سيكولوجيا شخصية التحقيق الذاتي في أعمال أبراهام ماسلو


مالك ابوعليا
2020 / 3 / 28 - 14:16     

المقالة للماركسية السوفييتية لودميلا ايفانوفا انتسيفيروفا*

ترجمة مالك أبوعليا

شهد الرُبعان الثاني والثالث من القرن العشرين ظهور عدد من المفاهيم المختلفة للشخصية في علم النفس خارج الاتحاد السوفييتي. تم انتاج مُعظم هذه المفاهيم بواسطة علم النفس المرَضي Pathopsychology كنتيجة لمحاولة فهم شخصية المصابين بالأمراض العصبية وكفرعٍ عملي لعلم النفس المرضي. على الرغم من أن هذه النظريات كانت تعميماتٍ مبنية على الدراسات السيكولوجية المرضية، الا أنها نُشرت من قبل مؤلفيها كنظريات عامة للشخصية. تم استخدام المواد التي جُمِعَت اثناء فحص المرضى العقليين كأساس لما أصبح الان اختبارات شخصية قياسية- اختبار رورشاخ** واختبار تفهّم الموضوع Thematic Apperception Test والتي استُخدِمت بشكل رئيسي لاكتشاف الميول العصبية لدى الفرد. كان التقييم المُبالغ فيه للغاية لأهمية منهج علم النفس المرضي السمة المميزة لنظرية الشخصية في علم النفس خارج الاتحاد السوفييتي. ومع ذلك، فان الشخصية المصابة بمرض عصبي، الشخصية المرَضية تختلف اختلافاً نوعياً، وليس كمياً عن شخصية الكائن البشري الطبيعي. لذلك يجب علينا أن نتفق مع ماسلو*** الذي يُظهر كيف أن "دراسة الموضوعات المُشوهة والمرضية وغير الناضجة ستؤدي الى نهوض علم نفس وفلسفة مشوهتين"(1). واذا كان على الدراسة ان تكون أساساً لتشكيل شخصية ناضجة وسليمة، فيجب على النظرية أن تكون مُتجذرة في دراسة الأشخاص الذين يتميزون بمستوىً عالٍ من النضج النفسي والتقدمية والابداعية وساهموا بشكل كبير في تقدم المجتمع. تعتمد نظرية ماسلو على دراسة لمثل هؤلاء الممثلين البارزين للبشرية الذين قادهم تطورهم الى ابعد من عصر مجتمعاتهم، والذين يشكلون بهذا المعنى "قمة نمو" المجتمع. ولهذا السبب يجذب عمل ماسلو الانتباه ويستحق التحليل الدقيق. تحتل مشكلة الدافع Motivation مكاناً مركزياً في نظرية ماسلو وهو يُقارب هذه المشكلة من وجهة نظر تُناقض مواقع التحليل النفسي. سيتذكر القارئ أن الفرويديين ينظرون الى الغرائز والدوافع Drives على انها معادية للمجتمع في الأصل وبشكل دائم. في التحليل النهائي، يتم توجيه جميع جهود الفرد نحو الحصول على اللذة على حساب الاخرين وضدهم. تُعد الميول العدوانية والمُدمرة من أهم الدوافع الفطرية عند الطفل. ترقى الجتمعة او التنشئة الاجتماعية Socialization لأن تُصبح استدخالاً للمحظورات الاجتماعية وتطالب الفرد بأن يعتبرها تهديدية وغريبة، ثُم يتبلور هذا في في شكل دائم من الأنا العليا عند الشخصية. تتمثل وظيفة الأنا في تهدئة الصراع المستمر بين الفرد والمجتمع، بين الهو والأنا العُليا.
يُشارك هذه النظرة، الى الدوافع والاحتياجات الفردية، اليوم، العديد من مُمثلي التحليل النفسي وكذلك العديد من علماء النفس الذين يُحاولون التوفيق بين الفرويدية والسلوكية. في احدى اخر الدراسات الاستقصائية التي أُجريت حول مسألة التنشئة الاجتماعية، يُلاحظ روبرت لو فاين بشكل صحيح أن "علماء النفس والمحللين النفسيين لنظرية الدافع يرون أن البشر يُولدون بدوافع يُمكن أن تكون مضرة بالحياة الاجتماعية ويرون مُشكلة التنشئة الاجتماعية بمنظار ترويض الدوافع التخريبية وتوجيهها الى أشكال مُفيدة اجتماعياً"(2).
يرفض بشكل قاطع التفسير الفرويدي للدوافع الفردية، والذي، حسبَ تعبيره، ينظر الى الوعي والعقلانية والأخلاق باعتبارها مُجرد واجهة أو قشرة للغرائز، كقيودٍ على السجين. يرى الفرويديين أن الحضارة، التعليم والقوانين كقوىً تُقيد الوحش الكامن في الانسان. يرفض ماسلو أيضاً بشكل قاطع البديهية الفرويدية القائلة بأن الحيوان الكامن في الانسان هو وحش ثابتٌ لا يتغير، بما يعني ذلك أن الدوافع الفطرية عند الانسان أنانية وعدائية للمجتمع. غالباً ما يشير اولئك الذين يدافعون عن الأطروحة التي مفادها بأن الفرد مُدمرُ ومُعادٍ للمجتمع تِبعاً لفطرته- غالباً ما يشيرون الى أسلاف الانسان الحيوانيين، الذين يُفترض أنهم يُظهرون شراسةً طبيعية. يوضح ماسلو، من أجل دحض هذه الحجة، أن الأفعال التي يعتبرها الانسان شرسة في العادة لا توجد أبداً عند الحيوانات البرية باعتبارها غايةً في حد ذاتها كما تفترض هذه الأطروحة، ولكن على العكس من ذلك، تكون هذه الأفعال بمثابة وسيلة للافتراس من أجل الحفاظ على وجودها. يُشير ماسلو بشكل صحيح الى أن أحد أوجه القصور في نظرية داروين هو تركيزها بشكل حصري على الصراع والمنافسة، وهي تتجاهل تلك الحالات التي لا يُمكن دحضها من المساعدة والتعاون المُتبادل التي تحدث في عالم الحيوان. النقطة الرئيسية عند ماسلو هي أن الانسان كائن اجتماعي بطبيعته، وانه بحاجة طبيعية ومُلحة للانتماء والحب والتعاطف والاحترام. يُظهر ماسلو، بتأكيده على الجانب الفطري للحاجات (البشرية) Humanoid، بأن هذه الحاجات (الغرائزية) Instinctoid بطبيعتها، وعلاوةً على ذلك، فهي تخص النوع البشري.
