هل هناك ضرورة نظرية لتخطي الماركسية؟ (3) فلسفة اللغة بديل فلسفة الهوية


هشام عمر النور
2006 / 7 / 16 - 10:28     

انتهينا في المقال السابق إلى وصف الماركسية بأنها فلسفة هوية. وفلسفات الهوية سمتها الأساسية أنها تقوم على التقابل بين الذات والموضوع، وهو تقابل تنتج عنه ذات عارفة وفاعلة غائياً في العالم، أي الذات المسيطرة، مهما اختلف الموقف الفلسفي الذي تعبّر عنه فلسفة الهوية. هذه السيطرة لا تقف عند حدود المجال الطبيعي، وإنما تنتقل إلى مجال العلاقات الإنسانية، إلى مجال العلاقة بين الذات والذات. وهو ما يجعل الذات الأخرى مجرد موضوع آخر يجب أن يخضع لمعرفتها وفعلها الغائي في العالم.
وامتداد السيطرة إلى خارج المجال الطبيعي أمر متسق معرفياً لأن فلسفة الهوية في عصرها ذاك كانت نموذج paradigm المعرفة. وهو ما يفسر صعود العلم الطبيعي وصيرورته النموذج المثال لهذه المعرفة. وإذا كنا ولوقت طويل نفسر سيادة العلم الطبيعي بدقة نتائجه وبداهتها، فإن هذه الدقة والبداهة ليست سوى معيار صحة فلسفة الهوية وصحة أساسها الذي يقوم على التقابل بين الذات والموضوع ودليل على سيطرة العلم الطبيعي على موضوعه. وأفرز هذا الموقف ما بات يُعرف في الفلسفة بالعقل الغائي أو الأداتي والعقلانية الغائية أو الأداتية. وهي عقل وعقلانية تحشد الطبيعة والبشر والمعرفة كوسائل وأدوات لتحقيق غاياتها. وهو ما يعبّر تمام التعبير عن السيطرة. وبسبب هذا قلنا من قبل أن المشكلة الرئيسة في الماركسية هي نظريتها في المعرفة.
وبسبب هذه المشكلة انتهت الماركسية إلى كونها نظرية في السيطرة بدلاً من أن تكون نظرية في التحرر، وهذا من باب مكر التاريخ، طبقاً لحكمة ماركسية تلخص ما أود الإشارة إليه، فالتاريخ يجري وفقاً لقوانين موضوعية، معرفتها تساعدنا في السيطرة على العملية كلها وتحقيق غاياتنا التي هي غايات الطبيعة ذاتها طالما أننا جزء منها، يسري علينا ما يسري عليها. وتجاهل هذه القوانين أو عدم معرفتها يجعل فعلنا في العالم ينتهي إلى نقيض ما نريد، أي تسري القوانين من وراء ظهر أفعالنا. وهذا هو المكر على وجه الدقة. وهذا تصور للعلم، طبيعي وإنساني، يلخصه رائد العلم الطبيعي فرانسيس بيكون في بدايات تطور العلم في القرن السابع عشر بقوله فيما يعني أنه لكي تتم السيطرة على الطبيعة لا بد من معرفتها، وهو ما ترجمته الماركسية فيما بعد بقولها أن الحرية هي معرفة الضرورة. وهما قولان يعكسان على نحوٍ دقيق سمات الذات في فلسفة الهوية، الذات العارفة والفاعلة غائياً في العالم بناءً على هذه المعرفة، أي أنها بدون معرفة لن تستطيع الفعل (أو السيطرة). وبسبب هذا الارتباط بين الفعل والمعرفة لم يعد هناك فارقاً جذرياً بين المثالية والمادية (أو الذاتية والموضوعية) اللذين هما قطبي فلسفة الهوية والتعبير الصارخ عنها.
