مفاهيم هربرت سبنسر السوسيولوجية


مالك ابوعليا
2020 / 3 / 30 - 16:07     

المقالة للماركسي السوفييتي ايغور سيميونوفيتش كون الباحث في علم الجنس والسوسيولوجيا وعلم الأخلاق.

ترجمة مالك أبوعليا

1-سبنسر وعصره
ترتبط ولادة السوسيولوجيا في انجلترا باسم هربرت سبنسر (1820-1903). عندما بدأ نشاطه العملي كانت الرأسمالية، في منتصف القرن التاسع عشر في أوج ازدهارها. بعد أن اكملت الثورة الصناعية، تفوقت انجلترا على جميع البلدان الأُخرى في مستوى التطور الاقتصادي. كانت رمزاً للازدهار والليبرالية في نظر الرأي العالمي في منتصف القرن. كانت الطبقات المتوسطة البريطانية، على الرغم من الصراعات الطبقية الحادة، فخورةً تماماً بالتقدم المُحرَز، وتتطلع بثقةٍ الى المستقبل. كان لهذا المزاج تأثيره ايضاً على فلسفة سبنسر الاجتماعية. عَمِلَ سبنسر من عام 1837 الى عام 1841 كمهدسٍ وفنيٍّ في السكك الحديدية، ودرس في نفس الوقت الرياضيات والعلوم الطبيعية. ثم ساهم في الصحافة لعدة سنوات. استقال من عمله في عام 1853 بعد أن وَرِث ارثاً كبيراً من أحد أعمامه، وبدأ حياةً متواضعةً لعالمٍ مُستقل وشخصيةٍ عامة. ورفض جميع الأوسمة الرسمية حتى بعد أن حقق الشهرة.
في أوائل سنيميات القرن التاسع عشر، بذل سبنسر جُهداً كبيراً لانشاء نظامٍ للفلسفة التركيبية التي من شأنها أن تُوحّد جميع العلوم النظرية في ذلك الوقت. تضمّن هذا العمل عشرة مُجلدات تتكون من خمس عناوين منفصلة: (المبادئ الأولى) First Principles 1862، (مبادئ علم الأحياء) Principles of Biology الذي يتكون من جزئين 1864 و1867، و(مبادئ علم النفس) Principles of Psychology 1870-1872 بثلاثة مُجلدات ظهرت طبعته الأولى عام 1855، (مبادئ علم الاجتماع) Principles of Sociology بثلاثة مُجلدان 1876 و1882 و1869 والتي سبقها كتابٌ مُستقل عام 1873 (دراسة علم الاجتماع) The Study of Sociology، و(مبادئ علم الأخلاق) Principles of Ethics بمجلدين 1892 و1893.
ما هو مصدر أفكاره؟
لم يكن مُهتماً بالفلسفة في شبابه. في وقتٍ لاحق لم يقرأ الكتب الفلسفية والسيكولوجية مُفضلاً الحصول على البيانات والمعلومات الضرورية من المحادثات مع الأصدقاء والكتابات الشعبية. وفقاً لسكرتيره، لم يكن هناك كتاب واحد لهوبس او لوك أو هيوم أو كانط في منزله، كانت معرفته حول التاريخ ضعيفة للغاية.
استعار سبنسر أكثر بكثير من العلوم الطبيعية، خاصةً من تلك الجوانب التي كانت تتضمن، والتي نشأ فيها، فكرة التطور.
عندما ظهر كتاب (أصل الأنواع) لداروين عام 1858، رحّب سبنسر به بحرارة. وبدوره، قدّر داروين نظرية سبنسر عن التطور تقديراً عالياً، واعترف بتأثيرها عليه، وحتى أنه اعتبر سبنسر أهم فكرياً من نفسه. وعلى الرغم من هذا الاعتراف والتأثير، فان تطور سبنسر كان أكثر لاماركيةً منه داروينياً.
الخط الثاني للتأثير، والذي أدركه واعترف به سبنسر نفسه، كان أعمال الاقتصاديين الانجليز في القرن الثامن عشر، وخاصةً أعمال مالتوس وآدم سميث. كما نعلم، ليس فقط سبنير، ولكن دارون نفسه استدل على فكرته عن البقاء للأصلح من مالتوس بالضبط، على الرغم من أن كليهما قد قدّما لهذه النظرية وجهةً متفائلة و(تقدمية) لم تكن عند مالتوس.