ماسلو ليس الطبيب النفسي الأجنبي الوحيد الذي يؤكد أن دوافع الانسان اجتماعية بطبيعتها. في الواقع كانت احدى نقاط الخلاف الرئيسية بين آدلر وفرويد هي أن آدلر اعترف بالمكونات الفطرية لـ(المشاعر الجماعية). هذا الشعور الاجتماعي، حسب آدلر هو "امكانيات فطرية ستتطور بوعي، اجتماعياً"(3). في نظريته حول التعويض عن عدم الكفاية، اعتبر آدلر ان الحس الاجتماعي هو "التعويض الصحيح والحتمي عن كل الضُعف الفردي الطبيعي". (4).
في حين يعتبر ماسلو احتياجات الانسان الاجتماعية، أي حاجته الى التواصل والعلاقات الحميمية والتعاطف، كامكانيات ذاتية فطرية، ذاتية، امكانات غريزية للطفل، مُنفصلةً عن الحاجات العضوية، يعتقد هاري سوليفان، مُنشئ النظرية الشخصية في الطب النفسي، أن الشعور الاجتماعي مُتجذرٌ بشكلٍ طبيعي في الاحتياجات العضوية. ان التوجه الاجتماعي للأطفال حديثي الولادة، تبعاً لسوليفان، هو حاجة للحنان، والتي بدورها خاصية لسلوك الأم، التي تلبي جميع احتياجات الرضيع. يُفسر سوليفان هذه الحاجة الى الحنان كشكل مُعَمّم من الحاجة الى الطعام والدفئ والنظافة، حيث أن تحقيق جميع هذه الاحتياجات يتطلب مُشاركة ومساعدة حميمة. يكتب سوليفان: "يُطلَق على المساعدة التي تتطلب تعاون الشخص الذي يتصرف بدور الأمومة، الحنان"(5). و"بالتالي"، يذهب الى الاستنتاج، مؤكداً على الجانب الاجتماعي الفريد لمجموعة احتياجات الرُضّع بأن "الحاجة الى الحنان متأصلة منذ البداية كحاجة شخصية".(6)
يُمكن أن تُصاغ اطروحة الطبيعة (البشرية) Humanoid لحاجات الانسان ودوافعه، والطبيعة الاجتماعية للانسان، الضرورية للغاية من أجل النضال ضد المفهوم الفرويدي حول العدوانية البدائية المتأصلة الموجودة بين الانسان والمجتمع، من مواقع مُتعارضة منهجياً بشكلٍ كُلي. يظهر الشعور الاجتماعي البدائي للفرد، في عمل ماسلو، كخاصيةٍ بيولوجية ومُتحددةٍ بيولوجياً للنوع (الانسان). بكلماتٍ أُخرى، تُعطى الطبيعة الاجتماعية للانسان وضعاً انثروبولوجياً، وبالتالي يصبح الفرد على أساسه أولياً، ويصبح مفهوم المجتمع ثانوياً أو مُشتقاً، او نظاماً يوضع على قدم المساواة مع نظام الشخصية Personality. على النقيض من هذا الموقف، تنظر النظرية المادية التاريخية، النظرية الماركسية عن المجتمع والانسان، والتي تستند الى الحقيقة التي لا جدال فيها عن وحدة المنشأ الأنثروبولوجي والاجتماعي Sociogenesis، تنظر الى الهوية الاجتماعية للطبيعة البشرية على أنها نتاج حتمية اجتماعية تاريخية ونتاج التأثير التكويني للعمل المُشترك والأكثر تعقيداً للمجموعات البشرية، التي لا تزال بدائية في منشأها. ظهر الانسان، مع تشكل المُجتمع، وحدثت خلال هذه العملية تحولاتٍ عميقة في قدارته المعرفية وامكاناته الادراكية وتفكيره وخصائصه الغريزية والعاطفية. لا يمكن أن يكون هناك شك في أن المجموعة الاجتماعية، والجماعة، وليس الفرد، هي الوحدة الأساسية للعملية التطورية للانسان. تشكلت الجماعة تحت ضرورة العمل المشترك في انتاج الطعام، وجمع سُبل العيش من أجل ادامة النسل. من المنطقي أن نفترض أنه في ظل هذه الظروف، خضعت الجوانب التنظيمية والغريزية لنشاط الانسان لتغيراتٍ انعكست في ظهور احتياجاتٍ بشريةٍ على وجه التحديد- التواصل، العلاقات الدافئة، الحنان وما الى ذلك.
طوّر علماء النفس السوفييت-في الحقيقة في وقتٍ مُبكر جداً من نشوء علم النفس-، مُنطلقين من الفرضية الماركسية بأن الطبيعة الانسانية هي نتاج التاريخ، فكرة التحددية الحتمية الاجتماعية-التاريخية لدوافع الانسان واحتياجاته، وافترضوا وجود حاجة انسانية للتواصل. "تطلّلب تطور العمل تماسكاً أوثق. وأدت الحاجة الى التعاون الى الحاجة الى تواصلٍ أكثر حميميةً، وأنتجت الحاجة الى التواصل الحاجة الى الكلام كوسيلةٍ له".(7)
في تأكيده التوجه الاجتماعي لبواعث الانسان، يُفسر ماسلو، على عكس فرويد، أفعال الانسان العدوانية وقسوته، بالظروف المُعادية للانسان التي يعيش فيها الأفراد، وبجوانب مُحددة من علاقاتهم الاجتماعية والى بعض التقاليد الاجتماعية. قاد اهتمامه بعلم النفس الأنثروبولوجي الى دراسة قبيلة بلاكفوت الشمالية الهندية Northern Blackfoot Indian Tribe (سكان أمريكا الأصليين م. أ). وجدهم شعباً فخوراً وقوياً، ولكنه ودود للغاية وليس عدوانياً، وهي نفس السمات التي تُظهرها قبيلة اريبيش في بابوا غينيا. يستنتج ماسلو من هذه الملاحظات وما شابهها أن التدمير والعدوان يتحددان الى حدٍّ كبير بالظروف الاجتماعية المُحددة التي يعيش الناس في ظلها.
