خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانعطافها الحاد نحو اليمين / 1


حسين علوان حسين
2020 / 2 / 20 - 16:52     

هذه هي ترجمتي للمقال المنشور بتاريخ 16 كانون الثاني من هذا العام على موقع مجلة "المراجعة الشهرية" (Monthly Review) و المتوفرة نسخته الأصلية على الرابط :
https://mronline.org/2020/01/16/britain-exits-the-european--union--and-takes-a-sharp-right-turn

عن كاتب المقال : الدكتور جون سميث ( Dr. John Smith)
اشتغل جون سميث عاملاً في شركة لتكرير النفط وسائق حافلة ومهندساً للاتصالات ، قبل انهماكه بدراسة الاقتصاد السياسي الدولي بجامعة شيفيلد البريطانية و التي نال منها درجة الدكتوراه عام 2010 . و هو يعمل حاليًا كمهندس اتصالات مستقل ؛ وينشط منذ فترة طويلة في الحركات المناهضة للحرب و حركات التضامن مع شعوب أمريكا اللاتينية . و هو المؤلف للكتاب الصادر من "مجلة المراجعة الشهرية" بعنوان : "الإمبريالية في القرن الحادي والعشرين" ، و الحائز على الجائزة التذكارية لبول أ. باران وبول م. سويزي.
نص المقال :
"بات الآن خروج بريطانيا من الكتلة الإمبريالية المعروفة باسم "الاتحاد الأوروبي" أمراً لا رجعة فيه . كما تسببت الهزيمة الساحقة التي مني بها حزب العمال في الانتخابات الأخيرة بخيبة الأمل للعديد من العمال والشباب ممن وضعوا آمالهم على جيريمي كوربين ، زعيمه اليساري . هذا المقال يقيّم هذين الحدثين التاريخيين اللذين لا يمكن فهم أي منها بمعزل عن الآخر.

خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي (البريكزت)
المملكة المتحدة هي قوة إمبراطورية ماضية إلى التدهور بعد أن أصبحت لا تضم سوى جزيرة بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية . أما ساستها اليمينيون فإنهم ينظرون في كل مكان - باستثناء المرآة - لرؤية الأسباب وراء هذا التدهور . لذا نراهم يتغنون بذلك الزمن الذي "وقفت فيه بريطانيا وحيدة ضد جحافل النازيين لتنقذ حضارة العالم بمفردها ، مع بعض المساعدة المتأخرة من الولايات المتحدة الأمريكية". لكن هذه الأسطورة الوطنية العزيزة هي محض خيال ؛ فقد تم كسر ظهر الجيش النازي على الجبهة الشرقية ، من طرف الاتحاد السوفياتي - وليس من جانب بريطانيا ، التي كانت منشغلة في خوض حربها الاستعمارية في شمال أفريقيا بينما كان الجيش السوفيتي وشعبه يتولون تحمل العبء الأثقل للحرب العالمية الثانية . كانت خسائر بريطانيا في العلمين - أكبر معركة خاضها الجيش البريطاني قبل هبوط نورماندي في حزيران 1944 - أقل من 2000 جندي ، بينما قضى نصف مليون سوفييتي في معركة ستالينغراد وحدها . هذه العنصرية والرياء والغطرسة الإمبريالية - وهي القيم البريطانية الأساسية التي تنغمس فيها جميع احزابها ومؤسساتها السياسية – هي التي تفسر الجنون الذي لا يمكن تفسيره والمعروف باسم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكزت).

