كورونا والسجناء وأوهام الأمل الكاذب!


محمد عبد المجيد
2020 / 3 / 31 - 00:46     

مذبحة الكورونا التي أجبرتنا على التزام بيوتنا في سجون منزلية جعلتنا نضاعف التفكيرَ في السجناء والمعتقلين في العالم كله؛ الذين يعانون لسنوات طويلة من القهر والذُل والظُلم دونما لمسة إنسانية طفيفة من حُكّام غلاظِ القلب، متحجري العواطف.
في فترة التزامي البيت زارتْ ذهني هواجسٌ وكوابيسٌ وأفكارٌ مصحوبة بمَشاهد قرأتُ عنها طوال أعوام، فنحن نضيق ذرعــًا بإقامة منزلية مرفهة مع الأسرة؛ وفيها الراحة والطعام والنوم والتلفزيون واتصال بالعالم، ديجيتاليـــًا، والتنزُه القصير أمام الدار.
جحيمٌ أرضي يموت فيه بشر مثلنا مئات المرات، ويعيد السجّانُ إحياءَهم من جديد ليمارس في أجسادِهم شبه المتحللة أو المتهالكة والمليئة بالأمراض ليُرضي حاكمــًا ديكتاتورًا ساديا يتنفس من خلال صمتنا الآثم، وضربــِـنا بآلامهم عُرض الحائط، وزعمِنا أننا الملايين من بني آدم خائفون من رجل بمفرده إذا زفرنا جميعا في وجهه فإنه يبول على نفسه و.. يتغوط رُعبا في ملابسه!
تذكرت السجّانَ الذي يمنح السجينَ دقيقة ونصف يقضي فيها حاجته، ثم يزلزل المرحاضَ العفن بطرقات من يده حتى يخرج المسكينُ مهرولا.
تذكرت الذي قضىَ أكثر من عامين غارقا في بوله وبُرازه الذي تجمّد، وفاحتْ الرائحة الكريهة على مبعدة مئات الأمتار.
تذكرتُ السجناءَ الذين احتفلوا بقطعة خبز يابسة ولكنها زيادة عما اعتادوا إسكاتَ بطونهم به.
تذكرت السجين الذي عرَضَ حياته على مأمور السجن حتى يسمح له أن يرىَ أُمَّه لدقائق معدودة، يموت بعدها مستريحا، والضابط المأمور يرفض.
تذكرت الذي لا يريد أكثر من دواء السكر أو ضغط الدم أو القلب يأتيه من الخارج، ويجعله يشكر الظُلمَ على العدالة.
تذكرت عشرات الآلاف من الذين حُرموا من آدميتهم لعقدين أو ثلاثة وبدون محاكمة، وفي النهاية انتظروا رحمة الله في الافراج عنهم ليموتوا في أحضان من بقي حيــًا من أهلهم.
تذكرت آمرَ السجن وهو يساهم في تشييد معتقل جديد؛ فيطلب من عُمال البناء جعل فتحة المرحاض صغيرة جدا إمعانا في لحظات الإذلال ولئلا ترتبط عند السجين بالراحة.
تذكرت الذي قضى عشر سنوات في السجن فلما تم الافراج عنه اشترطوا عليه الإقامة في مدينة أخرى وأن لا يلتقي أمه وأباه وزوجته.
تذكرت الذين كانت كل أمانيهم حُكما ظالما بدلا من انتظار سنوات لا يُعرَضون فيها على القضاء احتقارًا لحيواتهم التي لا تستحق أن يستمع إليها قاضٍ أو.. ينصت مستشار!
تذكرت الذي كان على استعداد للاعتراف بجرائم لم يرتكبها شريطة أنْ لا يغتصب السجّانُ أخته أو ابنته أو حتى زوجته.
في مكتبتي عدد كبير من كتب عن السجون والمعتقلات والتعذيب أقرأ فيها ولو بضع صفحات كل يوم فهي تمنحني القدرة على لعْنِ الطواغيت، واعتبار الصامتين لا يختلفون في حيوانيتهم عن المُفترسين.
حاولت كثيرا العثور على تبرير واحد للصامتين أو لمؤيدي المستبد الظالم ففشلت.
حاولت معرفة سبب التبرع بالسكوت أمام آلام وأوجاع السجناء والمعتقلين فلم أجد أدنىَ سبب.
في جعبتي مئات الحكايات التي إنْ حكيتها للصخور تصدعتْ، وإنْ قصصتها على الشياطين فإنها ستتبرأ من الإنسان.
أحتفظ بحكايات لنفسي لو سمعها إبليس لعاد إلى رب العالمين وطلب منه، سبحانه، أن يسجد بنو آدم للشيطان
كلما دخلت مكتبة في رحلاتي وسفرياتي الكثيرة سألتُ عن كتب تحكي عذابات المعتقلين ؛ فأعيش معهم فكريا وعاطفيا، وأنا أعيش، جسديا، حياة رغدة في النرويج لأكثر من أربعين عاما، فتخترق أوجاعُهم كل مسامات جسمي، فأشاركهم حيث لا أبرح مكاني مع هؤلاء المساكين.
قرأت( عربة المجانين) التي كتبها كارلوس ليسكو عن سنوات السجن في أوروجواي وهرب مني النوم.
وقرأت (مذكرات سجين) للنيجيري وول سوينكا( الحائز على جائزة نوبل في الآداب) عن يوميات مخيفة في سجون هذا البلد الأفريقي الكبير.
وقرأت( الممر) وهي شذرات من حقائق سنوات الرصاص في المغرب التي قصّ فيها عبد الفتاح فاكهاني من وصول الإنسان لأسفل سافلين.
وقرأت (تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم) لمحمد الرايس.
وقرأت( خيانة القَــسَــم ) عن التعذيب والتوطؤ الطبي بقلم ستفين مايلز.

