العدالة الاجتماعية في برنامج الحزب الشيوعي العراقي ارتباطاً بالخيار الاشتراكي


مصطفى محمد غريب
2006 / 8 / 1 - 11:54     

تبدو لأول وهلة مقولة العدالة الاجتماعية عائمة وضبابية في المجتمعات الطبقية التي تسود فيها علاقات الإنتاج الرأسمالي وقد تستغلها العديد من الدول والأحزاب الحاكمة أو من خارج السلطة لتوظفها في البرامج أو الخطاب السياسي وكأنها الهدف الأول للتنفيذ ولتحقيق العدالة والمساواة في المجتمع ولكن على ما يبدو من سير الحقائق أن الهدف الحقيقي من طرحها يهدف إلى تطمين ملايين الكادحين وكسبهم الآني والمستقبلي لكي تحقق الجهة الداعية لها كسباً سياسياً لا يتعدى إلا بعض الإصلاحات والترميمات وبهذا تفقد العدالة الاجتماعية بريقها الخلاب لتكون على الرف مثل باقي القضايا المهمة لحياة المجتمع.
ان العدالة الاجتماعية الشاملة تكاد أن تكون مفقودة على الواقع في هذه الدول ولم تطبق بشكلها الخلاق واعتبرت وسيلة لتحقيق أهداف أما سلطوية أو حزبية انتخابية ولمجرد استلام السلطة من قبل بعض الأحزاب مثلما أسلفنا تصبح هامشية ومجرد شعار يتغنى به لا أكثر ولا أقل بينما تبقى الجماهير منتظرة ومتأملة تحقيقها وقد تمر سنين طوال كما حدث في العديد من البلدان وفي مقدمتهم العراق وهي بعيدة كل البعد عن حياة الناس وتصبح بعد ذلك حلماً يراود الملايين ولكن هيهات فإنها لن تتحقق إلا ببرنامج علمي تقدمي من قبل حزب سياسي هدفه الفعلي تحقيق العدالة والمساواة وليس كشعارات تضليلية يراد من خلفها تحقيق بعض المكاسب النفعية وبعدها يجري التخلي عنها بشكل تلقائي لصالح الطبقات والفئات المستغِلة التي ترى فيها خطراً حقيقياً على مصالحها الطبقية ومكاسبها غير المشروعة التي تتعارض مع مصالح الطبقات والفئات الكادحة.
1 ـ العدالة الاجتماعية الشاملة:
تعتبر من أهم الشروط لمكونات الحقوق المتساوية في المجتمع ولهذا بقيت العدالة كمقولة قانونية حلم يراود المجتمع البشري منذ نشوء الطبقات المسْتَغِلة والمُسْتَغَلة وقد قدمت البشرية الكثير من التضحيات كمجموعات وأفراد فيما يخص تحقيق العدالة واعتبار الجميع متساوين أمام القانون وظل الصراع مستمراً على مدى الحقب التاريخية من اجل أن تتساوى علاقات الناس بوسائل الإنتاج وتحقيق تكافؤ الحقوق في مرافق الحياة وقضايا المجتمع في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وغيرهم.