ولكن وفي أوائل القرن العشرين حدثت تحولات في المعرفة أدت إلى تحول في نموذج المعرفة paradigm shift من فلسفة الهوية إلى فلسفة اللغة. ابتدر دي سوسير هذه التحولات بمحاضراته في أوائل القرن العشرين التي صدرت فيما بعد في كتابه الهام "علم اللغة العام". وكانت هذه المحاضرات أولى المحاولات للخروج على نموذج فلسفة الهوية. جعل فيها دي سوسير مدلول العلامات التي هي الكلمات لا تشير أو ترتبط بموضوعاتها مباشرةً وإنما تشير وترتبط بمدلولات أخرى وصارت لدينا في العلاقة بين الكلمات نوعين من العلاقات: العلاقات التركيبية والعلاقات الجدولية، أو كما عرفت فيما بعد في البنيوية بـ: العلاقات السينكرونية (التزامن) وهي كما هو واضح تشير إلى العلاقات بين العناصر التي تكوّن البنية، والعلاقات الدياكرونية (التعاقب) تشير إلى تعاقب العلاقات بين العناصر في البنية دون الخروج عليها. وهكذا انتقلنا من الموضوعات إلى المعنى. وأصبحت التجريبية والتاريخية بالنسبة للبنيويين زائفتين ويستخدمونهما لذم الخصوم.
إلاّ أن هذا الابتدار للتحولات لم يكن كافياً لنقل نموذج المعرفة من فلسفة الهوية إلى فلسفة اللغة، إذ ظل التقابل بين الذات والموضوع يقبع في خلفيتها ولم تستطع الخروج عليه. فعلى الرغم من إعلانها لموت الذات وجعلها العالم مجرد معاني إلاّ أن الفحص المدقق يكشف عن أن المنطق الذي يسود العلاقات بين المعاني هو نفسه المنطق الذي يسود العلاقات في العالم، طالما أن العالم هو مجرد معاني، وهو أيضاً ذات المنطق الذي يسود في العقل، طالما أنه جزء من هذا العالم. وهكذا نعود مرة أخرى للتقابل بين الذات والموضوع.
وسبب فشل هذا الخروج على نموذج فلسفة الهوية يعود إلى أن البنيوية اشتغلت على السيمانطيقيا semantics والتراكيب النحوية syntax مما أدى إلى الحفاظ على فلسفة الهوية مع استبدال موضوعها (العالم) باللغة، وصارت العلاقة بين الذات واللغة بدلاً من أن تكون بين الذات والموضوع، وهو استبدال ـ كما هو واضح ـ لا يخرجنا من نموذج فلسفة الهوية. ويتضح أنه لا سبيل للخروج على فلسفة الهوية باستبدال مضمونها بمضمون آخر جديد إذ أن ذلك يحافظ عليها. إن استبدال الموضوع باللغة خطوة في طريق تجاوز نموذج فلسفة الهوية، ولكي تكتمل يجب ألاّ تصير اللغة موضوعاً جديداً وإنما يجب معرفتها كعلاقة بين الذات والذات، كتواصل بينهما، وكشروط لهذا التواصل. وهذا لا يجعل اللغة موضوعاً جديداً وإنما مجموعة شروط، أي يتم التركيز على الطابع الإجرائي للغة لا مضمونها. هذه الخطوة هي التي أكملت تحول النموذج من فلسفة الهوية إلى فلسفة اللغة.
وأول من ابتدرها جورج هربرت ميد في أوائل القرن العشرين، ومن الصدف (وقد لا تكون) أنه قدمها أيضاً في محاضرات تم جمعها أيضاً بعد وفاته (تماماً مثل دي سوسير) في كتابه الهام "العقل والذات والمجتمع". ومن ثم أكمل هذه الخطوة في أواخر القرن هابرماس وآبل اللذان صاغا مجالاً جديداً في المعرفة يدرس شروط وإجراءات التواصل وأسمياه التداولية (التداولية الكلية عند هابرماس والتداولية الترانسندنتالية عند آبل). وبتحول النموذج من فلسفة الهوية إلى فلسفة اللغة انتقل النموذج أيضاً من العلاقة بين الذات والموضوع إلى العلاقة بين الذات والذات، أي إلى التذات intersubjectivity الذي أصبح أساساً للمعرفة وللعلاقة بالعالم والإنسان والذات، ونتج عن ذلك العقل التواصلي والعقلانية التواصلية بديلاً عن العقل الأداتي والعقلانية الأداتية، وتم استبدال علاقة السيطرة بالإجماع الذي يقوم على المناقشة والحوار، وأصبحت الحقيقة ليست التصور المطابق للواقع وإنما التصور الذي يقتنع بحججه المشاركون في الخطاب، وحل المنطق المتعدد محل المنطق الثنائي، وصار للديمقراطية أساساً فلسفياً ومعرفياً. وهذه أولى التحولات المعرفية والنظرية التي تستدعي تخطي الماركسية. وهو تحول سنناقشه ببعض التفصيل في المرة القادمة.