسه هو الذي لفت انتباهنا إلى وجود «غرور شيوعي» يدعي معرفــة كل الأمور ويتبجح بنفسه أكد موسوليني أن الاتحادات الفاشيــة تضم أكثر من مليون ونصف عضو. إن هذا الرقم مبالغ فيـــه حتما، هذا لا يهم، المهم هو الدخول في هذه النقابات».
أعلن بورديغا، الذي يتكلم باسم أكثرية البعثة الإيطاليـــــــة، أعلن عدم موافقته على توصيات زينوفييف. لقد بقي متخوفا من كل عملية انضمام إلى الحزب الاشتراكي الإيطالي، حتى بعد مؤتمر روما، ويجب على الذين يريدون الدخول إلى الأممية الثالثــة أن يتألبوا حول الحزب الشيوعي. بيد أنه وحلفائه يتقيدون بالتوجيهات التي يرسمها المؤتمر الرابع، من دون تردد.

خصصت الجلسات الأخيرة من المؤتمر للتصويت على القرارات، حضرت اللجان المختصة هذه القرارات آخذة بعين الاعتبار النقاشات التي تبعت عرض التقارير وعرضت النص النهائي أمام المندوبين في جلسة ضمتهم جميعا. تم تكليف كلارا زتكن بقراءة القرار حول «الثورة الروسية وأبعاد الثورة العالمية». وهذا النص الحرفي لأحد المقاطع:

«يذكر المؤتمر العالمي الرابع العمال في مختلف البلدان أنه لا يمكن للثورة البروليتارية أن تنتصر داخل بلد واحد، إنما تنتصـــر فقط في الإطار العالمي بما هي ثورة بروليتارية عالمية. إن نضال روسيا السوفياتية من أجل وجودها ومن أجل انتصارات الثـــــورة هو نضال من أجل تحرر العمال والمضطهدين والمستغلين في العالم أجمع».

تبع تصفيق حار قراءة هذا القرار وتمت الموافقة عليه بالإجماع أمّا بالنسبة للهيئة المكلفة بدرس تشكيل اللجنة التنفيذية فلقد عينت البعثة الروسية بوخارين وراديك كمندوبين، لينين، وتروتسكي كرديفين.

ثم عقد المؤتمر الثاني للنقابات العالمية الحمراء في الوقـــت نفسه في موسكو وفي القاعة الكبيرة من مبنى النقابات. لقد أعد المجلس المركزي أعمال هذا المؤتمر في اجتماعات استمرت من 17 شياط إلى 12 آذار سنة 1922 يلعب هذا المجلس دور اللجان التنفيذيــة الموسعة في الأممية الشيوعية،
اعترض تطور النقابات العالمية الحمراء نوعان من الأعداء. تابع الاصلاحيون في اتحاد النقابات العالمية في أمستردام سياسة الانشقاق، وسببت مناورتهم في فرنسا انشقاق النقابة المركزيــة نفسها. ضاعفت النقابات العالمية الحمراء نداءاتها لتمنع هذا الانشقاق، وتوجه مكتبها التنفيذي، في 3 كانون الأول سنــة 1921 إلى العمال بهذه العبارات:

«يحضر قادة الاتحاد العام للعمل الانشقاق. بعد أن رفضــــوا عدة مرات الوحدة العمالية، إنهم يتحضرون الآن لهدمها علانية وهكذا يعزلون العمال الفرنسيين أمام الرجعية. يضاعف جوهو ودومولين ومرهايم تنازلاتهم للبرجوازية. لا يقابل سلوكهم المذهب مع الحكومة ومع الجبهة ألا تصلبهم تجاه العمال الثورييــــــــن .... لقد تحطمت بفضل جهودهم، في هذه الساعة، وحدة المنظمــات النقابية لسكك الحديـــــــد. ويتبع اتحاد الألبسة هذا المنوال. وكـــم مــن مرة بكى قياديو أمستردام الوحدة النقابية ولكنهم مستعدون لتحطيمها عندما تحاول أكثرية المنضمين إلى النقابات التخلص من وصايتهم ومن وصاية البرجوازية».
[43]
بعد ذلك، وعندما أصبح الخطر كبيرا وجهت النقابــــــات العمالية الحمراء برقية مباشرة إلى أمستردام في 22 كانـون الأول هذا نصها: «إن الاتحاد العام للعمل في فرنسا هو على طريق الانشقاق. نقترح مجلسا يضم ممثلين من اتحادكم ومن الأقلية والأكثرية في الاتحاد العام للعمل وممثلين من النقابات العالمية الحمراء يكون مندوبنا: روسمير، نوم مان ولوسوفسكي». انتظر أودجيست، الأمين العام لاتحاد أمستردام، عدة أيام ليرسل هـذا الجواب التهربي:

«استلمنا برقيتهم. ما يحصل في فرنسا ليس إلاّ نتيجــــة تصرفات اللجنة التنفيذية للأممية الثالثة. إنني سعيد لاستنتاجكــم أن هذه التصرفات لا تخدم إلاّ البورجوازية. حاولوا تأجيل مؤتمر أقلية الاتحاد العام للعمل, أقترح، تحت هذا الشرط، أن أطلب عقــــــــد جلسة في أوائل كانون الثاني مع مندوبكم خاصة. أعطيكم التفاصيل في 28 كانون الأول».

كان الاصلاحيون يخفون رفضهم، بدهاء، عندما يطلــــــــب منهم عملا مشتركا من أجل الدفاع عن مصالح البروليتاريا، بوضعهم شروطا يعرفون سلفا عدم إمكانية تلبيتها، كما هي الحالة هنـــــــا، وهم لا يفكرون إلاّ بتسجيل نصر غبي.

لقد طرحوا أنفسهم كأبطال استقلال الحركة النقابية، لكنهم في الوقت نفسه، ربطوا كل تحركاتهم بعصبة الأمم والمكتب العالمي للعمل، مخلفات الولسونية هذه التي رأوا فيها أسس ديموقراطية جديــدة وضمانات ضد الحرب والفاشية. وعندما انهارت عصبة الأمم وجدوا أنفسهم بين الضحايا، وحتى، في هذا الوقت، رفضوا أن يتعلموا هذه الأمثولة الرهيبة.

في تشيكوسلوفاكيا، أجبر اتحاد صناعة الأقمشة كل منتسـب جديد إلى النقابة أن يوقع عهدا يلتزم فيه أن يناضل من أجــل أمستردام وأن يحجم عن كل دعوة إلى النقابات العالمية الحمـــراء، في سويسرا، حيث ارتفع عدد مؤيدي الاصلاحيين إلى 300 ألف ومؤيدي الفوضوية – النقابية إلى 35 ألف، تزاحم كل من الطرفين في حملة من أجل النيل من الثورة الروسية وإطلاق الهجمات ضد النقابات العالمية الحمراء.

أتى الهجوم الثاني، الذي تعرضت له النقابات العالميـــــة الحمراء منذ نشوبها، من الفوضوية النقابية ومن من كانوا يدعون أنهم «نقابيون خلص»، لقد فشلوا، منذ المؤتمر الأول، من فرض وجهات نظرهم. عند عودتهم إلى بلادهم، أخذوا بالثأر عندمــــــا شنوا حملة ضارية تطورت بشكل مواز – ولا تختلف كثيرا – عن الحملات التي شنتها الأكثرية الساحقة من الصحف البرجوازيــة. كانوا يوجهون كل جهودهم لإرباك العمال وتهديم الحماس الذي حملهم إلى الثورة الروسية منذ يومها الأول. لم تكن حملاتهــــــــم التي تصادفت مع انحسار المد الثوري في فترة ما بعد الحرب، من دون نتيجة إذ إنها أضعفت إلى حد ما النقابات العمالية الحمــراء ولكنها لم تقدم شيءا مفيدا لهم. بيد أنهم، على عكس الزعماء الاصلاحيين الذين أتوا إلى موسكو لايجاد الحجج ضد الأممية الشيوعية، كانوا صادقين مع أنفسهم، كان ما شاهدوه في روسيا يختلف عمّا تخيلوه، فبدلا من أن يسعوا إلى فهم الثورة وتطــورها وأن يفرقوا بين الطرق التي اتبعتها الثورة وتلك التي اختاروها طواعية وبين التي فرضت عليهم من قبل الدول الرأسمالية والحرب الأهلية، بدلا من كل هذا كانوا يقتصرون على تأكيدات موجــزة، كانوا ضد الجيش الأحمر وضد ديكتاتورية البروليتاريا التي وافقوا عليها منذ البدء، لقد انصرفوا عن الشيوعية لأنها لم تقض بضربة واحدة على كل آثار التهدم الماضية. لقد عملت النقابات العالمية الحمراء كل جهودها لتبقي النقابيين المخلصين في وسطها، كانت تعمل جاهدة لتبدد كل سوء تفاهم. وجهت في أواخر أيار سنـــة 1922 رسالة إلى أعضاء الاتحاد الوطني للعمل الاسبانــي، لقد رفعت الحكومة حالة الحصار وأصبحت الضمانات الدستوريــة مؤمنة. كان هذا مناسبة، بعد ثلاث سنوات من القمع العنيـــــــف، لأخذ الدروس من التجارب التي عاشتها الحركة العمالية في كل البلدان وفي هذه المرحلة المليئة بالأحداث المهمة. تقول الرسالــــة، لقد كنا نتوقع أن يعطي، خلال مؤتمر ساراغوســـــــــا، للرفاق المناضلين توجيهات واضحة، فبدلا من ذلك تم التحضير لهـذا المؤتمر بمناخ طغى عليه هم تحضير الأكثرية والخطابات المحشـــــوة بالصيغ الساقطة التي لا ترتبط بالواقع الحالي: لقد توجب، قبل كل شيء، تأمين الأكثرية من أجل القطيعة مع النقابات العمالية الحمراء وانتهت الرسالة إلى القول: هذا هو الخطأ الجسيم إذ لا مكان لمنظمة عالمية أخرى.