أخيراً، كان لأفكار النفعيين الانجليز، ولاسيما بينتام والتي كثّف سبنسر نزعتها الفردية أكثر وأكثر، تأثيراً واضحاً عليه. بصفته روسلاً للبرجوازية الليبرالية الأكثر راديكاليةً، اتّبع باستمرار مبدأ (دعه يعمل دعه يمر) طوال حياته. كان قد صاغ بالفعل في كتابه الأول (الاحصاءات الاجتماعية) Social Statics 1851 قانون (الحرية المتساوية) (1)، والذي يمكن للانسان بموجبه أن يُطالب بالحرية الكاملة لمُمارسة مَلَكاته المتوافقة مع امتلاك كل انسان آخر مُثل الحرية(2). كانت حرية السلوك الفردي والمنافسة والبقاء للأصلح هي كل ما يلزم لتطور المجتمع. دأب سبنسر، الذي اشتغل على هذه الفكرة باستمرار، على مُعارضة ليس فقط القوانين التي وُضعت لمساعدة الفقراء فقط، بل وأيضاً أي تدخل من الدولة في الشؤون العامة. كان موقفه الايديولوجي مُعادياً للمُجتمع. واعتبر أن مبدأ الجماعية أمرٌ كارثي وسخيفٌ نفسياً من وجهة النظر البيولوجية، حيث رأى فيه تشجيعاً للأسوأ على حساب الأفضل.
ان موقف سبنسر من كونت مُثير للاهتمام. تشكلت أفكاره الخاصة بشكلٍ رئيسي عندما تعرف على أعمال كونت. كان، على العموم، يُقدر كونت بشدة، وينسب اليه "الفضل في تحديد العلاقة بين علوم الحياة وعلوم المُجتمع بدقةٍ نسبية(3). كتب يقول بأن "منهج كونت في ادراك الواهر الاجتماعية" هو أفضل منهج من بين كل المناهج السابقة، وأن من أهم انجازاته الاعتراف باعتمادية السوسيولوجيا على البيولوجيا(4).
ولكن في وقتٍ لاحق، بدأت تظهر الخلافات الخطيرة. كان لدى سبنسر، أولاً وقبل كل شيء، نزعةً طبيعانيةً أكثر من كونت. وكانت مسيحانية كونت التي هرت لديه في وقت متأخر، (قانون المراحل الثلاث)، ومحاولاته الأُخرى لربط التطور الاجتماعي بالتطور الروحي، غريبةً للغاية عن سبنسر.
"ما هو هدف كونت المُعلَن؟ تقديم مُعالجة مُتماسكة لتقدم المفاهيم البشرية. ما هو هدفي؟ تقديم مُعالجة متماسكة لتقدم العالم الخارجي. يقترح كونت (قرابات الأفكار) من أجل وصف ما هو ضروري وفعلي، أما أنا، فأقترح (قرابات الأشياء) من أجل وصف ما هو ضروري وفعلي. يذهب كونت الى تفسير نشأة معرفتنا حول الطبيعة. أما هدفي فهو تفسير أصل الظواهر التي تُشكل الطبيعة بقدر الامكان. هدف الأول ذاتي، والاخر هدفه موضوعي"(5).
رفض سبنسر فكرة التقدم الخطّي الموحّد، في ضوء ما يُبينه تطور مُختلَف الأشكال الاجتماعية التي تُظهرها الأعراق المُتحضرة والمتوحشة في جميع أنحاء العالم، كمراحل مُختلفة في تطور شكلٍ واحد(6).
ان الأنواع الاجتماعية، برأيه مثل الأنواع الفردية للعضويات، لا تُشكل سلسلة، ولكنها قابلةٌ للتصنيف فقط في مجموعاتٍ متباعدة ومتشعبة(7).
أخيراً، طرح سبنسر مسألة علاقة الفرد بالكل الاجتماعي بشكلٍ مُختلفٍ تماماً عن كونت.

2- موضوع دراسة علم الاجتماع
لم يُقدم سبنسر تعريفاً رسمياً مُتطوراً للسوسيولوجيا أو علاقتها بالعلوم الاجتماعية الأُخرى. ولكنه أعار اهتماماً كثيراً، اثناء دراسته للسوسيولوجيا، لاثبات امكانية وجوده كعلم. اعتمدت هذه الامكانية على وجود: 1- قانون :"السببية الطبيعية" الشامل والذي كان فاعلاً في المجتمع كما في الطبيعة. 2- الروابط المُنتظمة لعناصر وبُنى أي ظاهرة. توقع سبنسر بالتفاصيل، بعد أن درس كل الصعوبات الموضوعية والذاتية (من ضمنها التحيزات الطبقية) لانشاء سوسيولوجيا علمية، توقّع عدداً من فرضيات سوسيولوجيا المعرفة في المستقبل.
