التلفيق ضد ماركس : بكّير نموذجاً / 4 و الأخيرة


حسين علوان حسين
2020 / 2 / 2 - 13:49     

بصدد الترويج لفرية "ثورية النظام الرأسمالي" الحالي
في البيان الشيوعي المكتوب عام 1847 و المنشور في شهر شباط للسنة اللاحقة ، يصف ماركس و انجلز الدور الذي لعبته البرجوازية في التاريخ بكونه "دوراً ثورياً للغاية" . و بعد التفصيل الدقيق و الرائي لطبيعة هذا الدور في تغيير علاقات الانتاج و نمطها و تثوير وسائل الانتاج و خلق الدولة التمثيلية المعاصرة و استعبادها للطبقة العاملة ، يخلص المؤلفان إلى هذه النتيجة :
"و هنا يصبح واضحاً أن البرجوازية لم تعد مؤهلة لأن تصبح هي الطبقة السائدة في المجتمع ، و لا لأن تفرض شروط وجودها على المجتمع كقانون مُهيمِن . أنها غير مؤهلة للحكم بسبب عجزها عن ضمان الوجود لعبدها ضمن عبوديته ، لأنها لا تستطيع منع تدنيه لمثل هذه الحالة ، و لأنها تضطر لإطعامه بدلاً من قيامه بإطعامها . لا يستطيع المجتمع الحياة تحت هيمنة البرجوازية ، و بكلمة أخرى ، فإن وجودها لم يعد ملائماً للمجتمع .
... لذا ، فإن تطور الصناعة الحديثة ، يهدم من تحت أقدام البرجوازية نفس الأساس الذي تنتج بموجبه و الذي تتملك به المنتجات . أن ما تنتجه البرجوازية ، فوق كل شيء ، هم حفارو قبرها نفسه . لذا ، فان سقوطها و انتصار البروليتارية لا يمكن تفاديه . "
و ما تزال هذه النبوءة تتأكد مصداقيتها لذوي الألباب يوماً بعد يوم . و لكن الملاحظ هو أن كل الخدم المؤدلجين للإمبريالية مولعون جداً بترديد فرية "ثورية النظام الرأسمالي" المفضوحة ، و هو النظام الذي بات نظاماً رجعياً و مدمراً للبشرية قاطبة منذ تاريخ كتابة ماركس و انجلز للبيان الشيوعي . بل و لقد ازدادت شراسته تمدداً على مر العقود ، حتى لم تنجو أي بقعة في العالم من شروره المستطيرة . و لو كانت القوى الثورية في الغرب قد أنجزت بنجاح الثورة الشيوعية الضرورية لتحرير العمل و الإنسان إبان القرن التاسع عشر أو خلال العقد الأول من القرن العشرين لما اكتوت كل شعوب العالم بالموت و الدمار الرهيب للحربين العالميتين و لا بالانقلابات العسكرية و الحروب المحلية المشتعلة في كل مكان ، و لا بالأزمات الاقتصادية الرأسمالية الواحدة تلو الأخرى ، و لا بالتدمير الرهيب للبيئة ، و لا بتقسيم سكان العالم إلى مليار "ذهبي" شمالي و ستة مليارات "فحمية" جنوبية .
و بالطبع فإن الاستاذ محمود يوسف بكير – باعتباره مؤدلجاً للإمبريالية – لا يشذ عن ديدن زمرته في الولع بتطويب جرائم رأسمالية النار الشنيعة المقترفة ضد البشر و هذا الكوكب الفريد المهددة حياته بالفناء ، لذا نراه يقدم لنا هذه الفتوى في محاورته إياها :
"ولكل ما سبق فإننا نعتقد أن ماركس ظلم غالبية الرأسماليين الذين هم أساس النهضة الكبيرة التي حصلت في الغرب والآن في باقي دول العالم بما فيها الصين وروسيا."