لكن ماسلو لا يسأل عن العوامل المعينة التي تُحدد في النهاية هيمنة مجموعة من السمات الشخصية على أُخرى في مجموعةٍ مُعينةٍ من الناس. انه افتراضٌ معقول بأنه يمكن ايجاد هذه العوامل في أشكالٍ اجتماعيةٍ مُختلفة من الممارسة، اي السمات المُحددة للأنشطة السائدة التي يشارك فيها المجتمع، لأن الأنشطة المختلفة تفرض متطلبات مختلفة على النفسية الانسانية.
قام باري وتشايلد وباكون (8) بتجميع بعض البيانات المثيرة للاهتمام التي تبين أنه يتم تعليم الشباب، في المجتمعات التي تعمل في الزراعة والرعي، الطاعة والشعور بالمسؤولية والسمات التي تُعتبر ذات قيمة اجتماعية وتشجيعها عند البالغين، بينما في المجتمعات التي تعتمد سُبل عيشهم على الصيد والجمع، يتم تشجيع سمات الاعماد على الذات، والحاجة نحو الانجاز المتميز، وما الى ذلك. من الواضح أن القبيلة المُهددة باستمرار بخطر الغزو والابادة والتي يحصل أفرادها على طعامهم عن طريق الصيد في أقسى الظروف يجب أن تُعلم صغارها بأن يكونوا عدوانيين اذا أرادت القبيلة أن تبقى على قيد الحياة. ولكن في ظل هذه الظروف، فان العدوانية ليست هدفاً بحد ذاتها، بل هي وسيلة يتم تعليمها لضمان استمرار الوجود.
هناك رأيان مُتعارضان في علم النفس الأجنبي، بشأن القوى المُحركة للسلوك الانساني. يُقدم الأول نموذجاً مُستتباً لكيفية عمل الفرد. هذا النموذج هو قاسم مُشترك للنظريتين الفرويدية والسلوكية الجديدة، نظريتين تبدوان مُختلفتين عن بعضهما للوهلة الأولى. يرى النموذج الذي تُقدمه المدرسة الثانية، الفرد على انه متطورٌ باستمرار باتجاه أكثر كمالاً. ينتمي ماسلو الى هذه المجموعة الثانية. انه يعد من بين الاحتياجات الأساسية للانسان دوافعه الفسيولوجية، والحاجة الى الأمان والحماية والحب والاحترام وتحقيق الذات. يُعرّف ماسلو الدافع الى تحقيق الذات كالتالي: "يجب على الانسان أن يُصبح ما يمكن أن يصير عليه. يمكننا أن نُسمي هذه الحاجة تحقيق الذات"(9). يُظهر ماسلو، من خلال تقديمه للحاجة الى تحقيق الذات، أنه لا يمكن مواجهة الحاجات بالقدرات. كتب يقول: "اعتقد، أن أية موهبة وأية قدرة هي ايضاً دافع وحاجة وباعث"(10).
وفقاً لماسلو، يُنتج عدم تلبية الاحتياجات الرئيسية أمراض نقص: العُصاب والذهان. يتم بناء ما بعد الدافع MetaMotivation في المستوى الذي يتجاوز الدوافع الأساسية: هذا هو المستوى الذي توجد فيه الحاجة الى الحقيقة والخير والجمال والعدالة والنظام. ويرى ماسلو أن هذه الاحتياجات مُرتبطة بالبنية الأساسية للكائن البشري ولها جذورٌ وراثية. يجب أن تتحقق للفرد، وحتى أن تُوجد في المستوى البيولوجي. يدحض ماسلو، بنظريته في تحقيق الذات، الفكرة التي تنبع من نظرية الدوافع المُستتبة، والتي تقول بأن هدف كل السلوك البشري هو القضاء على، أو تقليل التوتر-النشاطية الجديدة م. أ- واستعادة حالة التوازن والاستتتباب السابقة.
يتم الكشف عن عدم معقولية مثل هذا المفهوم بشكلٍ واضحٍ اذا درسنا الانسان كذاتٍ للنشاط الابداعي. يطرح الانسان لنفسه باستمرار، ككائنٍ خلّاق، أهدافاً جديدةً وأكثر تعقيداً، مما يؤدي الى ، مما يؤدي به الى حالةٍ من التوتر. ان ظهور اهتمامات واستعدادات ورغبات جديدة، وهي ظاهرة مُميزة للانسان، تتعارض مع فكرة الاستتباب والآلية الشاملة لزوال التوتر. يمكننا أن نُشير الى أن البورت، في تحليله لشخصيات مشهورة من العلماء والفنانين والمستكشفين، وجد بأن البحث عن التوتر المستمر كان سمةً مُميزةً لهم. توصل ايدوسون الى استنتاجٍ مُماثل في دراسته لشخصيات علماء الكيمياء، انه يكتب: "من الواضح أنه لا يمكن تعريف سعادتهم بأنها غياب للتوتر، وبأنها رضىً مستمر. على العكس من ذلك، انهم متوترين جداً وقلقين بشأن عملهم وكثيراً ما ينفد صبرهم . ان لديهم العديد من خيبات الأمل، لكن عدم ارتياحهم لا يُخفي فكرتهم العامة بأن ما يفعلونه مُمتع ولا يمكن لأي عملٍ آخر أن ينافسه في هذا الصدد"(11).
