ما هي المادية التاريخية؟ الفصل الأول: ما هو التاريخ؟


آلان وودز
2020 / 2 / 17 - 16:46     


لماذا يجب علينا أن نقبل بأن الكون بأكمله، ابتداء من أصغر الجسيمات وصولا إلى المجرات البعيدة تحدده القوانين، وأن السيرورات التي تحدد تطور جميع الأنواع محكومة بالقوانين، بينما تاريخنا، ولسبب مجهول، لا تحدده أي قوانين. يحلل المنهج الماركسي العوامل الرئيسية الخفية التي تحدد تطور المجتمع البشري ابتداء من المجتمعات القبلية الأولى حتى العصر الحديث. والطريقة التي تتبع بها الماركسية هذا الطريق المتعرج تسمى بالمفهوم المادي للتاريخ.

إن أولئك الذين ينكرون وجود أي قوانين تحكم التطور الاجتماعي يتعاملون مع التاريخ من وجهة نظر ذاتية وأخلاقية. لكن عوض الاقتصار على الحقائق المنعزلة، من الضروري تحديد الاتجاهات العامة، ورصد التحول من نظام اجتماعي إلى آخر، واستنباط القوى المحركة الأساسية التي تحدد هذه التحولات.

قبل ماركس وإنجلز، كان معظم الناس ينظرون إلى التاريخ على أنه سلسلة من الأحداث غير المرتبطة أو، إذا أردنا استخدام مصطلح فلسفي، مجرد “صدف”. لم يكن هناك أي تفسير عام، ولم تكن للتاريخ أي شرعية. ومن خلال إثباتهما لحقيقة أن كل التطور الذي تعرفه البشرية يعتمد في الأساس على تطور القوى المنتجة، تمكن ماركس وإنجلز من أن يقيما دراسة التاريخ على أساس علمي لأول مرة.

تمكننا هذه المنهجية العلمية من فهم التاريخ ليس بكونه سلسلة من الحوادث المنفصلة وغير المتوقعة، بل باعتباره جزءا من سيرورة مترابطة ومفهومة بوضوح. إنها سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي تشمل السياسة والاقتصاد وكل جوانب التطور الاجتماعي. ويعتبر شرح العلاقة الجدلية المعقدة بين كل هذه الظواهر مهمة المادية التاريخية. إن الجنس البشري يغير الطبيعة باستمرار بواسطة العمل، وبذلك فإنه يغير نفسه.

صورة كاريكاتورية عن الماركسية

في ظل الرأسمالية، كلما اقتربنا من تحليل المجتمع كلما صار العلم أقل التزاما بالمنهج العلمي. إن ما يسمى بالعلوم الاجتماعية (علم الاجتماع وعلم الاقتصاد والعلوم السياسية)، وكذلك الفلسفة البرجوازية، لا تطبق عموما المنهج العلمي الحقيقي، وبالتالي ينتهي بها المطاف كمجرد محاولات لتبرير الرأسمالية، أو على الأقل لتشويه الماركسية (وهو ما يؤدي إلى الشيء نفسه في النهاية).

كتابة التاريخ وعلى الرغم من الادعاءات “العلمية” للمؤرخين البرجوازيين، تعكس حتما وجهة نظر طبقية. من المعروف أن تاريخ الحروب -بما في ذلك الحروب الطبقية- يكتبه المنتصرون، وبعبارة أخرى فإن اختيار الأحداث التاريخية وتفسيرها يكون مدفوعا بالنتيجة الفعلية لتلك الصراعات و تأثيرها على المؤرخ، وبالتالي على تصوره لما يريد أن يقدمه للقارئ. وعلاوة على ذلك ففي التحليل الأخير سوف تتأثر تلك التصورات دائما بمصالح إحدى طبقات أو فئات المجتمع.

عندما ينظر الماركسيون إلى المجتمع لا يزعمون أنهم محايدون، بل إنهم يتبنون علنا قضية المستغَلين والمضطهَدين. لكن هذا لا يمنع على الإطلاق الموضوعية العلمية. إن الجراح المنشغل بإجراء عملية حساسة يكون ملتزما أيضا بإنقاذ حياة مريضه. إنه أبعد ما يكون عن “الحياد” تجاه نتيجة عمليته. لكنه ولهذا السبب بالذات سيعمل على التمييز بدقة متناهية بين مختلف مكونات الجسد البشري. وبنفس الطريقة نسعى نحن الماركسيون جاهدين للحصول على تحليل علمي دقيق للسيرورات الاجتماعية، من أجل أن نتمكن من التأثير بنجاح في مسارها.