و في الرد على بطلان الفتوى أعلاه ، سأستخدم نفس المادة التي سبق لي كتابتها في سلسلة " تَرَسْمُل المُتَمَرْكِس : عصام الخفاجي أنموذجاً /14-15" المتوفرة في موقعي الفرعي في "الحوار المتمدن" الأغر على الرابطين :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=595713
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=596739
و لا بأس من الاستشهاد هنا بمقتطف من هذا الخطاب للفيلسوف الأمريكي من أصل روسي "أندري فلتشيك" (و هو أيضاً روائي و مخرج سيمي و محقق صحفي) المعنون : "جرائم الإمبريالية الأوروبية : أوربا مبنية على الجثث و النهب" و الذي ألقاه مطلع عام 2016 تحت قبة البرلمان الإيطالي بغية الختم على كلام الدكتور عصام الخفاجي بدمغة الكذب الصراح الحاسمة ، عله يرعوي فيفكر ثانية بتدبر المعنى الحقيقي لليمين و اليسار في السياسة على نحو موضوعي .
نص الخطاب :
"جرائم الإمبريالية الأوروبية
أوربا مبنية على الجثث و النهب
أندري فلتشيك
(خطاب ألقي في البرلمان الإيطالي بروما ، بتاريخ 29 ، كانون الثاني ، 2016)
أصدقائي و رفاقي ، إنه لشرف عظيم أن أكون واقفاً هنا – في مجلس النواب للبرلمان الإيطالي .
إن الغرب (أو سَمِّه الناتو ، أو أي تسمية تحب – فكلنا يعرف ما الذي أعنيه !) قد زعزع الاستقرار و دمَّر الشرق الأوسط برمته بأشنع طريقة . فمثلما فعل في كل قارات العالم الأخرى ، فقد دمر الغرب حضارات عظيمة ، و نهب كل ما تصل يداه إليه ، و حوّل شعباً فخوراً إلى عبيد . لقد أصبحت ليبيا و العراق في خبر كان ! أنا أشهد بذلك ، فلقد عملت في شتة أنحاء الشرق الأوسط . و بعدها ، عزل الغرب نفسه في مخزنه الضخم المكسو بالذهب ، ليهضم على مهل و حقارة أسلابه !
كم من المهاجرين يوجد ممن تقول لهم أوربا بأنها لا تستطيع قبولهم ؟ مليوناً واحداً . و هذا رقم تافه ، فلبنان قبلت مليوني مهاجر ، و لبنان يجاهد لتحملهم ، يجاهد إلى أبعد الحدودٍ ، و لكنه قد تحملهم ! و لبنان ليس هو البلد الذي دمَّر سوريا و ليبيا و أفغانستان أو العراق .
هل تعلمون كيف يبدو منظر كل هذا الأمر ؟ إنه يبدو مثل ملاحظة امرأة مغتصبة جماعياً ، و قد قتل زوجها أمام ناظريها ، و نُهب بيتها الجميل . و الآن فإن هذه المرأة ، لكي تنقذ أطفالها المتضورين جوعاً من الخراب ، تجد نفسها مجبرة للذهاب إلى أوربا ، إلى نفس المغتصبين و السرّاق الذين دمروا حياتها ، لتطلب المأوى و الطعام . و لكنهم يبصقون في وجهها ! و يقولون لها : " إنك تكلفيننا الكثير ، و من الصعب علينا إيواؤك أنت و الآخرين من أمثالك . يا امرأة ، لقد جئتِ للاستفادة منا . أنت جئتِ لتحصلي على حياة أفضل على حسابنا ! "
هذا هو شكل المشهد من الخارج . هذا هو ما أراه أنا . و أريد أن أتقيأ . و لكن لا وقت لدينا ... على المرء أن يعمل ليل نهار لوقف هذا الجنون . و لكن الغرب ، بضمنه أوربا طبعاً ، قد كلسته جرائمه التي اقترفها بنفسه ، و تسافَلَ أكثر ، وغابت عنه الندامة . أنه يبقى أعمى ، لأن رؤية هذا المشهد لا تُكسِبه مالاً !
لم يبقَ أي يسار في أوربا . إنه ليس اليسار بمعناه الذي نفهمه في كوبا و في غيرها من الأمم الثورية . بالنسبة لنا ، فإن اليسار الحقيقي يعني "الأممية" ، يعني التضامن ! اليسار الحقيقي هو عولمي ، يؤمن بالمساواة ، و لا يأبه مطلقاً بلون بشرة الإنسان . أما ما يسمى باليسار في أوربا فلا يهتم إلا بمنافع مواطنيه أنفسهم . و هو لا يهتم أبداً من أين تأتي الأموال .