نظمت الأقلية، المدافعة عن الالتزام بالنقابات العالمية الحمراء نظمت نفسها بلجان نقابية ثورية واستخلصت معنى التصويت مع القطيعة:

«لقد أكد اجتماع ساراغوسا وجود تيار تطوري ينفي الماضي المليء بالبطولات والتضحيات. أن الاتجاه الذي تم إقراره في ساراغوسا هو أسوأ من الإصلاحية، إن وجهة النظر التي انتصرت تهمل العوامل الاقتصادية بشكل تام». لقد كان قياديو هذا الإتحاد مضللين حتى أنهم كانوا يرفضون خطر وقوع انقلاب يضعهم خارج القانون. والحال أن بريمودي ريفيرا استولى على السلطة في 13 أيلول سنة 1923 في البرتغال، فرض قياديو الاتحاد العام للعمل ديكتاتوريتهم عندما أرادوا أن يفضحوا ما أسموه بديكتاتورية موسكو لقد رفضوا الكلام مع مؤيدي النقابات العالمية الحمراء، ولم يستطع بدفيتوري كارفالهو تقديم تقريره لدى عودته من موسكـــو. لقد حصلت القيادة على ما تريد: الانضمام إلى الأممية الفوضوية في برلين، لكن مناوراتها أثبطت. وبالنسبة للأمين العام، دي لوزا «لا تستمر الرأسمالية إلاّ بواسطة الإيحاء الذاتي».

كانت فرنسا في وضع خاص. كان هنالك، منذ الانشقاق، مركزان نقابيان: الاتحاد العام للعمل الذي خرج من هذه المناورات ضعيفا للغاية: لم يتعد عدد المنتسبين إليه 300 ألف عضــــــــو بالرغم من إعلانه عن وجود 700 ألف عضو في الوثائق الرسمية، المركز الجديد الذي اتخذه لنفسه اسم الاتحاد العام الموحد للعمـل وذلك ليشير بوضوح إلى رغبة الوحدة عنده، وكان عدد المنتسبين إليه حوالي 450 ألف عضوا.

عقد هذا الإتحاد مؤتمره التأسيسي في سان-اتيان ما بـيــــــــن 25 تموز وأوائل آب سنة 1922. وتم إبعاد القيــــــــادة المؤقتــــة التي ضمت الفوضويين و«النقابيين الخلص» من جراء ظروف عرضية. لقد تضمن القرار، الذي تم التصويت عليه بأكثريـــــــة 743 صوتا مقابل 604 صوتا، الانضمام إلى النقابات العالمية الحمراء مع بعض الشروط: يجب حذف الفقرة 11، من النظام الأساسي، التي تنص على الارتباط العضوي بين الأممية الشيوعية وبين النقابات العالمية الحمراء، وإبدالها بالنص التالي: «يجـــــب على النقابات العالمية المراء والأممية الشيوعية أن تجتمع مــــــن أجل القيام بأعمال مشتركة عندما تدعو الحاجة، ويجب علــــى النقابات والحزب الشيوعي، في البلدان المختلفة أن تتبع هــذا النهـــــج من دون المساس، بالمقابل، باستقلالية هذه المنظمات».
[44]
وهكذا يمكن أن يتم افتتاح المؤتمر الثاني في ظروف مغايرة جدا لتلك التي كانت في السنة الماضية. لا تضيع النقاشات في مواضيع نظرية. إن الوضع واضح. اجتمع المندوبون، نهار الأحـــد 19 تشرين الثاني، في القاعة الكبرى من مبنى النقابات، لعقد جلستهم الأولى، وتطرقوا مباشرة إلى تقرير لوسوفسكــي حول نشاط النقابات العالمية الحمراء خلال السنة الماضية. طلب المكتــب التنفيذي للنقابات العالمية الحمراء الموافقة على تعديــل الفقــــــرة التي نوه بها مندوبو الإتحاد العام الموحد للعمل. ثم حذف الفقـــــرة 11 واستبدلها بالنص التالي: « من أجل أن يكون نضال كل التنظيمات الثورية متوافقا، يمكن للمكتب التنفيذي، تحت وطأة الظروف، 1- أن يعقد اتفاقات مع اللجنة التنفيذية في الأممية الشيوعية، 2- أن يعقد اجتماعات مشتركة مع اللجنة التنفيذيـــــــــة في الأممية الشيوعية لمناقشة المسائل الأكثر أهمية المتعلقة بالحركة العمالية، ولتنظيم العمل المشترك، 3- أن يدعو للتظاهـــــر مع الأممية الشيوعية». وتبع هذا التغيير نقاش قصيـــــر، فلقد أعلن بعض المندوبين أنهم لم يفهموا لماذا تم طلب إلغــــــــاء المـــــــادة 11 واقتراح تبديلها بنص لا يقدم أي تغيير في الجوهر. يجب الاعتراف أن الفرق كان مهما بالنسبة للفرنسيين الذين علقوا التزامهــم عليه.

تم إدراج مسألة العلاقات بين الحزب السياسي والنقابــــــات على جدول أعمال المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية الذي درى عقـــده في الفترة نفسها.

أعلن تاسكا، الذي تكلم باسم البعثة الإيطالية كما أشار هو بنفســه، أعلن أنه من الممكن أن تكون هنالك ضرورة لتقديم التنازلات لفرنسا أو لأي بلد آخر، لكن هذه التغيرات لم تكن فـي محلها في الأطروحات العامة، لأنه يجب أن يتم تجنب أن تكون هذه التنازلات «شيئا» يساعد على تجذير موقف، من دون مخــــــرج، أتى معظم الرفاق إلى هنا لإدانته... وحتى لو صح في فرنســــــــــا أن على النقابات، من خلال تطورها التاريخي، أن تلعــب دورا قياديــا في الثورة البروليتارية، فإن هذا لا يعد سببا للانصراف عن تكتيك التمركز الشيوعي. إن هذا، بالعكس، يعد سببا إضافيـــا لنمارس هذا التمركز، ونؤمن حصتنا في قيادة الثورة البروليتاريـة. إن الحجة الوحيدة الممكنة لمعارضة التمركز هي عدم ثقة العمـــال في الحزب الشيوعي. إن هذا يعتبر حلقة مفرغة، يجب تحطيمها بوضوح، إننا مقتنعون أن خلق الظروف لعمل منهجي للشيوعييــن في النقابات هو مسألة حياة أو موت بالنسبة للحزب الشيوعي الفرنسي». (الجلسة السابعة عشر، 20 تشرين الثاني 1922)
[45]
تمت تسوية هذا الإشكال بسهولة، هذه المرة، واستطـــاع المؤتمر أن يكرس كل جلساته لمهام النقابات العملية: الدفاع عن العمال ضد الهجمة الرأسمالية وضد مناورات القادة الإصلاحيين، كان يعمد هؤلاء إلى عمليات الصرف عندما تطرح أية معارضة لسياستهم وذلك لتأمين سيطرتهم على النقابات، وطرحت من جراء ذلك إشكال جديد، يجب جمع المصرفيين وموافقة تحركهم مـــــع عمل النقابات، وربطهم بها بطريقة ما وفضح الاتجاه الانشقاقي للاصلاحيين أمام العمال. وأفراد مكان واسع لمناقشة المهمة الملحة لتنظيم النقابات ونشاطها في البلدان المستعمِرة (بكسر الراء) والمستعمرة.
كان من غير الممكن تفادي انشقاق الأحزاب الاشتراكية بعد الحرب، لقد كانت المفاهيم المختلفة التي تتصارع فيها جذرية حتى أنها أدت إلى القطيعة بشكل طبيعي، فشيدمان وليبكنخت لم يعودوا يستطيعون الانتماء إلى الحزب نفسه. أمّا بالنسبة للنقابات فمن الممكن إحالة القارئ إلى الصفحات التي تمت فيها مناقشة هذه المسألة وإلى كتاب لينين «مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية» وإلى المناقشات التي دارت في المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية وإلى القرارات التي تمخضت عنه. فبدلا من أن نشق النقابات، كنا نطلب من الشيوعيين البقاء في النقابات الاصلاحية وأن يتعلقوا بها عندما يريد قياديوها طردهم (الشيوعيين) منها، لقد خذلته ذاكرته، فيكتور ســـــــرج عندما كتب هذه «المذكرات»، لقد أكد مثلا في مقطع سابق أن «تروتسكي طرد كاشين وفروسار من روسيا سنة 1920». إن تروتسكي لم يفعل شيئا من هذا ولم يتم طرد لا كاشين ولا فروســار لقد قلت أنهما ذهبا إلى روسيا في تلك الفترة، وخضعا هنالــــــك لنظام الحمام السكوتلندي، أي أنه كان يتم تذكيرهما بارتدادهما خلال الحرب ولكن في الوقت نفسه كان يؤخذ تحولهما – المتأخر – نحو ثورة أكتوبر ونحو الأممية الشيوعية كان يؤخذ بعين الاعتبــــــار تركا موسكو بعد أن تعهدا علانية بالدفاع عن الالتزام في الحزب الاشتراكي الفرنسي وعن الالتزام بالأممية الشيوعية، وقد مثلا هذا بمحض إرادتهما.

