الصين وافق الحداثة في العراق


ياسين النصير
2006 / 7 / 30 - 08:56     

1
قد لا تشكل زيارة وفد الحزب الشيوعي العراقي للصين بدعوة من الحزب الشيوعي الصيني منعطفا مهما في المرحلة العراقية الحالية، أونافذة للحواروالمكاشفة. فهي زياره يشير المراقبون إليها على أنها تأتي قبل انعقاد المؤتمر الثامن للحزب، وهذا مؤشر قد يكون غير دقيق بالنسبة لنا، لكنه يعكس حاجة ماسة لدى اليسار العراقي في أن يرى الصورة المنعكسة على وجوه قادة الصين لما حدث في العراق. وشخصيا اعتبر أن الصورة التي رأيناها في اللقاء فوتوغرافيا أو كتابة تعطينا انطباعا أن ثمة حدث جرى ولو ليس بالعمق الذي نتصوره، ولكنه حدث يأتي بعد قطيعة طويلة بين الأحزاب الشيوعية العربية والصين، وهو ما يجب أن يعالج بالكثير من المرونة والتفهم، بل بين توجهات الحزب الشيوعي العراقي نفسه، والتزامه الفكري بتحديث المجتمع العراقي وفق سياقات الحداثة التي كان الحزب الشيوعي العراقي قد أقام عليها بناءه الفكري. فالزيارة تحصيل حاصل المتغيرات العراقية والدولية، وهو ما يعني الحزب الشيوعي العراقي أن يضع مسؤولياته الدولية لصالح عملية التغيير في العراق وعلى الجانب الأخر تتطلب حداثة المجتمع العراقي ممارسة حزبية مرنة لمفهوم الماركسية في الممارسة والنظرية معا معتمدة على سياقات فلسفية جديدة تعتمد مبادئ إنسانية شاملة، مع اقتصاد منفتح، مع رؤية أكثر عقلانية لحاجات المرحلة ومتطلباتها الإيديولوجية. فالبحث عن افاق تطور جديدة لتحديث المجتمع العراقي تنسجم ومفهوم الحداثة نفسها أي أن يكون التحديث شاملا بما فيه تحديث رؤية الحزب نفسه لممارساته الفكرية. فلا يصح أن نطرح مفاهيم للحداثة دون أن يكون الحزب حديثا.فالكثير منا يعتقد أن مثل هذه الطروحات بعد سبعين سنة من وجود حزب شيوعي عراقي لم تعد مفيدة فما دام الحزب الشيوعي موجودا ويمارس حضوره خلال المشاركة الاجتماعية ولديه مؤسساته الذاتية ويستعد لعقد مؤتمره الثامن فالامور الداخلية فيه على صواب. إن مثل هذا الطرح يعد ناقصا ما لم يخبرنا الحزب عكس ذلك؟ وما هي الشروط الموضوعية التي تتطلب منه التغيير ومواكبة مستجدات الفكر الماركسي في العالم؟ وما هي الأسس الجديدة أو القديمة التي يجب أن تظهر أو تختفي في المرحلة اللاحقة؟ ثم لماذا المؤتمر الثامن إذا لم يكن هناك تجديد وتطور في المفاهيم الماركسية نفسها؟..إن المرحلة العراقية واحدة من مراحل التاريخ المهمة وسنجد تأثيرها لاحقا أكبر بكثير مما نفكر بها حاليا، ولنا في تجارب عالمية شواهد كثيرة خاصة حركات اليسار والمثقفين في فرنسا وهم يصوغون تصورات منهجية جديدة بعد عهد ستالين وبعد انهيار تجربة الاتحاد السوفيتي حيث كانت أحداث فرنسا خاصة في عام 1968 عندما ظهرت حركة الشباب وسيطرت على الشارع ثم انكفأت بعدم وجدود برنامج واضح لاستلام الدولة، كان الحزب الشيوعي الفرنسي مراقبا ومدينا ومن ثم متعاطفا مع الحركة، إن مثل هذا التصور القريب يعيد إلينا ما كان الحزب الشيوعي العراقي يتصوره عن تغيرات المجتمع العراقي بمؤتمراته السابقة التي كانت تعقد بعد كل مرحلة انعطاف سلبي أو إيجابي في المجتمع العراقي ولكن تصوراته المنهجية والمهمة والتي كشفت عنها وثائق المؤتمرات السابقة جعلت من القوى المضادة أن تقف بوجه اي تغيير بما فيها تلك القوى التي فيها نصيب كبير من الوطنية وآفاق المستقبل. مشكلة فصائل القوى الوطنية العراقية هي أن كل فصيل يشتغل بمعزل عن الآخر بالرغم من ظروف القمع المشتركة وهذا هو أحد