اشتراكية في بلد واحد أم ثورة دائمة؟

نهويل مورينو
2020 / 7 / 25 - 12:19     



(في دكتاتورية البروليتاريا الثورية، الفصل 9، 1979)

كما سبق ورأينا، فإن طرح السكرتاريا الموحدة للأممية الرابعة، (وهي منظمة تحريفية يقودها إرنيست مندل ومقرها في باريس) ونظيره في الستالينية، يشتركان في بعض النظريات: بناء الاشتراكية في بلد واحد، وإضعاف الثورة والصراع الطبقي، وإنهاء الثورة الاشتراكية بمجرد تولي البروليتاريا السلطة.

تروتسكي صاغ نظرية الثورة الدائمة لمعارضة هذا المفهوم. أطروحته الأولى، السابقة للثورة الروسية، تدور حول مزيج من المهام الديمقراطية والاشتراكية، وديكتاتورية البروليتاريا كرأس حربة للثورة الديمقراطية في البلدان المتخلفة. الأطروحة الثانية جاءت ردا على النظرية الستالينية لبناء الاشتراكية في بلد واحد، وهي تصوغ برنامجا لجميع البلدان، سواء أكانت متخلفة أم لا، لما بعد الاستيلاء على السلطة. موضوعها هو ديناميكية تحول الثورة الاشتراكية الوطنية المنتصرة إلى ثورة أممية. بهذه النظرية الجديدة، تروتسكي قام بشكل قاطع بتعديل التصورات التي كان يحملها الماركسيون حتى ذلك الوقت، فيما يتعلق بالعلاقة بين الثورة الاشتراكية، والاستيلاء على السلطة، والبناء الاشتراكي، وإضعاف الديكتاتورية. أسست النظرية الجديدة تسلسلًا جديداً غير خطي: الثورة الاشتراكية الوطنية والاستيلاء على السلطة، بما يقود إلى ثورة اشتراكية أممية، بهدف مبدأي هو هزيمة الإمبريالية، بدلاً من بناء الاشتراكية؛ وهذا يستدعي تمكين دكتاتورية البروليتاريا.

الماركسية تعلّمنا أن الفترات الثورية تبدأ عندما يتناقض تطور التكنولوجيا، أي القوى المنتجة، مع علاقات الإنتاج والملكية. في ظل الإمبريالية، وفقاً لتروتسكي، فإن القوى المنتجة تتناقض أيضا مع وجود الدول الوطنية. هذا أمر واضح، كونهم يعتمدون على الكوكب بأكمله لتطوّرهم. وبالتالي، فإن الدول البرجوازية الوطنية تشكل عقبة كبيرة مثل الملكية البرجوازية الخاصة. إنهم يشكلون عائقا أمام تطور القوى المنتجة، على ذات النطاق التاريخي والعالمي، لما كان عليه الوضع وقت الملكية الإقطاعية.

إن الثورة الاشتراكية الأمميّة هي حاجة موضوعية لتكييف كل الأرض مع تطور القوى المنتجة، لأنها هي الوحيدة التي ستقضي ليس على الملكية الخاصة فحسب، ولكن أيضاً على الحدود القوميّة. في ظل الإمبريالية الاحتكارية، فإن هذا التطور في خدمة الحفاظ على الدول الوطنية (التعبير الأعلى للملكية البرجوازية)، وهي طريقة أخرى للقول أنها في خدمة التخلف. لهذا السبب فإنّها تعدّ العامل الحاسم للثورة المضادّة.

البلدان الرأسمالية المتخلفة كانت تستغل مباشرة من قبل الإمبريالية، من خلال الاستثمار الرأسمالي. ومع ذلك، ظلوا متخلفين بعد نجاح الثورة: القوى الإنتاجية الإمبريالية استمرّت في التفوق، مما مكنها من مواصلة الاستغلال غير المباشر من خلال سيطرتها على السوق والاقتصاد العالميين. لهذا السبب اعتبر تروتسكي أن بروليتاريا اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية هي طبقة حاكمة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، ولكنها أيضا مستغلّة من قبل الإمبريالية. وبغض النظر عن الاختلافات الواضحة، فإن الثورة الروسية وتلك التي تبعتها، أصبحت في وضع مشابه لذلك الذي كان من الممكن أن تجد فيه بروفانس ومرسيليا نفسيهما، على افتراض أن الثورة الفرنسية قد انتصرت هناك، بينما بقية فرنسا، وخاصة باريس وليون، على رغم تطورها المتفوق لقوى الإنتاج، ستبقى إقطاعية. إذا كان هذا ما حدث، فإنه ما كان ينبغي للملكية أن تكون في خطر الهزيمة من قبل بروفانس المعزولة. الرأسمالية دائمًا تحتاج للسيطرة، على الأقل، على السوق الوطني، من أجل التطوير المتسارع لقوى الإنتاج.

