المجتمع البروليتارى......قرائة فى مضمون البيان الشيوعى


خالد فارس
2020 / 1 / 22 - 11:39     

--مقدمة:

هل يمكننا الحديث عن مجتمع بروليتارى؟ وهل يعنى ذلك أن مفهوم البروليتاريا, فى السياق الكلاسيكى, الذى يفترض بأن هناك طبقة عمال وفلاحين, على المستوى الوطنى, هى البروليتاريا, قد تجاوزه التاريخ, ولم يعد له أية فائدة؟
تحاول هذه المقالة الاجابة على هذه الأسئلة. نعتبر أن مفهوم البروليتاريا, فى السياق الكلاسيكى, هو مفهوم صحيح, ولكنه مجتزأ, أى أنه لا يحاكى الواقع الوجودى للبروليتاريا. نتبنى مفهوم المجتمع فى كليته, أو ككل, هو البروليتاريا, بمعنى, أن داخل المجتمع, توجد عناصر بروليتارية, لم ترتقى الى مستوى طبقة, لذاتها, بسبب سيطرة البرجوازية, الكونية, على المجتمعات العالمية, التى تمنع نشوء طبقة, لذاتها, نقيض لها.

المقصود من اصطلاح المجتمع البروليتارى, المجتمع بكليته الاجتماعية, هو الذى يتم استلابه واستغلاله واخضاعه, ثم الحاقه وضمه, من أجل تبعيته, حتى يتحول الى مجتمع تقديم خدمات, مجتمع وظيفى, ليس لذاته, بل للبرجوازية العالمية والكونية.
ما يسبق سيطرة طبقة على طبقة, هو سيطرة طبقة على المجتمع بأكمله. ويتبع ذلك أن الطبقة النقيض, تبقى فى حالة جنينية, كما كانت الطبقة البرجوازية, لعقود طويلة فى العهد الاقطاعى. ينشأ الصراع فى خضم السيطرة على المجتمع ككل, لابقاء الطبقة النقيض فى حالة خمول وجنين غير قابل للولادة, أو لديه عسر ولادة.


الطبقة النقيض ليست مُعْطى تاريخى, أو افتراض مسبق. ليس شرطا وجود طبقة برجوازية, يقضى حكما وجود طبقة بروليتاريا, ولو كان كذلك, لما استطاعت البرجوازية الاستمرار. تعيش وتزدهر الطبقة البرجوازية على أنقاض الطبقة المضادة, أى أن مهمتها عدم قيام هذه الطبقة, عدم السماح لها بالوجود, وتفتيت عناصرها وأنوية وجودها فى المخيم, المصنع, الحارة, الشارع, المدرسة, الجامع والكنيسة والكنيس والمعبد, الجامعة, فى كل مكان. ولادة الطبقة النقيض هو عمل تاريخى, يتم خلق ظروف تكونها, أو انتاج ظروف نشأتها, من واقع المجتمع.


--ماهى الطبقة؟

يشير البيان الشيوعى فى ص 55 "فى العهود التاريخية الأولى, نجد, فى كل مكان تقريبا, تقسيما كاملاً للمجتمع إلى مراتب متمايزة, ..تدرجا متفاوتاً للمنزلة المجتمعية. ففى روما القديمة, كان ثمة نبلاء, وفرسان, وعامة, وعبيد, وفى القرون الوسطى, أسياد إقطاعيون, ومقطعون, ومعلمون, وصناع, وأقنان, وإضافة إلى ذلك نجد, فى كل طبقة من هذه الطبقات, تراتبية فارقة".

و حتى نفهم التركيب الطبقى للمجتمع, لا بد من التطرق الى مسألتين: الأولى: ما هو نوع أو نمط تقسيم العمل والمجتمع والفرد, والثانية: ما هى أنواع التمايز والتراتبية الفارقة؟.