كانت المهمة الأكثر تعقيداً بالنسبة له هي تمييز علم الاجتماع عن التاريخ يكون علم الاجتماع بروحه، عند دراسة قوانين تطور المجتمع، علماً تاريخياً. ولكن، برأي سبنسر، كان ذلك مُرتبطاً بعلم التاريخ الوصفي التقليدي، بنفس الطريقة التي ترتبط فيها الانثروبولوجيا بالبيوغرافيا. في حين سجّلت البيوغرافيا كل ظروف حياة الانسان، درست الأنثروبولوجيا وضعية وشروط تطور العضوية. بنفس الطريقة، كانت السوسيولوجيا، برغم ارتكازها على الحقائق التاريخية، أقرب منهجياً الى البيولوجيا.
وعلى النقيض من كونت، لم يُحدد سبنسر فهمه لموضوع ومهام السوسيولوجيا، ولكن ايضاً، في الواقع، أدرك المبادئ التي أعلنها. كانت مبادئه لعلم الاجتماعي هي في الأساس المُحاولة الأولى لبناء نظام سوسيولجي مُتكامل بناءاً على المواد الثنوغرافية. لقد حاول، تحت عنوان (بيانات علم الاجتماع) Data Of Sociology، اعادة بناء حياة الانسان البدائي نظرياً وفيزيائياً وعاطفياً وفكرياً ودينياً، وأن يُبرز أصل أفكاره ومفاهيمه الرئيسية. قام لاحقاً، تحت عنوان (مُقدمات في علم الاجتماع) The Inductions of Sociology والذي تضمّن نظريةً عامةً عن المُجتمع، بتحليل مفاهيم المُجتمع ونموه وبُناه ووظائفه وأنظمة وعضويات الحياة الاجتماعية. درس في المُجلد الثاني من (مبادئ علم الاجتماع) تطور العلاقات المنزلية (العلاقات الجنسية البدائية، أشكال الأسرة ووضع المرأة والطفل) والمؤسسات الطُقُسية بما في ذلك العادات والمؤسسات السياسية (ليس فقط المؤسسات السياسية الرسمية كالدولة والمؤسسات التمثيلية والمحاكم والقانون وحسب، ولكن أيضاً المُلكية وأنواع المُجتمعات والمؤسسات السياسية والمِهَن العامة والمؤسسات الصناعية من انتاج وتبادل وقسيم للعمل، وما الى ذلك)، مُعتمداً على كميةٍ هائلة من المواد الاثنوغرافية والتي جمعها بطريقة غير نقدية. وهكذا كان علمه السوسيولوجي علماً شاملاً شَمِلَ الانثروبولوجيا والاثنوغرافيا ونظرية عامة للتطور التاريخي.

3- العضوية والتطورية
بُنيت نظرية سبنسر الاجتماعية حول مبدأين رئيسيين: مفهوم المُجتمع ككائن حي، وفكرة التطور الاجتماعي. ارتبط المبدأ الأول بضرورة فهم وحدة الكُل الاجتماعي.
سأل نفسه بوضوح السؤال التالي، ما اذا كان المُجتمع هو "كائن" حقيقي، أم مُجرد اسم جَمعي يعني مجموعةً من الأفراد، والموجود وجوداً رمزياً فقط. كان عليه أن يعترف بأن المُجتمع هو نوعٌ خاص من الكيانات الموجودة بالفعل بما أن وجهة النظر الاسمية بشأن المجتمع كانت غير مقبولة بالنسبة له. واقترح أن لدينا كل الحق في اعتبارها كياناً خاصاً، لانه على الرغم من كونها مُشكلةً من وحداتٍ مُنفصلة، الان أن الحفاظ المُستمر على تشابهاتٍ عامة معينة في تجميعات هذه الوحدات داخل المنطقة التي يَشغلها كل مجتمع على مدار عدة أجيال أو قرون، يُشير عيانية معينة للكُل الذي يوحدها. هذه هي الميزة التي أعطتنا فكرتنا عن المُجتمع. لاننا لا نُعطي هذا الاسم للتجمعات العابرة التي تُشكلها الشعوب البدائية، ولكننا نستخدمها فقط حيث تؤدي الحياة المستمرة الى ديمومةٍ مُعينة في توزيع مكوناتها داخل المُجتمع.
ولكن، اذا كان المُجتمع شيئاً حقيقياً، بفرديته الخاصة، فهل يجب تصنيفه على أنه عضوي أم غير عُضوي؟ على الرغم من أن سبنسر استخدم المُقارنات الميكانيكية على نطاقٍ واسع (المجتمع كمجموع Aggregate، وما الى ذلك) الا أنها لم تَبدُ مُرضيةً له بناء نموذج مُعمم للكل الاجتماعي، ودعا نوذجه (عضوياً) لمساعدته بما أنه مفهوم أكثر تعقيداً وديناميكيةً. لقد كان أحد فصوله في كتاب (مبادئ علم الاجتماع) بعنوان (المُجتمع هو عضوية) Society is an Organism.
