تاريخ الدين: الأدلة الأركيولوجية للمعتقدات الدينية


مالك ابوعليا
2020 / 6 / 29 - 09:58     

الكاتب: سيرجي الكساندروفيتش توكاريف*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

1- مواقع العصر الحجري القديم Paleolithic
تأتي المعلومات الوحيدة المتوفرة لدينا عن المراحل الأولى للدين من المواد الأركيولوجية، وهي نادرة للغاية. ليس لدينا معرفة بالمعتقدات الدينية لأقدم أسلافنا البيثيكانثروبوس Pithecanthropus (انسان جاوة) او السينانثروبوس Sinanthropus (انسان بكين)(أ)، الذين عاشوا منذ مئات آلاف من السنين. لم يكن لديهم تلك المعتقدات، ولم يكن بالامكان أن يكون الأمر غير ذلك لأن أقدم مُمثلي الجنس البشري كانوا يعيشون وجوداً اجتماعياً بدائياً. كان وعيهم موجهاً نحو الأمور العملية وكان غير قادرٍ على خلق التجريدات الدينية. لقد كانت فترة ما قبل الدين. لا يزال هذا موضوعاً يخضع للنقاش. يؤكد بعض العلماء الغربيين أن الدين كان متأصلاً في الانسان منذ بدايته. يؤكد اللاهوتيون المسيحيون الحديثون، الذين اضطروا للاعتراف بأن الانسان تطور من القرد، أن جسد الانسان هو الوحيد الذي نشأ من عالم الحيوان. أما روحه فقد خلقها الله ويُفترض أن أفكاره الدينية الأولى-الايمان بالهٍ واحد- قد تطورت في نفس الوقت. يمكن دحض جميع الادعاءات بأن الدين متأصلٌ في الانسان. يؤكد بعض العلماء السوفييت أن فترة ما قبل الدين استمرت لفترةٍ طويلة، حتى نهاية العصر الحجري القديم المبكر والتي تُغطي ايضاً العصر الموستيري Mousterian(ب)- (قبل 100000-40000 سنة) عندما كان النياندرتال يصطاد دببة الكهوف والحيوانات الأخرى. استمرت الخلافات لسنواتٍ عديدة حول مدافن النياندرتال والآثار الأخرى في العصر الموستيري. اكتشف الاركيولوجيين عشرات من مدافن النياندرتال التي تحتوي على الهياكل العظمية والجماجم. تم العثور على أشهر هذه المواقع في مغارة موستيرين في كهف بالقرب من موقع La Chapelle-aux-Saints والعديد من الهياكل العظمية في موقع La Ferrassie في مقاطعة دورودني في فرنسا ومغارة Kiik Koba في القرم، وفي كهوف فلسطين، وفي مغارة Teshik Tash في اوزباكستان. عندما تم العثور على أهم المُكتشفات (1908 وما بعدها)، اعتبرها العديد من العلماء كدليل على أن النياندرتال يؤمنون بالحياة الأخرى. شعر بعض الأركيولوجيين أنه لا يمكن للناس أن يؤمنوا بالروح في ذلك الوقت، ولكن كانوا يؤمنون بالصفات الخارقة للطبيعة للجثة نفسها (مفهوم "الجثة الحية") التي أثارت عندهم الخوف. بعض العلماء السوفييت لهم آراء مماثلة. ولكن تم ايضاً التقدم بافتراضاتٍ أُخرى. على سبيل المثال، التكهن بأن مدافن النياندرتال تُظهر ببساطة أن الناس اهتموا بأمواتهم كما فعلوا مع مرضاهم. تطورت فكرة الفرق بين الأحياء والأموات، شيء ما (الروح) يُغادر الشخص عند موته، بشكل تدريجي وبعد ذلك بكثير. هذه الفكرة ربما تكون صحيحة. من المُرجّح أن دفن النياندرتال كان دليلاً على اهتمام شبه غريزي لأعضاء آخرين من الجماعة ومحبةً لهم استمر بعد الموت، بالاضافة الى رغبة شبه غريزية في التخلص من جسدٍ متحلل.