وفى كل عصر تتغير أنماط الانقسام والتراتبية الفارقة: "غير أن عصرنا, عصر البرجوازية, يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية. فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين كبيرين متعاديين, إلى طبقتين كبيرتين متجابهتين مباشرة, البرجوازية والبروليتاريا". (ص55).
كما قلنا فى المقدمة, لا نستطيع افتراض ذلك تاريخيا, أو كونه عملية ميكانيكية, بل هى عملية أصيلة, معقدة, تمر فى مراحل طويلة, ومتداخلة. وهذا ما يؤكده لنا البيان الشيوعى عندما يشير الى ظروف نشأة البرجوازية ذاتها "فالبرجوازية: فئة مقهورة تحت سيطرة الاقطاعيين, وعُصبة مسلحة تَسوس نفسها بنفسها فى – الكومونة (المقصود هو الكومونات أى المدن التى كانت تنشأ فى فرنسا) جمهورية مدينية مستقلة هنا, وطبقة عوام مُلزَمة بدفع الضرائب للنظام الملكى هناك- وقوة موازنة للنبالة زمن المانيفاكنورة فى النظام الملكى المُقَيّد أو المطلق, وحجر الزاوية للأنظمة الملكية الكبيرة بوجه عام, (هذه البرجوازية) انتزعت أخيرا, بقيام الصناعة الكبيرة والسوق العالمية, السلطة السياسية كاملة فى الدولة التمثيلية العصرية. وسلطة الدولة الحديثة ليست سوى هئيئة تدير المصالح المشتركة للطبقة لابرجوازية بأسرها". (ص 58).

نلاحظ أن البرجوازية فى العصر الاقطاعى لم تكن شىء مُعطى, أو نتاج ميكانيكى, أو تحصيل حاصل, أو أن مجرد وجود الاقطاع فسوف يكون هناك برجوازية, انما فى حقيقة الأمر, هناك تفرعات وأجزاء وعناصر مبعثرة هنا وهناك, الا أن جاء الوقت التاريخى "بقيام الصناعة الكبيرة والسوق العالمية" أصبحت البرجوازية طبقة بذاتها ولذاتها. فهى عملية تاريخية معقدة. ولابد من ملاحظة أن نشوء هذه الطبقة, على المستوى الكونى, إنما نشأ فى رحم الاستعمار الكونى, فالبرجوازية وُلِدَت كونية, كوزمولوليتان, كونتيناتال.

من أين جائت البرجوازية؟ " فمن أقنان القرون الوسطى تحدر سكان أولى البلدات. ومن هؤلاء السكان تكونت الأصول الأولى للبرجوازية" (ص57). اذا هناك تغييرات ديمغرافية كبرى, تاريخية, تمتد عبر عقود طويلة, هى التى فتحت الأفاق أمام سكان القرون الوسطى من تغيير فى صيرورات وجودهم. وهذه التغيرات الديمغرافية, مستمرة الى يومنا هذا, فى أشكال متعددة, احتلال, حروب أهلية, تهجير, نفى, حصار, الخ.. ويؤكد ذلك البيان الشيوعى "وهكذا نرى أن البرجوازية العصرية نفسها, هى نتاج مسار تطور طويل, وسلسلة تحولات فى الإنتاج والمواصلات"

--فى تكون الطبقة البرجوازية:

كما قلنا, لم تتكون الطبقة البرجوازية, على دفعة واحدة, أو أنها وجدت هكذا فى قلب المجتمع الاقطاعى, بل أن ماركس يؤكد فى البيان الشيوعى " فاكتشاف أميركا والطواف البحرى حول إفريقيا أوجدا للبرجوازية الناشئة مرتعاً جديداً. إن سوق الهند الشرقية والصين, وإستعمار أميركا, والتبادل مع المستعمرات, وازدياد وسائل التبادل, والسلع عموماً, وفرت للتجارة والملاحة والصناعة دفعاً لم يسبق له مثيل, وبالتالى وفرت نمواً سريعاً للعنصر الثورى فى المجتمع الإقطاعى المتداعى", (ص55-56) .
نود الاشاراة الى عدة نقاط:

أولاً: "مرتعاً جديداً": الطبقة بحاجة الى تمكين وجودها, وهى تبحث دوما عن مصادر خصوبة جديدة لكى تنمو وتزدهر فيها, أو توفر لها امكانية للازدهار.

