قضايا الخلاف الفكري بين التنظيمات الشيوعية المصرية


محمد مدحت مصطفى
2020 / 2 / 28 - 09:12     

قضايا الخلاف الفكري
تعرفنا من الفصول السابقة: أن هناك ثلاث حلقات ماركسية رئيسية في الموجه الثانية؛ من تاريخ المنظمات الشيوعية المصرية. وأن حلقة واحدة فقط من هذه الحلقات الثلاث هى التي تعرضت للإنقسام المتعدد. لذلك عند دراسة قضايا الخلاف الفكري: فإنه من الطبيعي أن نبدأ بالتعرف على موقف هذه الحلقات الثلاث من قضايا الخلاف الفكرى.

الموقف من القضية الفلسطينية
كان موقف جميع التنظيمات الشيوعية المصرية معارضاً للحركة الصهيونية. وصدر كتاب صادق سعد 1947م: بعنوان فلسطين في مخالب الإستعمار. وشكلت اسكرا جمعية مصرية لمناهضة الصهيونية. وعندما وافقت الأمم المتحدة في أكتوبر 1947م على قرار التقسيم ـ بناء على اقتراح جروميكو مندوب الاتحاد السوفيتي ـ وافقت علية جميع التنظيمات الشيوعية بما فيها تنظيمى حدتو والراية. ما عدا تنظيم طليعة العمال، الذي رفضه تماماً. وظل ذلك الرفض حتى شهر إبريل 1948م: حيث وافقت عليه؛ بعد أن وقفت منعزلة وسط جميع الأحزاب الشيوعية المصرية والعربية والعالمية.

الموقف من حريق القاهرة
جاء حريق القاهرة بعد الأحداث الدامية في الإسماعيلية؛ عندما تصدي رجال الشرطة المصرية لجنود الإحتلال البريطانى فى يوم 25 يناير 1952م. بعدها كان حريق القاهرة والدمار الكبير الذي حدث. وتشير جميع الأحداث إلى أن الحريق كان مُدبراً. لكن وإلى الآن لم تظهر نتائج محددة تشير إلى الفاعل الحقيقى. والغريب أن الحزب الشيوعي المصري: أصدر بياناً مساء يوم الحريق بعنوان نحن نتهم. جاء فيه أن الحزب يُحمل الوفد والإخوان والإستعمار مسئولية الحريق. وكيف يكون الوفد مُدبراً للحريق؛ رغم أنه كان أحد ضحاياه. والحجة أن مصطفى النحاس قدم استقالته ليلة الحريق؛ وأن الملك رفضها. والدليل القاطع أن الوفد أعلن الأحكام العرفية في أعقابها؛ وبعدها في 27 يناير أقال الملك الوزارة الوفدية. أما باقي الأحزاب فقد أدانت الحريق والتخريب، وطالبت بضرورة التحقيق العاجل لمعرفة المتسببين.

الموقف من حركة 23 يوليو 1952م
بعد ساعات من الإعلان عن الإنقلاب العسكري في 23 يوليو 1952م: أعلنت منظمة حدتو التأييد الكامل لها. وبذلك تكون أسبق التكوينات الثلاث في الإعتراف بالإنقلاب. وهذا من الطبيعي: إذا ما علمنا أن حدتو كانت على علم بالانقلاب؛ وشارك أعضاء منها في قيادته. حددت حدتو موقفها من الإنقلاب بأنه ثورة برجوازية ديمقراطية. وذلك حتى قبل أن يستخدم ضباط القيادة كلمة ثورة؛ حيث كانوا يفضلون عليها حركة الجيش المباركة.
أما منظمة الراية فقد اعتبرتها ثورة بورجوازية الكمبرادور؛ التي جاءت لإيقاف الحركة الشعبية المصرية؛ التي بدأت في التجذر منذ 1946م. خاصة بعد قيام حزب الوفد بإلغاء المعاهدة المصرية البريطانية 1936م؛ وتصاعد عمليات المقاومة المسلحة ضد معسكرات الإنجليز في منطقة القناة 1950- 1951م؛ ولذلك وصفتها المنظمة بأنها: فاشية عسكرية.
أما منظمة طليعة العمال فقد أصدرت بيانا ترحب فيه بقيام حركة الجيش المُباركة؛ وترحب بطرد الملك وإقامة نظام جمهوري. ولكنها عبرت عن خشيتها من أن تتحول الحركة إلى ديكتاتورية عسكرية؛ تسلب الحريات الديمقراطية وتقمع الشعب.