لا يمكن اعتبار مدافن النياندرتال دليلاً لا جدال فيه على أن أسلافنا البدائيين كانوا متدينين. لكن دفن الموتى يمكن أن يكون احدى المصادر التي تطورت منه هذه المفاهيم لاحقاً. نوع آخر من اللُقى- بقايا عظام الحيوانات التي بدت أنها مدفونة عمداً- هي أدلة أكثر اقناعاً للمعتقدات الدينية في العصر الموستيري. على سبيل المثال، ثم العثور على عددٍ كبيرٍ من عظام الدب في كهوف جبال الألب. تم وضع بعضها بترتيبٍ مُعين. تم اكتشاف عظام الدب مع دفينة النياندرتال معاً في ريغوردو في دورودني جنوب فرنسا. يشعر الأركيولوجيين أن هذه البقايا اما تُشير الى عبادة الدب أو سحر الصيد او الطوطمية (الايمان بصلة ما فوق طبيعية بين الناس والحيوانات). يعتقد البعض الآخر ان هذه كانت ببساطة أن هذه امدادات غذائية خزنها صيادي النياندرتال.، ولكن هذا غير مُرجّح. يُشير بعض الباحثين الحاليين الى أن عظام الدب ربما تكون قد تراكمت على مدى آلاف السنين دون أي مساعدة من الانسان: الدببة نفسها، التي تأتي وتمر فوق عظام موتاها اثناء قيامهم بترتيب أماكن سباتهم، وما الى ذلك، وتدفع العظام جانباً الى أقصى زاوية الكهف فتتشكل بذلك أكواماً وصفوفاً. بدءاً من العصر الحجري القديم الأعلى (قبل 40000-18000 سنة)، أصبحت الآثار التي تُشير الى المفاهيم والطقوس الدينية أكثر عدداً واقناعاً. لقد كان ذلك العصر هو الذي ظهر فيه الانسان العاقل Homo Sapiens بالفعل، عندما تم ابتكار أدوات حجرية وعظاماً أكثر تنوعاً وتحسناً، وتم تطوير الصيد بشكل أكثر انتاجيةً. يُقسم علماء الآثار العصر الحجري القديم الأعلى الى فترات مختلفة- الفترة الأوريغناكية Aurignacian، الفترة السوليوتيرية Solutrean (العصر البين-جليدي الدافئ) warm interglacials، الفترة المادلينية Magdalenian، والفترة الأزيلية Azilian(جـ). من الواضح أن مدافن العصر الحجري القديم العلوي (المتأخر) كانت تتضمن طقوساً تتعلق بالعبادة. تم العثور على هياكل عظميةٍ مع أدواتٍ وزينة مختلفة، تم تلوينها بالمُغرة. احتوت بعض المدافن على جسدين (قرب مينتون شمال غرب ايطاليا)، وكانت الجماجم التي تم العثور عليها في مغارة اوفنيت Ofnet في بافاريا، دليلاً واضحاً على المدافن الثانوية. من الواضح أنه كان لدى الناس، بحلول ذلك العصر، بعض المفاهيم الخرافية والدينية حول أن الموتى كانوا يستمرون بالعيش على نحوٍ ما.
وفي نفس الوقت، ظهرت بدءاً من العصر الأوريغناكي، العديد من الأعمال الفنية: المنحوتات ورسومات الكهوف. يبدو أن بعضها كان مُرتبطاً بالمعتقدات والطقوس الدينية.
بدأ العلماء، في بداية القرن العشرين بالتركيز على بقايا فنون العصر الحجري القديم العلوي. حتى ذلك الحين كانت هذه الأشياء نادرة، وشك العديد من العلماء بموثوقيتها. على سبيل المثال، تم اكتشاف كهف التاميرا الشهير في قرية سانتيلا ديل مار (شمال اسبانيا) بالصدفة من قِبَل صيّاد عام 1863. تم العثور عام 1879 على العديد من رسومات ثيران البايسون والحيوانات الأخرى على الجُدران. تم اكتشاف مثل هذه الرسومات في عددٍ من الكهوف في فرنسا. أثبتت الدرسات الدقيقة لكهف التاميرا أن الرسومات تعود بالفعل الى أقدم العصور. في وقتٍ لاحق جاءت الاكتشافات في كهوف شمال اسبانيا. أصبحت هذه الكهوف مشهورةً عالمياً بسبب الرسومات القديمة التي صورت الحيوانات.