أهم اسباب الضعف المركزي في السياسة العراقية عندما تصورت كل فئة ان مشروعها هو الأكثر فهما، في حين أن كل مشاريع القوى المعارضة لم تدرك حقيقة ان الحداثة في المجتمع العراقي لا تتم بتغيير رأس النظام ولا الحزب القائد فيه، بل تتم بالوضوح النظري المستقبلي والعملي المشترك بين كل فصائل قوى الشعب، ومن هنا لم نجد ولن نجد تطورا حداثويا للمجتمع العراقي تحت أية عمة إسلامية إلا ما ندر. على المثقفين ان يتساءلوا دائما عن جدوى وجود حزب شيوعي متجدد،ويعقد مؤتمرات ويناقش أوضاع العراق والمنطقة ويشحذ همم الوطنيين في وضع برنامج تحديثي، وعليهم أن يتلقوا الأجوبة الواضحة أن في مقدورهم تأكيد مثل هذه الحاجة من عدمها، إن مجتمعا جديدا يجب أن يظهر معتمدا على اسس قابلة للتطور من المجتمع القديم، ولكن بوجهة مختلفة. فالتغيير الذي حدث في 9/4/2003 ليس تبديلا " لجلال الفرس" فقط، بل هو تغيير جذري في تركيبة الفارس نفسه، وإلا ما معنى، كما يؤشر مسار الاحداث الدموية، لأي تغيير، والقوى الفاعلة سياسيا، والتي جاءت بانتخابات شبه مزورة تحت رؤية وبصر قوات الاحتلال، غير قادرة على طرح برنامج حداثي شامل؟. أنها عاجزة بالفعل عن أن تكون ضمن ممارسات تقدمية تقودها للتغيير، وهو ما يجعل مهمة الحزب الشيوعي اكثر صعوبة عندما لايجد تفهما لمعنى الحداثة في ظل ظروف مصطنعة وطائفية وموقعية. ومهمة التغيير الجذري قد لا تكون من أولويات الحكومة الحالية لانشغالها بامور كثيرة، لكنها جزء من بنية حزب ماركسي يرى في العلاقة مع دول متقدمة تفهما لسبل التطوير وهو ما نحتاجه بمعزل عن الاتفاقات الإيدولوجية أو الاختلاف معها. فالمرحلة المعقدة التي يمر العراق بها لم تعد تسير في طريق مستقيم، بل هي مرحلة مشتبكة الطرق، وعلى التقدميين أن ينتبهوا مبكرا ان دول الجوار تحاول أن تسد فراغا في العلاقات العراقية الاقتصادية والتنموية الدولية بحجج التقارب الثقافي والمعرفي وعامل القرابة الجغرافية، في حين ان اية عملية من هذا النوع تسهم في إلغاء السيادة الوطنية أو جعلها مرهونة لتجاذبات اقليمية غير محسوبة النتائج. هذا ما يحدث لدول مستقرة،وما يحدث الآن في الأزمة اللبنانية الإسرائيلية ودور حزب الله وإيران وسوريا في جر المنطقة إلى ظروف دولية تخفف عن أزمة إيران مع المجتمع الدولي فكيف إذا كان العراق غير مستقر عندئذ يصبح دور إيران أكثر حضورا وفاعلية وهو ما تخطط له مليشيات الفصائل العراقية مع الأسف.؟ مما يعني ان تركيا وإيران ودول جوار أخرى تفكر وبوضوح خلخلة الوضع في العراق وقطع سبل الاتصال مع الدول المتقدمة بحجة تسهيل عملية انسياب السلع والموارد الأخرى للتقرب أو للتعامل المؤجل . من هنا علينا ان ندرك ان العراق بالرغم من ما يمر به ما يزال اقوى دول المنطقة من حيث مرونة التعامل والتفاعل مع المحيط العالمي والأقليمي بما يجعله قادرا على بلورة اتجاه ربما يكون جديدا في رسم سياسات اقتصادية / إنسانية أبعد بكثير من الموجودة حاليا. لذا نعتبر:
1- الصين في مقدمة الدول التي تتفهم آليات تعاملها الدولية مع بلدان العالم الثالث