الموقف من أحداث كفر الدوار أغسطس 1952م
جاءت أحداث كفر الدوار الدامية تجاه العمال ـ الذين تظاهروا داخل الشركة منادين بمطالب عمالية وهاتفين بحياة الثورة ومحمد نجيب ـ صادمة بشكل كبير لكل القوى الوطنية. خاصة بعد المحاكمة الشكلية السريعة؛ والحكم على محمد خميس والبقري بالإعدام؛ وسرعة تنفيذ الحكم بسجن الحضرة.
أدان كل من تنظيم: الراية وطليعة العمال الاعتداء على العمال؛ ثم أدان أحكام الإعدام التي صدرت ضد محمد خميس والبقري. أما تنظيم حدتو: فلم يقم بإدانة الإعتداء على العمال؛ بل عمل على حث العمال لإنهاء الإضراب؛ وقام بهذه الدعوة بمكبرات الصوت كل من عبد المنعم الغزالي - أحمد طه - شحاته عبد الحليم. ولكنه أدان بعد ذلك إعدام كل من خميس والبقري. وبشكل عام: كان هذا الحادث نقطة تحول حاسمة من التنظيمات الشيوعية؛ التي أيدت الثورة عند إعلانها؛ إلى معارضتها وإن اختلفت درجات المعارضة تلك.

الموقف من أحداث 1954م
وصفت منظمة الراية أحداث 1954م: بأنها إنقلاب داخل الإنقلاب مُعاد للديمقراطية، وترسيخ للديكتاتورية الفردية. الغريب هنا أن منظمتى حدتو والراية: سعتا سعياً حثيثاً لضم الإخوان المسلمين إلى الحركة الداعمة للديمقراطية؛ على اعتبار انها كانت شريكة أيضاً في الثورة. إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً؛ لأن حركة الإخوان كانت ماتزال على وئام مع ضباط الثورة. بينما توجهت منظمة طليعة العمال إلى حزب الوفد؛ وبالأخص الطليعة الوفدية؛ وحققت نجاحا ملحوظا في هذا الاتجاه: اتجاه دعم الديمقراطية

الموقف من إتفاقية الجلاء 1954م
اعترض تنظيم طليعة العمال على الاتفاقية؛ لوجود البند الذي يسمح للإنجليز بالعودة إلى مصر في حالة قيام حرب؛ ولأنها تنص على إخضاع جميع المطارات والمواني المصرية تحت سيطرة الجيش البريطاني في حالة الحرب. ووافقت منظمتا حدتو والراية على الإتفاقية.

الموقف من مؤتمر باندونج
جاءت أحداث عامى 1955- 1956م متسارعة ومترابطة، وكانت كلها متعلقة بالعلاقات الخارجية. أدى الفصل بين برجوازية وطنية (حدتو) وبين برجوازية كمبرادور تابعة (الراية - طليعة الشعب): إلى صعوبات جمة في اتخاذ موقف موحد. وظلت فكرة الطبيعة المزدوجة للبرجوازية غائبة حتى هذه اللحظة. اتخذت التنظيمات الشيوعية موقفاً متحفظاً تجاه الدعوة لمؤتمر باندونج. أما تنظيم الراية فقد أعلن معارضته وأصدر بيانا بعنوان: " فاشي مصر المُفلس يبحث عن المجد في باندونج ". ولكن بعد إعلان قرارات المؤتمر؛ وما ترتب عليها أعلنت جميع المنظمات تأييدها له. أما تنظيم طليعة العمال فقد رحب بهذه القرارات. كما أيدت المنظمات الثلاث تأميم قناة السويس.