صار الكهف بالقرب من لاوسيل Laussel على نهر فيزير Vezere معروفاً بسبب نقش فينوس لاوسيل Venus of Laussel والذي يمثل امرأة تحمل بوقاً في الهواء بحركةٍ طُقسية. وتميز كهف مشهور آخر بالقرب من الحدود الفرنسية-الاسبانية (جنوب شرق بايون Bayonne) بمنحوتاته التي تصور الحيوانات. تقع العديد من الكهوف ومواقع العصر الحجري القديم بأعمالها الفنية القديمة جنوب فرنسا وشرق اسبانيا.
بناءاً على هذه الاكتشافات، فان علماء الاركيولوجيا واثقون الآن من أن المعتقدات الدينية قد تطورت الى حدٍ ما في العصر الحجري القديم العلوي. ويتجلى ذلك في حقيقة أن معظم رسومات الحيوانات كانت واقعية، في حين أن رسومات الأشخاص كانت مُجردة، في العادة على شكل اما كائنات حيوانية تأخذ سماتٍ بشرية، أو بشرٍ يرتدون أقنعةً لوجوه حيوانات. في بعض الأحيان، يكون من الصعب التمييز بين أنواع الصور المختلفة. أحد أكثر الشخصيات شيوعاً هو شخصية المشعوذ- رجل يرقص وقرون الغزلان على رأسه، بلحية طويلة وذيل حصان طويل وحيوان مختبئ على كتفيه. يحتوي أحد الكهوف على صورة لثلاثة شخصيات ذوي أرجل طويلة يرتدون أقنعة جلدية ويرقصون.
مثل هذه الرسومات مرتبطة بشكلٍ واضح بالمعتقدات والطقوس الدينية. بغض النظر عن اي شيء، من غير المُرجح أن الذين رسموا هذه الرسومات لم يكونوا ببساطة غير قادرين على رسم اناس حقيقيين، وبدلاً من ذلك قاموا برسم بشر غير طبيعيين ووحوش خيالية. وبالحكم من خلال رسومات الحيوانات المُتقنة، فقد عرف من رسم هذه الرسومات مهارات الرسم الواقعي. وهكذا كان ابتعادهم عن الواقعية مقصوداً.
ما الذي كانت تُمثله الشخصيات المُقنعة؟ لم تكن أقنعة صيد، كما يُعتَقد في بعض الأحيان. هذا واضح من تصوير الأوضاع الطُقسية والرقص. كانت الرسومات، على ما يبدو نوعاً من الطقوس الطوطمية على الأرجح. من المُحتمل أن البشر المُتخيلين بسماتٍ حيوانية هم أسلاف طوطميين. انهم يُشبهون التصويرات الاسترالية الأسطورية للأسلاف. وهكذا يمكننا أن نفترض أن قبائل الصيد في العصر الحجري القديم الأعلى كانت لديها معتقداتٍ طوطمية.
ان التماثيل الانثوية من الثقافة الاوريغناكية هي موضوعٌ مختلف قليلاً. تم العثور على عشرات من هذه التماثيل في أوروبا الغربية والاتحاد السوفييتي. انها صغيرة وتمثل أنماطاً كثيرة وأحياناً واقعية تماماً. جميعها تصور نساءاً عاريات بأثداء كبيرة وغالباً بطن كبير، بتضخيم أجزاء من الجسم مرتبطة بالجنس. ان تماثيل الذكور نادرة للغاية.
هناك تفسيرات مختلفة لهذه التماثيل. بعض العلماء يعتبرونها أمثلةً على الزخارف الجمالية والدوافع الاغرائية. لكن معظمهم يربطها بالدين. يعتقد البعض أن التماثيل الأوريغناكية كانت كاهنات تمارس طقوس الأسرة والقرابة. يعتقد البعض الآخر أنها كانت تهدف الى تصوير الأسلاف الاناث، حيث تم العثور على العديد من التماثيل بجوار الموقد المنزلي. ومع ذلك، فان المواد الاثنوغرافية المُقارنة لا تؤكد هذا الرأي: لم يتم العثور على أي دليل على عبادة سلف أنثى بين الشعوب الموجودة باستثناء نادر.