وضع سبنسر قائمةً للتشابهات بين الكائنات البيولوجية والاجتماعية: 1- المجتمع مثل الكائن البيولوجي، على النقيض من المادة غير العضوية، ينمو ويزداد حجماً خلال القسم الأكبر من وجودها* (على سبيل المثال، تحوّل الدول الصغيرة الى امبراطوريات). 2- يصبح هيكل المُجتمع أكثر تعقيداً باستمرار نموه، تماماً مثل هيكل الكائن الحي أثناء التطور البيولوجي. 3- يقترن تمايز البُنية في كلٍ من الكائنات البيولوجية والاجتماعية بتمازيٍ مُماثل في الوظائف. 4- يُصاحب تطور، وتطور تفاعل الكائنات البيولوجية والاجتماعية، تمايزاً بين هيكلها ووظائفها. 5- يُمكن عكس التشابه بين المجتمع والعضوية، يمكن القول أن أن كل عضوية هي مجتمع يكون من أفرادٍ منفصلين. 6- في المجتمع كما في العضوية، تظل الأقسام على قيد الحياة، حتى عندما تتوقف الحياة ككل، لفترةٍ معينةٍ على الأقل. كل هذا برأيه، يسمح للمرء بأن يُعالج المجتمع البشري عن طريق قياسه مع الكائن الحي.
ولكنه رأى أيضاً اختلافات جوهرية بينهما: 1-تُشكل الأجزاء المُكونة للكائن البيولوجي كُلاً ملموساً تتحد فيه جميع العنصر بشكلٍ لا ينفصل، بينما المُجتمع كُلّ، وتكون العناصر، كلٌ على حدا، مُنفصلة الى هذا الحد أو ذاك. 2- أدى تمايز الوظائف في الكائن الحي الفردي بحيث تركّزت القدرة على الشعور والتفكير في بعض أجزاءه وحدها، بينما انتشر الوعي في المجتمع الى جميع عناصره، وتستطيع أن تستمتع وتعاني بنفس المدى تقريباً، ان لم يكن بالتساوي. ومن هنا ينشأ اختلاف ثالث: توجد العناصر، في الكائن العضوي من أجل الكُل، أما في المجتمع، على العكس، لا تُعتبر ازدهار المجموع، بغض النظر عن ازدهار عناصره، غايةً يجب السعي نحوها. المُجتمع موجود لمنفعة أعضاءه، وليس وجود الأعضاء لصالح المُجتمع. يجب أن نتذكر أن الجهود المبذولة من أجل ازدهار الجسد السياسي كبيرة، ولكن ادعاءات هذا الجسد ليست مُهمةً في حد ذاتها، وتصبح ذات أهمية فقط بقدر ما تُجسد الأفراد المكونين له(8).
غالباً ما كان سبنسر يقف موقف المُعارضة للمُطابقة الكاملة بين المُجتمع والعضوية، هذه التحفظات ضرورية للغاية بالنسبة اليه. يجب ان لا ينسى المرء أنه كان ذو نزعة فردية. في حين أن الكُل الاجتماعي بالنسبة الى كونت، يسبق الفرد، وبأن هذا الأخير لم يكن حتى خليةً مُستقلةً للمُجتمع، الا أن سبنسر، كان على العكس، يعتبر أن المُجتمع مجموع من الأفراد فقط. واعتبر أنه من غير المسموح انحلال الفرد في العضوية الاجتماعية. ومن هنا أيضاً أتى التعديل المُهم، أن المُجتمع ليس مُجرد عضوية بل "عضوية فائقة" Superorganism.
يمتلك أي مجتمعٍ متطور، حسب سبنسر، ثلاثة أجهزة عضوية. ان الجهاز الداعم هو تنظيم الأقسام التي توفر التغذية في العضوية الحية، وهو انتاج المُنتجات الضرورية في المجتمع. يكفل جهاز التوزيع الرابط بين الأقسام المختلفة للعضوية الاجتماعية من خلال تقسيم العمل. وأخيراً، يكفل الجهاز التنظيمي، في شخص الدولة، خضوع الأجزاء للكُل. أن الأجهزة المحددة للعضويات هي المؤسسات. أحصى سبنسر ستة أنواع من المؤسسات: المحلية، الطُقسية، السياسية، الكنسية، المهنية والصناعية. لقد سعى الى تتبع تطور كل واحد منها عن طريق تحليلٍ تاريخيٍ مُقارن. ولكن ما هي قوانين هذا التطور؟ يحتل مفهوم التطور مكانةً مركزيةً في نظرية سبنسر. ووفقاً له، ان الظواهر التي تحدث في أي مكان هي جزءٌ من العملية العامة للتطور. ان هناك تطورٌ واحد فقط، وهو يحدث بنفس الطريقة في كل مكان.