وتربطنا بها وشائج اكثر وضوحا من دول دخلت على الخط العراقي بدخول قوات الاحتلال،بالرغم من أن للصين تصورات قد لا نجد توافقا نظريا ومبدئيا معها وهو أمر بدت الصين اليوم أكثر بعدا عنه خاصة وأن تجاربها في الثورة الثقافية وكراريس ماو الحمراء لم تعد قادرة للإجابة عن تساؤلات المشكلات المعاصرة دون أن يكون لمفهوم الإنتاج الرأسمالي وتطور آلياته الحديثة دورا في بناء الصين،هذه مرحلة منفتحة تعتقد الصين فيها أنها قادرة على الحفاظ على المبادئ الإشتراكية في حين ان الزمن يثبت أنها باعدت بين قدميها: الوطنية والدولية، وجعلت كل السفن تمر من بينهما، في حين أن عملاقا يرتفع للسماء وبيده الشارة الحمراء بدا واضحا في مسيرة العالم الحديث، نعم بحاجة للسخرية أحيانا عندما نفكر أن نزاوج بين دوغما النظرية والحاجة للإنفتاح كما تتيحها تجاربنا الناقصة الخبرة. ومن هنا اعتبر زيارة وفد الحزب الشيوعي العراقي بالرغم من عدم شمولها مثل هذه الميادين واحدة من تحركات قوى عراقية تضع نصب عينيها تطوير وتحديث العراق بطرق تنسجم وطبيعة العراق ودوره الاقليمي والعالمي لا سيما امتلاكه ثروات وطنية كبيرة. واللقاء الذي اجري لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الرفيق حميد مجيد موسى بعيد عودته من الصين حمل الكثير من دلالات التوجه الجديد والذي من المفروض أن يكون نشر اللقاء مستمرا لفترة في موقع الحزب الشيوعي العراقي وليس لمدة يومين فقط!! وهو ما يعكس ضمنا، أنها زيارة عادية ليس إلا، كي لا توحي تلك الزيارة أنها مؤشرلتحول جديد. فالصين اليوم واحدة من الدول الكبرى، شئنا ذلك أم ابينا، ودولة يحسب لها ألف حساب في الأجندة الدولية قبل أن نحسب لها نحن حساب العلاقة المرحلية. فالصين ليس بتعداد سكانها المليار وثلاثمائة مليون نسمة، بل بخططها الاقتصادية الطموحة، وبصناعاتها الكبيرة والهائلة، وبمركزها الدولي وسياستها العقلانية الهادئة،بحيث تشكل اليوم تكوينا عالميا جديدا ، وهذا التكوين هو جزء من بنية الفكر الماركسي المنفتح الذي زاوج بين النظرية والممارسة مزاوجة واسعة جعلت النظرية تتراجع على حساب تقدم الممارسة،فاصبحت السياسة الإقتصادية والثقافية جزء مهما من أيديولوجيا منفتحة تعتمد على مفاهيم اكثر شمولية: مثل الانسانية والانثروبولوجية والانفتاح المحدود على حرية الناس، وتفهم مطالب الشرائح الاجتماعية بعيدا عن القسر النظري.ومنح أقاليم حكما ذاتيا منفتحا كما في هونك كونك وهو ما يجعل الصين قادرة أكثر من غيرها على مناهضة التكوين الأمبريالي الغربي في الشرق الاقصى بالسلاح التقني والاقتصادي نفسه الذي تتميز به مقومات الرأسمالية الحديثة، حيث اليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية وتايوان نماذج للرأسمالية الاسيوية بتصوراته الخصوصية المحلية. صين تتدخل مؤثرة في اسواق العالم كله دون أن يمنعها اسم أو جغرافيا أو حدود، وهو الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن الصين دولة القرن الحادي والعشرين ولكن ليست الدولة الشيوعية التي خطط لها ماركس أو ماو. شخصيا اعتبر تجربة الحزب الشيوعي الصيني واحدة من التجارب المرنة التي زاوجت بين مكوناتها المثيولوجية الروحية ومبادئها الفكرية المستقبلية، واستطاعت عبر الكثافة السكانية ووضوح الرؤية وسبل تحديث المجتمع واستعارة التكنولوجيا وتفهم متطلبات السوق وتصور معاصر لقدرات الفرد والمجوعة وبنية اقتصاد السوق التجاربة الريفية واحتذاء الصناعات الغربية وسهولة الاستعارة الغربية والتكلفة القليلة للأيدي العاملة في استدراج مصانع الشركات الكبرى لأن تؤسس نموذجا معاصرا لا يفقد خصوصيته الوطنية، دون أن يكون نموذجا مستعارا من الغرب.وذلك عندما اعتمدت مكونات نظرية مرنة تنتقد الماركسية في جمودها وتنفتح على الماوية في تفهمها للمحليات وتتطلع لان تكون أكثر قدرة على بنية ممارسة الفلسفة وليس القبول المسبق للفلسفة.