ان الفروقات الاقتصادية والاجتماعية تعتبر السبب الرئيسي في تقسيم العمل والتي كانت وما تزال تلعب الدور نفسه في الأنظمة الاستغلالية والطبقات التي تقود السلطة السياسية ولهذا تضعف العدالة الاجتماعية في هذه المجتمعات ويجري تطبيقها إلا لمنفعة السلطة السياسية والطبقة السائدة ، ويطبق قسماً منها بما يناسب مصالحها الطبقية الاستغلالية ولقد تفاوتت بين تشكيلة اجتماعية اقتصادية وتشكيلة أخرى ( مثال تعذر مساواة العبد والحر في العبودية وبين الفلاح والاقنان والإقطاعي في الإقطاعية ) لأن العبد في المجتمع العبودي يعتبر أداة للعمل وفي المجتمع الإقطاعي وبسبب الاختلاف الاجتماعي وامتلاك الأرض والثروة فقد اعتبر الوضع الاجتماعي بالنسبة للفلاحين والاقنان حالة طبيعية وعلى الرغم من أن الرأسمالية طرحت حرية تحرير العبد وألقن والفلاح وتساوي الناس وهو ما يخدم علاقات الإنتاج الرأسمالية إلا أن الرأسمالية مارست عملية المساواة بشكل صوري أمام القوانين وظلت المساواة الحقيقية في الظلال ولم يتحقق منها إلا القليل بسب بقاء " التفاوت الاقتصادي والاستغلال وسرقة قوة العمل عن طريق القيمة الزائدة والريع وطرق أخرى "
فالرأسمالية كما هو معروف هي آخر الأنظمة التي تقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واستغلال العمل المأجور الذي يعتبر القانون الاقتصادي الأساسي في الرأسمالية ومنها ظهر القانون الأساسي الآخر الذي تجلى في التناقض " بين الطابع العام للإنتاج والشكل الرأسمالي الخاص للاستئثار" ومن هنا نجد عدم إمكانية تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية بمفهومها الشامل مثلما هو في الاشتراكية، وما تطرحه الأحزاب الشيوعية والعمالية الماركسية في الوثيقة البرنامجية وأنظمتها الداخلية بخصوص العدالة الاجتماعية هدفها الربط الجدلي ما بينها وبين الاشتراكية ونجد أن المحصلة النهائية تتبلور بان الاشتراكية هي وحدها التي تستطيع تحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة وتحقيق الديمقراطية وإنهاء الاستغلال الطبقي وخلق قيم مادية وروحية من اجل سعادة الفرد والمجتمع .

2 ــ العدالة الاجتماعية والاشتراكية في الوثائق البرنامجية للحزب الشيوعي
العراقي
لو عرجنا على وثائق مؤتمرات الحزب الشيوعي ومنها البرنامج لوجدنا أن هناك وضوحاً تاماً فيما يخص العدالة الاجتماعية والاشتراكية وقد طرحت أسسها من خلال النقاط البرنامجية والصيغ التي أشارت إليها دون لبس أو دوران. ففي وثيقة النظام الداخلي التي أقرت في المؤتمر الخامس " مؤتمر الديمقراطية والتجديد" ثبت ما يلي " من أجل التحرر الوطني وإقامة المجتمع الديمقراطي وتحقيق التقدم الاجتماعي وبناء الاشتراكية في العراق" كما أشار في المصدر نفسه" وهو يرفض كل شكل من أشكال الحكم الاستبدادي والتسلط السياسي ومصادرة حقوق الإنسان، يناضل من أجل إقامة نظام سياسي ديمقراطي، وتأمين العدالة الاجتماعية " .
ونصت الوثيقة البرنامجية على أن " يصوغ الحزب الشيوعي العراقي وثيقته استناداً إلى دراسة الواقع الطبقي والقومي والديني للمجتمع العراقي المعاصر والتطورات الجارية فيه، مسترشداً بالماركسية، مستفيداً من سائر التراث الإنساني الاشتراكي، ومستهدفاً تحقيق المصالح الجذرية لشعبنا عمالاً وفلاحين وكسبة ومثقفين وكل شغيلة اليد والفكر ويجمع الحزب في صياغة برنامجه بين الخصائص الوطنية لشعبنا والمسؤولية التاريخية إزاءه وبين التزاماته القومية إزاء حركة التحرر الوطني والديمقراطي والاجتماعي للشعوب العربية تجاه التقدم والديمقراطية والاشتراكية وتمسكه بالخيار الاشتراكي" ثم يستمر التأكيد على أن " يناضل من اجل إقامة نظام سياسي ديمقراطي ، وتأمين العدالة الاجتماعية " ( المؤتمر الخامس والسادس والسابع ) و نلاحظ في النص أعلاه يشير بما معناه : ضرورة أن ينال الجميع قدر مساو من الحقوق السياسية والمدنية وفرص العمل والتعليم والعلاج والسكن والحرية الشخصية والعامة وحرية الفكر والانتماء والتخطيط للمستقبل بما يخدم المصالح الجذرية لأكثرية الشعب ونجد كيف صاغ الحزب وثيقته في المؤتمر الخامس وهو جهد تبلور من خلال التجارب السابقة والمؤتمرات والكونفرنسات التي عقدها الحزب ومن الوضع السياسي الذي مر على البلاد منذ تأسيس الدولة العراقية ثم تأسيس الحزب الشيوعي العراقي 1934، واشتركت فيه أكثرية المنظمات الحزبية كمجوعات وأفراد فضلاً عن أنها طرحت في الصحافة العلنية وقام الكثيرون من مثقفين وصحفيين وأخصائيين وغيرهم من خارج الحزب بمناقشتها واغناءها وتقديم المقترحات الجدية من اجل طرحها في المؤتمر وإقرارها.