-----

(1923)


1- بوانكريه يحتل الروهر! [46]
كانت سنة 1923 سنة حاسمة بالنسبة لألمانيا وكذلك بالنسبة للمعاهدات التي تمت بعد الحرب، وليس من باب المبالغة القــــول انها كانت كذلك بالنسبة للعالم أجمع. لقد أيقظ احتلال الروهــر الوطنية الألمانية، ظهر هتلر خلالها. لقد كانت سنة حاسمــــــة بالنسبة لروسيا السوفياتية والثورة البروليتاريــــة. لقد استطـــاع لينيــــن أن يتابع نشاطه جزئيا خلال الشهرين الأولين، لكن في أوائل شهر أيار هاجمه المرض مجددا وأصبح مشلولا حتى وافته المنية في كانون الثاني سنة 1924.
سببت مسألة التعويضات الأزمة إذ انها كانت تطرح خلال كل مؤتمر ولكن لم يصار إلى حلها نهائيا.
لقد تم إنشاء لجنة خاصة تهتم بهذا الموضوع اثر معاهدة فرساي، وكانت الشروط التي فرضتها على ألمانيا غير قابلة للتطبيق كما كانت ألمانيا من جهتها تسعى لخلق الصعوبات في وجه هذا التطبيق لم تحدد معاهدة فرساي قيمة التعويضات المفروضة على ألمانيا، قررت اللجنة في 15 أيار عام 1921 أن تحدد الديون المترتبة على ألمانيا بـ 132 مليار مارك ذهبي. لكن كيف يمكن انتزاع مبلغ كهذا من ألمانيا بدون أن ينهار الاقتصاد الأوروبي؟

لم تعد مصالح الحلفاء متوافقة وكانت تصطدم ببعضهـــــا البعض بوضوح أكثر فأكثر. لقد استفحلت البطالة في إنكلتــرا، وأصبح حوالي مليون عامل عاطلين عن العمل ولا يمكن للصناعـة أن تستوعبهم حاليا ولا يمكنها أن تستوعبهم غدا إذ لم يكـــــــن بالمستطاع إعادة الاقتصاد الأوروبي إلى وضعه الطبيعي. حاولت الحكومة البريطانية أن تقوم بمسعى في هذا الاتجاه في «جـان»، لكنها كانت تصطدم دائما بفرنسا التي كانت تثير قضية المناطق المنكوبة من أجل إجبار ألمانيا عن الدفع. كانت إنكلترا تجيب بأن عندها هي الأخرى مناطق منكوبة، أغلقت المصانع أبوابها وتحول عمال المناجم إلى البطالة وأصبحت المراكز الصناعية تنظر إلى الفحم المكدس أمامها والذي لا يجد سوقا في القارة.

ستتأزم الحالة في ألمانيا أكثر فأكثر. أزعجت الرقابة التي فرضها الحلفاء الصناعيين وأفقدتهم صوابهم. لقد أثقلت مدفوعات الحرب الضخمة الميزانية. كان الاشتراكيون – الديموقراطيون، حينذاك مشتركين في الحكومة وأحيانا في رئاسة المجلس، وأخذوا يطالبون بطريقة أفلاطونية «بتوزيع منصف لثقل التعويضات» بعد أن حطموا المد الثوري للأيام الأولى. لكن شتاينــس [47]، الذي كان يتكلم باسم أقطاب الصناعة الثقيلة، رفض هذا الأمر، وبقيــت الحكومة ضعيفة بينما كان البؤس يمتد في أنحاء البلاد. كانت العملة تنهار، وكانت كل أزمة تسبب بانخفاض قيمة المارك حتى أصبـح، في أوائل سنة 1922، كل 650 مارك بليرة استرلينيــة، بعد التخفيض الجدي الأول، وتحول القوميون من كل الفئـات إلى عدائيين. وكانوا ينعتون الرجال الذين يحاولون التوصل إلى اتفــاق مع الحلفاء بشروط معقولة وقابلة للتنفيذ، كانوا ينعتونهم بالتخريب وتم اغتيال فالتر راثونو (المدير السابق لشركة الكهرباء العامة ووزير الخارجية فيما بعد) بعد أن أعلن في «كـــان» عن رغبة ألمانيا بالدفع «في حدود الإمكان»، وكذلك أيضا جرى اغتيال أرزبدغر، في 26 آب 1921 بعد أن وافق على توقيع معاهدة سلام مع الحلفاء.

في فرنسا ولأسباب أخرى كان الوضع الداخلي صعبا، كان الحكام قد مولوا المدفوعات الاستثنائية على شكل قروض، رغبت البرجوازية بمتابعة الحرب «حتى النصر» ولكنها لم تعد تريد أن تدفع، لقد تركت الأعباء الاقتصادية للأجيال المقبلة. لم تستطع الحكومات المتعاقبة أن تضرب أصحاب المنشآت إلاّ ظاهريا، لقد حقق هؤلاء أرباحا ضخمة وهم يعملون من أجل الحرب. انهارت ميزانية الدولة تحت وطأة المصاريف المتزايدة: ديون قديمة، ديون الحرب، تعويضات على ضحايا الحرب.. وكان العجـــــــز يزداد أكثر فأكثر لأن بالرغم من فرض حظر التسلح على ألمانيــا، لم تخفف فرنسا من ميزانيتها العسكرية، وكانت الحكومة تجبر على إخفاء قسم كبير منها بحيل قانونية، وتجيب، على حملات الاستياء المتزايدة بفضح «القصور الألماني». وهكذا كانت الأرض خصبة لنشوء تيار شوفيني أوصل إلى المجلس أكثرية قومية وخصوصــا من المصابين «بالخوف من ألمانيا» هذا المرض الذي رفعته الحرب إلى أعلى درجاته.

خلال سنة 1922، كان التوتر يزداد بين ألمانيا وفرنســـــا. طلبت ألمانيا بعض القروض، بعد عدم تمكنها من دفع التعويضات التي نص عليها قرار 5 أيار. بعدها، فقط، يمكن أن تدفع. وافق بوانكريه، في شهر آب وخلال اجتماع جديد جرى عقده في لندن، وافق على تأجيل دفع الديون المترتبة على ألمانيا لكنه فرض في المقابل شروطا جديدة للرقابة عليها. مع بداية سنة 1923 أصبحت هنالك ضرورة ملحة لعقد اجتماع آخر بين انكلترا وفرنسا وألمانيا، وكان الاجتماع الأخير من نوعه. كانت تراود، بوانكريه منذ فترة فكرة احتلال الروهر، وقبل أن يبدأ بالتنفيذ طلب إلى عــدد من التقنيين والعسكريين والمدنيين أن يدرسوا المسألة بتأني وأن يضعوا مخططا دقيقا بذلك. يرغم هذا الإجراء، الذي يعادل العودة إلى الحرب، حسب تقدير بوانكاريه والرجال المحيطين به، يرغم ألمانيا أخيرا، على تنفيذ ما وعدت به. كان هنالك بعض المخاطر إذ أن القطيعة مع إنكلترا أصبحت لابد منها. كان بوانكريه يعتقد أن هذا العمل سوف لن يلاقي في فرنسا إلاّ معارضة غير ذات أهمية. استعمل بريان نفسه أحيانا لهجة تهديدية وأمر بأخذ إجــــراءات قسرية ضد ألمانيا وصلت إلى حد الاحتلال. لكن هذا الاحتـــلال توقف عند ثلاثة مدن مهمة في حوض الروهر: ديسبرغ ودوسلدون وروروت، لم يدم هذا الاحتلال كثيرا إذ تم اعتباره اجراءا رمزيــا.
عقد اجتماع، لتسوية الوضع استمر من 2 إلى 4 كانون الثاني ظهر خلاله بوانكاريه متصلبا في موقفه وأعلن رغبته باحتلال الروهر كان كل نقاش بعدها غير ذي فائدة، أعلن الإنكليز أنه يتوجب على فرنسا أن تقوم بالمغامرة منفردة واسفوا لعدم تمكنهم من مساندتها متمنيين لها حظا سعيدا، وقد كتموا غيظهم حيال حليــف غير قابل للفهم إلى هذه الدرجة. بيد أن بوانكاريه لم يكن وحيــــــــدا إذ لم يكد الجنود الفرنسيين أن يدخلون الروهر في 11 كانون الثاني حتى تبعهم فيلق بلجيكي.