الموقف من العدوان الثلاثي 1956م
جاء العدوان الثلاثي على مصر 1956م: ليوحد توجهات جميع المنظمات الشيوعية المصرية؛ التي أعلنت عن وقوفها مع الحكومة وتشكيل كتائب للمقاومة الشعبية ومواجهة العدوان. وجاءت الانفتاحة الطفيفة بالإفراج عن الشيوعيين؛ وتأسيس جريدة المساء ـ برئاسة خالد محى الدين ـ كنافذة للفكر الاشتراكي ومدخل للحوار مع الشيوعيين.

الموقف من الوحدة السورية 1958م
كان موقف المنظمات الثلاث ـ حدتو والراية وطليعة العمال ـ مؤيداً للوحدة؛ مع ضرورة مراعاة الظروف الداخلية في سوريا؛ والتأكيد على ترسيخ الديمقراطية. بعد إتمام الوحدة جاء في افتتاحية اتحاد الشعب ـ جريدة الحزب الشيوعي المصري ـ في 15 مارس 1958م:
إن المنطقة المتحررة في الوطن العربي الكبير هى الجمهورية العربية المتحدة، فهى الدولة الوحيدة التي تتمتع باستقلال حقيقي وحرية حقيقية، لا سيطرة فيها لإستعمار دخيل أو أو لإقطاع رجعي، إنها قلعة الحرية في الشرق العربي، إنها المثل والأمل.

تسبب هذا البيان في أزمة حقيقية داخل الحزب؛ الذي أكد على سيطرة اليمين على قيادته. في فبراير 1958م: أصدر الحزب الشيوعي المصري - المتحد بياناً جاء فيه: " أنه لا يجب أن ننظر إلى مستقبل التطور الديمقراطي من زاوية وجود الأحزاب وحدها... وهنا نحذر من الانحراف بقضية الوحدة الوطنية وتدعيمها إلى وضع مسألة الأحزاب في مركز الأحداث ".

الموقف من قوانين التأميم الكبرى 1961م
تباينت موقف التنظيمات من قرارات التأميم الكبري؛ وقال تنظيم الراية: إنها تكريس لرأسمالية الدولة. بينما قال تنظيم حدتو: إن قرارات التأميم باسم الملكية العامة هي تكريس لملكية الشعب. بينما رحب تنظيم طليعة العمال بقوانين التأميم؛ مع التأكيد على أنها ترسيخ لرأسمالية الدولة؛ إلا أنها اعترضت على تقديم التعويضات لأصحاب الشركات المؤممة.

الموقف من الاتحاد السوفيتي
جاء موقف جميع التنظيمات مؤيدا لمواقف الاتحاد السوفيتي على المستوى العالمي؛ باعتباره السند الأول للأحزاب الشيوعية في العالم؛ بما فيهم تنظيم طليعة العمال الذي كان يميل نحو الاتجاهات الصينية. ازداد ذلك التأييد بعد موقفه المؤيد لمصر أثناء العدوان الثلاثي؛ والتهديد بتدخله المُباشر في الحرب. حتى الموقف من دخول السوفييت للمجر فقد أيدته جميع التنظيمات.

الموقف من طريق التطور اللارأسمالي
طرح المنظرون السوفييت مفهوماً جديداً في الأدبيات الماركسية؛ يقول بإمكانية أن تسلك الدول المتخلفة طريقاً لا رأسمالياً في التوجه للإشتراكية. جاء هذا الطرح بعد أن اتخذت حكومات بعض من هذه الدول وفي مقدمتها مصر: مجموعة من القرارات التي وصفتها بالاشتراكية؛ مثل: قرارات التأميم. مما أزعج الكثير من المنظمات الاشتراكية، لأن مثل هذه القرارات تسحب البساط من تحت أقدامها. ومن هنا تم نحت طريق التطور اللا رأسمالي؛ والذي يعني ضمناً لا اشتراكي. أعلنت حدتو عن تبنيها للمقولة الجديدة، وقام تنظيم الراية بالتأصيل والتنظير لها. وبعد حل الأحزاب: برر فؤاد مرسي فشل المقولة بقوله: إن ذلك تم بعد إزاحة المجموعة الاشتراكية في السلطة. بينما رفض المقولة بشكل كامل تنظيم طليعة العمال.

