السودان-الدولة الكتشنرية: مسارها ومشروع وصاية بعثة يونبيمس(NPPIMS)


محمود محمد ياسين
2020 / 4 / 27 - 04:09     

ظلت الحكومات الحكومات الوطنية (وطنية بمعنى أن الحكام الذين آلت لهم إدارة الدولة ينتسبون لأبناء البلد) التي أعقبت الإدارات البريطانية على توافق على صعيد الجوهر وأي تغيير في هذا المضمار كان كميا يتعلق بترقية هياكل الدولة وأجهزتها الأمنية، ورغم أن هذا التغيير الشكلي كان في بعض الأحيان جذريا إلا ان الأساس الاقتصادي-الاجتماعي للدولة لم يتغير، (وبالطبع طبيعتها كدولة طبقية لم تنتف رغم التحولات الشكلية فى سمت الطبقات الحاكمة). والاعتقاد في السيرورة المتصلة (continuum) للحكومات السودانية ليس رأيا مُرَجَّماً من أحكام الظنون بل يشهد على صحته مسار تجربتنا الوطنية؛ فالاحتلال المباشر خلق واقعا اجتماعيا متخلفا واقتصادا تابعا حافظت عليه قوى اجتماعية محلية.

إن الأنظمة المتعددة ظلت تصعد لحكم دولة جوهرها واحد على صعيد المحتوى الاجتماعي -الاقتصادي. فالمُوجد الرئيس للحكومات حتى هذا اليوم يتمثل في طبقة تجارية راعية لمصالح الدول الكبرى بصورة غير مباشرة عبر ارتباطها الوثيق براس المال العالمي؛ وتهيمن هذه الطبقة على الاقتصاد في مجال الاستيراد والتصدير، والتغييرات التي حدثت في جهاز الدولة عبر السنوات هي تغييرات شكلية لم تمس جوهر أجهزة الحكم المتسم بمعاداة الأغلبية من شعوب السودان وسلبهم ابسط حقوقهم السياسية. فالرسم البياني (السياسي) للحكومات السودانية خلال الستة عقود السابقة يسجل، باستثناء بعض الحالات، تصاعدية توجهاتها الاستبدادية وتناقضاتها الأساسية مع مصالح شعوبها.

لكن التباين الشكلي بين الحكومات الوطنية التي أعقبت الإدارات البريطانية ظل يعيق اكتناه حقيقة الرابطة بينها، وبات الكثيرون ينظرون لكل نظام على أنه قائم بنفسه مستقلا عن الأنظمة الأخرى. وهذا على عكس وضوح السيرورة المتصلة للحكومات في حالة الهيمنة الاستعمارية على البلاد إذ لا نجد باحثا أو مؤرخا جادا تغيب عنه حقيقة أن كل الإدارات العشرة في تلك الحقبة من إدارة هربرت كتشنر بعد الغزو مباشرة إلى حكومة الكسندر نوكس هلم آخر حاكم عام للسودان مثلت منظومة سياسية جوهرها واحدة.

وتبعية الاقتصاد الوطني تتجذر في الموجهات التي وضعها المستعمر في فترة إدارة حكوماته للدولة. فالدولة الكتشنرية (الأصل) مردت على إبقاء السودان منقوص السيادة السياسية ودولته طرفية تابعة اقتصاديا. فقد عبر ريجنالد ونجت (حاكم عام السودان 1889-1916) في تقرير الحاكم العام السنوي (1920) عن السياسة الاقتصادية لبريطانيا في السودان، التي تهيئ المناخ لاستثمار رؤوس الاموال الواردة للبلاد، بان ادارته تسعى لتطوير السودان بالتركيز على الزراعة لإنتاج المحاصيل النقدية وليس عبر تجارة الصمغ العربي أو ريش النعام أو العاج. وفي 1939 خلال اجتماع رئاسي لمناقشة قضايا التنمية في السودان ذكر ج.م. جليان (J.A. Gillian) السكرتير المدني في الإدارة البريطانية (1934-1939)” إن السودان، شكرا لله، لا يمكن قطعا أن يكون قطراً صناعيا“!!! وطبعا طالما ظل رأس المال العالمي يرتبط "وجوده" بالتمدد في الفضاء العالمي واستغلاله فمن المستحيل أن تكون الأقطار الفقيرة أقطارا صناعية.