و ما دام المزارعون الفرنسيون و اليونانيون و الإسبان و الإيطاليون يحصلون على دعمهم و على اعفاءاتهم ، فعلام القلق إذا ما تم تدمير الزراعة في أفريقيا أو آسيا ؟ أهم شيء هو أن المزارع الأوربي يستطيع ركوب آخر طراز من سيارات "بي أم في" لقاء انتاجه محصولاً ما ، أو حتى لقاء عدم إنتاجه أي شيء قط .
و لقد رأيت أغرب المفاهيم مطبَّقةً في بلدان مثل السنغال و غيرها من المستعمرات الأوربية السابقة : طوفان من المنتجات الزراعية الفرنسية المدعومة بقوة يجتاح الأسواق المركزية في أفريقيا الغربية التي تفتتح هناك ، فيهوى الإنتاج المحلي . بعدها ، ترتفع أسعار تلك المنتجات ضعفين أو ثلاثة أضعاف سعرها في باريس . و لذلك نجد أن سعر كوب اللبن في السنغال - التي لا يكاد دخل الفرد فيها يبلغ سوى 10% من مثيله في فرنسا - يكلف ثلاثة أمثال سعره في محلات "مونوبري" بفرنسا .
من الذي يدفع كلفة أيام العمل لـ 35- ساعة أسبوعياً ؟ من الذي يدفع كلف التأمين الصحي الشامل و التعليم المجاني في الاتحاد الأوربي ؟ قطعاً ليس الأوربيين أنفسهم ! معظم هذه الاموال تأتي من المستعمرات ، من النهب الذي لا يمكن تخيله للعالم الذي ينفذه الغرب .
الاستعمار و الامبريالية ما زالا موجودين ، و إن غيرا أشكالهما أغلب الأحيان ، و لكن مكابدات البلدان غير البيضاء تبقى نفسها . كان الملك البلجيكي ليوبولد الثاني و أذنابه قد قتلوا في ما يسمى الآن بالكونغو عشرة ملايين إنسان في مطلع القرن العشرين . و من عام 1995 إلى اليوم ، فقد نهب الغرب جمهورية الكونغو الديمقراطية مرة أخرى بلا رحمة باستخدامه أقرب حلفائه في أفريقيا - رواندا و اوغندا و كينيا . و مرة أخرى ، مات ما بين 7 و 10 ملايين إنسان هناك في بحر عشرين سنة فقط ، و هذه ليست أرقاماً مبالغاً بها ، بل هي الأرقام التي تزودنا بها الامم المتحدة و تقاريرها ، بصمنها تقريرها المسمى "Mapping Report". كل هذا الرعب قد حصل لكي يستحوذ الغرب على الكولتان (المستعمل في الهواتف المحمولة) و على اليورانيوم و غيره من الخامات الستراتيجية . و لقد قمت بجمع الأدلة على كل هذا في شريطي الوثائقي المعنون "رواندا غامبيت ." .
لقد حصل كل هذا الدمار للحيوات و للبلدان لكي يربح المواطنون الأوربيون على منافعهم ، على الإجازات الطويلة عن العمل ، و على الخدمات الاجتماعية . و عندما ناقشتُ بهذا الموضوع صديقي ، صانع الأفلام الإيطالي من نابولي ، ابتدرني هو بالقول : " نحن لا نريد أن نكون مثل الصينيين . أننا لا نريد ان نكد بجد مثلهم !" فأجبته : " إذن عِش ضمن حدود ما تنتج ! و لا تسمح لمؤسساتك و حكوماتك أن تقتل عشرات الملايين من البشر لكي تحصل الشركات على أرباحها الجنونية ، و يحصل المواطنون الأوربيون على اعاناتهم الشنيعة " .
عندما كنت مؤخراً في زيارة لتايلند ، سمعت مجموعة من الإسبان العاطلين عن العمل و هم يتضاحكون على قضائهم العطلة في جنوب شرق آسيا ، مدفوعة من إعانات بطالتهم . و أنا أعرف العديد من البلدان المعتمدة على الغرب و التي يساوى فيها فقدان العمل للفرد إصدار حكم الإعدام عليه ! غير أن المطلوب منا هو أن نحزن على العاطلين عن العمل في إسبانيا و إيطاليا و اليونان لأن المتوقع منا هو أن نراهم كضحايا !