ووفقاً له، تشتمل أي عملية تطور على جانبين: التكامل والتمايز. أنها تبدأ بنموٍ كميٍ بسيط، وزيادةً في عدد أو حجم العناصر المُكونة. استلزم النمو الكمي وتعقيد هيكل المجموع الاجتماعي، عملية التمايز الوظيفي والهيكلي للكُل. كانت الأجزاء المُنفصلة في العضويات الاجتماعية البدائية أقل تمايزاً وتشبه بعضها البعض. يمكن لنفس الهيكلٍ الجزئي أن يؤدي العديد من الوظائق الاجتماعية المختلفة. اصبحت الهياكل الجزئية، مع نمو المجتمع مُتباينة وأكثر تمايزاً عن بعضها. بدأت هذه الهياكل الجزئية المتباينة بتأدية وظائف مُختلفة أكثر من أي وقتٍ مضى، والتي يجب تنسيقها مع بعضها البعض. كان تقسيم العمل، الذي اكتشفه الاقتصاديون أولاً كظاهرةٍ اجتماعية، ثم اعترف به علماء الأحياء لاحقاً على أنه (تقسيم فسيولوجي للعمل)، بالتالي، آاليةً شاملةً وعالميةً للتطور. ولكن كلما كانت الوظائف أكثر تمايزاً، كلما ازدادت أهمية وجود آلية تنظيمية مُعينة قادرة على تنسيق الهياكل الجُزئية. ومن هنا تعقيد وتمايز عمليات التنظيم نفسها. بدأ التمايز بالفعل بين الحُكّام والمحكومين في المراحل الأولى من التطور الاجتماعي، والذي أصبح واضحاً أكثر وأكثر تدريجياً. وقد استُكمِلَت سلطة الحاكم بسلطة دينية نشأت في وقتٍ واحد معها، مع سلطة قواعد السلوك والعادات المقبولة بشكل عام والتي تمايزت عن كليهما.
اذاً، كان النمو باتجاه التجمع الاقتصادي للجنس البشري بأكمله، بدءاً من قبيلةٍ بربرية، تقريباً، ان لم تكن متجانسةً تماماً في وظائف اعضاءها. يزداد عدم التجانس فيما يتعلق بالوظائف المنفصلة التي تضطلع الأقسام المحلية لكل دولة، والوظائف المنفصلة التي تضطلع بها أنواع عديدة من الصُناع والتجار في كل مدينة، والوظائف المنفصلة التي يتولاها العمّال المتحدون في انتاج كل سلعة(9).
ومع ذلك، أثارت المُقاربة التطورية للمجتمع عدداً من المشكلات المُعقدة: 1- ما علاقة التغيرات الكمية بالتغيرات النوعية في عملية التطور؟ 2- ما هي العلاقة بين مفهومي التطور والتقدم (وهي مشكلة طرحها بالفعل الرومانسيون في نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر)؟ 3- هل ينبغي اعتبار تطور المجتمع عمليةً فرديةً أُحادية الاتجاه أم سلسلةً من عمليات التطور المستقلة بسبياً؟
أجاب سبنسر على أول هذه الأسئلة بروح نموذج (التطورية المُسطّحة). بالنسبة له، فان التطور الاجتماعي متناقض، ولكنه في الأساس عملية سَلِسة وتدريجية وتلقائية الى حد كبير، بحيث أنها لم تسمح بالتدخل الواعي و(التدخل الخارجي). قد تكون عمليات النمو والتطور، وغالباً ما يتم اعاقتها أو تشويهها، على الرغم من أنه لا يمكن تحسينها بشكلٍ مصطنع (10).
ان هذا دليل مباشر على عفوية التطور الرأسمالية والحفاظ على الوضع الراهن. أدان سبنسر، من خلال التأكيد على الطابع العضوي للتطور الاجتماعي، ورسم العديد من المقارنات بين المُجتمع والطبيعة، أدان بشدة، أي محاولات لاعادة تنظيم المجتمع ثورياً، حيث رأى في التدمير الثوري انتهاكاً غير طبيعي للقانون الذي يقول بأن أي تطور "يتبع الخطوط الأقل مُقاومةً"(11).