وقرأت( الكتابة والسجن) لعبد الرحيم حزل، و( درب مولاي الشريف.. الغرفة السوداء) بقلم جواد مديدش، و( القوقعة.. يوميات متلصص) لمصطفى خليفة عن الاعتقال في سوريا، و( الأجهزة السرية في المغرب) بقلم أحمد بخاري، و( التعذيب في مصر- جريمة ضد الإنسانية) وقد جمع مادتها عاطف شحات سعيد، وهذا الكتاب الأخير اشتريته من مكتبة في مراكش.
وتابعت (أبو غريب) في عهود صدام حسين والاحتلال الأمريكي والاحتلال الوطني، وتخيلت إبليسَ مخلوقا من زهور مقارنة بسجّاني أبوغريب.
وقرأت( تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلون وهي مستلهمة من شهادات أحد المعتقلين.
وقرأت(الأجهزة السرية في المغرب) وتقف شعيرات جسدي كلما خطر بذهني.
أحيانا أحصل على مبتغاي مثلما حدث عندما أفرج الرئيس حافظ الأسد عن 2700 معتقل إثر خطاب خاص مني ومقال في طائر الشمال بقلمي.
وأحايين أدفع الثمن لدى التطرق إلى حقوق المعتقلين كما حدث عندما وضعني حسني مبارك في قائمة المترقب وصولهم لمصر لمدة أحد عشر عاما انتهت بثورة 25 يناير2011، ومثلما أمرت أجهزة أمن زين العابدين بن علي الصحافة الالكترونية بعدم نشر أي مقال لي وإلا سيتم حجبها، عقب نشر مقالي( دماء على أنياب الرئيس التونسي).
وكتبت كثيرا عن بيوت الأشباح في عهد جعفر النميري ثم عمر حسن البشير، وعشرات المقالات عن جماهيرية القذافي، وعن علي عبد الله صالح، وعن معتقلات الكيان الصهيوني التي لا تخلو من الفلسطينيين أصحاب الأرض المحتلة..
وظل السجناء والمعتقلون مقيمين تحت أنسجة جسدي، رغم أنني كما ذكرت من قبل لم تستضيفني زنزانة عربية لبضع دقائق طوال حياتي.
إن الافراج كورونيا عن سجناء الرأي ومعتقلي الضمير أمانة في سنِّ قلم كل إعلامي وصحفي قبل ان ينتبه إليها الحاكم أو الضابط أو السجّان.
إنها الكتابات التي لا تثير الاهتمام الشعبي والجماهيري والسلطوي والديني والوطني؛ فكل مِنــّـا لن يعرف شكل الحديقة قبل أن تحجبه عنها قضبان لزنزانة في قبو منسيٍ تحت الأرض.
أتمنى أن يحرّك العزل المنزلي ضمائر الناس لعلهم يتذكرون المحجوزين في عالم النسيان.
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 30 مارس 2020