يحزنني القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست هي الوحيدة ، بل أن أوربا معها في جهلها الهني بدورها في العالم ، و بالتدمير و الرعب الذي تنشره في كل أرجاء كوكبنا . لقد هزني هذا الاكتشاف هزاً عنيفاً بحيث أنني أمضيت أربعة أعوام أجوب العالم لكي أجمع الأدلة و الشهادات التي تصور التراث الاستعماري و الاستعماري الجديد و الامبريالي للغرب ، علاوة على البربريات النيوكولنيالية الجارية الآن . الكتاب الذي ألفته عن هذا يستغرق متن 840 صفحة ، و اسمه : " الكشف عن أكاذيب الامبراطورية" و الذي أتمنى أن يصبح في يوم ما متاحاً باللغة الإيطالية ! لقد حظي هذا الكتاب على الاهتمام الحماسي ، و لكن بالنسبة لي فإن هذا المجلد السميك ليس هو النهاية . حيث أنني أعكف الآن على جمع مواد كتاب ثان مكمل له لكون هذا الموضوع ضخم بكل معنى الكلمة . إن الجرائم و الإبادات الجماعية و المحارق التي اقترفها الغرب على سطح كوكبنا هي من الفداحة على نحو فضيع ! و كل الأشياء مرتبطة بها ! أن كل الترتيب للعالم يوظفها كأعمدة .
و عن كتابنا : "حول إرهاب الغرب – من هيروشيما إلى حرب الطائرات المسيرة" الذي كتبته بالاشتراك مع صديقي نعوم تشومسكي ، فقد وَجّه لي السؤال عما إذا كان الأوربيون يعون حقاً ما الذي فعلوه بالعالم خلال القرون الأخيرة (ملاحظة عرضية : هذا الكتاب متوفر الآن باللغة الإيطالية بعنوان (Terrorismo Occidentale) "الإرهاب الغربي") . و لقد أجبت نعوم : " قطعاً ، لا " !
أكرر هنا مرة أخرى بأن غالبيتهم ، بل أن الغالبية العظمى من الأوربيين ، لا يعون هذا ! إنهم لا يريدون لا الرؤية و لا الاعتراف بكون ما هو موجود لديهم من دور الأوبرا و المستشفيات و المتاحف و المتنزهات و الأروقة ذات العِماد قد شيدت كلها على جثث أولئك الذين تم نهب كل شيء منهم في أمريكا اللاتينية بأوردتها المفتوحة و في آسيا و أفريقيا . الاستعباد ، حملات الإبادة التي يعجز العقل عن تخيلها ، قائمة فادحة من المرعبات !"
أنتهى نص المقتطف من خطاب أندري فلتشيك .
و بالطبع ، فإن القانون الذي يعود الفضل في اكتشافه لماركس و الذي يفرض على النظام الرأسمالي استقطاب رأس المال عند حفنة من المستغلين و استقطاب البؤس للأغلبية الساحقة من الشغيلة قد توسع مدار اشتغاله الآن – مثلما بيَّن ماركس و إنجلز بالضبط – من داخل نطاق البلد الواحد ليشمل شعوب قارات العالم الأجمع فيما يعرف الأن بقطبي الشمال و الجنوب ، و الأدق : قطب الناتو (أوربا الغربية و الولايات المتحدة الأمريكية و و اليابان و كندا) و قطب بلدان بقية العالم كله . مصلحة رأس المال العالمي هي التي تقرر الآن مصائر الشعوب و الأمم . يقول ماركس (رأس المال ، 1867) :
"كل بلد – حتى و إن كان أكبر و أقوى البلدان – أصبح الآن خاضعاً للاقتصاد الكلي للعالم الذي يقرر مصائر الشعوب و الأمم ."
