الماركسية والدين - رؤية فنية


معاذ محمد
2020 / 2 / 14 - 09:27     

يولد المسيح ثانية ليسير في درب الجلجلة ، ليصلب من جديد . لكن ، في تلك المرة لم يرسله الله حملاً يرفع خطيئة العالم ، وإنما أرسلته موسكو رافعاً لواء الثورة الأحمر

يعيد نيكوس كازانتزاكيس صياغة حياة يسوع برؤية ماركسية تندمج فيها معاناة المسيح بالاّم الإغريق في ظل الاحتلال العثماني لليونان ، يرصد حياة ليكوفريسي من خلال الصراع بين أعيان القرية وفقراء ساركينا .
يناضل مانولي ورفاقه الذين اختارهم الأعيان لبعث اّلام المسيح في الأسبوع المقدس .. فيؤدي ميشيل دور يوحنا الرسول ، ودور الرسول يعقوب يؤديه قسطندي صاحب المقهي ، و ياناكوس يمثل دور بطرس ، و بانايوتي يمثل دور يهوذا . ويفوز مانولي بإكليل الشوك وثقل الصليب .

تنعكس صورة المسيح علي مرايا متعددة في الرواية فيراه مانولي في الوجه القديم الذي نحته بالكهف " رقيقاً كالضباب ، شفافاً ، له قدمان عاريان يمسان الأرض برقة متناهية حتي تكاد أوراق العشب ألا تميل من تحتهما " .. وغيرته من بعد أهواء القساوسة والأعيان ليصنعوا مسيحاً علي شاكلتهم " مرائياً ، كذوباً ، أكلاً للسحت ، جباناً " فجعلوا منه شريكاً في الجريمة مع قوي القهر والبطش علي الأرض .

من أجل ذلك كان علي مانولي أن ينحت وجهاً جديداً لمسيح لا يدير خده الأيسر لمن صفعه علي خده الأيمن " وجهاً قاسياً ، صلب ، عنيد " .. يشكل ملامحه الجديدة بعد رؤيته لمعاناة فقراء ساركينا و رحلة الإنسان المجسدة في مسيرة القسيس فوتيس ، ليأتي مسيح لا يلقي علي الأرض سلاماً بل سيفاً ، و يسير في المقدمة ومن ورائه سائر المعدمين علي وجه الأرض .

...

أنا اشتراكي يا أبانا ، المسيح وأنا اشتراكيان

من خلال أفكار كازانتزاكيس في تلك الرواية تتقارب نظرته مع الرؤية الماركسية للدين ذو الطبيعة المزدوجة التي عبر عنها ماركس في ( نقد فلسفة الحق عند هيجل ) : “ إن المعاناة الدينية هي في آن، تعبير عن معاناة واقعية من جهة، واحتجاج على المعاناة الواقعية من جهة أخرى. الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، قلب عالم دون قلب، وهو روح ظروف دون روح. إنه أفيون الشعوب”

تستخدم الجملة الأخيرة في هذا المقطع علي أنها خلاصة التحليل الماركسي للظاهرة الدينية دون الالتفات للجانب الأول و دوره النقدي و الاحتجاجي ، وفي مقال لـ جون مولينو يدين عنوانه تلك الرؤية السطحية :
( أكثر من أفيون ) . ويؤكد علي أن اختزال مجمل النظرية المعقدة إلى واحد من مكوناتها ، يؤدي في الواقع إلى تزييفها.

وتتضح الطبيعة المزدوجة للدين عند إنجلز الذي يؤكد علي دوره " الاحتجاجي ، وحتي الثوري أحياناً في إطار بعض الشروط التاريخية " . ويعبر عنه في نقده لـ برونوباور : " فالإيمان المسيحي قبل ان يأخذ شكل عقيدة ومؤسسة محافظة في يد السلطة إبتداء من عهد قسطنطين كان احتجاجاً . وكانت الجماعات المسيحية الأولي تحلم برؤيا يوحنا وهدم السلطان الروماني "
...

الاشتراكيون هم المسيحيون الأوائل

في المعركة بين أغنياء ليكوفريسي و فقراء ساركينا ، يقف مفهومان للدين وجهاً لوجه . القسيس الفقير الثائر
" فوتيس " ، والقسيس الثري المنافق " جريجوريس " . يقود الأول ثورة المسيحيين المتمردين علي الحكم العثماني من أجل توزيع الثروة علي أهالي ساركينا ، ويقود الثاني أثرياء القرية ليحمي أملاكهم ويحمي سيطرة الأغا التركي .