ثانياً: "وفرت نمواً سريعا للعنصر الثورى فى المجتمع": فإن أى طبقة بحاجة الى مرحلة نمو, فى الكم والنوع, عناصر تثوير الطبقة, أى عناصر نهضتها وإنهاضها.

ثالثاً: " "المجتمع الاقطاعى المتداعى": أى طبقة جديدة, أو ممكنة تاريخيا, لا تأخذ مكانها فى مجتمع متماسك ومزدهر, بل فى المجتمع الذى يتداعى ويتفسخ, الا أن هناك نوعان من التفسخ والتداعى الاجتماعى: (ملاحظة: يرجى قرائة القسم الذى يتحدث عن الظروف التاريخية: التاريخ السياسى)
- البرجوازية تعمل على تفتيت المجتمع من أجل عدم استبدالها بطبقة أخرى, نقيض لها.
- المجتمع يعمل على تفتيت البرجوازية من أجل استعادة المجتمع و استبدال هذه الطبقة بطبقة أخرى, تمثل المجتمع ككل.

رابعاً: " سوق الهند الشرقية والصين, وإستعمار أميركا, والتبادل مع المستعمرات, وازدياد وسائل التبادل, والسلع عموماً, وفرت للتجارة والملاحة والصناعة دفعاً لم يسبق له مثيل": روافع الطبقة البرجوازية التى تمكنها من تحويل وسائل العيش والحياة الى رأس مال, أى انشاء علاقات رأسمالية جديدة, أو توسعة العلاقات الرأسمالية الجديدة. وهذه العناصر هى حقل صراع كونى بين الطبقة البرجوازية على مستوى الأمة-الدولة Nation State, وعلى مستوى الكون, صراع بين الأمم Inter-nation-conflict.

مما سبق لا يمكن افتراض الطبقة, دون فهم شروط انمائها, ووجودها, وتوسعها. أى طبقة جديدة, بحاجة الى: حقول جديدة لنموها وإزدهارها, عناصر تثوير الطبقة, صراع على مستوى المجتمع ككل تعبر عن تداعى المجتمع البرجوازى الذى يضع المجتمع فى خدمتها حصريا, أسواق جديدة (من أجل انشاء علاقات رأسمالية فى حالة الطبقة البرجوازية, من أجل انشاء علاقات انتاج اشتراكية فى حالة الطبقة العاملة والبروليتاريا فى هذه الحالة تسمى أسواق إنتاج, المجتمع الأممى, أو ما شابه ذلك).

--البرجوازية الكونية أو الكونتيناتال:

المجال العام, والحيز الذى تسيطر عليه البرجوازية, يشمل كافة الامكنة: جيو-سيساى كونى وأزمة كونية: الماضى والحاضر والمستقبل.
. "والبرجوازية أخضعت الريف لسيطرة المدينة. وأنشأت مدنا ضخمة, وزادت بدرجة هائلة عدد سكان المدن إزاء سكان الريف, منتزعة بذلك قسماً كبيراً من السكان من سذاجة الحياة الريفية, ومثلما أخضعت الريف للمدينة والبلدان الهمجية وشبه الهمجية للبلدان المتحضرة, أخضعت الشعوب الفلاحية للشعوب البرجوازية, والشرق للغرب" (ص62-63).