بل و لقد طوّر هذا النظام لمصلحته الآن أذرعاً كونية جبارة مصممة خصيصاَ لتكريس و أدامة هيمنته على العالم أجمع : حلف الناتو ، صندوق النقد الدولي ، الجات ، مجموعة البنك الدولي ... إلخ . كما أن القادة السياسيين للدول الإمبريالية يحلو لهم التصرف إزاء شعوب العالم الثالث مثل زعماء عصابات المافيا في فرض الأتاوات و قتل المتمردين عليهم ، بل و حتى على نحو فاشي خالص مثلما أثبتت وقائع التاريخ المتواترة خلال احتلال الدومنيكان و بنما و افغانستان و العراق و ليبيا و اليمن و سوريا ، و من خلال سياساتهم بالضد من مصالح الشعوب في السعودية و دول الخليج و لبنان و فنزويلا و المكسيك و البيرو و كوريا الشمالية .. الخ .
التجليات المستقبلية لقانون الصراع بين علاقات الإنتاج الرأسمالية و القوى المنتجة جراء الثورة العلمية التكنولوجية في حقل الذكاء الإصطناعي و عبقرية ماركس و إنجلز
المقصود بالذكاء الاصطناعي أو المُصنَّع (Artificial Intelligence) - و يرمز له بالمختصر (AI)ِ - هو كل ماكنة أو آلة تستطيع أن تعي الوضع التي تتواجد فيه و أن تشتغل لتعظيم فرصها بالنجاح في تحقيق أهدافها المبرمجة . و بكلمة أخرى ، فإن الذكاء المصطنع يسمح للرابوط [ترجمتي لمفردة (robot) الإنجليزية المستعارة من التشيكية) بأن يحاكي الوظائف الإدراكية للبشر في اكتساب المهارات و في إنجاز الأشغال المرتبطة بتلك المهارات مثل العمل في المنشآت الإنتاجية و الخدمية و غيرها . هذه الروابيط الذكية المستقبلية لا تكتفي بإنجاز التعليمات الملقمة لها مسبقاً كبرامج ، بل أن بمقدورها تعلم البرامج الجديدة و تنفيذ التعليمات الجديدة من خلال التجربة و من معطيات الأوضاع الجديدة التي تمر بها ، أي أنها قادرة على التعلم و على زيادة ذكائها ذاتياً . و يستهدف حقل العلم هذا تلقيم الروابيط ببرمجيات اكتساب المهارات الذكية المرتبطة بالتفكير ، و بعرض المعارف ، و بالتخطيط ، و بالتعلم ، و بمعالجة اللغات البشرية ، و بالتحسس ، و بالقدرة على التحرك و تداول الأشياء و توجيهها بضمنها قيادة السيارات و الطائرات و تسيير الصواريخ و المركبات الفضائية .
يتأسس الذكاء الاصطناعي على حقيقة أن التفكير البشري يمكن تقعيد العناصر الأساسية المكونة له بما يكفي من الدقة و الضبط اللتان تسمحان ببرمجة المكائن لمحاكاته . هذا يعني ، في التحليل النهائي ، أن كل عمل يقوم به الإنسان سيكون بإمكان الرابوط القيام به ، سواء كان هذا العمل يدوياً أم فكرياً ، روتينياً أو غير روتيني ، بضمن ذلك إنجاز مختلف أنواع الأعمال الفنية كالرسم و النحت و كتابة القصص و الروايات و المقالات و الترجمة و غيرها ، و هو الأمر الذي سيغني هذه الفنون بمساهمات جديدة مضافة إلى مساهمات الفنانين و الأدباء و الكتاب من البشر . و رغم أن هذا الحقل مازال في مرحلة الرضاعة اليوم ، إلا أن ما تم تصنيعه من الروابيط لحد الآن قد أثبت على نحو بات كونها تستطيع إنجاز مختلف الأعمال البشرية المتخصصة بوقت أسرع ، و على نحو أدق ، و أرخص ، و أقوى من البشر . كما تتفوق الروابيط على البشر بقدرها على العمل 24 ساعة في اليوم ، و بالتزامها التام بالتعليمات ، و بعدم حاجتها للأجور و للانضمام للنقابات المهنية و الإضرابات و لا للضمان الاجتماعي و الصحي .
