الشيوعيون ليسوا من السياسيين


فؤاد النمري
2020 / 2 / 17 - 19:44     

الشيوعيون ليسوا من السياسيين

يفوت الكثيرين أن العمل السياسي إنما هو الخطاب المدني الفصيح للصراع الطبقي الذي يتحقق قصراً في اضطرار كل طبقة اجتماعية لمبادلة إنتاجها بإنتاج الطبقات الأخرى في ذات المجتمع للضرورة الحيوية ؛ حول سويّة المبادلة في سوق العمل يجري الصراع . وبناءً عليه نادى ماركس وإنجلز العمال المغلوب على أمرهم في مثل هذه المبادلة الجائرة للإنضواء في حزب حديدي واحد يعمل على الإستيلاء على السلطة وإلغاء كل شروط مبادلة المنتوجات بكل أشكالها . من هنا يمكن القول أن أعضاء الحزب الشيوعي هم شوعيون قبل إنضوائهم في الحزب الشيوعي ليشاركوا في الصراع الطبقي النشط من خلال ممارسة العمل السياسي ؛ هم شيوعيون يحفرون قبر الرأسمالية قبل ممارسة العمل السياسي وهم شيوعيون بالطبع بعد انحلال الحزب بعد تحقيق كامل أهدافه والكف عن ممارسة العمل السياسي وتلاشي السياسة نهائياً في الحياة الشيوعية المتقدمة . وهكذا يمكن القول بكل ثقة أن الشيوعيين هم أصلا غير سياسيين ولم يمارسوا السياسة إلا لمعركة محدودة تستهدف التخلص من كل عمل سياسي .

نقول هذا القول الشيوعي لنندد بقرار القائد الشيوعي مثال الغباء نيكيتا خروشتشوف وقد قضى في العام 61 في المؤتمر العام الثاني والعشرون للحزب الشيوعي بإلغاء الصراع الطبقي الذي يقتضي بالضرورة الإستغراق في العمل السياسي حيث كان المجتمع السوفياتي ما زال يتكون من طبقتين متناقضتين متصارعتين وهما طبقة البروليتاريا محتكرة السلطة وطبقة البورجوازية الوضيعة العريضة وتضم الفلاحين من جهة والإداريين والعاملين في الخدمات من جهة أخرى . إلغاء الصراع الطبقي لم يلغِ العمل السياسي فقط بل ألغى أيضاً دولة دكتاتورية البروليتاريا وقد أُعلِن إلغاؤها في نفس المؤتمر بالرغم من أتها الشرط الأساسي والوحيد لقيام الإشتراكية كما اشترط ماركس في "نقد برنامج غوتا" . عمل الغبي خروشتشوف على سد الطريق إلى الإشتراكية – بأمر من الجيش – بعد أن كانت الثورة البلشفية بقيادة ستالين قد نجحت في سد الطريق أمام الرأسمالية، وهو ما يعني بالقطع انهيار المجتمع السوفياتي وقد فقد كل هوية إجتماعية، الأمر الذي تحقق بعد ثلاثين عاماً في العام 91 وهو ما كنت قد أكدته للرفاق في سجن الجفر الصحراوي في العام 63 .