غالبا ما تبذل محاولات لتشويه الماركسية عن طريق نشر صورة كاريكاتورية عن أسلوبها في التحليل التاريخي، إذ ليس هناك ما هو أسهل من صنع دمية من القش وكيل الضربات لها. والافتراء المعتاد في هذا الصدد هو القول بأن ماركس وإنجلز “اختزلا كل شيء في الاقتصاد”. لو أن هذا كان صحيحا لكان في مقدورنا أن نعفي أنفسنا من ضرورة النضال الصعب من أجل تغيير المجتمع. فالرأسمالية ستسقط من تلقاء نفسها والمجتمع الجديد سيحل محلها من تلقاء نفسه، مثلما تسقط تفاحة ناضجة في حضن رجل نائم تحت شجرة. لكن ليس للمادية التاريخية أية علاقة مع هذه النزعة الجبرية.

وقد سبق لإنجلز أن رد على هذا الادعاء السخيف في هذا المقتطف من رسالته الى بلوخ، حيث قال:

«وفقا للمفهوم المادي للتاريخ، يشكل إنتاج وإعادة إنتاج الحياة المادية العنصر الحاسم، في نهاية المطاف، في التاريخ. ولم نؤكد لا ماركس ولا أنا أكثر من هذا أبدا. وبالتالي فإذا شوه شخص ما هذا الموقف، ليزعم أن العنصر الاقتصادي هو العنصر الحاسم الوحيد، فإنه يحول هذه الموضوعة إلى جملة مجردة لا معنى لها ولا مضمون»[1].

كما أن ماركس وإنجلز كانا قد سخرا في كتابهما “العائلة المقدسة”، الذي كتباه قبل البيان الشيوعي، من فكرة تصور “التاريخ” باستقلال عن الرجال والنساء الذين يصنعونه، ووضحا أن هذا مجرد تجريد فارغ، حيث قالا:

«التاريخ لا يفعل شيئا، إنه لا “يملك ثروة هائلة”، و”لا يشن أي معارك”. إنه الإنسان، الانسان الحقيقي، الانسان الحي هو من يقوم بكل ذلك، إنه هو من يمتلك ويحارب؛ إن “التاريخ” ليس شخصا منفصلا، يستخدم الإنسان وسيلة لتحقيق أهدافه الخاصة؛ التاريخ ليس سوى نشاط الانسان الذي يسعى لتحقيق أهدافه»[2].

كل ما تفعله الماركسية هو شرح دور الفرد باعتباره جزءا من مجتمع معين، خاضع لقوانين موضوعية معينة، وبكونه، في النهاية، ممثلا لمصالح طبقة معينة. ليس للأفكار وجود مستقل، كما أنه ليس لها تطورها التاريخي المستقل. وقد كتب ماركس في الأيديولوجيا الألمانية: “ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة، بل الحياة هي التي تحدد الوعي“.

الارادة الحرة؟

إن أفكار الناس وأفعالهم مشروطة بالعلاقات الاجتماعية القائمة، التي لا يعتمد تطورها على الإرادة الذاتية لهؤلاء الرجال والنساء، بل يعتمد على قوانين محددة. تعكس هذه العلاقات الاجتماعية، في التحليل الأخير، احتياجات تطور القوى المنتجة. وتشكل العلاقات المتبادلة بين هذه العوامل شبكة معقدة غالبا ما يصعب رؤيتها. ودراسة هذه العلاقات هي أساس النظرية الماركسية للتاريخ.

لكن إذا لم يكن الناس مجرد “قوى عمياء في يد التاريخ”، فإنهم في نفس الآن ليسوا أحرارا بشكل كامل وقادرين على تشكيل مصيرهم بغض النظر عن الظروف القائمة التي يفرضها مستوى التطور الاقتصادي، وتطور العلوم والتقنية، الذي يحدد، في آخر المطاف، ما إذا كان النظام الاجتماعي والاقتصادي قادرا على البقاء أم لا. يشرح ماركس في كتابه “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت” ذلك قائلا:

«إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم؛ إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الميتة تثقل مثل جبال الألب على أدمغة الأحياء […]».

