لا سياسة منذ الأمس ..


فؤاد النمري
2020 / 7 / 6 - 22:02     

لا سياسة منذ الأمس..

كتبت قبل أيام فيما يقطع على أن سياسيي العصر من مختلف النحل والأطياف إنما هم أفاقون وأوغاد طالما أنهم يتبنون سياسات زائفة لا تمت للواقع بصلة وهم لذلك يخدعون شعوبهم ويضللونها .
أحد هؤلاء السياسيين الذي لا يحسن القراءة رد يصفني بالوغد الأفاق وهو لم يفهم أنني قلت ما قلت لأنني لم أعد أمارس السياسة وقد تعداها التاريخ وانقرضت .

أحكمُ الحِكم التي حكم فيها ماركس هي تلك التي تقول "صحيح أن الإنسان يصنع التاريخ لكن ليس كما يشتهي" . هذه الحكمة يميل جميع السياسيين إلى تناسيها لأنها تحد من ذاتيتهم في فهم التاريخ ويعارضها بعضهم كالمحرّف سمير أمين . حكم ماركس في هذه الحكمة، وهو المؤسس لعلم التاريخ بعد أن أدرك بقدراته التحليلية الفريدة أن ثمة شروطاً خارج إرادة الإنسان تملي شروط صناعة التاريخ مثلما تملي طبيعة المواد الأولية القيمة الاستعمالية للمصنوعات . وعليه فالسياسي الذي ينسى أو يتناسى تلك الشروط ومع ذلك يباشر بمقاربة شروط وعوامل تطور المجتمع الوطني إنما هو أفاق وغد .
الشروط التي تملي صناعة التاريخ الوطني هي دائماً خارج الوطن وخارج إرادة الأمة . هي منذ احتضان النظام الرأسمالي العالم بأكمله هي في كبد النظام العالمي القائم . بناء على هذه الحقيقة التاريخية رأى ماركس أن التطور الإجتماعي في العالم في مختلف أصقاعة لا بد أن يبدأ بثورة في مركز النظام الرأسمالي، ثورة دائمة (Permanent) لا تتوقف إلا بعد أن ينتقل آخر قطر في العالم من مرحلة الإشتراكية إلى الحياة الشيوعية .

أما وقد بدأت الثورة الإشتراكية العالمية الدائمة في روسيا، وهي ليست قلب النظام الرأسمالي، بفعل شروط معينة أملتها التطورات الإستثنائية للحرب العالمية الأولى، ونجح البلاشفة يقيادة لينين وستالين بتكريس شروط الثورة الإشتراكية الدائمة في العالم وتجلى ذلك بصورة قاطعة في نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تعد شروط النظام الرأسمالي ذات أآثر في تطور النظام العالمي السائد . استبدلت تلك الشروط بشروط الثورة الإشتراكية الدائمة . القوى السياسية في مختلف بلدان العالم وبمختلف أطيافها وتوجهاتها كانت حتى العام 1953 تسترشد بشروط قوى الثورة الاشتراكية العالمية الدائمة في تقرير سياساتها الوطنية والدولية . الإدارات الأميركية المتعاقبة بدءاً بمجرم الحرب ترومان أهلكت كل مقدرات أميركا الرأسمالية قبل العام 1970 حين انهار نظامها الرأسمالي في مقاومة الشيوعية .
في العام 1953 وبأثر المشاريع التي اقترحها ستالين على المؤتمر التاسع عشر للحزب في العام 1952 ومنها تنحية كامل قيادة الحزب الشيوعي، قام ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي للحزب أحدهم نيكيتا خروشتشوف باغتيال ستالين بالسم . إذاك استولى الجيش على مقاليد السلطة ودفع الحزب إلى خيانة الثورة الإشتراكية بدءاً بقرار اللجنة المركزية في سبتمبر 53 القاضي بإلغاء الخطة الخمسية وتحويل كافة موارد البلاد إلى صناعة الأساحة وهو النهج المفضوح في مقاومة الإشتراكية .

