النظرية هي دين القرن العشرين الجزء الثاني


منير العبيدي
2006 / 7 / 14 - 10:25     

في نقد اليسار
النظرية هي دين القرن العشرين
الحلقة الثانية
وكما رأينا في الجزء الأول من موضوعنا " النظرية دين القرن العشرين " فإن النظرية تحتاج إلى كتب ، وهذه الكتب ستكون بمرور الوقت مقدسة لا تُمس رغم أن الكثير منها قد أشير فيه إلى أنها مرشدٌ للعمل وليست عقيدة جامدة ، و رأينا مع ذلك كيف أن الذي يحاول تغيير أو تطوير ما ورد فيها سوف يُنعت بأنه تحريفي : يساري أو يميني أو انتهازي أو ذيلي أو مطية للبرجوازية الى آخر النعوت ، و رأينا كيف يتم الاستشهاد بما ورد في هذه الكتب كما لو كانت كتابا مقدسا . و رأينا أيضا أن هناك قيّمون على هذه الكتب المقدسة يحرسون ما ورد فيها من " حقائق " و سيكونون إما في السلطة فيستعملون سلطة الدولة و أجهزتها الدولة لقمع " التحريفيين " و "الانتهازيين" أو حرمانهم من حقوقهم المدنية الطبيعية كالعمل مثلا ، أو إنهم خارجها فيَصمون من تجرأ على المساس بالمقدسات بأسوأ النعوت. و رأينا أخيرا أن الكتب التي تتضمنها النظرية تحتاج الى مرجع لتفسيرها ، و كيف انه لا يحق لكل " من هب و دب " أن يستنبط الأحكام منها ، و عرجنا على أمثلة تاريخية : كيف أن هناك ، مثلا ، من احتكر تفسير ماركس و حرم الآخرين من ذلك و وَصَمَهم بتهم مختلفة بالرغم من أن الفكر البشري ملكٌ للجميع و إنه ، كما دلت كامل التجربة البشرية ، غير قابل للاستنفاذ بمعنى إنه قابلٌ للتحليل و التأويل و إعادة التحليل و التأويل إلى ما لا نهاية من المرات و يطرق مختلفة و ربما متناقضة .
و باختصار توصلنا الى أن النظرية سوف تحتاج الى :
ـ كِتاباً أو مجموعة من الكتب لإيضاح قواعدها ، تتحول لدى الأتباع الى قواعد لا يأتيها الباطل أبدا و قمنا بمقارنتها بالكتب المقدسة .
ـ شخصا أو مجموعة أشخاص يمتلكون قدرة و حق تفسير النظرية و كتبها دون غيرهم ، ويكونون بذلك ( مرجعية )
ـ أناسا يُعزلون ، يُنبذون أو يُشتمون بسبب أن لهم رأيا مخالفا للتفسيرات الرسمية للنظرية يوصمون بالتحريفية ، قارِنها رجاء بـ " يحرفون الكلم عن مواضعه " .
ـ و قرأنا كيف أن الذين يتخلى عن بعض هذه المعتقدات و يراجعها نقديا يُطلق عليه اسم مرتد . و الارتداد موجود هو الآخر في الفكر و التراث الدينيين ، و ينطوي اشتقاق كلمة " مرتد " على مغزىً مهم : فـ " الارتداد " أو " الردة " هو العودة او النكوص أي : العودة عن جادة الصواب بعد أن يكون المرء قد اهتدى ، و هكذا فإننا اذا ما نعتنا شخصا ما بأنه مرتدٌ فان هذا يعني إن فكرنا هو الصواب ، و فكر غيرنا هو الظلال ، وهذا الافتراض يحتوي ضمنا على ادعاء احتكار الحقيقة .
و توصلنا بذلك إلى أن الذي بين أيدينا إنما هو دين آخر، و إنما بلبوس مموهة .