الأمر الواضح بهذا الصدد هو أنه لا حدود لإمكانيات التطور العلمي-التقني المستقبلي في هذا الحقل . منذ الآن تنتج شركة "سوني" رابوطاً قادراً على "التعاطف" مع البشر ، كما إن الحاسوب يتفوق على أمهر أبطال الشطرنج في العالم ، مثلاً . و رغم العثرات المؤقتة ، فسيستحيل إيقاف وتيرة هذا التطور مطلقاً على المدى الطويل في هذا الحقل العلمي التقني الذي يتطلع للنجاح أخيراً في تصنيع رابوط رخيص كلي الذكاء و ليس متخصصَ المهارة فحسب ، و إن كان بلا لحم و دم و ضمير . اليوم الذي سيستطيع فيه الإنسان الحي خلق الإنسان الرابوط الند له عقلياً على الأرض قادم لا محال ، حيث سيستطيع الرابوط صنع رابوط ثان أفضل ، ليصنع هذا الأخير رابوطاً ثالثاَ أعلى تطوراً ، و هكذا دواليك . و سيكون بإمكان كل صاحبة /صاحب محل أو ربة بيت تشغيل رابوط واحد أو أكثر في محل عملها و سكنها لإنجاز مختلف الأعمال لها مجاناُ على غرار وظيفة العبد قديماً . و رغم أن هذه التكنولوجيا الجديدة ستخلق فرص عمل جديدة ، و لكنها ستقضي بوتائر أسرع بكثير على نسبة عالية جداً (60-80%) من الوظائف البشرية للعاملين من ذوي الياقات الزرقاء و البيضاء على حد سواء و على نحو غير مسبوق في التاريخ .
و ما دام كل عمل ينجزه الإنسان يمكن للرابوط إنجازه على نحو أدق و اسرع و أرخص ؛ لذا ، فسيكون من مصلحة الرأسمالي استبدال كل العاملين لديه من عمال و فنيين و مهندسين و مديرين و محاسبين و مخططين و ناقلين .. إلخ بالروابيط ليتخلص من وجع الدماغ جراء تقلب أمزجة العاملين البشر لديه و نفوذ نقاباتهم و اضطراره لدفع أجورهم و علاواتهم الدورية و مخصصاتهم و كُلف الإجازات الاعتيادية و المرضية و التأمين الصحي و الضمان الاجتماعي ، إلخ . كما أن من مصلحة المجتمع ككل التمتع بالأفضليات الهائلة التي سيتيحها لهم تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي من منتجات رخيصة أكثر و خدمات أفضل و أكثر و أسرع و وقت فراغ كاف للاهتمام بعوائلهم و ممارسة هواياتهم و تطوير مهاراتهم و مداركهم و معارفهم و مشاهدهم .. إلخ .
أهم سؤال بهذا الصدد هو : هل تسمح قوانين النظام الرأسمالي بتسريح كل البشر العاملين في مجتمعه حسب مقتضيات تمامية التطور التكنولوجي المتسارع في حقل الذكاء الاصطناعي هذا ما دام الثابت الآن هو أن كل ما يستطيع الإنسان إنجازه من أعمال تستطيع الروابيط إنجازه على نحو أدق و أسرع و أرخص ؟ الجواب الأكيد هو : قطعاً لا ، ليس لسواد عيون أفراد المجتمع ككل أبداً ، و إنما لمصلحة الرأسمالي بالضبط الذي يموت بدون غرف و تجديد الغرف لتلال رأس المال المتأتية من عملية قيامه ببيع منتجاته و خدماته لمن يمتلك المال بفضل الأجور التي يتقاضاها . بدون شراء قوة العمل البشري لخلق القيمة و فائض القيمة و رأس المال منها حصراً لا مكان لوجود الرأسمالي . و من المعلوم أن المجتمع الذي تتولى فيه الروابيط إنجاز كل أشغاله و الذي لا يحصل فيه أي شغيل على الرواتب و الأجور لن يكون قادراً على شراء منتجات و خدمات الرأسماليين الذين سيجبرون على غلق مرافقهم الانتاجية و اشهار إفلاسهم ، مرة و إلى الأبد ، بعد نهب مديد ، ليثبتوا بذلك للمرة الألف أن وجود الرأسمالي يتعارض أصلاً مع مصلحة كل أفراد المجتمع بالنظر لوقوفه عقبة كأداء تمنع المجتمع من التمتع على أتم وجه بالأفضليات التي تتيحها الثورة التكنولوجية في حقل الذكاء الاصطناعي للبشر .