ومع ذلك، فان البحث عن التوتر هو تفسير غير كافٍ تماماً للسلوك الانساني مثله مثل (تقليل التوتر). ليس كلاهما الا جوانب خاصة من الجانب الديناميكي والحيوي للنشاط الانساني المُقتطع من السياق. يمكن وصف هذا السياق، بدوره، كقبولٍ شخصي للفرد وقيامه المستقل بمهامٍ جديدة مُحددة اجتماعياً وأكثر تعقيداً، ونشوء دوافع جديدة، وتشكيل لمصالح أوسع نطاقاً تُنتج شعوراً خاصاً بالتحفيز العاطفي، والتطلعات، جنباً الى جنب مع مشاعر الشك والسرور المُصاحب للنجاح. وبالمِثل، فان مفهوم تحقيق الذات يصف تطور شخصية الانسان بطريقةٍ شكلية. انه يتجاهل فعلياً التحديد الاجتماعي لعملية تحقيق الذات من خلال الشروط التاريخية الخاصة لوجود الفرد داخل المجتمع. ولكن، ولكن هذه الشروط تُحدد اتجاه ومحتوى عملية تحقيق الذات التي تأخذ مكانها. يمكن للأسس الطبيعية للدافع نحو تحقيق الذات أن تتطور بالتناسب مع شخصية الفرد الذي يشعر بحاجة الى تحقيقٍ كامل لكل قدراته وامكاناته وطاقاته، فقط، في سياق ظروف اجتماعية-تاريخية معينة وتحت تأثير الاحتياجات الاجتماعية كما يتجلى في عملية التعليم Education. ومع ذلك، يُنظر الى تحقيق الذات، في عمل ماسلو، على أنه نوعٌ من النمو الداخلي، بغض النظر عن التأثيرات المُحيطة. على الرغم من أن ماسلو يرفض مفهوم التحليل النفسي للدافع، الا أن القُوى المحركة للسلوك الانساني التي يفترضها تمتلك العديد من الخصائص نفسها التي نسبها فرويد الى الهو (id): انها لاواعية وتُحدد أفعال الانسان بشكل مستقل عن ارادته.
في تطويره لفكرة هرَمية الدوافع الانسانية، طوّر ماسلو فرضيةً مثيرةً للجدل للغاية مفادها أن الحاجة الى تحقيق الذات تظهر في الفرد فقط عندما يتم تلبية جميع الاحتياجات الأُخرى. ولكن يكفي أن نُشير الى الأمثلة العديدة من الأشخاص- الثوريين في السياسة والعلوم والفنون- الذين كانوا مبدعين على الرغم من الحرمان المستمر والعوز والمعاناة الأخلاقية، من أجل أن نرى ضعف فكرة ماسلو حول التسلسل الهرمي لماسلو للاحتياجات المتحققة على التوالي.
مُستشعراً ضعف ووهن اطروحته، حاول ماسلو في أعماله اللاحقة دعم نقاط ضعفه بالحجة التالية. اذا تمت، في الماضي، في مرحلة طفولته المبكرة، تلبية حاجات السلامة والحب والاحترام للفرد بالكامل، فسيكون قد اكتسب القدرة على الخضوع المستمر للحرمان المستمر لهذه الحاجات، ويحقق ذاته بالتالي، على الرغم من الظروف غير المواتية. تؤكد ملاحظاتنا اليومية وجهة نظر ماسلو هذه، ولكن لا يعني ذلك بأي حالٍ من الأحوال أن الدافع لتحقيق الذات ينشَط تلقائياً نتيجةً للاحتياجات الموجودة أسفل التسلسل الهَرَمي التي تمت تلبيتها. يتجاهل مثل هذا التفسير الظرف القائل بأن مواقف الثقة والاحترام تجاه الطفل لا تفي فقط بالاحتياجات المتوافقة معها في هذا الصدد: فهي أيضاً تشجعه على المشاركة النشطة، والتي يتم من خلالعا تشكيل الحاجة الى تحقيق الذات ويتعلم الرغبة في تنمية قُدراته. ان الموقف الدافئ المُشجع له من جانب من حوله هو الجوهر الذي يُطور منه الطفل موقفاً ايجابياً تجاه نفسه وثقةً بالنفس، والمبادرة ويُزيل الاثار التي تُعرضه للخوف من الرفض والادانة. لكن يتحدد تركيز مبادرة الفرد ومحتوى تحقيقه الذاتي من خلال الموقع الطبقي داخل العلاقات الاجتماعية والتي تُعطي أنواع الأنشطة التي يُشارك فيها الرفد شكلاً ملموساً.
النظرة التاريخية المادية لعقل الانسان، تعتبر أن حاجات الانسان والتي تدفعه الى النشاط المُنتج الخلّاق، تتطور هي نفسها (حاجاته) بوسائل ذلك النشاط.
يقول ماركس وانجلز: "ان تلبية الحاجات الأولى (عمل التلبية وأداة التلبية التي تم اكتسابها) تدفع الى حاجاتٍ جديدة- وهذا الانتاج لحاجاتٍ جديدة هو الفعل التاريخي الأول"(12).
الحاجات الجديدة تتشكل، والحاجات القديمة تتحول من خلال أشكال النشاط السائدة المُتغيرة باستمرار مع تطور الفرد في سياق ظروف اجتماعية تاريخية معينة. ان المواقف المنهجية لماسلو هي النقيض المُباشر للمقاربة التاريخية النشوئية Historicogenetic لمسألة الحاجات. تفترض هذه النظرية احتياجاتٍ ساكنة لا تتغير، والتي تتوافق فقط مع أعم ظروف الوجود الانساني. لا يوجد أي اشارة في أعمال ماسلو لتطورٍ، سواءاً نمائي أو نشوئيٍ مُستمر للدوافع الفردية. ولكن، لا يمكن تصور التحقيق الذاتي، اي تطوير قدرات الانسان، بدون اغناء وتعزيز دوافع الفرد وحاجاته. يشير التحقيق الذاتي الى ظهور أماني ورغبات ومصالح جديدة للفرد، وازدهار علاقة عاطفية بين الفرد والعالم، وظهور قوىً دافعة جديدة في نشاط الانسان.