على أنه ما يزال أمامنا الكثير مما يستوجب الإيضاح .

****
السنة 1977
المكان موسكو
كانت هناك سيدة وقورة متقدمة في السن إسمها " يوغوروفا " تدرس في معهد العلوم الاجتماعية التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي ، و كان هذا المعهد الذي يشغل بناية فخمة ليس بعيدا عن قلب موسكو تحت الإشراف المباشر للجنة المركزية بواسطة إحدى الشخصيات اللامعة : زكلادين العضو المرشح للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي ، و الدارسون فيه يفترض إنهم يؤهلون ليكونوا كوادرا في أحزابهم وقد يلعبون دورا قياديا بارزا في أحزاب ماركسية و يسارية من حوالي أربعين بلدا من مختلف أنحاء العالم .
في أحد الدروس التي كانت تعطيها السيدة يوغوروفا عن الشروط الفنية و التكنيكية لانتصار الثورة حسب ما يراه لينين ، تحدثت عن ضرورة الاستيلاء على مقرات الحكومة و البنوك و البنك المركزي على وجه التحديد و التقاطعات الرئيسية و ....... الجسور. و قد اعترض احد الرفاق السوريين على جعل الجسور احد شروط انتصار الثورة و واحدا من مستلزمات إنجازها ! ولكن يوغوروفا أصرت على صواب و ضرورة موضوعة احتلال الجسور لأن هذا الأمر وارد في كتب لينين عن الانتفاضة و إن ليس من الممكن إسقاط احد الشروط التي أشار إليها . و أضافت بقناعة : لينين قال ينبغي الاستيلاء على الجسور من أجل ضمان انتصار الثورة ، إذن يجب الاستيلاء على الجسور لا محالة .
أجابها الرفيق السوري : من المؤسف أن الثورة الاشتراكية في هذه الحالة لن تنتصر أبدا في سوريا لأننا لا نمتلك جسورا !
هذا الطرفة التي أثارت الضحك في حينها ، و ربما أثارت الضحك الآن لدى البعض ، هي طرفةٌ مرةٌ كالعلقم !
* * * *
النظرية هي مجموعة من القواعد الثابتة نسبيا يفترض إنها مستمدةٌ من الواقع . على إنها ، لعدة عوامل ، سوف تتسامى و تنفصل عنه شيئا فشيئا ، و بدلا من نشأتها الأولى كنتاج لتعميم قوانين الواقع قائمٍ على استنباط سنن تطوره ، كما هي فعلا أو كما يدعي واضعوها ، تتحول النظرية الى مجموعة من القواعد مدعومةٍ بشكل من أشكال القوة أو بقوة الدولة على وجه التحديد من أجل أن تفرض واقعا تشاؤه و ترغبه ، و تقوم بفرض ميكانيكيتها المدعومة بقوة الإرادة البشرية . و إذا لم تطور هذه النظرية باستمرار سيكون الحال الذي تفرضه ، عاجلا او آجلا غريبا عن القوانين الطبيعية لتطور الواقع و مفروضا على هذه القوانين تعسفيا ، أي معرقلا لها . و تكتسب النظرية قوة استمرارها ، رغم شيخوختها ، من قدرتها على خلق أجيال من الموالين لها و الذين يسيِّرون جهاز الدولة بشكل خاص ، و بسببها تكتسب أفعالهم آلية و إيقاعا يصعب الفكاك منه ، مؤدية بشكل تدريجي الى وضع متأزم يقود الى إشكاليات ثم مجموعة أزمات فأزمة عامة ثم أخيرا الى الانهيار العام و ذلك بسبب التمسك بحرفية النظرية و رفض كل شكل من أشكال التحديث ، كما حدث مثلا في عدم الأخذ بمتطلبات و نداءات التحديث في الحركة الشيوعية العالمية و أنظمة الحكم السابقة في المنظومة الاشتراكية التي كانت تباشير أزمتها و أنهيارها اللاحق قد بانت في الأفق .