أطلق رئيس الرايخ نداء للمقاومة وقد وافق على هذا النداء الرايختاغ بأكثرية وتلخصت الدعوة: بالمقاومة السلبية ورفض الشغيلة العمل لصالح المحتل. وتكاثرت الأحداث، أوقفت الحكومة الفرنسية فريتز تسين مع بعض كبار رجال الصناعة وقضت عليهم.

في فرنسا، وجد الحزب الشيوعي نفسه فجأة أمام التجربـــــة وهو لم يكد ينهي تنظيمه بعد قرارات المؤتمر الرابع للأمميــــــة الشيوعية وكان مجبرا أن يتحمل وزر احتلال الروهر. لم يقدم الحزب الاشتراكي إلاّ على معارضة شكلية، فقد كان لا يوافق على سياسة بوانكاريه لكنه أخذ من القضية موقف المتفـرج، فرفض الدعوة لإقامة معارضة حيوية لأنه كان يخشى مجابهة مرض «الخوف من ألمانيا» ومجابهة القوميين الذين كانوا يحتضونه، ويغذونه. ولم يفكر أيضا بالقيام بعمل مشترك مع الحــزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني.

اهتمت القيادة الجديدة للحزب الشيوعي الفرنســـــي بإنشاء علاقة مع الحزب الشيوعي الألماني، واشتركت في التحضير لاجتماع فرنسي – ألماني يعقد في «ايسن» من أعمال الروهر كان جواب بوانكاريه على هذا توقيف المندوبين الفرنسيين: كاشين وترين، الأمين العام الجديد للحزب، ومونموسو، أمين عام الاتحاد الوطني للعمل، ووضعهم في السجن. أطلق مجلس اللجان الاستشارية في مصانع الروهر، الذي أخذ مكان القيادات النقابية المنهــــارة، أطلق الدعوة إلى مختلف الأمميات، إلى المراكز النقابية، إلى الأحزاب الاشتراكية – الديموقراطية وإلى العمال، وطلب منها إرسال مندوبين عنها إلى المؤتمر الذي دعي إليه والذي يعقد في كولونيا. تم عقد المؤتمر، ليس في كولونيا نظرا للصعوبات التي أوجدها المحتلون، إنما في فرانكفورت في 17 أذار. لكن هذا المؤتمر لم يلق النجاح المطلوب إذ أن قادة المنظمات الاشتراكية الديموقراطية الإصلاحية قرروا مقاطعة ومنع أعضائهم من الاشتـــــــــراك فيه. في فرنسا، لاقى «أسبوع الاحتجــــــــــاج» نجاحا نسبيا، تم خلاله عقد اجتماع في كل المدن. كان العمال ضد سياسة بوانكاريـــه الداخلية بشكل واضح ولكن حقدهم على ألمانيا، والذي غذتـــــه أكثرية الصحف، انتصر في النهاية، وسمحوا لبوانكاريه أن يتابع عمليته بأمل انتزاع شيء ما من ألمانيا التي ترفض التعويض عن التخريب الذي أحدثته اعتداءاتها.

تدخلت الشبيبة الشيوعية بكل شجاعة، متحدية كل المصاعب وأمنت طباعة «الإنسانية» وتوزيعها بعد أن منعتها السلطات العسكرية، وكانت الصحيفة تحرر في باريس وتطبع في ألمانيـا، قامت الشبيبة الشيوعية بحملة نشيطة بين الجنود تدعوا إلــــــى الأخوة مع الجماهير العمالية في ألمانيا. كانت لهذه الحملة نتائـــج جيدة حتى أن الحكومة الفرنسية اضطرت معها إلى القيام بحملات تطهير بوليسية، وأوقفت العديد من الجنود الشبان وحكمت عليهم مجالس الحرب بعقوبات شديدة، بيد أن الحملة ظلت مستمرة.

في ألمانيا، تضاعفت التحركات والاضطرابات التي سببها الاحتلال. أدى تدهور العملة إلى صعوبات كثيرة في تمويـــن العائلات العمالية وتغذيتها. ولم تعد الأجور تستطيع اللحاق بالأسعار المتزايدة في لارتفاع. واكتنف البلاد جو من البؤس والبطالة والاضطرابات التي أحدثها الجوع. وتم التعبير عن الغضب والتمرد من خلال تيارين مختلفين. دفعت اعتقالات رجال الصناعة ورؤساء البلديات بالقوميين إلى تجييش نفوسهم وزيادة نشاطهم، لقد بذل زعماؤهم جهودهم من أجل أن يجروا وراءهم كل الطبقات للوقوف بوجه محتل يحاول أن يقتطع من ألمانيا قطعة من أرضها ويشجع الحركات الانفصالية وخصوصا بخلقه جمهورية رينــان المستقلة. كان الأمر بالنسبة للعمال أكثر تعقيدا. كانوا بكل تأكيد، ضــــد المحتل، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا ضد «تيسن» و«كـروب» وضد أقطاب الصناعة في الروهر الذين كانوا دعامة النظام الـــذي قاد ألمانيا إلى الحرب. كانت تظهر، هنا وهناك، حركات عفويــــة تحتل المصانع والمناجم نترة وتستولي على السلطات في المدن تارة أخرى. وظهر اتجاه بين مناضلي الحزب الشيوعــي يدعو إلى مساعدة هذه الحركات وتشجيعها ودعا أيضا العمال إلى العمل المباشر. لكن قيادة الحزب اعتبرت هذه التحركات كانتفاضات صغيرة مصيرها الفشل ويمكن أن تؤدي بالجماهير للابتعاد عن الحزب، ويجب أن يتوجه النشاط العمالي أولا ضد المحتل.

نظم القوميون فرقا للتخريب، قامت بأعمال الاغتيال ونسفت الجسور وسكك الحديد واهتمت بأن تمنع بأي شكل استثمار الفرنسييــن لحوض الروهر. وحدث أن القي القبـــــــــــــض على أحد زعماء القوميين ويدعى شلاجتر، وحكم عليه مجلس الحرب بالإعدام. وسبب تنفيذ هذا الحكم، في 26 أيار، خضة في طـــول البلاد وعرضها، وأصبح الوضع خطيرا. لقد طال الاحتلال وتأزمت الحالة، عندها قررت قيادة الأممية الشيوعية الدعوة إلى مؤتمر للجنة التنفيذية الموسعة.

تم عقد الجلسة الأولى في 12 حزيران سنة 1923. بعــد أن جرى تقديم التقرير العام المعتاد، افتتحت كلارا زتكـــن النقاش حول «النضال ضد الفاشية»، بعد ظهر ذلك اليوم تدخل سميـــــرال وجيبتز في النقاش عندما تقدم راديك إلى المنصة، لقد كان مظهره غير مألوف وكذلك أيضا الخطاب الذي ألقاه، ابتدأ كلامه على هذا النحو:

«استحوذ على فكري اسم شلاجتر ومصيره المأساوي خلال الفترة التي كانت فيها الرفيقة كلارا زتكن تلقي خطابها.

يجب أن لا نقتصر على القاء كلمة عابرة لإحياء ذكرى شهيد القومية الألمانية، لقد علمنا الكثير، لنا وللشعب الألماني، نحــــــن لسنا برومنطيقيين عاطفيين ينسون الحقد أمام الجثة أو بديبلوماسيين يقولون: يجب أن نمدح أو نسكت أمام الضريح. يستحق شلاجتر جندي الثورة – المضادة الشجاع، ويستحق منا، نحن جنــــــود الثورة، احتراما صادقا، نشرفريكس، رفيقه بالأفكــــــــار، سنة 1920 قصة، يروي فيها حياة ضابط قتل في معركة ضد السبرتاكية عنوانها: «الذهاب إلى العدم». لقد مات شلاجتر، وإذا كــــان الفاشيون الألمان، الذين لا يريدون خدمة شعبهم، لا يفهمون معنى مصيره، يمكنهم أن يكتبوا على ضريحه: «الذهاب إلى العدم».