تُنكر نظرية ماسلو بشكلٍ أساسي امكانية وضرورة التشكّل الهادف للاحتياجات الانسانية. يخدم مُخطط ماسلو للتحقيق المتوالي للاحتياجات، او اشتغال الحاجات (العُليا) كنتيجة لتلبية الحاجات الدُنيا، يخدم كأساس لرسم استنتاج اجتماعي رجعي، وهو ان الحاجة الى الاحترام والتحقيق الذاتي يمكن أن تعمل فقط عند اولئك الذين يَشغَلون مواقع مُرتفعةً على السلّم المهني ويتمتعون بمكانة اجتماعية عالية الى حدٍّ ما.
خضع الاستدلال على وجود صلة مُباشرة بين التسلسل الهرمي الاجتماعي وبنية الدوافع الانسانية الى فحصٍ دقيق من قِبَل الطبيب النفسي الهولندي هوزينغا (13). خَلُصَ، من نتائج دراسة أُجريت على الصعيد المحلي، الى أن جميع الاحتياجات التي ذكرها ماسلو تتوزع على مُمثلي جميع الطبقات الاجتماعية والمجموعات المهنية (تم اجراء الدارسة بين الأطباء والمهندسين والمحامين والمعلمين والصحفيين ورجال الشرطة وموظفي القطارات وأصحاب المتاجر وسُعاة البريد والمزارعين ومال الى ذلك). علاوةً على ذلك، وَجَد انه كلما انخفض موقع الفرد على السلّم المهني، كلما كانت الاحتياجات الأساسية (بما في ذلك الحاجة الى تحقيق الذات) أقوى، وأن هذا الاختلاف كان أكبر كلما انخفض موقع الحاجة في تسلسل ماسلو الهرمي. وبعبارةٍ أُخرى، كانت الحاجة الى تحقيق الذات، لدى الأشخاص في المستويات الدُنيا في التسلسل الهرمي المهني أقوى مما كانت عليه عند الأشخاص القريبين من القمة...****.
في تحليله لشعور الحب، يُعبر ماسلو عن رأي يتعارض مع أطروحته بأن الاحتياجات العُليا لا تتحقق الا بعد تلبية الحاجات الدنيا. يستتبع منطقياً من هذا الرأي أن الحب الروحي يحدث فقط في بشرط أن يتم ارضاء الدوافع الجنسية أولاً. لكن ماسلو يؤكد أن الحب في المستوى العلوي للحاجات يجعل الحاجات الدنيا واشباعها أقل أهمية. في هذه الحالة، من المعقول أن نؤكد أن تشكيل أي احتياجات عليا، يُخضع، وينظم ويُلغي قيمة تلبية الحاجات الأدنى.
وَصَفَ ماسلو الشعور بالحب لدى الأشخاص الذين يحققون ذواتهم كمجموعة مُركبة من تجارب الحنان والفرح والسعادة والبهجة في حضور الشخص المحبوب والتواصل معه أو معها، الرغبة في ارضاءه والرغبة في الأُلفة النفسية والرغبة في معرفة عمق وأسرار الشخص المحبوب، وما الى ذلك. وبكلمات ماسلو، يتحقق مبدأ الشيوعية في الأسرة المُحبة: من كلٍّ حسب قدرته الى كلٍ حسب حاجته(15). يتوافق تحليل ماسلو للأشخاص الذين يحققون ذواتهم، أي الأشخاص الذين يتمتعون بصحةٍ كاملةٍ من وجهة نظره، في كثيرٍ من النواحي مع وصف بيير جانيت للأفراد الذين يعملون على مستوىً أعلى من التوتر العقلي.
يرى جانيت أن الشكل السائد للسلوك عند هؤلاء الأشخاص هو أفعالهم الابداعية الخلّاقة. يتم تنسيق هذه الأفعال عندهم مع شخصياتهم ودائماً ما تكون مُتناسبة مع الوضع المُحدد. من أجل تنفيذها بنجاح، يجب أن يكون لدى الفرد تصورٌ واضحٌ وغني للأشياؤ من حوله واحساس واضح بواقعهم. هؤلاء الناس لديهم مقاومة كبيرة للتأثيرات الخارجية والعوامل المُشتتة للانتباه. ان ذكرياتهم غنية ويمكن استثارتها بسهولة. تسود المشاعر الايجابية والشعور بالسعادة عندهم في المجال العاطفي. يشعر الشخص انه هو نفسه الخالق لأفعاله الخاصة ويقودها دائماً الى الكمال.
ولكن ما هي العوامل التكوينية لشخص ماسلو الذي يسعى الى تحقيق الذات؟ في ضوء الوضعية الأنثروبولوجية، يسم ماسلو الانسان صفاتٍ اجتماعية. فمن التخمين العادل أن ماسلو يعتبر القدرة على تحقيق الذات نوعاً من السمة الفطرية لأشخاصٍ مُعينين مستقلين عن الظروف الاجتماعية. وفي الواقع، انه يميل نحو هذا الاستنتاج. يسير منطق محاججته على النحو التالي. بكلماته، في المجتمع الأمريكي المُعاصر، يتم ممارسة أشد أشكال السيطرة المُدمرة للفرد. انها سيطرة على رغابت وأفكار الناس والتي لا يمكن مقارنتها بأي شكلٍ من الأشكال بالقيود الفيزيقية. يكتب: "يبدو أن الحرية الخارجية هي أقل أهميةً من الحرية الداخلية، ومن المحتمل جداً أن تكون التأثيرات مثل تلك التي يُمارسها السناتور مكارثي أخطر على الصحة النفسية من تلك التي مارسها آالكابون Al Capone"(16).