الموقف من المجموعة الاشتراكية في السلطة
بدأ النقاش في تنظيم حدتو حول هذه الموضوع: في سجن القناطر. حيث تبلور اتجاهان؛ واحد يقوده كل من: إبراهيم عبد الحليم وعادل حسين؛ ويقول: إن جمال عبد الناصر يقود بالفعل عملية البناء الإشتراكي. أما الاتجاه الثاني وكان يُمثل الأغلبية: فقد ذهب إلى أن إجراءات ناصر تُسهل الطريق إلى الإشتراكية. وقام بهيج نصار بصياغة توفيقية بين الاتجاهين؛ يتمثل في وجود محموعة اشتراكية في قمة السلطة يتزعمها جمال عبد الناصر. في عام 1963م: عقدت حدتو مؤتمراً عاماً في السجن تبنى القرار السبق؛ وأضيف إليه قرار بضرورة قيام حزب اشتراكي واحد يضم جمبع الاشتراكيين؛ بالإضافة إلى التنظيم الطليعي. وأن البرجوازية الحاكمة: برجوازية وطنية ينطبق عليها كل ما ينطبق على مثيلتها في البلدان المُستعمرة. ذلك أنها ذات طبيعة مزدوجة: تقف في وجه الاستعمار لتستحوذ على سوقها؛ ثم تنتقل لمواجهة الطبقة العاملة والكادحة؛ وعندها تهادن القوى الاستعمارية. وعلى ذلك فإن البرجوازية الحاكمة فصيل من فصائل الثورة، وهى فصيل أساسي من فصائل الجبهة.
ووافق تنظيم الراية على المقولة؛ وقام فؤاد مرسي بالتنظير لها بقوله: إن البرجوازية ثابتة الوطنية ومحكوم عليها بالوطنية؛ وهذا هو أساس ازدواجيتها؛ فهى تلتقي مع الجماهير عندما يكون صراعها مع الاستعمار. وتهادن الاستعمار عندما تكون معركتها مع الجماهير. يتضح من هذا الطرح أن فكرة الوطنية المحكوم بها على البرجوازية: تتناقض أساساً مع الطرح الخاص بالطبيعة المزدوجة للبرجوازية. بينما رفض تنظيم طليعة العمال تلك المقولة: فالبرجوازية تتشكل من فئات متباينة، ومن ثم فإن التحالف معها يتوقف على طبيعة الفئة البرجوازية التي نتحدث عنها. وأن الخلاف مع ناصر لايجب إبرازه حالياً، حتى لا يؤدي ذلك إلى دعم الاتجاهات اليمينية في السلطة.

الموقف من حل الأحزاب الشيوعية
في معتقل الواحات: عقد تنظيم حدتو اجتماعات لمناقشة قضية حل الحزب، وتم الإتفاق على إدانة الدعوة لحل الحزب. تغير الموقف بعد الخروج من المعتقل، وانهار التماسك الذي حدث في اجتماعات المعتقل. خاصة عندما تبين أن هناك قيادات بالحزب تم اختيارها وانضمت للتنظيم الطليعي. في 14 مارس 1965م: عقدت حدتو اجتماعاً تقرر بعده حل الحزب، وكان أحمد حمروش قد دعا بشكل مُباشر إلى ضرورة حل الحزب، وذلك في مقال له بمجلة روزا اليوسف.
كانت هناك محاولة للتخفيف من حدة الصياغة، بإضافة كلمة إسقاط عضويات الحزب. وكان كمال عبد الحليم هو من قام بالصياغة، وهو أيضاً من أرسل برقية الحل إلى جمال عبد الناصر. ووافق أيضاً على القرار: تنظيم الراية، أما تنظيم طليعة العمال فكان معارضاً بشدة لقرار حل الحزب داخل المعتقل، ثم وافق على الحل بعد الخروج من المعتقلات.