وبالرغم من ان لي جملة ملاحظات على التجربة الصينية في الاشتراكية كما اشرت قبل قليل، إلا أني اجدها قادرةعن الإجابة على عدد من الأسئلة المعاصرة.فالأفكار بالنسبة لي كائن حي يتجدد كلما كانت هناك ضرورة،الصين تتجدد، واعتقد ثمة ضرورة منهجية تفرضها المرحلة العراقية الحالية في أن نقيم جسرا فكريا مع تجربة الصين، جسرا يعيد للماركسية حضورها الميداني دون أن يكون ثمة حضور أكثر للينين حتى لا تبرر أفعال ستالين القاتلة ثانية، ولذا أعد زيارة وفد الحزب الشيوعي للصين" وهورأي شخصي" واحدة من تفهم جدلي أكثر مرونة لما يمكن ان يكون عليه تفكير الحزب الشيوعي العراقي في مرحلة معقدة ودقيقة، وهي مرحلة العودة إلى النظرية الماركسية بطريقة أكثر قدرة على التزاوج بين الممارسة والفعل النظري المشبع بفكر الروح العراقي. وهي أن نتفاعل مع العالم المتقدم، نتفاعل مع تجربة تعد واحدة من تجارب عالمية جيدة لن تقف عند حد أو تصور مسبق، وفي الوقت نفسه نكشف عن القيم الكبيرة في التراث الإنساني والإسلامي. كان يقال لنا من قبل أن تجربة الصين تشكل الرديف الثاني للرأسمالية العالمية، وهو ما كان ينسجم وتوجهات الحزب الشيوعي السوفيتي، في حين أنها تجربة منفتحة وجريئة، لها ثقافتها وممارساتها الميدانية الصائبة والمخطوءة معا، بالرغم من أنها بنظرنا ونظر كل المحلليين لم تكن نقية ودقيقة خاصة في مسألة حقوق الإنسان والتعددية السياسية وفهم أليات الحكومات في الشرق الأوسط والنزاع العربي الإسرائيلي. لكنها على مستوى التقنية وأطعام مليار وثلاثمائة مليون نسمة،وعلى النهوض بالمثيولوجي فيها تعد تجربة رائدة ومهمة وكبيرة، وبالنسبة لنا تجربة يمكن الاستفادة منها مرحليا دون أحتذائها كليا.

2- بالمقابل يشكل الحزب الشيوعي العراقي عين الأحزاب الشيوعية العربية والعالمية
في المنطقة ونموذجها الفعلي في التجربة والمرونة والثبات على المبادئ الكبرى، مع التجريب المستمر في بنيته وفكره بما ينسجم وطبيعة المرحلة العراقية ضمن العالم والمنطقة، وامكاناته في التعامل مع مستويات دولية واقليمية عدة من أجل مصلحة العراق ومن اجل التجديد غير المخل في بينة وتركيب الحزب نفسه. وهو ما نأمل أن يوليه المؤتمر الثامن للحزب العناية الكبرى في أن يكون تشخصيه للمرحلة على المستوى الخارجي منسجما مع المتغيرات الدولية والاقليمية، وأن يكون تشخيصه الداخلي متطورا عن ما سبق عندما يفتح أفاقا نظرية جديدة تمكن أعضاءه واصدقاءه من أن يكونوا ضمن مفاهيم الحداثة نظريا وممارسة ليحول تلك النظريات المتقاطعة ضمن ممارساته إلى فعل جماهيري تجديدي. فالأرض العراقية خصبة بالتجاربالفكرية، والحزب قادر على التقريب بين تيارات مختلفة وفق صياغة برنامج عمل وطني مشترك، لا يلغي الثقافة والمكونات الإسلامية المنفتحة، ولا يغلق الباب أمام اي تصور عربي مناهض للقولبة الفكرية،ولا يمنع هو الأخر نفسه من أن يكون متحركا وحديثا ضمن ظروف العراق الإنتقالية، ولا يمنع من أن يكون ضمن مسار دولي تفرضه ظروف المرحلة العراقية وهو الانفتاح على التجارب العالمية الأوربية والصينية دون أن نفقد هويتنا العربية. فالحداثة كما فهمتها الصين منذ عقود لا تعني التزمت ولا الانفتاح المخل بالتركيبة التراثية والتاريخية بل توظيف قدرات المجتمع بما ينسجم وحاجاته الأساسية وفق صياغات نظرية منفتحة على التجريب والثوابت معا. والحزب منذ نشأته وإلى اليوم يعتبر الحاضنة الفكرية للحداثة بكل شعبها القتصادية والثقافية والاجتماعية.