اندهش المندوبون. ماذا تعني هذه المقدمة الغريبــــــــــة؟ إن تتمة الخطاب لا تشرح شيئا بل العكس تدعم الانطباع الأول. أعطى راديك صورة عن ألمانيا المهزومة والتي سحقها المنتصر، قــال: «إن المجانين وحدهم يمكنهم أن يتوهموا أن المعاهدة تعامل ألمانيا بشكل مغاير لمعاملة ألمانيا لروسيا. لقد مات شلاجتر، وأقســـــــم على ضريحه، رفاق السلاح بأن يتابعوا: ضد من؟ مع من؟»

خلال الاستماع إلى راديك ساد انطباع أنه يقرأ مقـــــالا كتبه على عجل وأن المسألة هي مسألة شخصية بحته. كانت نهايــــة خطابه موفقة إلى حد ما: «إننا نعتقد أن أكثرية الجماهيـــر التي حركها حاليا الشعور القومي تنضم لا إلى معسكر الرأسماليين إنما إلى معسكر العمل».
هنا يكمن في الواقع الموضوع الذي طرحه التحرك القومـي، هذا التحرك الذي تطور بطريقة مقلقة والذي قدمت سياسة بوانكاريه له الخدمات الجلى, لقد كان هذا التحرك مقلقا حتى قبل الاحتـــلال وقد حدد مقال، كاتبه تيتل، نشر في «المراسلات الدولية» في 30 كانون الثاني سنة 1922، حدد الخطر الذي يشكلـــه (التحرك) بتنظيمه العسكري وبرنامجه الديماغوجي. قال المقال أن الخطر الفاشي هو حقيقة واقعة في ألمانيا الجنوبية. لقد ارتدت حملات الحزب القومي – الاشتراكي طابعا واضحا: في مدينة بافييـــر ومؤخرا في مدينة ويدتنبرغ: وحشية ضد العمال، وأحداث داميــــة في شتوتغارت وجيسلينغن، وقتل متعمد في كابنغن.

إن المسألة هي مسألة حملة منظمة تستعمل اليـــــافطات والبيانات والاجتماعات، إن الحركة القومية – الاشتراكيــــــــــة هي لا سامية وتهدف إلى نشر فكرة الجرمانية المتفوقة. لقد لاقت هذه الديماغوجية تجاوبا في أوساط الجماهير الخائبة. انتشرت فـــــــي البدء في الطبقات الوسطى وفي البرجوازية الصغيرة، ولا يمكن أن ننفي وجود أتباع لها بين العمال. لكن الدعم الأساسي كان يأتيهـــــا من كبار الصناعيين ومن الملاكين العقاريين. ويرتبط الأعضاء «النشيطون» بقسم يؤدونه أمام الزعماء ويخاطرون بحياتهم من أجــل تنفيذ الأوامر.

استغلوا موقف الشرطة المرحب وأحيانا تلقوا الدعم منها، ويخلص صاحب المقال إلى القول: «لقد توصل القوميون – الاشتراكيون بفضل شجاعتهم إلى مركز جيد في جنوب ألمانيا، لا يمكن أن نشك بأن حيويتهم تزيد من قواهم، بشكل سريع، وقد يشكلون غدا خطرا حقيقيا على الطبقة العاملة.
[48]
إذا كان الخطر القومي – الاشتراكـي واضحا ومحددا فإن الوضع لم يكن يخلو من الصعوبة، إن المسألة لم تطرح لنضال واضح ومباشر ضد مستغلي العمال: كان الاحتلال يدفع، نحـو القومية – الاشتراكية، شرائح البرجوازية الصغيرة وحتى بعض » العمال الذين كان من المتوجب تحويلهم عنها. لم يكن التصريح الذي أدلى به راديك ليسهل مهمة المناضلين العماليين الذين يواجهون نشاطهم بشكل صحيح، إنما بالعكس ساعد زعماء الاشتراكية – الديموقراطية الذين ظلوا سلبيين أمام تطور القومية – الاشتراكية ساعدهم بطرح مبرر – يكاد يكون ممتازا – لفضح ما أسموه: «تواطؤ القادة الشيوعييـن مع الفاشيـــــــة» لقد أعادت صحفهــــم نشر خطاب راديك وعلقت عليه وكذلك فعلت صحف الحزب الألماني الشعبي وصحيفة فوسيشي الناطقة باسم الليبرالية – الديموقراطية.
[49]
تولى راديك الإجابة عليهم بمقال يخلو من التحليق الغنائــــي الذي طبع خطابه لكنه محشو باللذع الهجائي والسخرية. فبعد أن كرس بعض أسطر لمحرري «دي تسيت» (الوقت) ومحرري صحيفة فوسيشي، هاجم صحيفة فورفتش (إلى الأمــــــام) التي نشرت مقالا بعنوان «راديك يحتفل بعيد شلاجتر». كتب يقول: «تشكل الفاشية خطرا كبيرا، وأكبر بكثير مما يظنه جماعــــة فورفتش لأنهم أظهروا عدة مرات عن عدم تمكنهم من الحسـاب بشكل صحيح... إن الحزب الشيوعي هو، حتى الآن القـــــــوة الوحيدة التي تنظم صراع البروليتاريا ضد عصابات الفاشيين المسلحة. لكنه من المضحك الاعتقاد أنه يمكن التغلــب على الفاشية بالسلاح فقط. يمكن التغلب على بعض تحركات الأقلية لكن هــذا الأمر يبدو مستحيلا بالنسبة للفاشية في ألمانيا وذلك لسبب وهو أن أجهزة الحكومة هي بين أيديهم أو متعاطفة معهم». يجب أن ندفــع نحو الاشتراكية شرائح البرجوازية الصغيرة التي ترى في القومية الاشتراكية مخرجا لبؤسها»، لا تسعى الاشتراكيــــــة أن تكون صراعا من أجل تأمين لقمة العيش للعمال فقط، إنما تسعى دائمـــــا أن تكون مشعلا مضيئا أمام جميع البائسيـــــن». توافق فورفتشي على أنه يجب على الألمان أن يناضلوا ضد البنود الجائرة في معاهدة فرساي، لكنها لا تقول كيف يمكن أن تتم قيادة هذا الصراع لأنها هي نفسها لا تعرف ذلك». تضع الحكومة العمالية التي يريــــد الشيوعيون فرضها الأعباء التي فرضتها المعاهدة على أكتـــاف الذين يمكنهم تحملها، وستناضل هذه الحكومة ضد معاهدة فرسـاي كما ناضل الروس ضد كل محاولة لتقييدهم. وخلص راديك إلى القول: «تكمن إحدى الجرائم الكبرى التي ارتكبتها الاشتراكي – الديموقراطية الألمانية، تكمن في كونها حطمت كل ثقة بالاشتراكية، هذه الثقة المتمثلة بالجماهير الشعبية».
تمت كتابة هذا المقال في موسكو في الثاني من تموز سنـة 1923 أي بعد 10 أيام من العظة الغربية حول شالاجتر. لقد تكلم، في المقال، بلهجة مغايرة تماما وطرح المواضيع بوضوح، وإذا مت تساءلنا عن الأسباب التي دفعت راديك لإلقائه: يبدو أن لهذا التساؤل قيمة محددة جدا.



--------------------------------------------------------------------------------

2- هامبرغ: اندماج الأممية الثانية وأممية فيينا


وجهت الأممية الشيوعية دعوة إلى الأممية الثانية وإلى الاتحاد العالمي للأحزاب الاشتراكية من أجل تحريك أقصى الجهود العمالية ضد احتلال الروهر وضد معاهدة فرساي وضد نشاط القوميين الخطر. لم تتلق الأممية الشيوعية أي جواب من كلي المنظمتين. إنه مهم جدا وذو دلالة كبرى الاستنتاج أن الأممية الثانية وفروعها تزداد في تلك الحقبة من الزمن. لقد عادت عناصر اليسار إليها بعد أن تركتها وأكدت عدم تعاونها مع الذين خانوا الاشتراكيــة خلال الحرب. أدى بهم ترددهم أمام الأحداث الحاسمة إلى أن يصبـــــــوا في النهاية، إلى جانب الأممية الثانية، كما أن المستقلين الألمان التحقوا بالاشتراكية – الديموقراطية. جرى التحضير لاندماج الأمميتين في عدة اجتماعات وتمت الدعوة إلى مؤتمر يعقد في هامبورغ يكرس هذا الإندماج، قررت الأممية الشيوعية، بمحاولة أخيرة، أن ترسل إلى هامبورغ بعثة تحاول إسماع كلمتها خلال المؤتمر. وتشكلت البعثة كما يلي: تولى الرئاسة الشيوعــــــي البولوني فالتسكي، مثل لوسوفسكي النقابات العالمية الحمراء وأندرييف الاتحاد العام للعمل الروسي وهكرت الحزب الشيوعي الألماني وتوم بيل الحزب الشيوعي البريطاني وتم تعيين ممثلا عن الحزب الشيوعي الفرنسي.

ذهبنا إلى هامبورغ عبر طرق مختلفة. عقدت البعثة اجتماعها الأول لتنظيم عملها: مراجعة نص الدعوة، ومراجعة نص الرسالة التي يجب نقلها إلى أمانة المؤتمر العامة، والاتفاق على تنسيق مداخلات ممثلي مختلف التنظيمات في حال السماح لهم بالكلام في المؤتمر. لم نكد نبدأ في هذا العمل حتى استدعتني الشبيبـــــة الشيوعية، لقد تمت الدعوة، في الوقت نفسه، لعقد اجتماع مـــع الشبيبة الشيوعية، كان لاشتراك شيوعيـــي فرنســــي، في فترة التوتر هذه بين حكومة ألمانيا وفرنسا، أهمية استثنائيـــة، عقد الاجتماع في قاعة مسرح تبعد قليلا عن المكان الذي عقدت فيــه بعثتنا اجتماعها. كان للإجتماع صدى أقل مما كنا نتصور، بقـــي مثير من المقاعد خاليا، لكن يجب ألا نعزو نصف – النجاح هذا إلى سلبية السكان، لقد كان التيار القومي قويا حينذاك وهو يقوى بالقدر الذي يستمر فيه الاحتلال، ولقد قام العمال بتحركات احتجاجية ضد الشوفينيين وضد حكومة «كونو» كما أثبتت الأحداث اللاحقة عدم سلبية السكان.