كما عبر إنجلز لاحقا عن الفكرة نفسها بطريقة مختلفة، حين قال:

«يصنع الناس تاريخهم الخاص، أيا كانت نتائجه، عبر سعي كل واحد منهم، بشكل واع، وراء غاياته الخاصة. إن حصيلة هذه الرغبات المتعددة، التي تعمل في اتجاهات مختلفة، وآثارها المختلفة على العالم الخارجي هي بالضبط ما يشكل التاريخ». (لودويغ فيورباخ).

الشيء الذي تؤكده الماركسية، والذي لا يمكن لأحد أن ينكره، هو أن صلاحية أي نظام اجتماعي اقتصادي معين تتحدد، في التحليل الأخير، من خلال قدرته على تطوير وسائل الإنتاج، أي الأسس المادية التي يقوم عليها المجتمع والثقافة والحضارة.

إن الفكرة القائلة بأن تطور القوى المنتجة هو الأساس الذي يعتمد عليه التطور الاجتماعي كله، حقيقة بديهية إلى درجة أنه من المستغرب حقا أنه ما يزال هناك من يشكك فيها. لا يتطلب الأمر من المرء قدرا كبيرا من الذكاء لكي يفهم أنه قبل أن يتمكن الناس من تطوير الفنون أو العلوم أو الدين أو الفلسفة، يجب عليهم أولا أن يحصلوا على طعام يأكلونه وملابس يرتدونها ومنازل يأوون إليها. وكل هذه الأشياء يجب أن ينتجها شخص ما بطريقة ما. ومن الواضح بنفس القدر أن صلاحية أي نظام اجتماعي-اقتصادي تتحدد في نهاية المطاف من خلال قدرته على توفير ذلك.

في كتابه “نقد الاقتصاد السياسي” يشرح ماركس العلاقة بين القوى المنتجة و”البنية الفوقية” على النحو التالي:

«خلال انتاجهم الاجتماعي لوجودهم يدخل الناس في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن ارادتهم؛ علاقات انتاج تتفق مع درجة التطور المحدد لقواهم المادية الانتاجية… إن نمط الانتاج المادي هو الذي يحدد ويشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والعقلية عامة. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وإنما العكس، وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم».

لقد شرح ماركس وإنجلز أن المشاركين في العملية التاريخية قد لا يكونون مدركين دائما للدوافع التي تحركهم، ويسعون بدلا من ذلك إلى تفسيرها بطريقة أو بأخرى، لكن تلك الدوافع موجودة ولها أساس في العالم الحقيقي.

ومن هذا المنطلق يمكننا أن نرى أن تطور التاريخ ومساره قد تشكل، وما زال يتشكل، بفعل سعي الطبقات الاجتماعية لتشكيل المجتمع وفقا لمصلحتها، والصراعات الناتجة عن ذلك. يقول البيان الشيوعي: «إن تاريخ كل المجتمعات، الموجودة حتى الآن، هو تاريخ الصراع الطبقي». وتوضح المادية التاريخية أن القوة المحركة للتطور الاجتماعي هي الصراع الطبقي.



جنسنا هو نتاج فترة طويلة جدا من التطور. وبالطبع فإن التطور ليس نوعا من التصميم المسبق الذي كان الهدف منه خلق كائنات مثلنا. لا يتعلق الأمر بخطة مسبقة، سواء بتدخل إلهي أو بنوع من الغائية، لكن من الواضح أن قوانين التطور الملازمة للطبيعة تحدد في الواقع التطور من الأشكال البسيطة للحياة إلى الأشكال الأكثر تعقيدا.

إن أقدم أشكال الحياة تحتوي بالفعل جنين جميع التطورات المستقبلية. من الممكن شرح تطور العيون والساقين والأعضاء الأخرى دون اللجوء إلى أي خطة مسبقة. وفي مرحلة معينة حصلنا على تطور الجهاز العصبي المركزي والدماغ. وأخيرا، مع الإنسان العاقل، وصلنا إلى الوعي الإنساني. عندها صارت المادة واعية بنفسها، وهي الثورة التي لم تكن هناك أي ثورة أكثر أهمية منها منذ تطور المادة العضوية (الحياة) من المادة غير العضوية.