فيما بعد العام 53 غابت شروط الثورة الإشتراكية الدائمة عن النظام العالمي فما عساها تكون الشروط البديلة !!؟
لا يمكن لأي سياسي مهما كانت عريكته أن يستحصل أمانته مع الذات قبل الآخر دون استحصاله قراءة شروط النظام الدولي القائم . القانون الحديدي الذي يحكم العمل السياسي هو أن أي برنامج يطرحه السياسي للعمل لا يتساوق مع النظام الدولي السائد إنما هو سحب الأرانب من القبعة .
هل هناك سياسي، أيّاً يكن هذا السياسي، استحصل قراءة شروط النظام الدولي القائم !؟
الجواب القطعي على هذا السؤال الحدّي العام هو النفي المطلق حيث ليس هناك نظام عالمي بعد غياب شروط الثورة الإشتراكية الدائمة إثر خيانة الحزب الشيوعي السوفياتي للثورة الاشتراكية بدءاً باغتيال ستالين وطرد 12 عضوا جديداً في المكتب السياسي للحزب في اليوم التالي لوفاة ستالين وإلغاء الخطة الخمسية في سبتمبر 53 ؛ وكانت دمغة الخيانة الأخيرة هي إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا في العام 61 واستبدالها بـ "دولة الشعب كله" التي تعني أول ما تعني النفي القطعي للإشتراكية بموجب ألفباء الماركسية، وما يثير الاستغراب حقاً بل والإشتباه هو أن أحداً من الشيوعيين لم يرَ دمغة الخيانة هذه رغم أنها فاقعة اللون .
كان لينين فرحاً بتكريس مبدأ مفاجئ لوفود المؤتمر التأسيسي للأممية الشيوعية في العام 1919 عندما أكد أن نجاح الثورة الإشتراكية قد غدا مضموناً في العالم وأن .. " مصائر الشعوب في العالم ستتقرر هنا في موسكو تقررها البروليتاريا الروسية التي أثبتت أنها أقوى من البروليتاريا في إنجلترا وفي ألمانيا " . كان لينين فرحاً بتأكيد هذا المبدأ التاريخي لأثره الإيجابي في الحياة الدولية إذ لم يكن ليرد في خاطره أن هذا المبدأ سيلعب في ظروف معينة دوراً رجعياً ضد الثورة الإشتراكية . بفعل الخسائر الهائلة التي تكبدتها البروليتاريا السوفياتية في مواجهة العدوان البربري النازي الشامل الذي شاركت فيه كل القوى النازية والفاشية والرجعية في أوروبا، بفعلها فقط استطاعت البورجوازية الوضيعة وهي العدو الرئيسي للإشتراكية في المجتمع السوفياتي كما صنفها لينين في كتابه " الضريبة العينية " في العام 21، استطاعت هذه البورجوازية الوضيعة أن تقوم بما يمكن تسميته بالثورة المضادة وتبني سداً مانعاً على طريق الإشتراكية . لكن ما لم يدركه عامة الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي وفي العالم أجمع أن البورجوازية الوضيعة ليس في مقدراتها أن تقوم بثورة مضادة حقيقية لأنها بحكم طبيعتها ومحددات تقسيم العمل الإجتماعي لا تملك نظاماً اجتماعيا بديلاً ؛ ولذلك لم تجد البورجوازية الوضبعة السوفياتية مساقاً يقاوم الإشتراكية سوى مساق إنتاج الأسلحة وتوجية كافة قوى الإنتاج لإنتاج الأسلحة وتبريرا لمثل هذا المساق المعادي للإنسانية وليس للإشتراكية فقط أخذت قياداته تنشر الأكاذيب حول أخطار الحرب المستفحلة حتى وصل الأمر بالرئيس الأميركي رونالد ريغان الذي بدأ حياته ممثلاً جاسوساً على رفاقه في هوليوود أن وبخ بريحينيف متسائلاً .. " من هو ذلك المجنون الذي يفكر بالإعتداء على الإتحاد السوفياتي !؟