أدركت بعثتنا، بسرعة، أن جهودها تذهب أدراج الريـــــــــاح لقد تصلبت الأممية الثانية بموقفها وخصوصا بعد «النجاح» الذي لقيته، ولم يكن باستطاعة اتحاد فيينا أن يمارس عليها أدنى ضغــــط لم يسمع خلال النقاشات إلاّ صوت واحد معارض هو صوت شتاينبرغ، الاشتراكي – الثوري اليساري الذي أصبح يكن عداء للشيوعية ولكن غير مهيأ للإلتحاق بقيادة الأممية الثانية. لقد أعلن مفندا الحجج المقدمة لتبرير الإندماج: «يقال أنه من الواجب علينـــا أن ننضم إلى الأممية الثانية لأن الجماهير الواسعة من الطبقـــة العاملة تؤيدها. ألم نر جماهير واسعة تنتقل من الاشتراكية – الديموقراطية إلى الاشتراكية – القومية، خلال الحرب؟ إنكم هنا مجرد أحزاب إصلاحية، يتوجب على الذين لم يتجرأوا على القيام بثورة في بلادهم أن يتحولو بروح الصبر في انتقاداتهم، بالنسبة للخطر الرجعي، أجيب: إن هذا الخطر موجود بكل تأكيــد، إن الرجعية موجودة، لكن يجب أن نفتش عليها أولا في أحزابنـــــا، تشكل الأحزاب الاشتراكية – الديموقراطية العامل الأساسي في الرجعية الحالية، ففي ألمانيا ان صحيفة فورفتش هي التي تدافع بجدارة عن مصالح البورجوازية، أتدرون ما هي الأممية الثانيـــة؟ لقد كانت وستبقى أممية القوميين» استقبل هذا الكلام بالصراخ وبالصخب الشديد، لكن هذه الاحتجاجات ظلت بدون أي صـــــدى، لقد تم اتخاذ القرارات النهائية سلفا.
[50]
كان لدينا بعض أوقات الفراغ لأن أمانة المؤتمر العامة تمهلت كثيرا بإعطائنا الجواب. اقترح لوسوفسكي أن نزور المرفـــأ بعد ظهر أحد الأيام، كان معنا أندرييــــف، وكان يتقبل مزاحنا، حول اسمه، بروح مرحة، كان يدعى اندريه اندريفيتش اندرييــــــــف، وكان قد تحالف مع تروتسكي خلال النقاش حول مسألة النقابــات. لدى عودتنا إلى المدينة دخلنا إلى إحدى المقاهي حيث أشار لـــــي أحد المرافقين بطرف عينه إلى يافطة كتب عليها: «يمنع الدخــول بتاتا للكلاب الفرنسيين والبلجيكيين». وكتب كلمة «كلاب» بأحرف كبيرة. لقد دفع احتلال الروهر والبؤس الناجم عنه الحقد إلــــى أوجـــه ضد الفرنسيين والبلجيكيين، تسارعت الأحداث في شهــــر آب: انفجر إضراب كبير، اشترك فيه عمال «بنـــــك الدايش»، وأجبر حكومة «كونو» على الاستقالة. تولى شترسمان السلطــة وشكل حكومة «الائتلاف الكبير» حيث دخلها ممثلون عن الأحزاب الأربعة، كان البرنامج الذي اعتمدته هذه الحكومة يتلخـــــــص: داخليا، بنضال لا هوادة فيه ضد الشيوعية، خارجيا، بالتوجه نحو إنكلترا لإقامة جبهة ضد فرنسا والحصول على تسهيلات جيدة في دفع التعويضات، وبالرغم من الإحباط الذي أصاب إنكلترا حـــول هذا الموضوع فإنها أدانت الاحتلال ولكنها لم تكن تملك القدرة لوضع حد نهائي له.



--------------------------------------------------------------------------------

3- قلق قيادة الأممية الشيوعية، الوضع الثوري في ألمانيا


أدت أشهر الأزمة العميقة هذه إلى زعزعة بنية الرايش، وفشلت الحكومة المركزية مرارا في إثبات سلطتها على المقاطعات، ففي مقاطعة بافيير حيث تهيمن القومية لم يظهر فقط الميل الانفصالـــي إنما ظهرت رغبة فرض قانون المقاطعة على برلين نفسها. في مقاطعتي تورنغن وساكس كانت الاشتراكية هي المسيطــــــرة اشتراكية يسارية وقفت ضد قيادة الحزب الاشتراكي – الديموقراطي. اصبح الوضع خطيرا، وأظهرت برلين عن ضعفها، وبدت القوى الثورية في تورنغن وساكس كمركز المقاومة الحقيقي ضد التهديد الرجعي الوارد من بافيير في هذه الظروف، قررت قيادة الأممية الإجتماع، ليس على شكل اللجنة التنفيذية الموسعة، إنما اجتماعا سريا، يشترك مندوبون عن الأحزاب الشيوعية المتواجدة في البلدان المتاخمة لألمانيا، وذلك للتنسيق فيما بينها وتوفير الدعم الذي يجــب أن توفره الحكومة العمالية المقترحة في ساكس والتي تضم اشتراكي اليسار والشيوعيين وتكون بمركز القوة الذي يتم منه دعـــــــم التحرك الثوري. لا يمكنني أن أعطي حكما مباشرا حول هذا الاجتماع الهام، إذ توجب علي البقاء في باريس لأقوم بأعباء صحيفة الحزب «الإنسانية» كان كاشين هو المدير ولكنه كان يكتفي بكتابة مقال صغير، يوميا، يتناول فيه موضوع الدعاية بشكل عــــام متحاشيا الخوض في مواضيع خطيرة مبعدا عنه المسؤوليات، بعد عودة مندوبنا إلى باريس، كان من الصعب معرفة ماذا حدث في الاجتماع: لقد حملوا معهم معلومات متناقضة ومتعارضة أصبــح معها من المستحيل معرفة ما دار في موسكو أو ما تم التوصل إليه من قرارات، لقد وردت بعض المعلومات إننا على عتبة القيــــام بثورة في ألمانيا، وإذا ما صدقت هذه المصادر فإنه من المتوجــب إبقاء الحزب الشيوعي الفرنسي في حالة تأهب! كانت بعض مقالات «النشرة الشيوعية» تحمل عناوين كهذه: «على عتبة الثورة الألمانية» «الثورة الألمانية في متناول النظر». لكن لا يمكن كتابة مثل هذه الأشياء لعدم التمكن من الحصول على معلومات أخرى أو مؤشرات تنذر بالثورة سوى دخول ثلاثة شيوعيين في حكومــــة زيفز الإشتراكية اليسارية.
ماذا حدث في موسكو، إذن؟ وفي قيادة الأممية الشيوعيـــــــة؟ لقد كان التردد وعدم التجانس، أمام وضع وصف بأنه ثــوري، يندران باعراض خطيرة وبتغيير مفاجئ ومقلق يمكن استنتاجــــه دون معرفة طبيعته أو أسبابه. ألقت الأحداث المهمة التي كانـت تجري في ألمانيا، إلى الصف الثاني، كل ما كان يجري خارجها. وهكذا لم يتم درس موقف الحزب الشيوعي البلغاري، كما يجـــــب في مناسبتين مهمتين، كانت بلغاريا توفر أرضا خصبة لنشوء الأحزاب الفلاحية في فترة ما بعد الحرب لأنها أمة تعتمد على الزراعة بشكل كبير: 85 إلى 90% من سكانها يعملون في الزراعة. كان ستامبولسكي، رئيس الحكومة، قائد لأحد تلك الأحزاب المضادة للبرجوازية: لقد اتهم الوزراء السابقين بتوريط البلاد في الحرب، وطرد الضباط البورجوازيين وأنشأ ميليشيا فلاحية. انتصر الانقلاب، الذي قاده البروفسور الكسندر تسانكوف، في صدفيا، نهار 9 تموز سنة 1923، لكن النضال استمر وامتد نحو الأرياف، وشمــــــل هـــــذا التحرك البلاد بأسرها. التزم الحزب الشيوعي، في هذه الأثناء، جانب الحياد، وهكذا ساهم الحزب بسحق الفلاحيـــن وتعزيــز مواقع تسانكوف.

حضر قياديو الحزب الشيوعي البلغاري انتفاضة، بتحريض من زينوفييف، وذلك لإصلاح الخطأ الفظيع الذي ارتكبوه بوقوفهــــم على الحياد. لقد شكلوا «لجنة ثورية للحرب»، ووزعوا الأسلحة وأطلقوا نداء لقيام «حكومة العمال والفلاحين». فشل هذا التحرك فشلا ذريعا. كانت الأممية الشيوعية، وبشكل خاص زينوفييف، مسؤولة عن هذا الانقلاب المحزن.