ونظرة على مكونات شرائح الحكم العراقي الحالية نجد ليس من بينها من يفكر بتحديث المجتمع العراقي إلا من خلال نصوص دينية قديمة،. أو تطلعات أقليمية تفرضها استضافة قوى المعارضة العراقية قبل 9 نيسان 2003، أو من خلال احتذاء تجربة قومية قصيرة المدى سرعان ما تحولت بحكم قصر النظر إلى فاشية محلية تهتم بقمع الشعب قبل ان تهتم ببناء مؤسسات المجتمع. في حين كنا نعول على برامج لنخبة من التكنوقراط انخرطت بادئ الأمر في مؤسسات الدولة بعد التغيير ثم وجدت نفسها خارج المحاصصة فانكفأت ببرامجها التحديثية لتعقد مؤتمرات هنا وهناك عن تصوراتها العملية لمستقبل العراق.فعلى المفكرين والسياسيين وفئات الانتجلستيا والمتنورين ان يضعوا ايديهم بايدي الحزب الشيوعي العراقي من أجل انقاذ العراق بالرغم من وجود قوى تقدمية لبرالية مهمة في هذه المرحلة. ولذا اعتبر تجربة الحزب الشيوعي العراقي مهمة في ان يحاور قوى دولية من أجل تحديث العراق، فهو كقوى مشاركة وفاعله في الحكم تقع عليه مسؤولية البحث عن افق متسع لتجربة العراق الحديث، بالرغم من دوره المحدود. فهو ليس حزبا معارضا يدخل العمل السياسي ويخرج منه بانتظار دورة ثانية وأساليب قمع أخرى، عليه أن يتحول من الهامش الديمقراطي للدولة العراقية إلى المتن فيها، حتى لو كان دوره محدودا بطريقة تفهم آليات الحداثة والدعوة لها وطرحها وفق متطلبات المرحلة العراقية. ولذا فالكثير من القوى السياسية الحالية والمتحكمة بالمؤسسات الحاكمة لا تدرك معنى كيف يتم تحديث المجتمع من خارج سياقات افكارها، وهذا ليس عيبا فقط بل قصر نظر قاتل في بنية هذه الاحزاب من انها تدرك انها غير قادرة على وضع برنامج تحديثي خارج سياقاتها الأيدولوجية المحدودة. ومن يقرأ الواقع العراقي يجد ان هذه الأحزاب المتحكمة أسهمت بدراية منها أو بغير دراية في تأخير عجلة التقدم من خلال وضع العراقيل القاتلة في عجلة البناء التي كانت الاشهر الأولى بعد التغيير فسحة للنهوض والتقدم السريع بها، ولكنها اي تلك الأحزاب كانت عاجزة تماما عن وضع برنامج تقدمي طموح، وهو ما كان يشكل عقبة كبيرة بوجه قوى الردة والتكفيريين والبعثيين وأزلام الإرهاب من ان يتقدموا. إن الثورة والتغيير لا تنتظر عوامل خارجية كي تتقدم، بل تتقدم في تثوير الممكنات حتى لو كانت قليلة وجعلها نموذجا قادراعلى توسيع حياته وهو الأمر الذي وفرته قوى الاحتلال لقوى الشعب العراقي، إلا أن سياسات القوى الدينية كانت متخلفة لحد التعطيل عن فهم كيفية النهوض بمجتمع مخرب . لذا على الحزب الشيوعي العراقي ان يؤكد ذلك بالممارسة والمشاركة الفاعلة مع القوى التقدمية كلها بما فيها الشرائح من قوى الإسلام