كان موقف سبنسر فيما يتعلق بعلاقة التطور بالتقدم أكثر تعقيداً. اهتم كثيراً بهذه المسألة. كانت فكرة عالمية التقدم وشموليته، التي تُفهم على انها اكتمال الانسان والمجتمع، شائعةً في منتصف القرن التاسع عشر. كانت "الميليورية" Meliorism**، أي فلسفة التحسين التدريجي للحياة، جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الاجتماعية لليبرالية الفيكتورية. لقد ضيّق سبنسر الشاب التقدم كمفهوم قِيَمي، وتطوراً للعلوم بمعنى العلوم الطبيعية. شدّد في الفصل الثاني من (الاحصاءات الاجتماعية)، على ان التقدم، ليس عرضياً، بل ضرورةً... لذلك يجب على الأشياء التي نُسميها الشر واللأخلاقية أن تختفي بالتأكيد، لذلك على الانسان أن يُصبح كاملاً (12).
ولكنه ابتعد عن وجهة النظر هذه، مع فكرة التقدم، في وقتٍ لاحق، مُعتبراً أن المصطلح الأخير ذو مركزية انسانية مُفرطة Anthropocentric. لم يكن سبنسر الناضج يعني (تحسين الحياة) عندما كان يتحدث عن (قانون التطور)، ولكن فقط، تلك الحركة المُنتظمة الخاضعة للقانون والتي تُسرّع الحركة من التجانس الى عدم التجانس. لم يعد يدّعي أن "التقدم العالمي" ينطبق على اي مجتمعٍ بعينه. كان مُدركاً لامكانية بل وحتمة العمليتات التراجعية. لقد فهم أنه اذا كان يجب اعتبار نظرية التراجع، مُفسلةً في شكلها الحالي، فان نظرية التقدم التي يتم تطبيقها دون حدودٍ ايضاً، ستبدو غير صحيحةً. من الممكن جداً أن يحدث التراجع بالضبط كما يحدث التقدم، وبالتالي لم يعد مفهوم تطور المجتمع كتطورٍ عالمي، ولكن كسلسلة من العمليات المستقلة نسبياً. ولقد أكّد أن التقدم الاجتماعي، مثله مثل اي نوعٍ آخر من التقدم، ليس خطياً، بل مُتشعب.
لم يكن لدى سبنسر تفسيراً واحداً للتطور الاجتماعي، بل أربعة تفسيرات، حسب بيرين Perrin: 1- كتقدمٍ نحو دولةٍ كاملة. 2- وكتمايزٍ للمكوناتٍ الاجتماعية الى انظمة فرعية وظيفية. 3- تقسيم متقدم للعمل. 4- وكأصلٍ للأنواع في المجتمعات(13). ولكنه لم ينجح أبداً في دمجها جميعاً.

4- مكان سبنسر في علم الاجتماع
كانت مساهمة سبنسر في تطوير علم الاجتماع وتقييم أعماله من قِبَل الأجيال المتعاقبة متناقضةً مثل عمله الابداعي نفسه.
كانت خدمته المُهمة ايديولوجياً هي نضاله ضد رجال الدين، والدفاع عن مبدأ الدراسة الموضوعية للمجتمع بناءاً على مبادئ البحث العلمي. انجذب المفكرين التقدميين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نحو ثقته بعدم قدرة مقاومة التطور الاجتماعي، وادراكه للطابع القانوني الذي يحكم كل ما هو موجود، والصفة الواضحة لاستنتاجاته. لم يكن من قبيل الصدفة أن هذه الأفكار أعجبت أشخاصاً مثل جاك لندن وثيودور دريزر.
ولكن فتحت لاأدرية سبنسر ايضاً، الطريق للتصالح مع الدين، في حين كان مذهبه الاجتماعي يتمتع بميزة برجوازية ذات نزعة فردية ومعادية للمجتمع، فقد تحولت نظرياته بسهولة (عند سبنسر نفسه وأتباعه) الى تبرير مُباشر للرأسمالية. لم يكن صدفةً أن المذهب السبنسري لقي ترحيباً حاداً في الولايات المتحدة الأمريكية من قِبَل جون روكفلر John D. Rockefeller وجيمس هِل James J. Hill(14).