من المُرجّح أن التماثيل الأوريغناكية كانت حافظاتٍ للموقد: تم العثور على آثار لهذه الصورة الأسطورية وأشياء من عبادة الأسرة والقبيلة بين الشعوب الحديثة، خاصةً في سيبيريا. وبالتالي، يمكن أن تكون هذه التماثيل دليلاً على شكلٍ مُبكرٍ من العبادة الأمومية Matriarchal القَبَلية.
في نهاية العصر الحجري القديم، في الفترة الأزيلية، كانت صور الحيوانات والناس غائبة عملياً. بدلاً من ذلك، كانت الرسومات أكثر أو أقل تخطيطيةً. ربما كانت ايضاً مرتبطةً بطريقةٍ أو بأخرى بالمفاهيم الدينية السحرية. ان الحصى الملونة مثيرةً للاهتمام بشكلٍ خاص في هذا الصدد. كانت مُغطاةً (على جانبٍ واحدٍ فقط) برموزٍ حمراءٍ غامضة من خطوطٍ متوازية وبقع مستديرة وبيضاوية وأشكال مختلفة تشبه الحروف. لم يحدد أحدٌ معناها حتى الآن. ربما كانت تُشبه الشورنجا Churinga التي تخص السكان الاستراليين الأصليين المُعاصرين- قطع مسطحة مقدسة من الحجارة أو الخشب، رموز طوطمية مغطاة برسومات رمزية مماثلة للحصى الأزيلية. وهكذا يمكننا أن نُخمن أن المعتقدات الطوطمية كانت موجودةً في الفترة الأزيلية.

2- مواقع العصر الحجري الحديث Neolithic
في العصر الحجري الحديث (عصر الحجر المصقول، حوالي قبل 7000-5000 سنة) في معظم أجزاء أوروبا والشرق الأوسط تم التحول الى الزراعة والرعي. استمرت ثقافات الصيد وصيد الأسماك في المناطق الشمالية فقط. شكلت القبائل والعشائر التي عاشت في العصر الحجري الحديث مجتمعاتٍ Communities بقاعدة اقتصادية مستقرة وشبه مستقرة. بدأت اللامساواة بالتطور الفعلي داخل هذه المجتمعات، لكن لم تتطور الطبقات بعد. كما انعكست ظروف المعيشة الجديدة في الممارسات الدينية.
ان المواقع الأركيولوجية ذات الآثار الدينية التي تخص العصر الحجري الحديث، عديدة ومتنوعة ايضاً: ان جميعها تقريباً هي مدافن. تم الكشف عن عدد كبير من المدافن من العصر الحجري الحديث. في معظم الحالات، تكون الطبيعة الطُقسية لممارسات الدفن وعلاقتها بالمفاهيم الدينية واضحة بشكل جيد. تم العثور على الأدوات المنزلية والحلي والأسلحة والأدوات المليئة بالطعام دائماً في مواقع الدفن جنباً الى جنب مع الجثة. اعتقد الناس بوضوح أن جميع هذه الأشياء كانت ضرورية بالنسبة للشخص الميت في الحياة الأخرى.
وفقاً للنظام الذي طوّره الأركيولوجي الفرنسي جوزيف ديشيله Joseph Dechelette، فان هناك خمسة أنواع من المدافن: 1- الدفن في الأرض. 2- الدفن تحت الملاجئ الطبيعية للمنحدرات أو الكهوف. 3- المدافن تحت الدولمن (المناطير) Dolmens او تحت ممرات مسقوفة. 4- الدفن في مغارات من صنع الانسان. 5- في صناديق خشبية أو حجرية. وُجدت جثث في مواقع ممتدة ومحنية. وهناك جُثث تم تقطيعها في بعض الأحيان. وفي أحيانٍ كثيرة، تم اكتشاف عديد من الهياكل العظمية وخاصةً في المغارات والدولمينات. ربما كان هناك ايضاً سراديب دفن عشائرية مخصصة لعشيرة معينة أو عائلة.
كما تم حرق الجثث في العصر الحجري الحديث، وبالرغم من ندرتها، الا أنها منتشرة في جميع أنحاء أراضي أوروبا. في العصر الحجري الحديث، أصبح حرق الجثث سائداً فقط في شمال أوروبا وخاصةً في بريتاني Brittany. كان حرق الجثث لا يزال غير معروف في ذلك الوقت في الدول الاسكندنافية وانجلترا وايطاليا.