السياسي في وضع ألية تحديث المجتمع ومن ثم طرحها على البرلمان الذي يزحف كالسلحفاة في مجتمع يحتاج إلى الركض المبرمج. فالعراق اليوم ليس ملكا لطائفة أو قومية او فئة، بل هو ملك لمن كان في مقدمة من ناضل من أجل استقلاله وديمومته وطنا مشرقا وفاعلا، فالحزب الشيوعي العراقي ليس حزبا طارئا على الحياة السياسية العراقية ولا على المجتمع العراقي ولا على بنيته الفكرية والثقافية ولا على مؤسساته ونقاباته وتنظيماته، بل هو كيان اجتماعي متغلل في الحياة العراقية منذ سبعين عاما ونيف، بل أن وجود أفكاره في ممارسات الاحزاب العراقية الأخرى تعد عامل تطوير لها. ولذا اقول على الحزب الشيوعي العراق أن يكون جزءا من بنية الدولة العراقية وليس حزبا يدخل انتخابات ليفوز او يخسر، عليه أن يفكر أنه جزء من تكوين الدولة العراقية لا يحق لاحد ان يتجاوزه او يلغيه، لا بل ان افكاره التي ضحى من اجعلها مئات الشيوعيين وأنصارهم لا يمكن المساومة عليها بعدد المقاعد أو الأصوات.

2

ومن يتابع تطورات العالم وتناقض وصراع أيديولوجياته وتغيير المفاهيم الحديثة فيه، يجد من مهمات المرحلة على اي حزب أن يتفهم بعين اكثر مرونة تجاربه أولا، وتجربة ما يحيط به ثانيا. كنا قد نوهنا في مقال سابق على أهمية تجربة الحزب الشيوعي الصيني عندما زاوجت بين الموروث المثيولوجي والتراثي للصين والتقنية الحديثة ضمن فهم اشتراكي ينسجم وطبيعة بلدان الشرق. لكننا ونحن في أعتاب القرن الحادي والعشرين على الاحزاب الشيوعية العربية أن تكون بؤرة فاعلة في صهر الكثير من المفاهيم الإيديولوجية العالمية وأن تقدم نموذجا حيا قد يختلف عن اي نموذج آخر في العالم معتمدا على تفهمها وتجاربها في الممارسة والقطيعة المعرفية مع الثوابت الماركسية القديمة في ظل ظروف دولية ومحلية جعلت الكثير من مكونات الفكر الماركسي عرضة للاهتزاز والتغيير.وعلى مستوى الفهم النظري العام للنظرية الماركسية، علينا ان ندرك ان مهمة الأحزب الشيوعية العربية بتجربتها الكبيرة والواسعة والمسؤولة لا تتعلق بالعراق فقط ولا بالمنطقة العربية، بل في تجديد وأغناء مسيرة الأحزاب الشيوعية العالمية. فالتجربة العراقية وعلى كل المستويات لم تدرس بما فيه الكفاية المنهجية، لذا أعتبر ان تجربة من هذا النوع بحاجة إلى معاينة عالمية ومؤتمرات ايديولوجية فاحصة ودقيقة كي تخرج بمفاهيم جديدة، اعتبر زيارة وفد الحزب الشيوعي العراقي للصين تحولا مهما بالرغم من اللقاءات السابقة التي جرت بينهما، ليست من اجل تمتين العلاقات كما جاء في حوار سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، بل في فهم نقل آليات الحداثة العالمية والمعاصرة للعراق.