بعد انهيار النظام الر؟أسمالي في أميركا في السبعينيات وهزيمة أميركا الذليلة في فيتنام أخذت الإدارة الأميركية تهاجم حمى التسلح في الاتحاد السوفياتي وتنشر وزارة الخارجية سنوياً بيانا تشكو فيه من حمى التسلح في الاتحاد السوفياتي ظنا منها أن السوفييت يبالغون في التسلح لمواجهة أميركا بينما هو في الحقيقة لمواجهة الشعوب السوفياتية والحؤول دون تقدمها والعودة للإشتراكية . لئن كانت البورجوازية الوضيعة السوفياتية تخون شعبها عن طريق الإغراق في التسلح فإن التسلح لا يعمل ضد النظام الإشتراكي فقط بل يعمل أيضاً ضد النظام الرأسمالي الذي لا ينتج الأسلحة إلا لتحاشي الوصول إلى أزمة الكساد وبغير هذه الحدود فإن إنتاج الأسلحة يتم خارج دورة الإنتاج الرأسمالي التي تؤمن استمرار تنامي الأرباح .
دعاوى عودة روسيا إلى النظام الرأسمالي هي دعاوى جوفاء غبية حيث البورجوازية الوضبعة السوفياتية التي قامت بالإنقلاب ضد النظام الإشتراكي حال رحيل ستالين لم تكن قادرة على الإنقلاب بغير الإنحراف إلى التسلح ولذلك كان قرار اللجنة المركزية في سبتمبر 53 عن إلغاء الخطة الخمسية غير القانوني كان قراراً صريحاً وقد أكد أن الإلغاء تقرر من أجل التسلح . التسلح يعمل ضد الإشتراكية وهذا مبدأ ستاليني أعلنه ستالين في العام 36 وهو ما تسبب بمحاولة قيادة الجيش القيام بانقلاب عسكري في العام 37 . سر نجاح النظام الرأسالي في التطور والاستمرار هو أنه ينتج البضائع القابلة للتبادل مع قوى العمل المستهلكة في إنتاجها . الأسلحة لا تتيادل مع قوى العمل فالعامل لا يجدد قوى العمل في جسمه بواسطة الأسلحة . ولذلك لا تستطيع البورجوازية الوضيعة في روسيا بناء النظام الرأسمالي عن طريق التسلح وهي لا تستطيع التخلي عن مسار التسلح لأن العودة إلى إنتاج سبل العيش من مختلف المصنوعات من شأنه أن يبعث من جديد البروليتاريا السوفياتية .
البورجوازية الوضيعة الروسية لا يمكنها العودة إلى النظام الرأسمالي عن طريق إنتاج الأسلحة، كما أن البورجوازية الوضيعة في الولايات التحدة لا تستطيع بعث النظام الرأسمالي من جديد عن طريق إنتاج الخدمات، فلا الأسلحة ولا الخدمات قابلان للتعويض عن قوى العمل .
نتحدث هذا الحديث بعيداً عن حقيقة صارخة تقول أن البورجوازية الوضيعة هي أساساً ضد النظام الرأسالي كما أشار ماركس وإنجلز في بيانهما الشيوعي .

ما لا مشاحة فيه هو أن من يمارس الفعل السياسي دون اعتبار للنظام الدولي القائم فهو ليس إلا وغداً أفاقاً .
في الجزء التالي من المقال سنقرأ النظام الدولي السائد وهو ما يشير إلى أن أحداً من سياسيي العصر لم يقرأ هذا النظام – إن جاز لنا أن نصفه بالنظام – ولم يبنِ برنامجه السياسي على أية قراءة يمكن إدّعاؤها .

يتبع