ان خطأ هذا الموقف واضح، يستتبع من وصف ماسلو الأشخاص الذين يُحققون ذاتهم، أنهم هم اولئك الذين يخدمون كروافع لأكثر قوى المُجتمع تقدميةً وصحةً. يُصبح الشكل الفردي المُفترض للقوى الثورية في السياسة والعلوم والفنون، القوة المُحركة للمجتمع. لا يمكن لهؤلاء الأشخاص أن يكونوا معزولين عن المجتمع. بل على العكس، انهم اولئك الذين تكون مجموعاتهم الاجتماعية هي مرجعيتهم. انها المجموعات الاجتماعية التي تتشكل في رحم المجتمع الحالي، والتي تُمثل مجتمع المستقبل. ان قوى الرجعية تنهض ضد هذا المجتمع، الذي تتشكل مُثُلَه وتوضع موضع التنفيذ من قِبَل أكثر الناس تقدميةً في ذلك العصر- الأشخاص الذين يحققون امكانات مجتمعهم لهذه الغاية. ان القوانين الجوهرية التي تحكم تصرفات هؤلاء الأشخاص ليست مُجرد نتاج طبيعتهم الفردية: انهم يشعرون باحتياجات عميقة تهدف الى تحويل مجتمعهم تدريجياً من أجل تمكنه من اكتشاف الميزات والصفات والقدرات الأكثر ثراءاً للانسان. لكن التغيير التدريجي للمجتمع يعني أولاً، وقبل كل شيء، تغيير جذري في العلاقات الاجتماعية، والغاء المُلكية الخاصة لوسائل الانتاج، ووضح حد لاستغلال الانسان من قِبَل الانسان. ان ادراك المصالح الاجتماعية، والنضال من أجل تحويل المجتمع وفقاً لمبادئ التقدم، والمشاركة الأكثر نشاطاً في النضال من أجل تحقيق الأفكار المتقدمة للتطور الاجتماعي هي خصائص للشخص الذي يُنظم ذاته بطريقةٍ مناسبة- ليس الانعزال عن المجتمع والانسحاب داخل الذات، والسعي فقط الى تحقيق الذات والتقدير الرفيع.
وبالتالي، فان اعتقاد ماسلو بأن التغيير النوعي يمكن أن يحدث في المجتمع من خلال اعادة التأهيل العلاجي النفسي لأفرادٍ مُعينين، هو اعتقادٌ طوباوي. اذا قام ماسلو باخبارنا ان المُعالجين النفسيين يمكنهم التعامل مع ملايين الأشخاص سنوياً، فان المجتمع سيتغير. ستنتشر صفات الودّية والكَرَم ستنتشر، وسيؤثر الأشخاص الذين يتمتعون بهذه الصفات على التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ستعكس العلاقات الانسانية الجيدة التي أقاموها فيما بينهم (17).
هذه المفاهيم طوباوية للغاية. لا يمكن لأي جهدٍ من جانب الأطباء النفسيين أن يقضي على العلاقات التناحرية والعدائية بين الناس التي تولدها المنافسة القاسية في ظل ظروف الانتاج الرأسمالي. وحده القضاء المادي على العلاقات الاجتماعية المتناحرة والمعادية للانسان والقائمة على استغلال الانسان للانسان، والنضال المُشترك للطبقات الخاضعة للاستغلال ضد هذه العلاقات فقط هو الذي يمكن أن يُهيئ الظروف اللازمة لتحقيق وتنمية جميع قُدرات الانسان وامكاناته ومواهبه بشكلٍ كامل.
يعترف ماسلو، في أعماله الأخيرة، بأن اقتراحه للتحويل التدريجي للمجتمع عن طريق العلاج النفسي، كان غير واقعياً، على الرغم من أن الأسباب الحقيقية لعدم فاعليته كانت لا تزال غامضةً بالنسبة له. كتب: "لقد رفضت منذ فترةٍ طويلة امكانية تحسين العالم او الجنس البشري بأكمله عن طريق العلاج النفسي الفردي". "هذا غير قابلٍ للتحقيق. من المستحيل، في الواقع، ولأسباب الأعداد الكبيرة فقط. لقد انتقلت فيما بعد الى التعليم كوسيلة لتحقيق أهدافي الطوباوية، وهو التعليم الذي يجب أن يصل اليه النوع الانساني بأكمله"(18). ومع ذلك، بعد بعض التفكير يرفض ماسلو ايضاً التعليم كوسيلة لتحسين العالم. يُعلق أمله، في التحليل النهائي، على "عمل الانسان، حيث يجب على الجميع أن يعمل"(19).
يجب أن نتفق مع ماسلو عندما يُصور أن الوسيلة الرئيسية لتطوير جميع قُدرات وامكانيات الفرد هي العمل- العمل الابداعي الذي يشرك الشخص فيه- وأنه في العمل تتحقق الذات الانسانية، وهذا العمل يضمن الصحة النفسية للفرد وهو العلاج النفسي له. ومع ذلك، من المستحيل أن ندرس، كما يفعل ماسلو، دور العمل في تشكيل الشخصية، العمل المُجرّد، متجاهلين الظروف الاجتماعية المُحددة للعمل البشري والنظام المحدد للقيم والأهداف الاجتماعية التي يعمل الانسان من أجلها. ما الذي يمكن أن يكون أكثر اشمئزازاً من صورة الانسان الذي يعمل بشكلٍ أناني على خلق وسائل الدمار الشامل؟ فقط العمل الذي يُعزز التقدم الاجتماعي ويهدف في النهاية الى تعزيز رفاهية البشرية جمعاء، العمل الذي يتم في ظل الظرةف الاجتماعية التي تجعل استغلال الانسان للانسان مُستحيلاً ويضمن لكل فرد أن يصل الى قِمَم الثقافة التي خلقتها الانسانية، هذا هو العمل الذي يخدم بمثابة أساس للتطور الشامل للفرد، والذي سيضمن له بعد ذلك توجهه التقدمي وقيمه الانسانية والازدهار الكامل لقدراته.
في حين يعتقد ماسلو أن العمل الابداعي المتوافق مع طبيعة الفرد يجعل الشخص أفضل وبالتالي يمكن اعتباره وسيلةً ثوريةً لتغيير العالم، يرفض ضرورة النضال الثوري من قِبَل الطبقات المُستغلة من أجل التحويل الجذري للعلاقات الاجتماعية الرأسمالية كشرطٍ لا غنىً عنه لامكانية العمل الابداعي من قِبَل كل فرد وتشكيل شخصيةً متناغمة.