عندما جرت إعادة لهذه الانتكاسات ولأسبابها، تم طرح التســـاؤل التالي، بالحاح أكثر: ماذا جرى في موسكو؟ أتى الجواب فجأة عندما قرر زينوفييف أن يشرح الخلافات، التي تطوررت داخل اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الروسي، أمام فروع الأممية.

لم يستطع لينين معاودة نشاطه إلاّ في الأشهر الأولى من سنة 1922 ولم يستطع حتى القيام بكل الأعباء التي تولاها سابقــــا. وهكــذا، كما رأينا، اختصر كثيرا من التقرير الذي ألقاه في المؤتمر الرابع. تكلم أمام المؤتمر في 13 تشرين الأول وبذل مجهودا كبيرا ساهم بارتداد المرض عليه. اقتنع لينين بعدها أن المسألة تستوجب الانكباب على المهام الأساسية والعاجلة. كان اهتمامه الأول ينصب على مسألة قيادة الحزب. كيف يمكن أن تنظم هذه القيادة عندما يبتعـــد نهائيا عن العمل؟
كتب ملاحظة، في 25 كانون الثاني، موجهة إلى اللجنة المركزية وكانت بمثابة توصياته الأخيرة، كان يتهدد الحزب حينذاك خطر الانشقاق الذي يجب رأبه بأي ثمن كان.

بذل كل ما في وسعه ليعطي ميزات كل رجل في قيادة الحزب، بدقة متناهية، كان يعتقد أنه إذا ما سويت الخلافات القديمة أو تم تخفيفها تصبح عملية الاتفاق سهلة ويمكن للعمل الجماعي أن يستمر بدونه كما كان يتم خلال وجوده. لقد أبدى تحفظا وحيدا حيال ستاليــــن الذي كان مسرفا بحب السلطة والمستأثر بأمانة الحزب العامة. واشتدت مخاوف (لينين) بعد أن أصبحت ظواهر الاسراف بحب السلطة واضحة عند ستالين مما دفعه، بعد عشرة أيام، في 4 كانون الثاني 1923، أن يكتب ملحقا، للملاحظة التي وضعها في 25 كانون الأول، وكرسها لستالين فقط: كان الانذار، هذه المرة قاطعا، يجب إبعاد ستالين عن الأمانة العامة.

يسمح مضمون هذا الملحق وكذلك الأحداث التي تبعته في مطلع عام 1923 يسمح بتتبع رأي لينين. حصل خلاف، بعد شهرين من ذلك، بين ستالين والمناضلين الشيوعيين في جورجيا مما دفع لينين، وهنا الحدث ذات الأهمية الكبرى، إلى قطع كل علاقت بستالين، علاقة شخصية كانت أو رفاقية إذ أن لينين وقف بوضوح إلى جانب رفاق جورجيا. ووجه لهم برقيات في 6 أذار هذا نصها:

«إلى الرفاق ديفاني، ماكارادزيه والاخرين (ترسل نسخة منها إلى الرفيق تروتسكي والرفيق كامينيف).

أيها الرفاق، إنني أقف إلى جانبكم، في هذه المسألة، من كل قلبي، لقد أثارت عجرفة اورجونكيدزيه وتواطؤ ستالين وزيرجنسكي استنكاري. إنني بصدد كتابة ملاحظات وخطاب للدفاع عنكم.
«لينيـــــن»

كتب لينين، بالإضافة لرسالته إلى اللجنة المركزية ومداخلاته في مسألة جورجيا، كتب خمسة مقالات في بداية سنة 1923.

عندما عاد إلى العمل بعد الوعكة الصحية الأولى فوجئ بالتطورات التي أدخلتها البيروقراطية. استطاع أن يقيم الوضع بعد أربعة أشهر من الابتعاد الكامل عن العمل: ثقلت الإدارة البيروقراطية غير الكفؤة كاهل الإدارة السوفياتية. اهتم قياديو الحزب دائما بخطــــر البيروقراطية المتزايد وشكلوا مفوضية خاصة لهذا الشأن: مفوضية التفتيش العمالية والفلاحية، يجب على المنظمات العمالية والفلاحية أن تسهر على البيروقراطية لتدرك مساوئها. لكن هذه المفوضية تحولت إلى مثل بقلة الكفاءة وقلة الفعالية.

كتب لينين، بهذا الصدد، في آذار: «لنتكلم بصراحة، لا تتمتع مفوضية التفتيش العمالية والفلاحية بأدنى سلطة... ليس لدينا مؤسســــة أسوأ من مفوضية التفتيش هذه». هنا أيضا وجد لينيــــن أن المفوض المسؤول عن التفتيش كان ستاليـن. لقد كان لستالين، إذن، أسبابا وجيهة تدفعه لمعرفة ما سوف يحصل إذا تغلب لينيـن على المرض، في الوقت الذي تدفعه فيه أسباب من نوع آخر ليناور من أجل المحافظة على مركزه في دائرة القيادة إذا ما اختفى لينين. هاجم المرض لينين مرة ثانية، في 9 آذار، لم يعد يستطيع القيام بعدها [51].

كان فكر بعض قادة الحزب منهمكا بما اعتبروه مشكلة الخلافة خلال الأشهر التي كان فيها لينين مشلولا كليا أو جزئيا.

تشكلت لجنة ثلاثية (ترويكا) تضم زينوفييف وكامينيف وستالين. لقد بدأت آثار وجود هذه اللجنة تظهر في آذار سنة 1923 حيث أصبحت مؤسسة حقيقية على هامش الكوادر الشرعية في الحزب. كانت المهمة الأساسية التي تولتها هي إبعاد تروتسكي الذي رأى فيه معظم الشيوعيين في روسيا وخارجها الرجل الوحيد الذي يستطيع الإحلال مكان لينين. كان الأمر يتطلب مناورة طويلة!
بيد أن مشاكل خطيرة قد طرحت: في الخارج بسبب الوضع الجديد في ألمانيا المترتب عن احتلال الروهر، وفي روسيا السوفياتية نفسها بسبب الوضع الداخلي المثير للاهتمام. لقد تم إعفاء الفلاحين من المصادرة، يمكنهم التصرف بفائض إنتاجهم لكن الفرق بين الأسعار الزراعية والأسعار الصناعية كان لا يسمح لهم بالإفادة مطلقا. صور تروتسكي الوضع بصورة تلفت الانتباه: يشبه الأمر «المقص»، يمثل فيه النصلتان الأسعار الزراعية والأسعار الصناعية المتباعدة، يجب أن يتم السعي لتقريبها بانتظار امكانية توحيدها. كان المزارعون مستاؤون ولم يكن مناضلو الحزب بأقل استياء منهم. أعلن 46 مناضلا بارزا من بينهم: بياتاكوف، سيريبرياكوف، برايوجنسكي، أوسنسكي، دروبنيس، السكي، سميرنوف، أعلنوا في منشور نقتطف منه ما يلي:

«إن النظام الذي أقيم في الحزب أصبح غير محتمل. إنه يبطل كل مبادرة داخل الحزب. إنه يستبدل الحزب بالآلة... التي تشتغل بشكل جيد إلى حد ما عندما تكون الأمور منتظمة لكنها تستلم، حتما، في مراحل الأزمات وتهدد بالإفلاس الكامل عندما تجد نفسها أمام تطورات خطيرة كالتي نحن بصددها. يعود الفضل بخلق الوضع الراهن إلى نظام الديكتاتورية الجزئية الذي تطور بعد المؤتمر العاشر».

تشكلت جماعات مختلفة للمعارضة. ذهبت كل الاحتجاجات أدراج الرياح. كان هذا «النظام غير المقبول به» هو النظـام الذي أراد أعضاء الترويكــــــا فرضه على الحزب. لقد كان بالنسبة إليهم، النظام الوحيد الممكن كما صرحوا بذلك علانية عندما فضحه تروتسكي، خلال اجتماع المكتب السياسي، واحتج بحدة ضد التراجــع عن تعاليم لينين وممارساته. لقد كانوا متفقين حول هـــــــــذه النقطة الأساسية: لم يكن النقاش مسموحا. تقرر الآلة وتعمل عوضا عن الحزب، لكن، بكل تأكيد، يجب ألاّ يجري الإفصاح عـــــن ذلك. ولكي يظهروا بمظهر المهتم باحتجاجات تروتسكي وكل الذين طالبوا بالعودة إلى الديموقراطية في الحزب، من أجل كل هذا دعوا إلى التصويت، في 5 كانون الثاني، حول هذا الموضـوع، فأيدت اللجنة المركزية بالإجماع هذه الديموقراطية. لكن هذا لم يكن الا واجهة للأحداث، ففي الوقت الذي كان يتم فيه التصويت، كانوا يحضرون تكتيكا يسمح لهم بجعل كل معارضة غير ممكنة: الهدوء في البدء ومن ثم العنف. احتدت الصراعات لأن الذين أخذوا قرار 5 كانون الثاني على محمل الجد، لا يسمحوا بأن يعاملوا كمغفلين. خـلال النقاش، الذي كان علينا لبعض الوقت، لمح تروتسكي إلى التفكك الممكن «للحرس القديم» البلشفي، أجابه ستالين بكبريائه المعهودة: كان «الحرس القديم» مقدســـا والاشارة فقــــط إلــــى تفككه تعتبر انتهاكا للحرمات. كان المكتب السياسي، حينذاك، يتألــــف من بوخارين، ريكوف، كامينيف، ستالين، تومسكي، تروتسكي وزينوفييف. أعدم ستالين منهم أربعة: بوخارين وكامينيف وريكوف وزينوفييف. ودفع تومسكي إلى الإنتحار وبعد أن نفى تروتسكي دفع بقاتل محترف إلى اغتياله.
بالرغم من أن أعضاء الترويكا كانوا متفقين على إرساء نظام له المميزات الأساسية لنظام توتاليري فإن صراعا حادا نشب بين ستاليـن وزينوفييف. لقد كان هذا الأخير مقتنعا بأنه الوحيد الذي يمكنه الاحلال مكان لينين وكان يدعمه كامينيف ويقف بوخارين إلى جانبه. في الواقع لم يكن يفكر أحد بأن ستالين يطمح إلى اعتلاء المنصب الأول.