ان خدمة سبنسر فيما يتعلق بالنظرية، كانت محاولته الجمع بين النهج التاريخي التطوري للمجتمع مع نهج بنيوي وظيفي. استشرف سبنسر، بمفهومه للتمايز الهيكلي أو البنيوي وفهمه للمجتمع كنظامٍ ذاتي التنظيم، وتحليله لعلاقة الوظائف الاجتماعية ببنية المجتمع، استشرف العديد من الفرضيات ال البنيوية الوظيفية في علم الاجتماع ةالاثنولوجيا. كان أول من بدأ باستخدام مفاهيم (النظام) و(الوظيفة) و(البنية) و(المؤسسة) في علم الاجتماع. كانت نقطة تفوقه على كونت في أنه أعتمد، بشكلٍ أكثر اتساقاً، على الدراسات التجريبية. وكان من أوائل من حاولوا تحديد مفاهيم التطور والتقدم والتغلّب على أوجه القصور في المفهوم الخطّي للتطور، وانشاء جسر يمتد بين السوسيولوجيا والاثنولوجيا. ارتفع المستوى النظري للبحوث الاثنوغرافية وظهرت عدد من المفاهيم التاريخية التطورية والثقافية في وقته سبب مساهمته في نظمنة المواد الاثنوغرافية التي قام بها، والى حد كبير، وضعه نمط تصنيف المجتمعات. ليس من دون سبب أنه حصل على مكانٍ عام في تاريخ الأنثروبولوجيا والاثنوغرافيا وعلم النفس. أثارت العديد من ملاحظاته واستنتاجاته الخاصة، بغض النظر عن درجة صحتها، مناقشاتٍ ونزاعاتٍ علميةٍ مُثمرة.
على العموم، عانى المفهوم الاجتماعي لسبنسر من ميزته الطبيعانية والميكانيكية. حاول، لصالح فلسفته التركيبية، اختزال الظواهر الاجتماعية المُعقدّة الى ابسط عناصرها، وهكذا أفلت المحتوى الملموس العياني للحياة الاجتماعية من انتباهه. أدت مُحاولاته لتطبيق المفاهيم العامة (التمايز) و(الاندماج أو التكامل) في المجتمع، مُتجاوزاً التعريفات للمفاهيم، والاعتماد على المفاهيم والتعريفات ما قبل العلمية للمجتمع والشخصية والجماهير، الى عدم الوضوح وسوء الفهم.
وكما كتب لينين من جهته في هذا الصدد، فان التفكير المُجرّد حول مدى اعتماد تطور (ورفاهية) الفرد على تمايز المُجتمع هو أمر غير علمي تماماً، لانه لا يمكن ايجاد علاقة تُناسب كل شكل من أشكال البنية الاجتماعية. تكتسب المفاهيم ذاتها (التمايز) و(عدم التجانس) وما الى ذلك معانٍ مختلفة تماماً، اعتماداً على البيئة الاجتماعية الخاصة التي يتم تطبيقها عليها(15).
على الرغم من تعطشه للعيانية، ظلت نظريته للتطور تأملية. أوضحت الحقائق التجريبية المفهوم، لكنه لم يكن مبنياً عليها. أُختيرت المادة الوقائعية الهائلة المُحتواة في الـ17 مُجلداً من علم اجتماعه الوصفي، من قِبَل مساعديه دون اي تمحيصٍ لها ومن مصادر مختلفة(16).
بينما كان يصف، ظاهرياً، الروابط الثقافية والوظيفية للمجتمع ككل، لم يكشف النموذج العضوي لمجتمع سبنسر عن أسسه الحقيقية. لم يرى دياليكتيك قوى الانتاج وعلاقات الانتاج أو موقع الأخير فيما يتعلق بالظواهر السياسية والايديولوجية. لقد تعامل مع الدور القيادي لتقسيم العمل في تشكيل الطبقات بروحٍ مُحافظةٍ ودفاعية، وعزا دوراً حصرياً مُدمراً للصراع الطبقي. علاوةً على ذلك، لم يستطع نظرياً حل التناقضات بين النزعة العضوية والنزعة الفردية، وينبع تناقض تأثيره على الفكر السوسيولوجي من ذلك. على الرغم من عدم الاعتراف بها من قِبل العلوم الجامعية الرسمية، اكتسب علم اجتماعه شعبيةً واسعةً في نهاية القرن التاسع عشر بين القُرّاء، خاصةً في الولايات المتحدة حيث تم بيع 369000 نسخةً من كتبه بين 1860 و1902.(17).