لا بد لنا من أخذ مسألة المجال العام أو الحيز الكونى للبرجوازية على محمل الجد. لأنها عملية كونتيناتال, كوزموبوليتينية, كونية. هى عملية هدم, واعادة بناء المجتمعات العالمية. يُلْزِمُنا ذلك, بأن أى حديث عن البرجوازية, يُخْتَزَلْ فى مقولات البرجوازية الوطنية, هو قول قاصر, من ناحيتين. الأولى: أن البرجوازية على مستوى الاقليم أو الجيو-سياسى أو القومية غير قادرة على الاستقلال عن البرجوازية فى أماكن أخرى, بمعنى أنه لا يوجد برجوازية مستقلة عن البرجوازية الكونية. و يعنى أيضا, أن العولمة هى نظام تبعية متفاوت, للبرجوازيات الصغرى, من حيث النوع والكم. إنها السلاسل البرجوازية, وليست البرجوازية الوطنية, كقول أَصَحْ.

ثانياً: أن البرجوازية تتخلى عن مجتمعاتها القومية والوطنية, لصالح السوق الكونى, يكمن دورها فى تطويع المجتمع وتطويقه واستلاب كليته, حتى يتحول الى عناصر فردية, تمنع تكون كتل اجتماعية سواء فى شكل طبقة أو أحلاف طبقية.
تخوض البرجوازية معركتها وسيطرتها على المجتمع, فى سياق كونى أى على مستوى العالم والكون, وليس فقط الوطنى أو القومى, بل على العالم ككل, بالتحكم بوسائل الانتاج, "والبرجوازية تقضى, أكثر فأكثر, على تشتت وسائل الإنتاج والملكية والسكان. وقد حشرت السكان, ومركزت وسائل الإنتاج, وركزت الملكية فى أيد قليلة. فكانت المركزية السياسية, النتيجة الحتمية لذلك. فأن مقاطعات مستقلة, تكان تكون متحدة لها مصالح وقوانين وحكومات وجمارك مختلفة, حشرت فى أمة واحدة, ذات حكومة واحدة, وقانون واحد, ومصلحة قومية طبقية واحدة, وسياسة جمركية واحدة" (ص 63).

لو أمعنا النظر فى مضمون وسياق ذلك, سوف نتدارك أن البرجوازية لا تفصل بين وسائل الانتاج, على المستوى الكونى, وتعالج أية تناقضات, قد تتناتج بسبب تفرعات وتشتت ملكية وسائل الانتاج فى الاطر الوطنية والقومية أو الفردية. وتلجأ البرجوازية الى فرض سيرورات تبعية واخضاع. والمركزية التى جائت فى الاقتباس هى تعبير أو اصطلاح آخر لمفهوم التبعية والاخضاع.
البرجوازية بحاجة الى مركزية سياسية لكى تقوم بهذا الدور, لان دورها مكرس من أجل إنماء رأس المال, لا يتيح لها الأدوات والوقت للتفرغ للسياسى, فتلجأ الى قوانين كونية تفرض على الحكومات الوطنية أن تتخلى عن مشروع برجوازى خاص بها, وتدفعها لكى تندمج فى المشروع البرجوازى الكونى. لا نتردد, اذا قلنا أن هناك أمة برجوازية, بالمفهوم المجازى, بمعنى أن الأطار السياسى للنظام العالمى, يضمن وجود برجوازية تحاكى مفهوم الأمم فى السياق السياسى.

--الصراع الطبقى سيرورة اخضاع للمجتمع

يتحدث البيان الشيوعى عن السيطرة الطبقية على المجتمع برمته, وليس على طبقة أو فئة أو شريحة "فالطبقات السالفة كلها, التى استولت على السلطة, كانت تسعى الى توطيد مركزها المكتسب بإخضاعها المجتمع بأسره لشروط كسبها" (ص 75). "الشرط الاساسى لوجود الطبقة البرجوازية ولسيطرتها, هو تكديس الثروة فى أيدى خواص, تكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. والعمل المأجور يقوم حصراً على المزاحمة بين العمال" (770-78).

"فرأس المال هو نتاج جماعة, ...لا يُحَرّك إلا بالنشاط المشترك لجميع أعضاء المجتمع". (ص82-83). "فرأس المال إذن ليس فاعلية شخصية, بل فاعلية مجتمعية" (ص 83).

"فى المجتمع البرجوازى رأس المال مستقل وله ذاتية مميزة’ فى حين أن الفرد الفاعل لا استقلال له, ولا ذاتية مميزة" (ص 84).