أوضح تشارلز داروين أن الأنواع ليست ثابتة، وأنها تمتلك ماض وحاضر ومستقبل، وأنها تتغير وتتطور. وبالطريقة نفسها أوضح ماركس وإنجلز أن الأنظمة الاجتماعية ليست شيئا ثابتا إلى الأبد. توضح نظرية التطور كيف سيطرت أشكال الحياة المختلفة على الكوكب لفترات طويلة جدا لكنها انقرضت بمجرد تغير الظروف المادية التي حددت نجاحها التطوري. واستُبدِلت تلك الأنواع، التي كانت مهيمنة في السابق، بأنواع أخرى كانت تبدو غير مهمة، وحتى بأنواع كان يبدو أنه ليست لديها أي فرصة للبقاء.

في الوقت الحاضر، صارت فكرة “التطور” مقبولة بشكل عام، على الأقل من طرف المتعلمين. وأفكار داروين، التي كانت ثورية في أيامه، صارت اليوم مقبولة كحقيقة بديهية. لكنه غالبا ما يُنظر إلى التطور على أنه عملية بطيئة وتدريجية دون انقطاع أو اضطرابات عنيفة. وفي السياسة كثيرا ما يتم استخدام هذا النوع من الأفكار كمبرر للإصلاحية. لكنها أفكار تقوم على سوء فهم مؤسف. بينما الآلية الحقيقية للتطور ما تزال حتى اليوم كتابا مغلقا بالنسبة للكثيرين.

لا يعتبر هذا مفاجئا حيث أن داروين نفسه لم يفهم ذلك. فقط خلال سبعينيات القرن الماضي، مع الاكتشافات الجديدة في علم المستحثات (Palaeontology) التي قام بها ستيفن ج. غولد صاحب نظرية التوازن النقطي (Punctuated equilibria)، أثبت أن التطور ليس سيرورة تدريجية هادئة. تكون هناك فترات طويلة لا يتم خلالها ملاحظة أي تغييرات كبيرة، لكن وفي لحظة معينة، يتكسر خط التطور فجأة بفعل ثورة بيولوجية حقيقية تتميز بالانقراض الجماعي لبعض الأنواع والنمو السريع لأنواع أخرى.

نرى مثل هذه السيرورات في صعود وسقوط النظم الاجتماعية والاقتصادية المختلفة. بطبيعة الحال ليس التشابه بين المجتمع والطبيعة إلا تقريبيا فقط. لكن حتى أكثر دراسات التاريخ سطحية تظهر أن التفسير التدريجي خاطئ. يعرف المجتمع، مثله مثل الطبيعة، فترات طويلة من التغير البطيء التدريجي، لكن هنا أيضا ينقطع الخيط بفعل التطورات المتفجرة (الحروب والثورات) التي تسرع فيها سيرورة التغيير بشكل كبير. إن هذه الأحداث هي التي تشكل، في الواقع، القوة المحركة الرئيسية للتطور التاريخي. والسبب الجذري للثورة هو حقيقة أن نظاما اجتماعيا اقتصاديا معينا يكون قد بلغ حدوده ولم يعد يستطيع تطوير القوى المنتجة كما كان من قبل.

زودنا التاريخ أكثر من مرة بأمثلة عن دول كانت تبدو جبارة لكنها انهارت في فترة قصيرة للغاية. كما يظهر أيضا كيف أن مجموعة من الآراء السياسية والدينية والفلسفية التي كانت مدانة بالإجماع تقريبا، تحولت إلى آراء مقبولة للسلطة الثورية الجديدة التي نشأت لتحل محل القديمة. وبالتالي فإن كون الأفكار الماركسية ما تزال آراء أقلية صغيرة في هذا المجتمع ليست سببا للقلق. كل الأفكار العظيمة في التاريخ كانت في البداية مجرد هرطقة، وينطبق هذا على الماركسية اليوم بقدر ما كان ينطبق على المسيحية قبل 2000 عام.