في مؤتمرميونخ الخياني التصالحي (Appeasement) في سبتمبر 38 قدمت الأمبراطوريتان الإمبرياليتان العظميان بريطانيا وفرنسا تنازلات جيوسياسية ملموسة لكل من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وهو ما قرأه ستالين على أنه مؤامرة كبرى على الإتحاد السوفياتي . وليس إلا من باب الإختبار لتلك القراءة بعث ستالين رئيس الوزراء مولوتوف إلى كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة يقترح تحالفاً ضد ألمانيا النازية التي تهدد السلم والأمن الدوليين في أوروبا وفي العالم، والدول الثلاث رفضت التحالف المقترح وهو ما أكد قراءة ستالين للمؤامرة . ذلك ما رتب على الحزب الشيوعي أن يتخلى عن دينامية مرحلة الإشتراكية وهي سياسة الصراع الطبقي من أجل مواجهة العدوان النازي المتوقع بحرب وطنية بعيدة عن كل أثر لصراع طبقي ؛ فكان أن حافظ الإتحاد السوفياتي على اسم "الحرب الوطنية" في الحرب العالمية الثانية . وترتب أيضاً عقد اتفاقية عدم اعتداء بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية في اوغست آب 39 .
ما ينساه مختلف النقاد والدارسين لتاريخ الإتحاد السوفياتي والثورة الإشتراكية هو أن قوة الدفع للثورة الإشتراكية وهي الصراع الطبقي توقفت نهائيا في العام 38 وهو ما يعني أنه لم يعد هناك حزب يمارس العمل الشيوعي خلال خمس عشرة سنة 1938 - 1952 حين انتهى الإتحاد السوفياتي من إعادة الإعمار . وما زاد في ذلك هو أن جميع الشيوعيين تقريباً الذين كانوا قد اكتسبوا خبرة جيدة في العمل الشيوعي قبل العام 38 كانوا قد توفوا بسبب الشيخوخة قبل انتهاء الحرب وإعادة الإعمار، ونسبة كبيرة من الشيوعيين ذوي الدربة الحسنة كانوا قد افتدوا دولتهم الإشتراكية بأرواحهم . في العام 1951 وجد ستالين نفسه بلا حزب شيوعي على قدر المسؤولية وبلا سياسة إشتراكية وبلا صراع طبقي . لمواجهة مثل تلك المعضلة الحديّة والمصيرية دعا ستالين وهو الماركسي اللينيني المتميز إلى عقد ندوة لأهل الإختصاص في السياسة كما في الإقتصاد لبحث "المسائل الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي" . عنوان الدعوة يشير أن الإقتصاد السوفياتي فيما بعد الإنتهاء من برنامج إعادة الإعمار لم يكن على المسار الصحيح لبناء الإشتراكية . مداولات الندوة التي لخصها ستالين في كتاب يالغ الأهمية يحمل عنوان الندوة صدر في العام 52 وأعلن ستالين استعدادة لاستقبال كل نقد لموضوعات الكتاب ؛ دلت تلك المداولات على أن أحداً من المنتدين لم يكن في الموضوع .
تمثلت المعضلة السوفياتية آنذاك في أن مقتضيات الحرب كانت قد حولت الإقتصاد الإشتراكي إلى اقتصاد حرب مناف للإشتراكية، وعرّت الحزب الشيوعي من حميّته الثورية ومن يقظته المعهودة . أحداً من المنتدين لم يقارب أياً من هاتين المسألتين . إحتشد معظم المنتدين وراء الرفيق مولوتوف يشددون على وجوب استئناف الصراع الطبقي على أشده يصل إلى حد إلغاء طبقة الفلاحين بقرار فوقي من رأس السلطة . طبعاً هؤلاء القوم لا يعلمون أن المعطيات الماثلة فيما بعد الحرب لا تساعد ولو بمقدار على استئناف الصراع الطبقي في الإتحاد السوفياتي عداك عن تسعيره . مرة أخرى تبدّت عبقرية ستالين كقائد متفرد للبروليتاريا إذ قدم للمؤتمر التاسع عشر للحزب في أكتوبر 52 مشروعين، مشروعاً إقتصادياً يقضي بالتحول إلى الصناعات الخفيفة وهو ما يهدف ليس فقط لسعة العيش للشعوب السوفياتية بل أيضاً لإحياء دولة دكتاتورية البروليتاريا التي اعتراها الوهن بفعل الحرب الطويلة المدمرة ، ومشروعاً سياسياً يقضي بتبديل القيادة الشائخة للحزب الشيوعي بقيادة جديدة من الشباب المتحمس للعمل الشيوعي ومضاعفة عدد أعضاء المكتب السياسي ليكون 24 عضواً . وافق المؤتمر على الخطة الإقتصادية لكنه لسوء حظ البشرية جمعاء لم يوافق على المشروع السياسي وهو ما أدى إلى اغتيال ستالين من قبل رفاقه في المكتب السياسي وانهيار الحزب واستيلاء الجيش على كل السلطة وهو ما انتهى إلى إلغاء كل مقررات المؤتمر التاسع عشر للحزب في سبتمبر 53 وأهمها المشروع الإقتصادي والمشروع السياسي اللذان يكفلان العودة إلى المسار الإشتتراكي، ثم بانقلاب عسكري عمل على طرد قيادة الحزب في يونيو 57، وبإلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا واستبدالها بما سمي "دولة الشعب كله" وتشريع المرابحة في دورة الإنتاج الوطني في مؤتمر الحزب الثاني والعشرون في أكتوبر 61 . وفي هذا المؤتمر كشف خروشتشوف عن طبيعة الإنقلاب الذي قامت به البورجوازية الوضيعة السوفياتية وفي طليعتها العسكر ورجلهم في قيادة الحزب خروشتشوف عندما سخر من الصراع الطبقي في مؤتمر الحزب في أكتوبر 61 متسائلاً بسخرية .. هل علينا أن نتصارع لمسرة الأعداء !!؟
يخطئ مَن يسخر مِن سخرية خروشتشوف بادعاء أن الصراع الطبقي هو قانون من قوانين التطور الإجتماعي التي لا تقبل الإلغاء، لا من قبل الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي ولا من قبل أسياده في الجيش "الأحمر" قاهر النازية . صحيح أن الصراع الطبقي هو من قوانين التطور الإجتماعي بل هو أهمها على الإطلاق، لكنه ليس من قوانين التخلف الإجتماعي على الإطلاق أيضاً .
كان الحزب الشيوعي بأمر من العسكر قد قرر في سبتمبر 53 إلغاء الخطة الخمسية لصالح التسلح كما ورد في قرار اللجنة المركزية للحزب آنذاك . إنتاج الأسلحة يتم دائماً على حساب قوى الإنتاج ولا يعود عليها وعلى عموم المجتمع بأية فوائد . البورجوازية الوضبعة القابضة على صولجان السلطة لا تنتفع من إنتاج الأسلحة ولو بروبل واحد ولذلك لم يعد هناك ما يستدعي أي صراع طبقي في المجتمع السوفياتي وقد بدأت قوى الإنتاج في التراجع والمجتمع بالتخلف منذ العام 53 . قوى العمل الموظفة في الإنتاج في دولة هامشية في أوروبا كالبرتغال هي أكبر منها في روسيا التي سكانها أكثر من عشرة أمثال سكان البرتغال .
خلال سنتين فقط جربت روسيا مؤخراً 316 سلاحاً جديداً في سوريا وهو ما يشي بأن معظم العمال في روسيا يعملون في إنتاج الأسلحة ؛ فعلامَ ينتظم هؤلاء العمال في صراع ىطبقي !!؟
في الغرب الرأسمالي سابقا وتلو انهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات لم تجد قوى الإنتاج في الدول الغربية مناصاً من الإفلاس الكلّي سوى استبدال الإنتاج البضاعي وقد سُدّت مصارفه نتيجةً لثورة التحرر الوطني العالمية 1946- 1972 بإنتاج الخدمات وهي بالإضافة إلى أنها ليست ذات قيمة تيادلية مثلها مثل الأسلحة الروسية فهي أيضاً إنتاج فردي تعود بدلاته إلى نفس المنتج وينتفي بذلك مبدأ الصراع الطبقي .