"أليس المجتمع هو الذى يحدد تربيتكم ...ألا تحددها العلاقات المجتمعية...ألا يحدده المجتمع المباشر وغير المباشر..." (ص 88).

"ولكن مهما كان الشكل الذى اتخذته هذه التناحرات على الدوام, فإن استغلال قسم من المجتمع للقسم الآخر هو واقع واحد لجميع العصور السالفة. ولا عجب إذن إن كان الوعى المجتمعى, فى كل العصور, يتحرك, رغم التنوع والتباين, فى أشكال مشتركة (واحدة) معينة, فى أشكال الوعى التى لاتنحل تماماً إلا بزوال التناحر الطبقى كليا" (ص 93).

الغاية من جمع هذه الاقتباسات من البيان الشيوعى, هو التأكيد على حضور المجتمع ككل. ويعنى ذلك أن المجتمع, الحالة الكلية, هو محور الصراع والتناقضات. و أن السيطرة على المجتمع ككل, سابق على أى سيطرة ممكنة. فالبرجوازية يستحيل وجودها دون سيطرة كاملة وكلية على المجتمع. وهذه السيطرة تعنى اخضاع عناصره, ومنع نشوء عناصر يمكن أن تتحول الى كتلة مضادة لها سواء فى هيئة طبقة أو فى أى شكل آخر.

--تغيير أشكال وأنواع الاضطهاد الطبقى

تتغير ميكانيزمات الاستغلال والاضطهاد, من حقبة الى أخرى, "المجتمع البرجوازى العصرى, الذى قام على أنقاض المجتمع الاقطاعى, لم يلغ التناحرات الطبقية, بل أحل محل الطبقات القديمة طبقات جديدة, وحالات اضهاد جديدة, وأشكالاً جديدة" ص 55.
إن العملية التى ينخرط فيها كافة عناصر المجتمع, فى المجتمع البرجوازى, هى إنماء رأس المال, أى أن يكون المجتمع ككل, مجتمع إنماء رأس المال, فى كليته وأجزائه.

الفاعل هو المجتمع ككل, فى تعدد أشكال هذا الفعل, وليس أجزاء من المجتمع. إنماء رأس المال عملية معقدة, تلزمها تحديثات متعددة و كبرى, ولا تسطيع طبقة, بذاتها, أن تعمل بمعزل عن المجتمع, إنما على المجتمع أن يكون موجودا بشكل ما, بصيغة ما, تضمن تفكيكه, وتدميره, مراراً وتكرار, ولكافة العناصر التى من الممكن أن تنبذ إنماء رأس المال.

فى المجتمع البرجوازى يتحول العمل سواء تحت مسمى العمال أو ما يطلق عليهم ماركس العصريين (مثل الموظفين والاطباء والمهندسين وغيرهم), الى سلعة يقول فى ص (66) "وبقدر ما تقوم البرجوازية أى (رأس المال), تنمو أيضا البروليتاريا أى طبقة العمال والعصريين, الذين لا يعيشون إلا إذا وجدوا عملاً. ولا يجدون عملاً إلا إذا كان عملهم ينمى رأس المال. وهؤلاء العمال المكرهون على بيع أنفسهم قطعة قطعة هم سلعة كأى صنف تجارى آخر, ولذا هم معرضون لكل صروف المزاحمة, ولكل تقلبات الأسواق".

علينا أن نركز على أنماء رأس المال الذى شرطه أن لا يعيش الإنسان الا إذا وجد عملا ينمى رأس المال البرجوازى. هذه الجدلية الشرطية, تعبر عن تاريخ جديد. وهذا التاريخ هو تاريخ تحويل البشر جلهم, الى أصناف سلع تجارية, يبيعون أنفسهم, ويوقعون عقود عمل تلزمهم بقيود وشروط ونظام أجور, يبقيهم تحت رحمة المزاحمة وتقلبات الأسواق. هذه هى البروليتاريا التى يتحدث عنها ماركس. بلغة أخرى أن كل من يعمل مكرها, فى سبيل إنماء رأس المال للبرجوازى هو بروليتارى. ويمكن اضافة وصف آخر للحالة الوجودية, هو أن هذا الذى يعمل مكرها, البروليتارى, قد يفقد حياته أو وسائل الحياة اذا توقف عن العمل.