ما قيل، بالتأكيد، لا يعني أن ماسلو لا يرى ضرورة التغيير الجذري في المجتمع الرأسمالي. يُحاول في كتابه (Eupsychian Managment) 1966، وضع مبادئ لتنظيم مجتمعه الطوباوي، وهو مجتمع كامل، يتكون من أشخاصٍ حققوا ذاتهم. هذا المجتمع، وفقاً لماسلو، توحده الأهداف الانسانية المشتركة للأفراد الذين يشعرون بالتطابق مع البشرية جمعاء. تتعارض قوانين هذا المجتمع مع قوانين الغاب، ولا ينقسم أفراد المجتمع-اذا استخدمنا تعبير ماسلو- الى مطارق وسندان، ذئاب وأغنام. يتم الغاء هذا علاقات السيد-العبد في هذا المجتمع، والسلطوية فيه معدومة. المجتمع مُنظم بحيث يكون السعي وراء المصلحة الفردية مصلحةً للمجتمع بأكمله. يرى ماسلو نموذجاً أولياً لهذا المجتمع في قبيلة بلاكفوت الهندية (السكان الأمريكيين الأصليين-م. أ). ويُعتبر الشخص الذي يُعطي أكبر قدر من ممتكلاته لأفراد القبيلة الاخرين في العيد السنوي، هو الشخص الأغنى والأكثر تكريماً. ومع ذلك، لا يستطيع ماسلو، اثناء تفكيره بمجتمعٍ من المساواة والأخوة الشاملة، رؤية أي طرق علمية لانشاء مثل هذا التنظيم الاجتماعي. انه مُقتنع، منطلقاً من وجهة نظر انثروبولوجية، بأن هذا المجتمع سيظهر تلقائياً اذا تم تجميع ألف شخصٍ قاموا بتحقيق ذاتهم، في جزيرةً معزولة.
ان آراء ماسلو حول الشخصية، تضعه في خانة التقليد الشخصاني في علم النفس، الذي يرى مُمثلوه الشخصية ككيان مستقل موجود جنباً الى جنب مع المجتمع. وهو بذلك يُنكر الدور الحاسم للعلاقات الاجتماعية في تطور الشخصية. بعد اختيار الأشخاص الناضجين الذين يتمتعون بصحةً نفسيةٍ كاملة كموضوع لدراسته، يدحض ماسلو بشكلٍ سليم وجهة نظر التحليل النفسي الفرويدية حول العداء البدائي بين المجتمع والفرد والصراع بين الغرائز البشرية والمطالب الاجتماعية. يبدو الانسان، في دراسات ماسلو، كأنه منجذب بطبيعته الى المجتمع، والذي يمتلك حاجةً عاطفية تجاهه. ان تفسيره الانسانوي للشخصية يميز بشكلٍ ايجابي أفكاره عن الأفكار الفرويدية الخاطئة. الفرد السليم نفسياً، هو قبل كل شيء، شخصية صحية اجتماعياً في أعمال ماسلو، ويكون اساس التحقيق الذاتي للفرد ولتنمية جميع قدارته ومواهبه، هو اشباع الاحتياجات الاجتماعية. يصف ماسلو ما يُعرّف الشخصيات المُحققة لذاتها بأنها لا تتميز بالتطلعات الفردية الضيقة، ولكن بالتوجه الاجتماعي الواسع.
وعلى الرغم من ذلك، يُقدم ماسلو لهذا التوجه (الاجتماعي-م. أ) تفسيراً خاطئاً تماماً. ويرى أنه تحقيق نوع من الدافع الداخلي المتجذر في الطبيعة الانثروبولوجية للانسان. اهمال الدور الحاسم للتطور الاجتماعي في تشكيل الانسان، وعلى وجه الخصوص غرائزه، ونهجه غير التاريخي لدراسة احتياجات الفرد، وتجاهل الحتمية الاجتماعية التاريخية للشخصية- كل هذه العوامل تمنع ماسلو من تجاوز وصف الأوجه المتنوعة للأشخاص الذين يُحققون ذواتهم، من أجل انشاء نظرية علمية حقيقية عن الشخصية.
تتمثل العيوب المنهجية الرئيسية في نظرية ماسلو في مفهومه الخاطئ لجوهر القوى المُحركة للتطور الاجتماعي وتفسيره الخاطئ تماماً للعلاقات المُتبادلة بين الفرد والمجتمع، والدور الحقيقي للفرد في حياة المجتمع، والمهام التي تواجه الناس على طريق التقدم الاجتماعي وهم يكافحون من أجل تغيير جميع أشكال الحياة الاجتماعية واعادة تنظيم المجتمع. لا تزال نظرية ماسلو، مثالاً آخر على خطأ النزعة الأنثروبولوجية في معالجة الطبيعة الاجتماعية للفرد وعدم صحة اي تصوير للفرد يتجاهل الظروف التاريخية الموضوعية للتغير الاجتماعي، والذي يتجاهل دورها الأساسي في تشكيل الشخصية و(في تحقيق الذات).

* لودميلا ايفانوفا انتسيفيروفا: 1924-2013 عالمة النفس الماركسية المتخصصة في البحث المنهجي ونظرية وتاريخ علم النفس وعلم النفس النمائي. عملت في معهد السيكولوجيا التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية، ترأست قسم المسائل الفلسفية للسيكولوجيا 1974-1982، وقسم الشخصية في السيكولوجيا 1982-1991.

** اختبار رورشاخ: هو أحد تكنيكات الاختبارات الاسقاطية. في هذه الحالة، لا ينطوي الاسقاط على وسيلة للدفاع النفسي فحسب، بل يعني ايضاً ان عمليات الادراك مشروطة باثار باثار تذكارية من الاحساسات السابقة. سيُغير المريض، او الخاضع للاختبار الوضع حسياً حسب شحصيته (سيفسر رسماً ما وفقاً لسمات شخصيته)... ابتكر هيرمان رورشاخ أكثر الاختبارات الاسقاطية انتشاراً. اختار أكثر عشرة نِقاط مُحَفزة من الحبر امتيازاً قد تُثير الشخص الخاضع للاختبار، تُعرض عليه واحدةً تلو الأخرى وكان على الخاضع للاختبار أن يقول ما الذي تبدو عليه النقاط او بقعة الحبر وبماذا تُذكره. ينظر العديد من علماء النفس الى اختبارات الاسقاط باعتبارها اختبارات الشخصية الأكثر قيمةً لانها "تصور كل شخصية الفرد وتسمح بفحص معالمه العاطفية واستجاباته العصبية، الخ" ويقول علماء النفس بأن الاختبارات الاسقاطية جيدة لانةها تُسهل اظهار عناصر العالم الداخلي للفرد الخاضع للاختبار، والذي لا يستطيع ان يُعبر عنها غالباً بطريقة مباشرة، ولانها تسمح للمُجرب بتوجيه نفسه داخل شبكة الخواص المعقدة للشخصية والتي يصعب تقييمها. ولكن هنالك عدد من علماء النفس في الغرب يبالغون في أهمية هذه الاختبارات، بما هي اختبارات ذات طبيعة محدودة، لان هنالك خطر، بأن يقع عالم النفس الذي يُمارس التجريب في التفسير الذاتي بأن يُدخل تفسيراته الشخصية عند تفسير اجابة المريض. تفتقر اختبارات رورشاخ الى الموثوقية العلمية في كثير من الأحيان، فقد يأتي دارسين مُختلفين بنتائج مُختلفة لنفس الشخصية.