و لكن السيناريو الأرجح تحققاً – و الذي نشهد اليوم بوادره في خضم التصارع الأممي بين التنانين الرأسمالية على ملكية براءات الاختراع في الصناعات الالكترونية (نظام الأندرويد ، مثلاً) و الطبية (أدوية الأمراض المستعصية) ، على سبيل المثال – هو الاستقتال الامبريالي لاستبقاء وسائل الإنتاج – بضمنها تكنولوجيا انتاج الروابيط – ملكية رأسمالية في مجتمع الذكاء الاصطناعي كامتياز طبقي بيد حفنة من المليارديرين (أنظر سيادة برمجيات مايكروسوفت على الحواسيب الشخصية الآن تحت حماية الأف بي آي و السي آي إيه وذلك بالضد من قانون منع الاحتكار لتمكينها من التجسس على الأفراد) كي يواصل هؤلاء غرف جل الأرباح منها على حساب إفقار السواد الأعظم من البشر عبر تسريح المزيد من طوابير العمال و احتكار براءات الاختراع في هذا الحقل العلمي التكنولوجي لأنفسهم ، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى توجه غالبية البشر للنضال المصيري الفعال لتشريك وسائل الانتاج إما بالأساليب الثورية أو بالأساليب الديمقراطية في نهاية المطاف . و من الآن حتى ذاك اليوم ، ستتفاقم المصاعب التي تواجهها ليس فقط دول الجنوب ، بل و كل الطبقة العاملة و الفلاحين ، بل كل العاملين طراً في العالم ، بضمنهم البرجوازية الصغيرة ، و هو ما يهدد بعودة الفاشية في الدول الرأسمالية الأقوى – لاحظ التوجه الفاشي في بنود قانون "باتريوت" الذي شرعه الكونغرس الأمريكي عام 2001 ، و في تسلكات الرئيس ترمب التي شبهها رئيس الأف بي آي السابق "كومي" بأفعال زعيم للمافيا (mafia boss) – و باندلاع المزيد من حروب النهب الإمبريالي المحدودة و الكبيرة على حد سواء المشفوعة بتسارع وتائر سباق التسلح الإلكترونية للقتل الأكثر و الأرخص و الأدق .
و سيكون مثل هذا السيناريو من المصاديق الجديدة على قول ماركس : "و في مرحلة معينة من تطورها ، تدخل قوى الإنتاج المادي للمجتمع في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة ، أو بالتعبير القانوني الدال على نفس الشيء : مع علاقات الملكية التي كانت تعمل ضمن إطارها حتى ذلك الوقت . عندها ، تتحول علاقات الإنتاج من أشكال لتطوير قوى الانتاج إلى قيود عليها . ثم تحل حقبة من الثورة الاجتماعية . و التغييرات في القاعدة الاقتصادية تؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى التحولات في كل البناء الفوقي الهائل ."
كما سيكون هذا هو أنصع تجلي مستقبلي إضافي جديد لمقولة العبقريين : كارل ماركس و إنجلز في "البيان الشيوعي":
"و هنا يصبح واضحاً أن البرجوازية لم تعد مؤهلة لأن تصبح الطبقة السائدة في المجتمع ، و لا لأن تفرض شروط وجودها على المجتمع كقانون مُهيمِن . أنها غير مؤهلة للحكم بسبب عجزها عن ضمان الوجود لعبدها ضمن عبوديته ، لأنها لا تستطيع منع تدنيه لمثل هذه الحالة ، و لأنها تضطر لإطعامه بدلاً من قيامه بإطعامها . لا يستطيع المجتمع الحياة تحت هيمنة البرجوازية ، و بكلمة أخرى ، فإن وجودها لم يعد ملائماً للمجتمع .
... لذا ، فإن تطور الصناعة الحديثة ، يهدم من تحت أقدام البرجوازية نفس الأساس الذي تنتج بموجبه و الذي تتملك به المنتجات . أن ما تنتجه البرجوازية ، فوق كل شيء ، هم حفارو قبرها نفسه . لذا ، فان سقوطها و انتصار البروليتارية لا يمكن تفاديه . "

تمت .