3
هنا علينا ان ندرك مسألتين مهمتين:
الأولى ان تجربة الحزب الشيوعي العراقي ليست ملكا للشيوعيين العراقيين وحدهم، بل هي تجربة أممية لها مكوناتها الإيديولوجية التي اغتنت بالممارسة والفهم المتدرج وغير المستقر لكل ما يحيط بالعراق ومنطقة الشرق الاوسط. وبناء على ذلك من المهم أن تعاين هذه التجربة بمعزل عن اخفاقاتها ونكوصها القصير، فهي قادرة على بلورة تصور ابعد من أنها تجربة مناضلين عرفوا كيف يتعاملون مع الواقع العراقي المشتبك بمرونة وتحد احيانا، لكنها في النتيجة ترسم صورة واضحة للنضال المعاصر الذي يغني فكر الإنفتاح على التقنية الغربية وعلى امتزاج الروح ومثيلولوجيا الشرق في بوتقة واحدة دون أن يتخلى عن مبادئه أو تصوراته. وفي ضوء ذلك لا ندعو هنا إلى تغيير في أيدولوجية الحزب ، بل إلى فهم تجربة حزب لم يكن يوما غريبا عن الحقائق الواقعية العراقية ولا عن مشكلاته التي نجد لها اصوليات في افكار الرواد محمود أحمد السيد وروفائيل بطي وحسين الرحال عن تصوراتهم لمعنى الحداثة، لا بل ان كتابات فهد الاساسية كانت الأكثر تبصرا في فهم طبيعة المجتمع العراقي وحاجاته.
علينا ان ندرك ان هذه المرحلة واسميها للمرة الألف " المرحلة العراقية" أن تجربة الحزب الشيوعي العراقي ليست سهلة ولا هي عادية بحيث يمكن تمثلها بعدد المقاعد أو الأعضاء، إنما هي تجربة الشعب العراقي كله، الذي بدأ يتفهم آلية تطور المجتمع العراقي ونقله نحو الحداثة، قبل ان يبدأ اي فصيل سياسي بذلك. وعلى الشيوعيين العراقيين ان يفخروا انهم هم من من قاد المجتمع العراقي نحو التطور والحداثة، وهذه ميزة لا يمكن تجاهلها الأمر الذي دفع بمئات المثقفيين والتقنوقراطيين للإنظمام إليه ليس من اجل أن يدخلوا السجون والمعتقلات ويطاردوا من بلد إلى اخر، إنما من اجل أن يكون العراق حديثا ومتطورا وقابلا لان يكون بلداً من بلدان العالم المتقدم يضع برامج تطورية منفتحة على الحياة مغتنيا بتجربة الكوادر اللبرالية الكثيرة وتصورات قوى عراقية تقدمية لها دور في البنية الاقتصادية والتنموية وعلى تفهم ثقافة النخب العلمية ومتطلباتها الميدانية وصهر كل ما هو محلي في بوقة المعاصرة من أجل نقل العراق خطوة أكثر مرونة نحو البناء والتجديد.
4
كيف نقرا الماركسية عراقيا؟ قد يكون السؤال مبهما ومباشرا في آن معا. شخصيا اعتبر أن قراءة ماركس لا تتم إلا من خلال تجربة محلية،وليس قراءته تتم من خلال تجارب أخرى فقط مع أهمية تلك القراءة، ثم ان ماركس ليس واحدا فكتاباته ايام الشباب مختلفة عنها في مراحله اللاحقة، وتصوراته عن بنية المدينة الغربية مثلا قد لا نجد لها اية مفاهيم في المدينة الشرقية، ولكن ماركس عندما نأخذه كله يصعب علينا فهمه لذا يكون تجزئة تصوراته الإيديولوجية والاقتصادية والفكرية وفهمها فهما مرحليا يسهم في بلورة تفهم عراقي لها. كل ما يصلنا هو فهم الفلاسفة والمفكرين الغربيين لماركس وهذا ليس عيبا فالفكرلايستعار، بل يجرّب ولذا علينا قراءة ماركس عراقيا بحكم أن العراق أكثر بلدان المنطقة العربية تطورا بالرغم من تخلفه الظاهر.. ولذا ما يزال الجدل الهيجلي قائما بالرغم من رؤية ماركس المقلوبة له،وقيامه هو أن نزاوج بين مادية الحياة وروحها.ولن تكون هذه المزاوجة متاحة وواضحة إلا في المجتمعات الشرقية. ربما نعود هنا لقراءات عدة منها قراءة التوسر ولوفيفر وماركيز وفوكو وغيره لماركس وهي قراءات ثقافية مشبعة بايدولوجيا الحداثة،فنجد فيها رغبة في التجديد والتطور كي لا تنتكس التجربة الثقافية للماركسية بانتكاسة تجربة الاتحاد السوفيتي. ولكن قراءة الصين لها مختلفة لانها قراءة مشفوعة بقراءة مثيولوجية محلية لتراث الصين وتقاليده واختلافها عن القراءت كلها ليس بحكم ان الصين تتبع تقاليدها المحلية، إنما وجدت فيها طريقة أكثر عقلانية لفهم تطور بنية الصين دون أن تخوض في فهم آليات الصراع النظري للجدل الذي أقامه هيجل أولا، ثم تفهم ماركس الألماني له ثانيا، ثم فهم لينين الروسي له ثالثا. وكانت قراءة فهد للماركسية في نسختها المحلية واحدة من القراءات العالمية المتنورة، ولكن مع الأسف الشديد ان منشورات الحزب الشيوعي العراقي قد اغفلت هذه القراءة المتنورة خاصة فيما يخص مفهوم الدولة والديمقراطية وبنية المجتمع ومؤسساته وثقافة الشيوعيين وتبصرهم في تنوير الآخرين. وعوض الحزب عن نشر هذه الثقافة المتنورة بفعاليات قاصرة قام بها افراد ليسوا جديرين بمهمة ثورية ونهضوية.