على الرغم من أن هذه العادة مورست من قبل جميع الشعونب العالمية، من الأكثر بدائيةً الى الأكثر تطوراً، الا أن العلماء لم يتمكنوا من اقامة أي نمط متسق لطبيعة انتشارها. يرى بعض العلماء أن عادة حرق الجثث تنبع من الاعتقاد بين الشعوب القديمة في أن الروح تعيش الحياة الأخرى: فقد استُخدِمَ حرق الجُثث لتحرير الروح من الجسد حتى تتمكن من أن تطير الى السماء. لكن هذه الفكرة الدينية ربما تكون نتيجة، وليس سبباً لحرق الجثث. لم يتم العثور على تفسير مادي شامل لهذه العادة حتى الآن.
تحتوي بعض مواقع الدفن، وخاصةً في المغاور، على نقوشٍ لنساء في الحجر. يبدو أن هذه النقوش مرتبطة ببعض المفاهيم الدينية، ولكن من الصعب تحديد أيٍ منها (أيٍ من المفاهيم) على وجه الدقة. ربما كانت تُمثل الهاً انثى، أو وصيةً على العشيرة أو القبر، أو ربما كانت تُجسد الأرض كراعيةٍ للأموات. ومع ذلك، فمن المحتمل جداً أن يكون هناك رابط نشوئي محدد بين هذه الصور والتماثيل الانثوية الصغيرة من العصر الحجري القديم كتجسيدٍ للقبيلة أو موقد العائلة.
بشكلٍ عام، كان هناك عبادة الهةٍ أُنثى في العصر الحجري الحديث. يمكن العثور في طبقات العصر الحجري الحديث، وفي عدة دول، على الصور الأنثوية المتشابهة الأنماط، عادةً الوجه فقط، في شكل تماثيل وزخارف حجرية أو طينية مصنوعة بشكل غير مُتقن على أوعية غير مُغطاة: في ساحل آسيا الصغرى وأرخبيل بحر ايجة وشبه جزيرة البلقان وأيبيريا وفرنسا وانجلترا والدول الاسكندنافية. الاستثناءات من القاعدة هي تماثيل الذكور بين لُقى العصر الحجري الحديث.
ترتبط رسومات الجرف العديدة التي وُجِدت في شمال أوروبا واسبانيا وسيبيريا والعديد من مناطق العصر الحجري الحديث الأخرى أيضاً بالمعتقدات الدينية السحرية. لا يوجد حتى الآن اتفاق عام حول أصلها ومدى أهميتها. لقد أُجريت الدراسات على أكثر من ألف رسم، لكن الأركيولوجيين لا يتفقون على الغرض منها. ان معظم الصور لحيواناتٍ وطيور. في بعض الأحيان تكون شخصياتٍ بشرية، غالباً ما تكون قضيبية، وهناك عدد كبير من القوارب ذات المجاذيف، وتنبثق منها أشكال متنوعة-دوائر وشبه دوائر وخطوط. يعتقد عدد من العلماء أن هذه النقوش الصخرية ما قبل التاريخ هي انعكاس للسحر الرسمي –مهنة السحر- وعبادة أرواح القبيلة. يعتقد آخرون أنها تمثل الأساطير القمرية-الشمسية، مُعتبرين أن الدوائر وشبه الدوائر الغامضة رموزاً للأشعة الشمسية والقمرية، والتصويرات الأخرى كعلامات فلكية متنوعية. كل هذه الافتراضات معقولة بما يكفي وليست على سبيل الحصر. يعتقد بعض العلماء المعاصرين أن وجود عبادة الشمس في العصر الحجري الحديث لم تُثبت على الاطلاق.
على الرغم من الوفرة النسبية للآثار، وعلى الرغم من القرائن الاثنوغرافية (سيتم شرحها أدناه) فاننا لا نزال غير متأكدين من المعتقدات الدينية في العصر الحجري الحديث. ربما كانت عبادة الآلهة الانثوية مرتبطة بعبادة الخصوبة أو عبادة القمر. ربما كان الأساس الاجتماعي لهذه العبادات هو نظام العشيرة الأمومية الذي كان ينبغي أن يكون قد تبلور بالفعل في العصر الحجري الحديث بسبب تطور الزراعة.