منذ أن نفى خروشتشوف الصراع الطبقي في العام 61 انتفى الصرع الطبقي، انتفى منذ العام 38 في الإتحاد السوفياتي حين انهمكت قوى الإنتاج في صناعة الأسلحة لمواجهة العدوان النازي المرتقب وانتفى في الغرب بعد انهيار النظام الرأسمالي والتول لإنتاج الخدمات.
مقترحات ستالين في المؤتمر التاسع عشر للحزب في أكتوبر 52 التي استهدفت استئناف الصراع الطبقي سرعان ما فشلت بعد ثلاثة شهور فقط وتم قتل ستالين نقسه .
البورجوازية الوضيعة السوفياتية تقاوم الإشتراكية عن طريق التوسع في إنتاج الأسلحة، والبورجوازية الوضيعة في الولايات المتحدة والدول الرأسمالية سابقاً تسد طريق الإشتراكية بالتوسع في إنتاج الخدمات ؛ وكلا المنتوجين، الأسلحة والخدمات، لا قيمة تبادلية لهما ؛ لا يتحولان إلى نقود ولا يصلان السوق للمبادلة، يتم إنتاجهما على حساب العمال والعمل المبذول في إنتاجهما يموت تماماً ولا يتحول ل إلى نقود . التوسع في انتاجهما يعني مباشرة الإنكماش بقوى الإنتاج والغياب الكامل للتناقض الرئيس بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج .

لما كانت السياسة هي البناء الفوقي للبناء التحتي وهو الإقتصاد والإقتصاد العالمي منذ أكثر من 80 عاماً هو في انحطاط متوالٍ حيث حوالي 90% منه هو من الخدمات والأسلحة التي لا تشكل إدنى قيمة ليجري الصراع حولها ؛ فليس وارداً في هذا الحال أن يرد أي عمل سياسي طالما أن كل نشاط سياسي إنما هو في الجوهر صراع طبقي .
مختلف الناشطين في العمل السياسي اليوم يبررون أنشطتهم السياسية بإنكارهم تراجع مجمل الإنتاج في العالم إلا أن حقائق العصر تفضح أكاذيبهم وقد أعلن صندوق النقد الدولي مؤخراً أن العالم بات مدينا بأكثر من 180 ترليون دولاراً . هذا يعني إذا كان مجمل إنتاج العالم قد قصر بمقدار ترليون دولار في العام 1980 فقد قصر في العام 2019 بمقدار 8 ترليون وسيقصر في العام 2024 بحوالي 15 ترليونا وحينذاك لن يجد العالم ما يستدينه ولن يكون عندئذٍ غير الإنهيار الكارثي لنظام الإنتاج في العالم.
ولعل بعض المحترفين في السياسة يرفضون التقاعد عن العمل السياسي ويبررون رفضهم بالقول أنه إذا ما كان عملهم السياسي لا يصب في التنمية فسيكون له أثر كبير في وقف القصور المتعاظم في الإنتاج . تلك هي حجة المفلسين فوقف القصور المتعاظم في الإنتاج يقتضي أول ما يقتضي الإبادة التامة لطبقة البورجوازية الوضيعة التي تحتل اليوم 90% من مساحة المجتمع في مختلف البلدان وهو أمر يمتنع حتى على التفكير .وبناء على ذلك يمتعنع الشيوعيون الحقيقيون عن العمل السياسي ريثما تدمّر البورجواية نفسها طالما أنها لا تنتج أسباب حياتها .