و نقرأ الماركسية عراقيا عندما نرى إلى تجربة الصين عندما تقدم قراءة مهمة في فكر الماركسية من أنها تفكر بعقلية الطبقة لا بعقلية الفئة. والطبقة متنوعة ومتعددة المستويات لذا لا تعني الطبقة وحدة متماسكة، بل هي تعبير عن تعددية مضمرة في المجتمع.وربما يعود بنا التفكير هنا إلى أهمية ان تكون هذه الطبقة واعني الطبقة العاملة حاضنة لكل الطبقات الأخرى بما فيها الرأسمالية النامية والبرجوازية الصغيرة، ولذا فالتركيبة النفسية لهذه الطبقة المتسعة تحمل هي الأخرى مكونات جديدة قد لا تكون ملائمة لسياق الطبقة العاملة ومبادئها الثورية في مفهومها الماركسي واللينيني، ومنها بنيتها المثيولوجية والروحية وتقاليدها الاجتماعية وعاداتها وهو ما يجعل ثمة مستوى من البناء العملي قائم في تركيبها قد يعوق دون تحقيق كامل تصورنا عن دور الطبقة العمالية في مجتمع حديث عن دورها المرسوم نظريا أو وفق ما قاله ماركس. قد يكون هذا واردا واكثر منه أن فهم ماركس المهم لكل تطور من أنه يتفتت ويذوب كلما تقدم به الزمن أحد اهم العوامل النظرية التي تقودنا الى اعتماد بنية محلية لتصحيح مسار النظرية الماركسية وهي تتقدم، فالصلب يذوب كما يقول ماركس في البيان الشيوعي ويتفتت لانه يحمل جرثومة فنائه في داخله إذا لم يتجدد محليا وعالميا، وهذا ما يجعلنا نعيد النظر في المقتبسات النظرية من الماركسية نفسها إذا لم تكن لها ثوابت في البنية الثقافية والحياتية لشعوبنا. من هنا فثمة قراءة ماركسية محلية للموضوع العراقي مختلفة عن قراءات اخرى ومتجددة تبعا لرؤية الحزب الشيوعي العراقي وهو يتفاعل مع ما يجري محليا وعالميا.
من بين هذه القراءات فهمة للتركيبة السياسية الحالية وقواها التي تتسيد الشارع العراقي وهو فهم لا يقتصر على تفهم اليات هذه الفئات وحدها بل يستوجب عمل نظري وعملي من اجل ان يكون الحزب في فهمه لها متقدما على نفسه. وثمة قراءة اكثر ميدانية هي أن عمق العراق كان ومايزال شرقيا لعل الهند تشكل المحطة الأكثر تطلعا للانتجلستيا العراقية بحكم البحار والتجارة والمثيولوجيا وبحكم انها لها ثقافة عريقة كانت من اسس الثقافة االعالمية ولكن هذا وفي البعد العملي منه لا يعني الإنقياد لها، بل التفهم لما يمكن ان يكون العراق عليه بخصوصية جديدة لا تقليدية لما يملكه من قدرات علمية ومادية وجغرافية تؤهله لأن يكون طليعة عالمية في المنطقة.وفي الوقت نفسه علينا كما قلت سابقا أن نتحالف مع ابليس من أجل ااستعارة التقنية العلمية والتكنولوجية وتحديث عقل وممارسة الإنسان العراقي قبل استيراد الآليات الحديثة..