ومحاولاً فهم ماهية الصراع بين أبناء العقيدة الواحدة ، يأتي الأغا علي حصانه مؤيداً من الأعيان الذين يواجهون الاشتراكيون ، وحين يتساءل عن معني الكلمة يجيبه مانولي :
" الاشتراكيون هم المسيحيون الأوائل "

ليعود بنا إلي إنجلز في مقال ( إسهام في تاريخ المسيحية الأولي ) حين يؤكد علي التحولات التاريخية التي مرت بالمسيحية ، يقول : " إن تاريخ المسيحية الأولي يقدم نقطة التقاء ملفتة للنظر مع الحركة العمالية المعاصرة . فالمسيحية في بدايتها كانت تشبه الحركة العمالية من حيث كونها حركة المضطهدين والشعوب المستعبدة التي اضطهدتها روما "

ذلك الاعتراف بالقيمة التاريخية للمسيحية المبكرة كحركة جماهيرية عبرت عن رفض الاضطهاد ، وهدفت إلي التحرر من البؤس والعبودية . جاء ليؤكد أن المسيحية الأولي هي دين المفجوعين و المعدمين ، فالمسيحيون الأوائل كانوا من المستويات الدنيا في المجتمع : عبيد ، فلاحون ، أحرار حرموا من حقوقهم .

في مقال لـ " مايكل لوي " بعنوان ( الماركسية والدين ) . يتتبع المناظرات الفلسفية التي يرد فيها إنجلز علي فيورباخ في نقده للمسيحية ، ويري أن تأكيد إنجلز علي الطابع التاريخي – الاجتماعي للدين المسيحي كنسق ثقافي يتلاقي مع عبارة المؤرخ الفرنسي ( إرنست رينان ) التي كان يحلو لـ إنجلز أن يرددها : " إذا أردت أن تكوّن فكرة عامة عن الجاليات المسيحية الأولى، فما عليك إلا أن تلقي نظرة على أي فرع محلي من المنظمة العالمية للعمال ".. الأممية الأولي : 1846

...

لا جدوي يا يسوع ، لاجدوي

يختتم كازانتزاكيس روايته بمقطوعة جنائزية يرددها الاب فوتيس أمام جسد مانولي المسجي فوق سرير محاط برفاقه ذوي الوجوه الشاحبة : " لا جدوي يا يسوع ، لا جدوي . مضي علي صلبك ألف عام وما زال الناس يصلبونك من جديد. أي يسوع ربي ، متي ستولد يا إلهي ولا تصلب ثانية ، ولكن تعيش بين ظهرانينا خالداً إلي الأبد ؟ "

ليتضح وجه التشابه في المقارنة التي عقدها انجلز في مناظراته الفلسفية ( المادية ضد المثالية ) ، التي يرد فيها على فيورباخ حين يقول عن المسيحية الأولي و الاشتراكية الحديثة أنهما : " حركتان جماهيريتان ، عبرتا عن رفضهما الاضطهاد والمعاناة.وقد لقي أعضاؤهما حتفهم أو نفيهم على أيدي السلطات الحاكمة "


من هنا يأتي التحول عن الملكوت الأرضي إلي الملكوت السماوي ، من حركة سياسية – اجتماعية هدفت إلي تغيير العالم للأفضل إلي عقيدة تكيفت مع النظام الاقطاعي ، وتشبعت بالمثالية التي احتوت إرادة التغيير من خلال مواجهة الظلم ومساعدة الفقراء والمقهورين ، ووضعتها في نمط إيماني يُختَصر مضمونه في الخلاص الفردي

" يقول لي إنهم أيضاً بشر مثلنا ، إنهم إخوة لنا ، هذا كله جميل حين يقال في الكنيسة و حين ينطق به القسيس من على المنبر في يوم أحد . أما أنت أيها الغر فلابد و أنك قد جننت تماماً إذ تريد أن تطبق هذا الكلام عملياً في دارك "


بموت المسيح نجحت الدولة الرومانية و أنصارها المحليون في منع حدوث انتفاضة جماهيرية تتألف من المستويات الدنيا للمجتمع : عبيد ، فلاحون صغار ، أحرار حرموا من حقوقهم ، و معدمين أرهقتهم الديون .بذلك " مرت المسيحية بتحولات توالت عبر مراحل تاريخية مختلفة : من دين العبيد في مراحلها الأولى إلى العقيدة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، مرورا بدين الإقطاع وحتى تكيفها أخيرا مع المجتمع البرجوازي "

.


ختاماً : وبعد اعتراف إنجلز بالقيمة التاريخية للمسيحية المبكرة ، وبأنها كانت دين المفجوعين الأوائل ، المضطهدين والمقهورين ، لم ينس أن يؤكد الفارق الأساسي بينها وبين الاشتراكية الاّن . ففي حين علقت المسيحية خلاصها بالسماء ، فإن الاشتراكية أرادت صنعه علي الأرض .
يقول روجيه جارودي : " عكست العقيدة المسيحية الإخفاق التاريخي لثورات العبيد، بحيث رأينا هذا الشوق العارم إلي التغيير ينقلب إلي حلم وانتظار ثم إلي عقيدة هروب واستسلام ، تنقل إلي العالم الاخر- مملكة السماء - ما كان يمكن تحقيقه في العالم الواقعي "

¬¬