كانت الأممية تجهل كل هذه الاحتجاجات والقرارات والمناورات والعداءات. لم نعلم بها إلاّ مؤخرا. وبشكل مقتطفات وعادت بنا الذاكرة إلى أحداث لم نكن لنفهم فحواها جيدا ساعة حصولها. سأحـاول هنا أن أعطي موجزا عنها من أجل فهم التردد وعدم التجانس والكوارث التي طبعت تلك السنة بطابعها. بدأت الحملة ضـــد تروتسكي في أوائل سنة 1923 [52]. لقد كانت الحجة المسوقة دائما ضده أنه لم يكن «بلشفيا قديما». لم يكن لعدد من «البلاشفة القدماء» ماضيا لامعا. لقد تراجعوا عن مواقفهم خلال الحرب أو فـــي أوكتوبر. بينما جابههم تروتسكي بماضيه وبدوره سنة 1905 وفي اكتوبر وبموقفه خلال الحرب، لكن هذا لا يهم، المهم أنه لم يكن «بلشفيا قديما». سرت إشاعــــــة بعدها وتنم على أن المناورة جيـــــدة التحضير «يتصور تروتسكي نفسه كبونابرت، يريد تروتسكي أن يلعب دور بونابرت». سرت هذه الاشاعة في أرجاء البلاد كلها وقد ابلغني بها بعض الشيوعيين العائدين من موسكو، لقد فهموا أن شيئا ما يطبخ في السر ضد تروتسكي وطلبوا مني مــــرارا: «يجب أن نبلغه هذا الأمر».
كان تروتسكي، خلال الاجتماعات، العادية للمكتب السياسي، يبذل جهدا ليلفت انتباه الأعضاء على مواضيع الساعة التي كانت لا تخلو من الخطورة. كانوا يصغون إليه ولكنهم لا يقررون شيئا، لأن المكتب السياسي ليس هو نفسه المكتب الذي يعرفه الحزب، لقد تم إبعاد تروتسكي عنه ووضع كويبيشيف مكانه.
شاءت الصدف أن أحضر إحدى اجتماعاته، كان ذلك في أيار سنة 1923 عندما استدعت اللجنة التنفيذية الموسعة لدرس الموقف المترتب عن احتلال الروهر. طلب مني زينوفييف، لدى وصولي إلى موسكو، أن أذهب لأراه في المساء. توجهت إلى منزله فوجدته مع بوخارين، ولما رأيت الدهشة والانشراح على وجهي الرجلين طلبت منهم: «ماذا يحدث إذن؟» قال لي بوخارين وهو يضحك: «لم يعد بالامكان المجيء هكذا إلى عند زينوفييف، يجب المرور أولا إلى الأمانة العامة».
لقد حدثت، منذ المؤتمر الرابع، تطورات كثيرة داخل الحزب الشيوعي الفرنسي، وكان يلح زينوفييـــــف في أسئلته حول هذا الموضوع، وهذا ما يشرح تسرعه غير المألوف لمشاهدتي. استمر النقاش طويلا عند مجيء كامينيف وريكوف وتومسكي... زلم أتمكن من رؤية ستالين جيدا – لم أكن رأيته قبلا قط بالرغم من إقامتي المتكررة في موسكو – لأن أولفا رافيتش اقتربت مني اقتربت مني ودعتني بلطف إلى الباب قائلة: «إن هذا سوف لن يكون مهما بالنسبة لك، إنهم سوف يتكلمون جميعا بالروسية».

كانت القرارات تتخذ في غياب تروتسكي وأحيانا يتخذها زينوفييف وحده، وهكذا كان بالنسبة «للأحداث» التي اندلعت في بلغاريا في تشرين الأول. لقد كان تروتسكي يجهل كل شيء حـول هذه العملية الكارثة. وعندما طلب بعض الايضاحات من زينوفييف جاوبه هذا الأخير بكل اقتضاب. «يحدث أحيانا في الحروب أن نخسر فيلقا بكامله».

يمكننا الآن أن نفهم لماذا عاد المندوبون الفرنسيون من موسكو بمعلومات غامضة ومتناقضة ذلك لأن عدم التجانس والتردد يسيطر على قادة الحزب الشيوعي الروسي والأممية الشيوعية، لقد كانوا مهتمين بمسألة خلافة لينين في الوقت الذي يتبعون فيه سياسة تتناقض مع سياسته، وهذا ما دعاهم إلى خداع الحزب مرارا وان يضعوا الاجتماعات غير القانونية والسرية مكان النقاشات العميقة بحيث يمكنهم إبعاد خيرة مناضلي الحزب.

لقد كانت حصيلة هذه الاجتماعات سرية جدا حتى أن تروتسكي لم يستطع معرفة موقف ستالين عن المسألة الألمانية. لقد كانت المرة الأولى التي يشارك فيها ستالين بأعمال الأممية الشيوعية. ولم ينكشـف الموقف الذي اتخذه إلاّ بعد ذلك الوقت بكثير، في سنة 1929، عندما نشر براندلر، لدى طرده من الأممية، الرسالة التي وجهها ستالين إلى زينوفييف وبوخارين. تبدو هذه الرسالة مهمة بالنسبة لتاريخ الأحداث في ألمانيا وبالنسبة لحياة الشخص الذي أعلـن، في النهاية، أنه ضد الانتفاضة. يقول ستالين في الرسالـــة: «إن من مصلحتنا أن يهاجم الفاشيون في البدء، يؤلب هذا الأمر مجموع الطبقة العاملة جول الشيوعيين (إن ألمانيا هي غير هنغاريا). بيد أن الفاشيين، حسب كل المعلومات، هم ضعفاء في ألمانيا». إن بداية الرسالة هذه تنبئ ببعد النظر. كان زينوفييف يميل إلـى الانتفاضة لكنه كان مترددا، كان يفكر حتما ببعض السابقات غير المشجعة. عندما تم القرار من أجل تحضير الانتفاضة، بعد انقضاء الوقت الملائم، فرض على براندلر أن يقود التحرك الذي كان يعارضه. خاب فأل الأحزاب الشيوعية المجاورة لألمانيا، والتي تم وضعها في حالة تأهب، بعد الاستسلام من دون أي نوع من القتال. اتفق ستالين مع زينوفييف لإبعاد المسؤولية عن الأممية الشيوعية بإلصاق المسؤولية ببراندلر. لقد كانت هذه الممارسة الأولى لتكتيك «كبش المحرقة» الذي أصبح قاعدة فيما بعد.



--------------------------------------------------------------------------------

(1924)


موت لينين
أصبح التفكك الذي أصاب الشيوعية واضحا عندما توفي لينين في 21 كانون الثاني سنة 1924. بعد وفاته تطور هذا التفكك بخطى متسارعة. حذر لينين، في مداخلته الأخيرة في المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية، حذر شيوعيي مختلف البلدان من التقليد الميكانيكي والأعمى للطرق الروسية. جعل زينوفييف هذا التقليد قاعدة إجبارية. بالإضافة إلى ذلك وبادعائه «بلشفة» الأحزاب، أدخل التوتاليتارية إلى الأممية الشيوعية. كان يقضي على كل معارضة في الفروع بواسطة مبعوثين يرسلهم مقدما إليها. كانت حرب إنهاك حيث ضرب الموظفون سلفا العمال وفرضوا عليهم سجالات لا تنتهي. وترك الأممية كل الذين سمحوا لأنفسهم بتقديم النقد.

في المؤتمر الخامس للأممية الشيوعية الذي عقد في تمـــــوز سنة 1924 ، صرح زينوفييف «لقد حققنا عملية البلشفة مئــة بالمئة». لقد اعتقد أنه وطد مركزه. لم يكن يتصور في ذروة مجده أن أحدهم، بعد عشر سنوات، سيلقنه رصاصة في عنقه في لوبيانكا. هكذا كانت موسكو فر ظل لينين.

انتهى







المناضل-ة