تشير التقارير الى أن القسم الأكبر من المجتمعات فى عمله أو فى ظروف العمل. حيث أنه فى عام 2019, يقدر نحو 5.7 مليار انسان, او 74% من سكان العالم البالغ عددهم 7.7 مليار أنسان, هم جزء من الطبقة العاملة. يوجد 105.1 مليون موظف, ما يقدر 1.4% من سكان العالم. الطبقة العاملة هى الأعلى عددا فى العالم. الطبقة الرأسمالية, على النقيض, الأكثر مناعة وقوة مالية, ولكنها صغيرة فى العدد. Fuchs, Christian. Marxism (p. 109). Taylor and Francis.

وعندما نتحدث عن 74% من البشر يعملون, فاننا نشير الى العمال بالمفهوم الكلاسكيى اضافة الى ما أسماهم البيان الشيوعى العصريين.

--التغيير الطبقى: الحروب المتواصلة والتدمير الطبقى:

هناك صراعات معلنة ومستترة, وانواع اضطهاد متنوعة, الا أن جلها, تؤكد ضرورة التغيير الحقيقى, على مستوى المجتمع, ككل. "حرٌ وعبد, نبيل وعامى, بارون وقن, معلم وصانع, ولكلمة ظالمون ومظلومون, فى تعارض دائم, خاضوا حروبا متواصلة, تارة معلنة وطوراً مستترة, حربا كانت تنتهى فى كل مرة إما بتحول ثورى كلى للمجتمع كله, وإما بهلاك كلتا الطبقيتين المتصارعتين" (ص54).

إذا من الممكن أن يؤول الصراع الطبقى والتناحر الاجتماعى الى هلاك كلى أو جزئى للطبقات المتصارعة. ماذا يعنى ذلك؟ يعنى أن تفقد الطبقة فى المجتمع وجودها الحقيقى التاريخى, أى أن تتنازل عن دورها التاريخى المنوط بها, فبدلاً من أن تقوم بمهمة تاريخية لا نشاء مجتمع حضارى مدنى تقدمى, تتجه الى عملية تدمير للطبقة الأخرى, من خلال تدمير مجتمعها, لتتحول الى طبقة تُناقِض جَوهَر وجودها فى التاريخ.

إن ظاهرة التدمير الطبقى وهلاك الطبقتين, ليست بعيدة عن الوطن العربى. بل ان مجريات الصراع التى نشأت فى خضم التاريخ السياسى, أدى الى تدمير كلى للطبقة البرجوازية والطبقة النقيض. وهذا ما سنشرحه فى القسم التالى.

--الظروف التاريخية و التاريخ السياسى: الهلاك الطبقى العربى. الدولة تقود حروب الفناء الطبقى

السؤال الذى لابد من تذكره على الدوام, يتعلق بالتاريخ السياسى الذى تكونت فيه المجتمعات وطبقاته. وهذا التاريخ يقدم لنا صورة عن الأسس الكبرى للمجتمع والدولة. وله انعكاسات على مسار نشوء الطبقة, يختلف من تاريخ سياسى الى آخر.
جاء فى البيان الشيوعى "فكل مرحلة, من مراحل تطور البرجوازية تلك, كانت مشفوعة بتقدم سياسى متطابق." (ص 57) . لو نظرنا الى الواقع السياسى, فى التاريخ المعاصر, للوطن العربى, سوف نجد عكس هذه المقولة, ويجوز لنا أن نقول عن واقع الطبقة البرجوازية : فكل مرحلة من مراحل تأخر البرجوازية العربية تلك, كانت مشفوعة بتأخر سياسى متطابق.