إن “التكيفات التطورية” التي مكّنت في البداية العبودية من الحلول محل الهمجية، ومكنت الإقطاعية من الحلول محل العبودية، تحولت في النهاية إلى نقيضها. والآن نفس السمات التي مكّنت الرأسمالية من إزاحة الإقطاع والتحول إلى نظام اجتماعي-اقتصادي مهيمن، قد أصبحت سببا لانحلالها. تظهر الرأسمالية اليوم جميع الأعراض التي ترتبط بنظام اجتماعي اقتصادي دخل مرحلة انحطاطه النهائي. وقد صارت تشبه في نواح كثيرة مرحلة انهيار الإمبراطورية الرومانية، كما تشرحها كتابات إدوارد جيبون. إن النظام الرأسمالي، خلال هذه المرحلة التي تنفتح أمامنا، يسير إلى الزوال.

الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية

من خلال تطبيق منهج المادية الجدلية على التاريخ، يصير من الواضح على الفور أن تاريخ البشرية يمتلك قوانينه الخاصة، وبالتالي من الممكن فهمه كسيرورة. يمكن شرح صعود وسقوط التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة بشكل علمي بمدى قدرتها أو عدم قدرتها على تطوير وسائل الإنتاج، وبالتالي مدى قدرتها على توسيع آفاق الثقافة الإنسانية وزيادة هيمنة البشرية على الطبيعة.

لكن ما هي القوانين التي تحكم التغيير التاريخي؟ مثلما أن لتطور الحياة قوانين متأصلة يمكن تفسيرها (وقد تم تفسيرها أولا من طرف داروين، وفي الآونة الأخيرة بفضل التطورات السريعة في مجال علم الوراثة) فإن تطور المجتمع البشري لديه بدوره قوانينه المتأصلة التي شرحها ماركس وانجلز. ففي كتاب “الأيديولوجية الألمانية” الذي كتب قبل البيان الشيوعي، قال ماركس:

«إن المقدمة الأولى لكل تاريخ بشري هي، بالطبع، وجود أفراد بشريين أحياء. ولهذا فإن الواقع الأول الذي تجدر ملاحظته هو التنظيم الجسدي لهؤلاء الأفراد وعلاقتهم ببقية الطبيعة (…) يمكن تمييز الناس عن الحيوانات بالوعي وبالدين، أو بأي شيء آخر تريده. وهم أنفسهم يبدأون في تمييز أنفسهم عن الحيوانات ما أن يبدأوا في إنتاج وسائل العيش الضرورية لهم، وهي خطوة مشروطة بتنظيمهم البدني. إن الناس، إذ ينتجون وسائل العيش الضرورية لهم، ينتجون بطريقة غير مباشرة حياتهم المادية بالذات».

وفي كتاب الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية، الذي كتب لاحقا، يقدم لنا انجلز تعبيرا أكثر تطورا عن تلك الأفكار. حيث يقدم لنا عرضا رائعا وموجزا للمبادئ الأساسية للمادية التاريخية:

«إن المفهوم المادي للتاريخ يبدأ من الافتراض بأن إنتاج الوسائل الضرورية لدعم الحياة البشرية، إلى جانب الإنتاج، تبادل المنتجات، هو أساس كل البنى الاجتماعية؛ وأنه في كل مجتمع ظهر في التاريخ، تعتمد الطريقة التي يتم بها توزيع الثروة وتقسيم المجتمع إلى طبقات أو أنظمة، على ما يتم إنتاجه وكيف يتم إنتاجه وكيف يتم تبادل المنتجات. ومن وجهة النظر هذه فإن البحث عن الأسباب النهائية لجميع التغييرات الاجتماعية والثورات السياسية لا ينبغي أن ينكب على أدمغة الناس ولا في اعتقادهم بالحقيقة والعدالة الأبديتين، بل ينبغي أن ينكب على دراسة التغييرات في أنماط الإنتاج والتبادل».

وعلى عكس الأفكار الاشتراكية الطوباوية لروبرت أوين وسانت سيمون وفورييه، تعتمد الماركسية على رؤية علمية للاشتراكية. توضح الماركسية أن مفتاح تطور كل مجتمع هو تطوير القوى المنتجة، أي القوى العاملة والصناعة والزراعة والتقنية والعلوم. لقد ساعد كل نظام اجتماعي جديد -العبودية والإقطاع والرأسمالية- في دفع المجتمع البشري إلى الأمام من خلال تطويره للقوى المنتجة.