و لكن المشاكل التي تواجهها النظرية ، أية نظرية ، لا تقف عند هذا الحد الساكن نسبيا . فبما أن النظرية مستمدة من الواقع فإنها ستكون متناقضة معه بسرعة كلما كان الواقع متسارعا ، فهي ثابتة و هو ديناميكي . إن النظرية هي لحظة في حركة الواقع تحاول استشراف لحظة قادمة ، و هي ، إذا شأنا أن نقارن ، لقطة تصويرية واحدة تمثل لحظة في مسار قطار سريع ذي ماكنة ضخمة جبارة يزيد من سرعته باستمرار و كلما تقدم إلى الأمام . فاذا ما أردنا أن نصور واقع حركة القطار كما هي ، فعلينا أن نساير القطار بنفس السرعة و نلتقط صورة لحركته في كل لحظة ، أي إننا لا نستشرف حركته القادمة دون أن نراها اعتمادا على استقراء إيقاع حركة القطار كما تفعل النظرية من خلال دراسة لقطة واحدة ، و إنما نصور الواقع تماما .
كلما حصلت في الواقع تغييرات جوهرية سقطت النظرية في إشكاليات جوهرية ، مما يتطلب تطويرها ، و لكن بما أن الشكل القديم للنظرية كان قد خلق قواه المتمسكة به و المتفانية في سبيل بقاءه فإن علينا أن لا نتوقع أن يكون تطوير النظرية بهذه السهولة و هذا اليسر و انما ، و كما رأينا سابقا من خلال الأمثلة التي سقناها ، أن القيّمين على النظرية وحراسها سوف يسعون إلى الإبقاء على شكلها القديم و يدافعون عنه بكل شراسة لأسباب عديدة منها عدم القدرة على التكيف مع الشكل الجديد و كذلك ارتباط إمتيازاتهم بنمط التفكير القديم و المخاوف من أن نمطا فكريا جديدا سيحمل معه لا محالة جيلا جديدا يزيح الجيل القديم الذي دُرِج على تسميته بالحرس القديم ، لذا فاننا نلاحظ لا محالة وجود حرس قديم لأنماط التفكير، وهذا الحرس هو المعنيُ بإبقاء القديم على قدمه و لصقِ تهمة التحريف و غيرها من النعوت بالساعين الى التجاوب مع الواقع و إخضاع النظرية لمتطلباته هو و ليس متطلباتها هي ـ أي الدوغما ـ .
فماذا ستفعل السيدة يوغوروفا و هي امرأة قد بلغت الثمانين من العمر و لم تعد قادرة على الخروج عما دَرَسَته و درّسته لعشرات السنين ، و ذهنها لم يعد يمتلك تلك المرونة من أجل العمل على تطوير النظرية أو تقبل تطويرها المقترح من جهة أخرى ؟ ماذا سيفعل العشرات و المئات و الألوف من جيلها من الذين يشغلون مراكز مهمة في المؤسسات التعليمية و الحزبية ؟ ليس بوسعهم تجديد نمط تفكيرهم كما ليس بوسعهم القيام بمسح آركيولوجي للمفاهيم التي إعتادوها و النبش و إعادة النظر فيها بطريقة نقدية ، و بما إنهم يمتلكون نفوذا واسعا و قدرةً على التأثير فإنهم في الغالب سيقومون بإبداء مقاومة شديدة للتجديد و سيوجهون سهامهم الى الحامل البشري له : أي إلى مجموعة البشر الداعية له و التي هي في الغالب قليلة و منزوعة النفوذ و مقصية . و ستطول نارُ الإقصاء و مرارة الاستصغار الشبابَ بالدرجة الأولى ، و تتجلى بالتقليل من أهمية الآراء التي يطرحونها و اتهامهم بقلة التجربة . ولا تزال أوساط الشباب مقصية في هذه الأوساط حتى يومنا هذا ، و لا تزال الآراء التي يبشرون بها تواجَه بالازدراء أو التجاهل والصمت ، بالرغم من كونهم ـ أي الجيل الجديد ـ ليسوا المسئولين عن الكارثة التي حلت باليسار و انما الحرس القديم نفسه ، هذه الأوساط التي اُنعم عليها بالعصمة رغم المآسي ، و التي لا تزال مصرة على عدم افساح المجال للجيل الجديد .