هذه هي ظروف دول العمال الحالية (بولندا وألمانيا الشرقية ورومانيا وبلغاريا والمجر وتشيكوسلوفاكيا والصين وكوبا وفيتنام) ولكن على نطاق عالمي. لا تمكن رؤيتها إلا كتقدم تكتيكي للثورة الأمميّة. فقط بسبب وجود مشاكل خطيرة، وظروف معينة، بات من المستحيل على الإمبريالية تدمير هذه الدول. الحكومات العمالية البيروقراطية الجديدة معزولة، همها الرئيسي هو الدفاع عن حدودها الوطنية، وتطوير اقتصاداتها المتخلفة. ومع ذلك، عاجلاً أم آجلاً، فإن الندرة النسبية لقوى إنتاجها – مقارنة بالرأسمالية العالمية – ستجبرها على التبادل التجاري مع الإمبريالية، ما يعني أنه سيتم استغلالها بشكل غير مباشر، عن طريق المعاملات التجارية والقروض.

الواقع بيّن أن الثورة العالمية شهدت تطوراً “غير طبيعي” حتى الآن، قائماً على التخلف الكبير بدلاً من التطور الرأسمالي المتقدم. وفي الوقت نفسه، أثبت على المستوى العالمي أن تنمية قوى الإنتاج لا يمكن احتواؤه بواسطة الحدود الوطنية. هذا التناقض واضح في حقيقة أن الثورات اندلعت في أضعف قطاعات الرأسمالية. ما دامت الإمبريالية ناجية، فإن أي بلد متخلف يصنع الثورة داخل حدوده الوطنية، سيستمر استغلاله بنفس الطريقة، لأن “… المعيار الأساسي هو مستوى قوى الإنتاج”. (ليون تروتسكي ، الثورة المغدورة).

كل من لينين وتروتسكي استنتج من هذا التحليل أن الإمبريالية لم تهزم عبر الاستيلاء على السلطة، لذا، يجب تسريع الصراع الطبقي والثورة على نطاق يمكن أن يؤدي إلى هزيمتها النهائية. “بعد الإطاحة بالبرجوازية والاستيلاء على السلطة السياسية، ينبغي على البروليتاريا سحق المقاومة العنيدة المتزايدة للمستغلين”.

“إن طبقة المستغلين، ملاك الأراضي والرأسماليين، لم تختف ولا يمكن أن تختفي دفعة واحدة تحت دكتاتورية البروليتاريا. لقد تم تحطيم المستغلين، ولكن لم يتم تدميرهم. لا يزال لديهم قاعدة دولية بهيئة رأس المال الدولي، الذي يشكلون فروعه. (…) لأنهم هزموا، زادت طاقة مقاومتهم مئات وآلاف المرّات، “فن” الدولة، الإدارة العسكرية والاقتصادية، تمنحهم التفوق، والتفوق الكبير جداً ، بحيث تكون أهميتهم أكبر بكثير من نسبة عددهم من السكان. لقد أصبح الصراع الطبقي الذي يخوضه المستغلون المخلوعون ضد الطليعة المنتصرة للمستغلين، أي البروليتاريا، أكثر مرارة. ولا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك في حالة الثورة، ما لم يتم استبدال هذا المفهوم (كما هو الحال مع جميع أبطال الأممية الثانية) بأوهام إصلاحية “. (فلاديمير لينين، الاقتصاد والسياسة في عهد دكتاتورية البروليتاريا).

تروتسكي يؤكد هذا في الثورة الدائمة:

“الحفاظ على الثورة البروليتارية في إطار وطني لا يمكن أن يكون إلا حالة مؤقتة، على الرغم من أن تجربة الاتحاد السوفياتي، كما يبدو، تجربة طويلة الأمد. في الديكتاتورية البروليتارية المعزولة، فإن التناقضات الداخلية والخارجية تتنامى حتماً مع النجاحات التي تحققت. إذا بقيت معزولة، يجب على الدولة البروليتارية أن تقع في النهاية ضحية لهذه التناقضات. إن مخرجها يكمن فقط في انتصار البروليتاريا في البلدان المتقدمة. إذا نظرنا من وجهة النظر هذه، فإن الثورة الوطنية ليست كلها قائمة بذاتها. إنها مجرد حلقة في السلسلة الأمميّة “. (ليون تروتسكي، الثورة الدائمة).

لقد تم تلخيص هذا بشكل رائع في الأطروحة التاسعة للثورة الدائمة:

“استيلاء البروليتاريا على السلطة لا يكمل الثورة، بل يفتح بابها فقط. البناء الاشتراكي لا يمكن تصوّره إلا على أساس الصراع الطبقي، على المستويين الوطني والأممي. هذا النضال، في ظل ظروف الهيمنة الطاغية للعلاقات الرأسمالية على الساحة العالمية، لا بدّ وأن يقود حتماً إلى انفجارات، أي إلى حروب أهلية داخلياً، وخارجياً إلى حروب ثورية. وهنا يكمن الطابع الدائم للثورة الاشتراكية بحد ذاتها، بغض النظر عما إذا كانت تشهدها دولة متخلفة، حققت بالأمس فقط ثورتها الديمقراطية، أو دولة رأسمالية قديمة، خلفت وراءها بالفعل حقبة طويلة من الديمقراطية والبرلمانية”. (ليون تروتسكي، الثورة الدائمة).



ترجمة تامر خورما