والآن، فإن إنشاء الحكم الانتقالي الذي تشكل عقب انتفاضة ديسمبر 2018 التي فجرتها المدن السودانية، التي أطاحت بحكم البشير، لم يخرج عن مضمار الإبقاء على مكونات النظام القديم والسير على خطاه؛ وفى واقع الامر فإن امتداد الحكم الانتقالي الذي تسيطر عليه اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ مسألة واضحة لا تخطئها العين وربما الأكثر وضوح في توال الأنظمة الحاكمة عبر السنين الذي أشرنا إليه أعلاه. ويبدو أنه كلما قويت الشوكة الأمنية للنظام التابع كلما كبرت قدرته على الاحتفاظ بمكوناته عند التغيير الذي يفتقد لرؤى محددة تنير طريقه.

والتوجه السياسي الأساس الذي ورثه الحكم الانتقالي الحالي من الحكومات السابقة يتمثل في تكريس تبعية السودان للقوى الغربية العالمية؛ وهذا السلوك للإدارة الانتقالية لا يرجع لموقف ذاتي جديد للحكام بل أمر موضوعي يتم على هدى المسار السياسي للكمبرادور، القوى الاجتماعية التي لها السيادة في البلاد .....

وبلغ ارتماء الحكم الانتقالي في أحضان القوى الاستعمارية الغربية وهتك السيادة الوطنية ذروته إثر تطبيع السودان مع الكيان الصهيوني الذي اتبعه رئيس الوزراء العميل بخطابه (الذي وضع مسودته السفير البريطاني بالخرطوم) في 27 من شهر يناير 2020 طالبا فيه من الأمم المتحدة أن تسعى إلى الحصول على ولاية من مجلس الأمن لإنشاء عملية لدعم السلام بموجب الفصل السادس من ميثاق المنظمة الدولية.

جاءت الاستجابة لطلب حمدوك في مشروع قرار لمجلس الامن (Sl2020l202) يضع البلاد كاملة تحت مسؤولية بعثة دولية جديدة، اليونبيمس (UNPPIMIS) تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة وتدمج في البعثة الجديدة بعثة يوناميد (UNAMID) المكونة بموجب الفصل السابع. وتطور البعثة الجديدة من الفصل السادس إلى الفصل السابع مسالة متوقعة نظرا للتعقيدات التي قد تنشأ في حالة تنفيذ قرار مجلس الأمن المشار اليه، وفى هذا الخصوص نشير إلى العقبات التي واجهتها بعثة ال (أمس- AMIS) الخاصة بدارفور والمكونة في 2007 تحت الفصل السادس مما أدى على تحويلها في 2011 إلى بعثة اليوناميد (UNAMID) تحت الفصل السابع. وتضطلع البعثة المرتقبة بالمشاركة في مراقبة تنفيذ الوثيقة الدستورية وبناء السلام في كل أنحاء السودان ومراقبة تنفيذ الترتيبات الأمنية الخاصة بمآل القوات التابعة للحركات المسلحة إما بالدمج أو الاستيعاب في منظومة القوات المسلحة السودانية او الاشراف على عملية تسريح بعضها. بالإضافة إلى ان البعثة ستساهم وفى وضع دستور دائم للبلاد (ويبدو أن البعثة سيطول أمد بقائها أبعد من الفترة المقدرة لها في مشروع القرار وهي عام واحد). كما تقوم البعثة بالسيطرة على الأجهزة الأمنية والمساهمة في إصلاح الجهاز القضائي والقانوني والخدمة المدنية.

وتطور البعثة الجديدة، المدعَّمة بقوة أمنية (عسكرية وشرطية) قوامها حوالي 3300 فرد، من الفصل السادس إلى الفصل السابع مسالة متوقعة نظرا للتعقيدات التي قد تنشأ في حالة تنفيذ قرار مجلس الأمن المشار اليه، وفى هذا الخصوص نشير إلى العقبات التي واجهتها بعثة ال (امس- AMIS) المكونة في 2007 الخاصة بدارفور تحت الفصل السادس مما أدى على تحويلها في 2011 إلى بعثة اليوناميد (UNAMID) تحت الفصل السابع؛ وفى هذا الخصوص يلاحظ أن البعثة تحتفظ بالقدرات التي يمنحها لها الفصل السابع الخاص ببعثة اليوناميد التي دمجت فيها.