على إن الأمر لا يزال أكثر تعقيدا فانطلاقا من إقرارنا أن النظرية هي ، في أحسن حالاتها ، مستمدةٌ من الواقع فإنها ، إذن ، ستمر بإشكاليات كلما كان الواقع متحركا و ديناميكيا و متسارعا ، و التسارع acceleration)) هو حصيلة التطور في وحدة زمنية معينة و كلما تقدمنا الى الأمام في حياتنا القادمة إزداد التسارع. وبذا فإن أية نظرية سوف تصبح متناقضة مع الواقع حتى قبل أن تكتسب ملامحها النهائية .
و لتقريب الصور و لتوضيح العلاقة بين التسارع و النظرية نضرب كمثال على ذلك الأجهزة الألكترونية كالحاسوب : ما أن يظهر جيل جديد من الحاسبات حتى يصبح قديما خلال فترة قصيرة شهر أو بضعة شهور و لكن تسارع المكتشفات يتزايد يوما بعد يوم أي أن التسارع القادم سوف يجعل من الحاسوب " الجديد " قديما خلال أسابيع ثم عدة أيام ، وربما في المستقبل سيكون الحاسوب قديما ما أن يصل الى الأسواق . و هذا الأمر ينطبق على تأليف و نشر الكتب العلمية : ما أن يجمع الباحث المعلومات و المعطيات و الوقائع الضرورية لدراستها و تناولها بالبحث حتى تنشأ وقائع و معطيات جديدة . و ينطبق الأمر على وجه الخصوص على ترجمة الكتب بالأساليب التقليدية و هي عملية تستغرق مدة ليست بالقليلة لكي تنجز و حتى يصل الكتاب الى الأسواق .
و بما أن التسارع سوف يزداد يوما بعد يوم و بشكل عاصف لذا فاننا نتوقع وقوع المنتج التقني و العلمي ، عدا الإبداعي طبعا ، في إشكالية سرعة التقادم و ضرورة البحث عن حلول .
و يتعلق الأمر أيضا بالنظرية : ما أن تكتسب النظرية ملامحها و تبدأ في الاكتمال حتى تصبح متناقضة مع الواقع و قديمة ، فالنظرية بطيئة و الواقع سريع ، مما يبشر بموتها و استبدالها بدراسة سريعة و يومية للواقع .
و عليه نجد أن النظرية كانت متماشية مع إيقاع أوائل القرن الماضي و حركته البطيئة ، أما في قرننا الواحد و العشرين ، في هذا القرن المتسارع و الذي سيزداد تسارعا ، فلا مكان فيه للنظرية . إننا نحتاج ، كما عبرت في أحدى دراساتي عن واقع الطبقة العاملة في القرن الواحد و العشرين ، الى غرفة عمليات لتحليل عناصر الواقع بسرعة و بواقعية و بدون قيود نظرية و آيديولوجية ، غرفة عمليات مدعومة بالمنجزات التكنيكية .
ماذا نفعل بتراكمات الفكر البشري إذن ؟
الإجابة : علينا بالمنهج !
أليس المنهج نظرية أخرى ؟
منهج واحدة مرة أخرى ؟ الا توجد إمكانية للعمل تبعا لمناهج متعددة ؟
هذه الأسئلة ستجعلنا بحاجة الى جزء آخر متمم من هذا المبحث .
منير العبيدي
12 ـ 7 ـ 2006