ولكننا نريد أن نجعل الأمر أكثر دراماتيكيا, لنقول, بأن ولادة البرجوازية العربية لم تأت من رحم المجتمع السابق عليها أو من ثورة على المجتمع الاقطاعى العثمانى, المتداعى. لنجد أمامنا سؤال, من أين إذا أتت البرجوازية العربية؟. لنا فى هذا الصدد مقالة http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=610670, تتعلق بالمستوى الاقتصادى للمجتمع العربى, تضىء على هذا الجانب.

من ما أردنا استخلاصه, من المقالة, هو أن المستوى الاقتصادى فى الوطن العربى, هو تنظيم اقتصادى-سياسى, لا مجتمعى أو نقيض مجتمعى, بدائى, لا يسمح بنشوء طبقة تحمل مشروعها. وأن وجود الدولة العربية هو شرط وضرورة, لا ستبدال ولادة الطبقة البرجوازية, ولكى تقود الدولة حرب هلاك طبقى ضد البرجوازية وضد الطبقة العاملة. وهذه الحروب التى تؤدى الى فناء الطبقات, هى ذاتها التى تؤدى الى تدمير المجتمع وفنائه.


--خلاصة:

تمثل فكرة المجتمع البروليتارى الواقع الوجودى الذى تعيشه الطبقات الاجتماعية التى لم يتسنى لها النشوء والولادة فى سياق التطور الاجتماعى. كما أن البرجوازية الأوروبية نشأت فى أحضان الاقطاع, لم تستطع البرجوازية العربية القيام بذات الدور فى حقبة الاقطاع العثمانى.
جاء سايكس-بيكو بسبب هذا الفراغ التاريخى الاجتماعى, ولجأ الى فكرة كانتونات جيو-سياسية, وحكام (ملوك وأمراء وشيوخ...) لها ملكية مطلقة وكاملة على الثروة ووسائل الانتاج والشعوب (الخلافة, الامامة, العشيرة, الملك, السلالة..الخ).
هذه الكانتونات تحولت الى دول, ولم تأتى هذه الدول من مجتمعات أو طبقات اجتماعية. (انظر مقالة للكاتب: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=498107, حول الجدلية العربية). قامت هذه الدول بالسيطرة والهيمنة على كل شىء, وأدارت حروب الهلاك الطبقى, أى أنها دمرت عملية نشوء طبقات اجتماعية تتفاعل فى اطار الدولة.

يمثل الاستبداد التاريخى الذى نشأ مع سايكس-بيكو, نموذج هيمنة عنفية على المجتمع وعلى الطبقات. العنف والقهر والاستلاب والاستغلال على المجتمع ككل. وهو مانطلق عليه المجتمع البروليتارى, أى أن استعادة المجتمع هو هو الصراع الطبقى فى الوطن العربى.
يستمد المشروع الصهيونى, قوته وديمومته من غياب المجتمع العربى والطبقات الاجتماعية. لذلك, فان أية عملية نهوض اجتماعى سواء فى شكل مقاومة أو تقدم علمى أو علماء أكفاء أو نخب تحررية, أو حتى ادخال منظومة صناعات متقدمة الكترونية أو كيميائية أو عسكرية, أو حتى حرية سياسية تقرر فيها الشعوب تقرير مصيرها, سوف تقف الصهيونة بالمرصاد لها.

سلالات سايكس بيكو والصهيونية, قامت على الفراغ الاجتماعى فى الوطن العربى, واستمدت قوتها من إستمرار هذا الفراغ. الاستبداد هو شرط لاستدامة الفراغ المجتمعى, ومنع نهوض أو ولادة طبقات للمجتمع. تستمر هذه العملية بالتعاون مع الأنظمة الحاكمة من أجل فناء الطبقات وحروب الهلاك الطبقى, هلاك المجتمعات.

خالد فارس.

المراجع
دونكر هرمان (2008). البيان الشيوعى. ترجمة عصام أمين . دار الفارابى.