كما أن طبيعة طقوس الدفن غير واضحة. مما لا شك فيه أنها تطورت بشكلٍ كبير، وصارت مفاهيم الروح والحياة في العالم الآخر أكثر تعقيداً، ويتجلى ذلك في الأشكال المتنوعة والمعقدة لعادات الدفن. تَرَك النظام العشائري بصماته: من المحتمل أن تكون الدولمينات والصناديق الخشبية والمغاور المصنوعة والكهوف الطبيعية مدافن للعشيرة. انعكس التفاوت المتزايد بين أعضاء العشيرة أيضاً في طقوس الدفن، وربما في المعتقدات ذات الصلة. وكان يبدو أن ظهور حرق الجثث قد رافقه ايمان متنامٍ بالروح. ولكن لا يزال من غير الواضح تماماً كيف تخيل الناس الروح بالفعل وماذا اعتقدوا عن حياتها بعد الموت.

3- الدين في العصر البرونزي المُبكر والعصر الحديدي
تُقدّم الاكتشافات الأركيولوجية أدلةً واسعةً على وجود الدين في العصر البرونزي والحديدي. في مُعظم الحالات، تُركت هذه الآثار من قِبَل الشعوب القديمة ليتم معالجتها بتفصيلٍ أكبر في وقتٍ لاحق. في غضون ذلك، سيتم اجراء فحص عام لتاريخ الدين في أوائل العصر البرونزي والحديدي في أوروبا.
صارت طقوس الدفن في العصر البرونزي أكثر تعقيداً وتنوعاً مما كانت عليه في العصر الحجري الحديث. لقد عكست بالفعل الطبقات الاجتماعية للمجتمع. كانت طقوس دفن الأمراء والرؤساء والملوك مُتقنة بشكلٍ خاص. احتوت قبورهم على العديد من الأشياء الثمينة والخيول المذبوحة وأحياناً اشخاصاً مذبوحين بغرض مُرافقة الميت في العالم الآخر. تم تشكيل قبب أو تلال كبيرة وشواهد فوق قبورهم. كانت مدافن رجال القبائل العاديين أكثر تواضعاً.
أصبحت عادة حرق الجُثث مُنتشرةً على نطاقٍ واسعٍ في هذه الفترة، بسبب المفاهيم الأكثر تعقيداً عن العالم الآخر، على ما يبدو.
ان توجيه القبور نحو الشمس دليل على أن طقوس الدفن كانت مُرتبطةً بالمفاهيم الكونية وعبادة الشمس. يمكن رؤية هذا الارتباط أيضاً في البُنى الجندلية-الجندل أو الميغالث Megalith. ان المجمع الجندلي في ويلتشر في انجلترا، والذي يُشكل دائرةً قُطرها 90 متراً، معروفٌ بشكلٍ خاص- (بالمناسبة يعود أقدم جزءٍ من هذا المُجمع الى العصر الحجري الحديث). يعتبره بعض العلماء معبداً للشمس، بينما يعتبره الآخرون نُصباً للمقابر. لا يستبعد أي رأي منهما الآخر، لان كليهما يستند الى حقائق: يُشير اتجاه وموضع بعض أجزاء الحجارة الى انه تم استخدامه بطريقةٍ ما لمراقبة الشمس، وفي نفس الوقت، تم العثور على مدافن تحت هذا المُجمع وغيره.
تُشير الاكتشافات الاخرى أيضاً الى عبادة شمسية في العصر البرونزي. تم تصوير الشمس في شكل قرص، دائرة مع أو بدون أشعة، خطين متقاطعين داخل دائرة، الخ. من المُثير للاهتمام بشكلٍ خاص ذلك الرسم لعربة برونزية مع خيول وقرص شمسي فوقها (اسكندنافيا)، وتمثال برونزي من حصان مع أقراص تحت أقدامه وفوقه (اسبانيا)، وقرص على عجلات (السويد).