Psychological Dictionary, Progress Publishers, 1987


*** أبراهام ماسلو: عالم نفس أمريكي (1908-1970)، هو أحد رواد تيار علم النفس الانساني البرجوازي، والذي يتخذ (الشخصية) كموضوعه الأساسي. يعتبر هذا التيار ان (الشخصية) هي نظام ديناميكي مُتكامل مع امكانيات مفتوحة لـ(التحقيق الذاتي) المُميزة للانسان فقط. يضع علم النفس الانساني نفسه كقوة ثالثة في مواجهة التيارين السلوكي والفرويدي التي ركزت بشكل رئيسي على اعتمادية الشخصية على خبرتها السابقة (الماضي). يؤكد علم النفس الانساني أن سلوك الفرد يتحدد بحاضره ومُستقبله. وتكمن السمة الأساسية للشخصية تبعاً لهذا الاتجاه بأنه يسعى لتحقيق امكاناته بِحُرية (غوردون البورت)، وخصوصاً تلك الامكانات الخلاقة (ابراهام ماسلو) معززاً الثقة بالنفس ومحققاً الذات المثالية (كارل روجرز). الدوافع، هي التي تُعين الجزء الرئيسي في هذه العملية، والتي لا تضمن نمو سلوك غير امتثالي، بل نمو عنصر بنّاء من الذاتية الانسانية والتي يتم تحفيز سلامتها وكثافة عاطفيتها من خلال شكل خاص من العلاج النفسي أطلق عليه روجرز اسم العلاج النفسي (المتمحور حول العميل) Client-Centered، والذي يدخل فيه الطبيب في علاقة شحصية وثيقة مع المريض ولا يعتبره مريضاً ولكن كعميل يتحمل مسؤولية حل مشاكله الخاصة. دور الطبيب هو دور المستشار الذي يخلق جواً عاطفياً دافئاً يُسهل على العميل اعادة تنظيم نفسه، عالمه الداخلي الهائل، وتحقيق تكامل شخصيته والتقاط معنى وجوده.يتجاهل علم النفس الانساني مفاهيم الخصوصية الانسانية في الشخصية، ويعتور استعراض هذا الاتجاه لمفهوم الشخصية أُحادية الجانب والمحدودية لانه لا يعترف بأن الشخصية تتشكل بعوامل اجتماعية-تاريخية. يُسمى علم النفس الانساني في بعض الأحيان علم النفس الوجودي.
Psychological Dictionary, Progress Publishers, 1987

**** قمت باختصار ترجمة المقالة من مصدرها الأصلي من صفحة 30-33، بسبب انها وصف طويل للصفات التي يُعطيها ماسلو للشخصية التي تريد أن تُحقق ذاتها، وأعتقد انها لن تكون مُهمة بالنسبة للباحث غير المتخصص.

1- Maslow, A. H. Motivation and Personality. New York: Harper, 1954, P234
2- Le Vine, R. A. Culture, Personality and Socialization. An Evolutionary View. In D. A. Goshlin (Ed.), Handbook of Socialization theory and research. Chicago: Rand McNally, 1969. Chapt. 8
3- Ansbacher, H., And Ansbacher, R. A. (Eds) the Individual Psychology of Alfred Adler. A Systematic Presentation in Selections from His Writings. New York: Basic Books, 1965, P134.
4- Ibid. P154
5- Sullivan, H. The Interpersonal Theory of Psychatry. New York: W. W. Norton, 1953, P140
6- Ibid.
7- Sergei Rubinstein Osnovy Obshechy psikhologii. Moscow, 1940
8- Barry, H. H., Child, I. L., and Bacon, M. K. Relation of Child training to Subsistence Economy. Amer. Anthropol., 1959, 61.
9- Maslow, A. H. Theory of Human Motivation. Psychol. Rev., 1943, P382
10- Maslow, A. H The need to know and Fear of Knowing. J. Gen. Psychol., 1963, P113
11- Eiduson, B. T. Scientists: their psychological World. New York. Eiduson. B. T. and Buhler, Ch. Basic Theoretical Concepts of Humanistic Psychology. Amer. Psychol, 1971.
12- الايديولوجيا الألمانية، كارل ماركس وفريدريك انجلز، ترجمة فؤاد أيّوب، دار الفارابي، ص47.
13- Huizinga, G. Maslow’s Need Hierarchy in the Work Situation. Groningen: Wolters, Noordhoff, 1970.
15- Maslow, A. H. Motivation and Personality. New York: Harper, 1954, P250
16- Maslow, A. H. Motivation and Personality. New York: Harper, 1954, P200
17- Maslow, A. H. Motivation and Personality. New York: Harper, 1954, P323-324
18- Maslow, A. H. Eupsychian Management. Homewood: R. D. Irwin and Dorsey Press, 1965, P1
19- Maslow, A. H. Eupsychian Management. Homewood: R. D. Irwin and Dorsey Press, 1965, P2

عُرِضَ هذا المقال في Soviet Psychology Journal، العدد 12 عام 1974 بعنوان
The Psychology of the Self-Actualizing Personality in the Works of Abraham Maslow
من صفحة 20-39.