ان هذه الصياغة بما احتوته من مرتكزات وأهداف ومفردات قد شخصت عملياً الوقوف مع الشعب العراقي ودعمه للتخلص من الدكتاتورية وسياستها في مختلف المرافق، وأكدت على الفهم العميق لقضية العدالة الاجتماعية المرتبطة بشكل جذري مع الحريات السياسية والتطور الاقتصادي الاجتماعي وارتفاع المستوى المعيشي بالنسبة للكادحين بالقضاء على البطالة وإيجاد فرص جديدة للعمل التي يهدف الحزب من خلال نضاله تحقيقها، ولو دققنا في ما جاء من قرارات سياسية حول الخلاص من الدكتاتورية " وإطلاق الحريات الديمقراطية" ثم التطرق إلى القضايا الاقتصادية والمعيشية والثقافية والصحية والبيئية وغيرها فإن الهدف منه توضيح فكرة العدالة الاجتماعية الحقة، ولم يكتف الحزب بما اقره في مؤتمره الخامس بل واصل النضال من اجل خوض عملية الديمقراطية والتجديد مما جعله ينطلق في استنتاجاته وسياسته وقراراته اللاحقة وبنائه الداخلي إلى اشراقات مستقبلية وصولاً إلى عقد المؤتمر السادس ، وما جاء في الوثيقة البرنامجية يؤكد ما نريد التوصل له ولهذا أشارت هذه الوثيقة باعتبارها استكمالاً للعملية السابقة .
" 1 ـ رفع الحصار الاقتصادي عن شعبنا.
2 ـ الخلاص من النظام الدكتاتوري.
3 ــ إقامة العراق الديمقراطي الفيدرالي "
ولم تكتف الوثيقة بهذه الشعارات الواضحة في توجهات الحزب السياسية والذي يحاول البعض تشويهها أو تفسيرها عن قصد لصالح معادة تحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة والاشتراكية والحزب الشيوعي وأعدائه المتربصين الذين تغيظهم المواصلة في نضاله الدؤوب من اجل العراق الحر والشعب السعيد ، بل توجهت إلى القضايا العقدية الملحة التي تجابه البلاد والشعب العراقي برمته، ومنها الاقتصادية والمعيشية والبيئية والثقافية .. الخ.. ونرى ان تحقيق ما جاء في الوثيقة البرنامجية في المؤتمر السادس والسابع كما في الوثيقة السابقة المقرة في المؤتمر الخامس يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وهو بالتأكيد لصالح أكثرية الجماهير الشعبية الكادحة والفئات الأخرى التي تضررت من سياسة القمع والاضطهاد والحروب الداخلية والخارجية.
لقد نصت وثائق المؤتمر السابع أيضا تقريباً على أكثرية المفاصل والمفردات والأهداف السابقة بدء من النضال من اجل رفع الحصار الاقتصادي وتغيير النظام السياسي وإشاعة الديمقراطية إلى خلق مستلزمات تطوير العمل السياسي لمستقبل البلاد وتحقيق الديمقراطية والتوجه الجاد لحل المعضلات الاقتصادية والمعيشية والقضاء على البطالة والإرث المأساوي الناتج من الحروب وكبت الحريات الشخصية والعامة وخرق لوائح حقوق الإنسان والاهتمام بقضايا الكادحين وتحقيق مطالبهم العادلة وغيرها من القضايا التي تواجهها الجماهير الشعبية وفي مقدمتها الطبقة العاملة والفلاحين والكسبة والمثقفين الثوريين، وفي هذا المضمار نتلمس بشكل واقعي أهداف الحزب القريبة والبعيدة حيث تتضمن جميع الخطوات بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية بمضامينها الثورية التقدمية والإنسانية ومنها يجري التمهيد للانتقال إلى الاشتراكية التي تقوم على القاعدة المادية والروحية التي جرى تأسيسها وتطويرها ولهذا ففي فهمنا الماركسي نجد ان النضال من اجل الاشتراكية يكتسب أهمية بالغة في سياسة الحزب الشيوعي الاستراتيجية وهو يجري على أرضية الظروف الاجتماعية الداخلية التي يتصف بها البلد المعين مع مراعاة الأوضاع الخارجية وكما هو معروف فان الاشتراكية كمرحلة أولى من أهدافها إلغاء استغلال الإنسان للإنسان وخلق المستلزمات الحقوقية والقانونية لتطور المجتمع والفرد وتحررهما من العلاقات الرأسمالية، وكل من يتوجه لوثائق الحزب الشيوعي سوف يجد على امتداد تاريخه تأكيده على فهمه العلمي للتحولات في المجتمع بهدف نشر الوعي الديمقراطي والاشتراكي ونجد في الوثيقة البرنامجية للمؤتمر السابع ما يلي.