نشأت عبادة الشمس في العصر البرونزي على ما يبدو، بسبب تطور الزراعة، لان الناس لاحظوا أن الشمس كانت العامل الرئيسي للخصوبة. من ناحيةٍ أُخرى، عكست هذه العبادة التقسيم الطبقي للمجتمع- الوضع الخاص للارستقراطية القَبَلية، التي كانت تُرجع أصولها الى الهٍ شمسي.

* سيرجي الكساندروفيتش توكاريف 1899-1985 باحث ماركسي في الاثنوغرافيا والتاريخ والمعتقدات الدينية، ودكتور في العلوم التاريخية.
دخل جامعة موسكو بعد ثورة اكتوبر مباشرةً، ودرّس اللغة الروسية واللاتينية في المدارس المحلية في مقاطعته تولا التي وُلدَ فيها، لمدة 4 سنوات، وعاد ليدرس في جامعة موسكو عام 1922. حصل على منحة دراسية من الدولة واستكمل عمله بالتدريس. بعدما تخرج من الجامعة عام 1925، استكمل دراسته في معهد الدراسات العليا في الجامعة وقدم اطروحته حول (المُجتمع الطوطمي)، ودرس في قسم الاثنوغرافيا في المعهد. قدم تقاريراً عن الطوطمية الاسترالية والديانات الميلانزية وعن العادات الاقتصادية الانجليزية في القرون الثالث عشر وحتى الخامس عشر، وتخرّج رسمياً من الجامعة عام 1930. عمل في المتحف المركزي للاثنولوجيا عام 1927. درّس في جامعة موسكو وقدّم دورةً حول تاريخ البُنى الاجتماعية في جامعة صن يات صن للعمال الشيوعيين في الصين. درس توكاريف تاريخ شعوب ياقوتيا وسيبيريا وقام برحلة ميدانية بحثية الى تركمانستان عام 1928، وقام برحلات متعددة الى التس وياقوتيا عام 1934. عمل توكاريف في قسم (الاقطاعية) في أكاديمية الدولة لتاريخ الثقافة المادية، وانتسب الى المتحف باعتباره عالماً اثنوغرافياً عام 1938. كان باحثاً مُساعداً في المتحف المركزي المُعادي للدين حتى عام 1941. تم تعيين توكاريف عام 1939 استاذاً في قسم الاثنوغرافيا في معهد التاريخ في جامعة موسكوو الحكومية وظل كذلك حتى عام 1973. دافع توكاريف عن اطروحة الدكتوراة بعنوان (النظام الاجتماعي للياقوت في القرنين السابع عشر والثامن عشر). وفي عام 1943 عمل كرئيس قسم لمعهد الاثنوغرافيا التايع لأكاديمية العلوم السوفييتية.
أعوام 1951-1952 كان توكاريف أول عالم اثنوغرافي سوفييتي يقوم بالتدريس في جامعتي برلين ولايبزغ في جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
ترأس توكاريف قسم الاثنيات الأوروبية غير السوفييتية عام 1961 في أكاديمية العلوم. وكان منذ عام 1956-1973 مسؤولاً عن قسم الاثنوغرافيا في معهد التاريخ في جامعة موسكو. حصل على ميدالية العمل مرتين وجائزة الصداقة بين الشعوب، وميدالية العمل المدني في الحرب الوطنية العظمى وميدالية الدولة السوفييتية. وله عشرات من الكتب والمقالات العلمية في مجاله.

(أ)- السينانثروبوس، هو اسم كان مُعتمداً من قِبَل التصنيف العلمي القديم نسبياً، والذي صار اليوم يُسمى الهومو ايريكتوس Homo Erectos (الانسان المنتصب).
(ب)- الفترة الأخيرة من العصر الحجري القديم الأوسط.
(جـ)- تمتد الفترة الأوريغناكية من العصر الحجري الأعلى من 40000-28000 سنة قبل الميلاد. الفترة السوليوتيرية تقع بين 22000-17000 قبل الميلاد. الفترة المادلينية تقع من 17000-12000 قبل الميلاد. أما الفترة الأزيلية فتقع من 12500-10000.

ترجمة للفصل الأول من كتاب:
History of Religion, Sergei Tokarev, Translated From Russian To English by Paula Garb, Progress Publishers, Published 1986, Translated 1989.
Chapter one: Archeological Evidence of Religious Beliefs