وعلى الرغم من الغطرسة الإمبريالية هذه ، فقد واجه الحكام الرأسماليون في بريطانيا معضلة استراتيجية : التحالف مع فرنسا وألمانيا في الاتحاد الأوروبي ، أم التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية – و كلا هذين التوجهين يتعارض على قدم المساواة مع مصالح العمال وجميع أفراد الشعب المضطهدين . و لقد أدت الانقسامات داخل حزب المحافظين الحاكم حول هذا في عام 2016 إلى إجراء الاستفتاء العام الذي قرر فيه الناخبون ، بهامش ضيق ، مغادرة الاتحاد الأوروبي . و كنت قد أوضحت في مقال سابق سبب تحديد هذه النتيجة من خلال عداء العمال البريطانيين للاتحاد الأوروبي - فقد صوت ثلثا العمال على المغادرة ؛ ولماذا كان العامل الأكثر أهمية الذي حفزهم على القيام بذلك إنما هو معارضتهم لسياسة الهجرة - حرية التنقل عبر الحدود الداخلية للاتحاد الأوروبي و التي هي إحدى دعائم منطقة التجارة الحرة . لذا نجد أن العديد من العمال ممن يعانون من انعدام الضمان الاجتماعي المتزايد ومن تدني مستويات المعيشة يلقون باللائمة في هذه العلل على هذه السياسة و يحملونها المسؤولية في تزايد المنافسة من ضدهم من طرف العمال المهاجرين ويطالبون الدولة بحمايتهم ضده .
و طوال السنوات الثلاث من الاضطرابات السياسية التي أعقبت استفتاء عام 2016 ، فقد اتضح أن أكبر عقبة تقف أمام الخروج المنظم من الاتحاد الأوربي إنما تتمثل بتقسيم إيرلندا القديمة إلى الجمهورية الايرلندية في الجنوب والجيب الذي تحتله بريطانيا في الشمال . فلطالما بقيت كل من بريطانيا وإيرلندا في الاتحاد الأوروبي ، فسيمكن للأشخاص والبضائع عبور الحدود بين شطري إيرلندا دون حتى ملاحظتها ؛ ولكن خروج المملكة المتحدة من منطقة التجارة في الاتحاد الأوروبي سيتطلب فرض حدود صلبة ، والتعامل مع الحدود المغلقة يمثل ضربة لاقتصاد جمهورية إيرلندا الجنوبية والمجازفة بعودة الصراع الايرلندي المسلح ضد الاحتلال البريطاني ..
و كانت رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي قد تفاوضت حول صفقة للخروج تتهرب من مشكلة الحدود - عن طريق إبقاء كل من بريطانيا وإيرلندا الشمالية داخل منطقة التجارة الحرة للاتحاد الأوروبي لحين انتهاء المفاوضات التي كانت لم تبدأ بعد بشأن عقد اتفاقية تجارية دائمة و التي ستضمن ، أياً كانت نتيجتها ، بقاء إيرلندا الشمالية داخل منطقة التجارة الحرة للاتحاد الأوروبي وخضوعها لقواعدها . حاولت ماي وفشلت ثلاث مرات في الحصول على تأييد البرلمان لهذه الخطة ، فاستقالت ؛ واختار أعضاء حزب المحافظين - معظمهم من الرجال البيض الأغنياء الذين تجاوزوا الستين من العمر - بوريس جونسون كزعيم لهم .
أعاد جونسون فتح المفاوضات بموجب شروط خروج المملكة المتحدة . و كالسابق ، فقد أصر الاتحاد الأوروبي على ضمان عدم فرض الحدود الصلبة بين شطري إيرلندا . و مما فاجأ الكثيرين (بما في ذلك هذا المؤلف) ، فقد استسلم جونسون لهذا المطلب ، متفقًا على صفقة منقحة فرقها الأساسي الوحيد عن السابق هو توفير حدود دائمة بحكم الواقع بين بريطانيا وإيرلندا بأكملها ، مع الحفاظ على ذريعة الاستقلال الدستوري في المملكة المتحدة . وفي مواجهة عويل الوحدويين المؤيدين للإمبريالية في إيرلندا الشمالية بخيانة السياسيين المحافظين لهم ، فقد لجأ جونسون الى النفي القاطع لما سبق و أن كُتب بالأبيض والأسود في الصفقة التي تفاوض عليها ، وقارع بها نحو البرلمان للتصويت .