ووفقاً لتشارلز كولي، ربما قام كتابه (دراسة علم الاجتماع) بأكثر اثارة لموضوع السوسيولوجيا أكثر من أي كتابٍ آخر قبله وحتى حينه(18). كانت زيارة سبنسر الى الولايات المتحدة عام 1882 انتصاراً حقيقياً. أصبح تأثيره على الفكر الاجتماعي الأمريكي أقل وضوحاً في أوائل القرن العشرين، ليس كثيراً بسبب أن افكاره قد وصلت حدودها النهائية، بل لأن لغته صارت (كما يضع ذلك هوفستاتر) ميزةً قياسيةً لتقليد الفَرَدانية(19). لكن الموقف منه لم يكن لا لُبس فيه تماماً. كان يُنظر اليه فيه البداية على أنه احدى نظريي التطورية الطبيعية. كان يتمتع بأكثر تأثير له بين المتحدثين أنصار الداروينية الاجتماعية (وليام غراهام سمنر) W. G. Sumner. على العكس من ذلك، انتقده أنصار التوجه السيكولوجي لطبيعانيته. أثارت أزمة نظرية التطور في مطلع القرن العشرين انتقاداتٍ حادة لسبنسر. لكن دوركهايم قد رأى فيه بالفعل رائد الاتجاه الوظيفي في علم الاجتماع. وفقاً لاستطلاع لوثر برنارد، فان 258 من علماء الاجتماع الأمريكيين في عام 1972 اعتبروا سبنسر أحد أكثر علماء الاجتماع الأوروبي نفوذاً(20). كتب تالكوت بارسونز عام 1937 بشكلٍ لا لُبس فيه "لقد مات سبنسر"(21) واتفق مؤرخو علم الاجتماع أعوام الأربعينيات والخمسينيات في القرن العشرين على ذلك. بعد ذلك، أثار ظهور التطورية الجديدة، من جهة، والسبرنتيك ومُقاربة الأنظمة من ناحيةٍ أُخرى، اهتمام الغرب به مرةً أُخرى، ونُظر اليه على انه سلف لهذه التيارات الجديدة، على الرغم من أنها لم تولد، بالطبع، على أساس السبنسرية.

1-Herbert Spencer. Social Statics´-or-the Conditions Essential to Human Happiness (Appleton & Co., New York, 1882), p 105
2- Ibid., p 94
3- Herbert Spencer. The Study of Sociology (Henry S. King & Co., London, 1875), p 328
4- Ibid., p 330
5- Herbert Spencer. An Autobiography, Vol. 2 (Watts & Co., London, 1926), p 488.
6- Herbert Spencer. The Study of Sociology, p 329
7- Ibid
* ان الاتجاه نحو التطور هو أحد ميزات النظريات التطورية، وهذا يعني نقصان أو زيادة احدى خصائص المنظومة المعنية. يقول علم الجينات التطوري أن مُعدل التناسل وحجم ومُعدل السكان في تزايد مُستمر. ويقول علم الكون التطوري بأن العالم يتوسع باستمرار. لا يتم وصف التطور التاريخي على انه انتقال من الصيد أو الجمع الى الزراعة البدائية، او من الاقطاع الى الرأسمالية، بل تُوضع أنماط تنظيم الانتاج على مقياسٍ مُتدرج، مثل الدرجة التي وصل اليها تقسيم العمل (دوركهايم) أو درجة التعقيد (سبنسر). مالك أبوعليا.
8- Herbert Spencer. The Principles of Sociology, Vol. 1 (Williams and Norgate, London, 1885), pp 449-450.
9- Herbert Spencer. First Principles (Williams and Norgate, London, 1890), pp 346-347
10- Herbert Spencer. The Study of Sociology, p 401
11- Herbert Spencer. First Principles, p 239
** الميليورية: هي فكرة ميتافيزيقية تعني أن التحسينات يمكنها أن تصل الى الكمال بتراكميتها. مالك أبوعليا
12 Herbert Spencer. Social Statics, p 80.
13- Robert C. Perrin. Herbert Spencer‘s Four Theories of Social Evolution. In: The American Journal of Sociology, 1976, 81, 6: 1339-1359.
14 -Richard Hofstadter. Social Darwinism in American Thought (The Beacon Press, Boston, Mass., 1955).
15- V. I. Lenin. The Economic Content of Narodism and the Criticism of It in Mr. Struve‘s Book. Collected Works, Vol. 1 (Progress Publishers, Moscow, 1986), p 412.
16 See: Robert G. Perrin. Art. cit.
17 Richard Hofstadter. Op. cit., p 34.
18 Charles H. Cooley. Reflections upon the Sociology of Herbert Spencer. In: The American Journal of Sociology, 1920, 26, 2: 129.
19 Richard Hofstadter. Op. cit., p 50.
20- D. N. Levine, E. B. Carter, and E. M. Gorman. Simmel‘s Influence on American Sociology. In: The American Journal of Sociology, 1976, 81, 4: 840, 841.
21 - Talcott Parsons. The Structure of Social Action (The Free Press, Glencoe, Ill., 1949), p 3.

ترجمة الفصل الثالث من كتاب A History of Classical Sociology, a Group of Soviet Sociologists, Edited By Prof I. S. Kon, Translated By H. Campbell Creigton, Published 1979, Translated 1989, Progress Publisher