" ان جوهر بناء الاشتراكية هو إنهاء استغلال الإنسان للإنسان، وتحقيق القيم الإنسانية الرفيعة وكرامة الفرد وإشاعة الديمقراطية الحقة ومساهمة الجماهير الفعالة في هذه العملية المتدرجة التي تنبع من مجتمعنا ومراحل تطوره وتستند إلى خصائصه الوطنية والقومية والثقافية، والنفسية والدينية وتستفيد من التطورات في بلدان العالم وتقدمها الحضاري ومنجزاتها المادية والروحية، ومن الدروس المستخلصة من التجارب الاشتراكية السابق"
لا شك أن الرأسمالية في العقود الأخيرة استفادت من تجارب الحركة العمالية وأحزابها وما جرى من تطبيقات ايجابية في الدول الاشتراكية السابقة على الرغم من المثالب والنواقص التي رافقت عملية البناء الاشتراكي، وفي غمرة التسابق والصراع بين القطبين فقد قطعت الرأسمالية أشواطا لا بأس بها في مجالات المساعدة الاجتماعية، كالتقاعد والضمان الاجتماعي والصحي والسكن وحماية البيئة وقوانين العمل والحد من البطالة وفي مجال قوانين حقوق الإنسان وحقوق المرأة والحريات الشخصية والعامة وتثوير أقسام من الإنتاج وغيرها وهذه المكاسب جاءت أيضا بفعل النضال والضغط الجماهيري وأحزاب الطبقة العاملة ومنظمات المجتمع المدني المختلف والمتنوع الأشكال والأساليب ولكن يبقى مفهوم العدالة الاجتماعية الشامل غير مكتمل الجوانب بسبب الأسلوب الرأسمالي للإنتاج واستغلال العمل المأجور وتزايد أفواج البطالة والبطالة المقنعة تحت طائلة المساعدات الاجتماعية ولا تتحقق العدالة الاجتماعية الشاملة إلا بإلغاء الاستغلال الطبقي وتحقيق المساواة والحقوق الكاملة بما يخدم تطور المجتمع ورفاهيته.
أن هذا الربط الجدلي ما بين برنامج الحد الأدنى الذي يؤكد على العمل من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية للكادحين " شغيلة اليد والفكر " وما بين الحد الأعلى كرؤيا استراتيجية واضحة من اجل الاشتراكية لم تغب ولن تغيب عن الرؤيا المتكاملة للحزب الشيوعي العراقي في تغيير قواعد الاستغلال والاضطهاد وأدواتهم وخلق المجتمع الحر السعيد وصولاً لتغيير العالم برمته وقيام الاشتراكية. وستبقى الاشتراكية الخيار الصحيح للحزب وحسب الظروف والنضال السياسي ونشاطه ضد قوى التأخر والظلامية لاستقطاب أوسع الجماهير والتفافها حول سياسته وبرامجه وشعاراته الواقعية، وعليه يجب أن يطور الحزب الشيوعي مفهومه حول العدالة الاجتماعية وضرورة اغنائها في مؤتمره الثامن باعتبارها احد الأعمدة الأساسية لبناء عالم خال من الاستغلال والاضطهاد تترجم فيه الحقوق بالتساوي وترتفع فيه القيم الإنسانية لتتخطى ما نجم من تراكمات سلبية وتراجعات غريبة عليها لأنها المفتاح الذي يفتح الأبواب على مصرعيها لمزيد من التقدم والسلم الاجتماعي والغاء كل ما هو مضر بعملية إعادة البناء ونجاحه والانتقال إلى خلق مستلزمات مادية لتحقيق الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان واستمرار في دعم التوجهات لتحقيق حلم شغيلة اليد والفكر وكل وكادحي العراق في عالم تسوده قيم العدالة الحقيقية والامان والسلام.