الانتخابات العامة في كانون الأول (ديسمبر) 2019 - الديمقراطية المزيفة في العمل
و مثلما يبين نفي جونسون الآنف الذكر، فلم تكن تتوفر لديه أي نية لاحترام شروط صفقة الخروج هذه . كان تنازلاته حول مسألة الحدود تكتيكية بالكامل - للحصول على صفقة من خلال البرلمان بأي وسيلة ومن ثم الدعوة إلى انتخابات عامة ، حيث يقوم حزب المحافظين بحملة تتمحور حول رفع الشعار البسيط : "احصل على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي" . وكان خصمه الرئيسي ، حزب العمال بقيادة جيريمي كوربين ، منقسمًا على نفسه على نحو يائس بشأن الاتحاد الأوروبي ، مثله في ذلك مثل الكثيرين غيره .
و لقد حاولت شخصياً وفشلت في تحويل محور النقاش الوطني بعيدًا عن موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نحو سياسة التقشف التي تتبعها الحكومة التي أفضت إلى التدهور الكبير في الخدمات الصحية والتعليمية الممولة من القطاع العام . و بقدر تعلق الأمر بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، فقد وعد كوربين الناخبين بإبرام اتفاقية تجارية جديدة سريعة مع الاتحاد الأوروبي من شأنها الحفاظ على الترتيب التجاري الحالي للمملكة المتحدة وتجنب أي فقدان للوظائف . و هو بهذا يتجاهل حقيقة أن ذلك سيتطلب حتماً الخضوع من طرف المملكة المتحدة إلى لوائح الاتحاد الأوروبي والقبول بحرية الحركة والمساهمات المستمرة في ميزانية الاتحاد الأوروبي - وكل هذه التحولات ستحصل وسط خسارة قدرة المملكة المتحدة على رسم سياسة الاتحاد الأوروبي . وعد كوربين بتطبيق صفقة "الخروج إسمياً فقط" (Brexit-in-name-only ) مع الاتحاد الأوربي بتعليقها على إجراء استفتاء ثانٍ ، مع دعوة الناخبين للاختيار بين هذا أو إلغاء الخروج تمامًا - واعداً بالبقاء محايدًا بهذا الصدد !
ولقد دفع كوربين وحزب العمال ثمنًا باهظًا بسبب موقفهما غير المتماسك هذا بشأن القضية المركزية في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي . ولكن ، كما سنرى ، كان هذا أبعد ما يكون عن السبب الوحيد لكبوتهم على صناديق الاقتراع . في هذا الحدث ، حصل حزب العمل على (32.2 ٪) من الأصوات مقابل (43.6 ٪) لحزب المحافظين . و عند أخذ نسبة المشاركة البالغة (67.3٪) مع نسبة الأشخاص غير المسجلين للتصويت (17٪) بعين الاعتبار ، فقد تحقق "الفوز الساحق" للمحافظين بأغلبية (24٪) من الناخبين ، بينما صوّت (18٪) منهم فقط لصالح حزب العمال . و صوّت من العمال لصالح المحافظين أكثر ممن صوّتوا لصالح حزب العمال . و كان الهامش للعمال غير المهرة هو (43٪) مقابل (37٪) ، في حين أن العمال الماهرين وشبه الماهرين صوتوا لصالح حزب المحافظين بفارق نسبي أكبر . و كانت الانقسامات بين الجنسين كثيرة الدلالة - حيث صوت الرجال بأغلبية (48٪) مقابل (𨆅) لصالح المحافظين ، في حين كان الهامش بين الناخبات أصغر بكثير ، من (42 ٪) إلى (36 ٪ ). و كانت فجوة الأجيال مذهلة بشكل خاص ، حيث صوّت (19٪) فقط من الفئة العمرية 18-24 عامًا لصالح المحافظين مقابل (57٪) لحزب العمال . و على النقيض تمامًا من ذلك ، فقد صوّت (62٪) من الناخبين الذين تجاوزوا 65 عامًا للمحافظين مقابل (18٪) فقط لحزب العمال .
أما كم من هؤلاء الناخبين كان يؤمن حقًا بما صوّت لصالحه ، بدلاً من التكتل مع أهون الشرّين بمقاطعة الانتخابات ، فهو كائن في علم الغيب . و تظهر استطلاعات الرأي في المملكة المتحدة أن السياسيين والصحفيين هم إلى حد بعيد الفئة الأقل مصداقية مقارنة بالمشتغلين في جميع المهن الاخرى . أما بالنسبة للصحفيين ، فإن معظم وسائل الإعلام المطبوعة مملوكة لأصحاب المليارات من الرجعيين المتطرفين ، في حين أن وسائل الإعلام الإذاعية هي في قبضة المتعالين أهل المحسوبية و المنسوبية من لبراليي الطبقة الوسطى ممن ينضحون بازدراء العاملين لديهم . هذه ليست ديمقراطية ، إنها مهزلة للديمقراطية !"

يتبع ، لطفاً .