الفرضية الأساسية للمادية التاريخية هي أن المصدر النهائي للتطور البشري هو تطوير القوى المنتجة. هذا هو الاستنتاج الأكثر أهمية لأن هذا وحده هو ما يمكن أن يسمح لنا بالتوصل إلى تصور علمي للتاريخ. تؤكد الماركسية أن تطور المجتمع البشري على مدى ملايين السنين يسير في منحى تصاعدي، بمعنى أنه يزيد من سلطة البشرية على الطبيعة، وبالتالي يخلق الظروف المادية لتحقيق الحرية الحقيقية للبشر. لكن ذلك لم يحدث مطلقا في خط مستقيم، كما تصور الفيكتوريون (الذين كانت لديهم نظرة مبتذلة وميتافيزيقية عن التطور). إن التاريخ يسير في خط تنازلي مثلما يسير في خط تصاعدي.

بمجرد أن ينكر المرء وجهة النظر المادية للتاريخ، تبقى القوة الدافعة الوحيدة للأحداث التاريخية أمامه هي دور الأفراد – الرجال والنساء “العظماء”. أو بعبارة أخرى يبقى أمام رؤية مثالية وذاتية للسيرورة التاريخية. كانت هذا هي وجهة نظر الاشتراكيين الطوباويين الذين فشلوا في فهم القوانين الأساسية للتطور التاريخي، على الرغم من أفكارهم الرائعة ونقدهم البارع للنظام الاجتماعي القائم. كانت الاشتراكية، بالنسبة لهم، مجرد “فكرة عظيمة”، وشيئا كان من الممكن تحقيقه منذ ألف عام، أو تحقيقه صباح الغد. فلو تم اختراعها منذ ألف عام، لكان الجنس البشري قد نجا من الكثير من المتاعب!

من المستحيل فهم التاريخ من خلال الاعتماد على التفسيرات الذاتية التي يقدمها الفاعلون فيه. دعونا نستشهد بمثال واحد: المسيحيون الأوائل، الذين كانوا يتوقعون نهاية العالم في أي لحظة والمجيء الثاني للمسيح، لم يكونوا يؤمنون بالملكية الخاصة. لقد مارسوا في مجتمعاتهم نوعا من الشيوعية (على الرغم من أن شيوعيتهم كانت من النوع المثالي، تقوم على الاستهلاك وليس على الإنتاج). لم تؤد تجاربهم الشيوعية المبكرة إلى أي نتيجة، ولم يكن في إمكانها أصلا أن تؤدي إلى أي نتيجة، لأن تطور القوى المنتجة في ذلك الوقت لم يكن يسمح بتطوير الشيوعية الحقيقية.

في زمن الثورة الإنجليزية كان أوليفر كرومويل يؤمن بصدق بأنه كان يناضل من أجل حق كل فرد في عبادة الله وفق ما يمليه عليه ضميره. لكن مسيرة التاريخ اللاحقة أثبتت أن ثورة كرومويل كانت المرحلة الحاسمة في الصعود المتواصل للبرجوازية الإنجليزية إلى السلطة. لم تكن المرحلة الملموسة التي كان يمر منها تطور القوى المنتجة في إنجلترا خلال القرن السابع عشر لتسمح بأي نتيجة أخرى.

وقد قاتل قادة الثورة الفرنسية العظمى، في الفترة ما بين 1789 و1793، تحت شعار “الحرية والمساواة والإخاء”. لقد اعتقدوا أنهم يقاتلون من أجل نظام قائم على قوانين العدل والعقل الأبدية. لكن وبغض النظر عن نواياهم وأفكارهم، كان اليعاقبة يمهدون الطريق في الواقع لصعود البرجوازية إلى الحكم في فرنسا. ومرة أخرى نقول إنه، من وجهة النظر العلمية، لم تكن من نتيجة أخرى ممكنة خلال تلك المرحلة من مراحل التطور الاجتماعي.

آلان وودز

[1] Engels to Bloch, 21 September 1890, Selected Correspondence, p. 475

[2] Marx and Engels, The Holy Family, Chapter VI