العودة الى لينين 1


طلال الربيعي
2020 / 1 / 1 - 06:17     

عقد مؤتمر لينين ("نحو سياسة الحقيقة: استرجاع لينين") في معهد الدراسات الثقافية في إيسن في المانيا في فبراير 2001. وقد تم جمع اوراق هذا المؤتمر مع اوراق اخرى قدمت لاحقا وظهرت باجمعها في كتاب بعنوان
Lenin Reloaded: Toward a Politics of Truth
https://www.amazon.de/Lenin-Reloaded-Toward-Politics-Truth/dp/0822339412
-اعادة تحميل لينين: نحو سياسة الحقيقة-

بدأ مشروع هذا الكتاب كإيماءة استفزازية تقريبًا من قبل محرري الكتاب سيباستيان بودغن, ستاثيس كوفيلاكيس, وسلافوي شيشيك. فلماذا التركيز على لينين اليوم؟ جوابهم هو هذا: اسم "لينين" يشكل ضرورة ملحة بالنسبة لنا على وجه التحديد الآن, في الوقت الذي ينظر فيه عدد قليل جدًا من الناس بجدية إلى البدائل المحتملة للرأسمالية الآن. في الوقت الذي تظهر فيه الرأسمالية العالمية باعتبارها اللعبة الوحيدة في المدينة والنظام الديمقراطي الليبرالي باعتباره التنظيم السياسي الأمثل للمجتمع, فقد أصبح من الأسهل بالفعل تصور نهاية العالم بدلا من تغيير أكثر تواضعًا في طريقة الإنتاج.

في اللحظة التي يظهر فيها المرء أدنى علامة على الانخراط في المشاريع السياسية التي تهدف إلى تحدي النظام الحالي بشكل خطير, يتلقى هو أو هي الإجابة الفورية التالية: "كما هو الحال دوما, فإن هذا سينتهي بالضرورة بكَولاجَ جديد- هولوكوست معاصر ومعسكرات اعتقال جديدة!"

تستغل الفلسفة السياسية بشكل مخزي أهوال الكَولاجَ أو الهولوكوست باعتبارها تكتيك الخوف النهائي لابتزازنا للتخلي عن كل التزام راديكالي جاد. وبهذه الطريقة, يمكن للأوغاد الليبراليين المطاوعين أن يرضوا نفاقهم في دفاعهم عن النظام الحالي: إنهم يعلمون أن هناك فسادًا واستغلالًا ونحو ذلك, لكنهم يدينون كل محاولة لتغيير الأشياء باعتبارها خطيرة أخلاقيا وغير مقبولة, وتؤدي الى ينتعش شبح النزعة الشمولية. عند الخروج من هذا الطريق المسدود, يجب أن تتخذ إعادة تأكيد سياسة الحقيقة اليوم, في المقام الأول, شكل العودة إلى لينين.

لكن, مرة أخرى, يٌطرح السؤال: لماذا لينين, لم لا تكون العودة الى ماركس؟ اليس العودة الصحيحة هي العودة إلى الأصول الصحيحة؟ العودة إلى ماركس هي بالفعل شيء أكاديمي. عن اي ماركس نعود اليه في عودتنا؟ من ناحية, في العالم الناطق باللغة الإنجليزية هنالك دراسات ماركس الثقافية, وماركس ما بعد الحداثة لدى الصوفيين, ماركس التبشيري؛ في أوروبا, حيث يظل التقسيم "التقليدي" للعمل الفكري أقوى, نحصل على ماركس المعقم-العقيم, المؤلف "الكلاسيكي" الذي يمكن منحه مكانا (هامشيا) في المؤسسة الأكاديمية. من ناحية أخرى, نحصل على الماركس الذي تنبأ بديناميكية عولمة اليوم وهو يٌستحضر على هذا النحو حتى في وول ستريت. ما تشترك فيه كل هذه الماركسيات هو إنكار السياسة الصحيحة: فكر ما بعد الحداثة يعارض الماركسية على وجه التحديد؛ إنه في الأساس ما بعد ماركسي. تمكننا الإشارة إلى لينين من تجنب هذين العثرتين.

هناك ميزتان تميزان لينين. أولاً المظهر الخارجي: لم يكن لينين عضواً في الدائرة الداخلية لماركس. في الواقع, لم يلتق لينين قط بماركس أو إنجلز. علاوة على ذلك, فقد جاء من أرض على الحدود الشرقية لـ "الحضارة الأوروبية". وبالتالي فإن هذا المظهر الخارجي هو جزء من الحجة العنصرية الغربية المعتادة ضد لينين: لقد ادخل في الماركسية مبدأ الاستبداد الروسي الآسيوي؛ في عملية إزالة أخرى, تبرأ الروس أنفسهم منه, مشيرين إلى أصوله التتارية. ومع ذلك, اتضح أنه من الممكن فقط استعادة الدافع الأصلي للنظرية الماركسية من خلال هذا الموقف الخارجي. بنفس الطريقة التي أعاد القديس بولس ولاكان إعادة تعاليمها الأصلية في سياقات مختلفة (يعيد القديس بولس إعادة تفسير صلب المسيح باعتباره انتصارا؛ لاكان يقرأ فرويد من خلال مرحلة مرآة سوسور-عالجت ذلك في مقالات سابقة بخصوص لاكان ومرحلة المراة في الحوار المتمدن ويمكن الرجوع اليها في الارشيف), يقوم لينين بعنف بانتزاع النظرية من سياقها الأصلي, وبزرعها في لحظة تاريخية أخرى، وبالتالي يضفي الطابع العالمي عليها بشكل فعال. ثانياً, لا يمكن تطبيق النظرية الأصلية إلا من خلال هذه الازاحة العنفية, بما يحقق إمكاناتها في الفعل السياسي. من المهم أن يكون العمل الذي كان صوت لينين الفريد لأول مرة يسمع فيه بوضوح هو
ما العمل؟
يظهر النص ان قرار لينين بالتدخل في الاحداث, ليس بالمعنى العملي المتمثل في تعديل النظرية بموجب ادعاءات بالواقعية من خلال التسويات الضرورية, ولكن على العكس من ذلك, بمعنى تبديد كل التسويات الانتهازية, وتبني الموقف الراديكالي الذي لا لبس فيه والذي لا يمكن التدخل من خلاله إلا بطريقة تجعل تدخلنا نغير إحداثيات الموقف. إن رهاننا على لينين - اليوم, في عصرنا-عصر ما بعد الحداثة, أكثر واقعية من أي وقت مضى-الحقيقة و التحزب والتحيز لا تنفي بعضها البعض, بل تشترط بعضها البعض.

الحقيقة الشمولية في موقف ملموس لا يمكن التعبير عنها بدقة الا من خلال موقف متحزب. الحقيقة هي, بحكم التعريف, احادية الجانب. هذا، بطبيعة الحال, يتعارض مع الإيديولوجية السائدة المتمثلة في التسوية, المتمثلة في إيجاد طريق وسط بين العديد من المصالح التصارعة. بالنسبة لنا, فإن "لينين" ليس اسم الحنين إلى اليقين العقائدي القديم؛ على العكس تماما، اللينين الذي نريد استرجاعه هو اللينين في طورالتكوين، اللينين الذي كانت تجربته الأساسية هي أن يكون تواجده في تركيبة جديدة كارثية أثبتت فيها النقاط المرجعية القديمة عدم جدواها. ولذا كان مجبرًا على اختراع الماركسية ثانية.

والفكرة هي أنه لا يكفي مجرد العودة إلى لينين, مثل العودة للنظر إلى لوحة أو زيارة قبر- كما فعل ستالين بتحنيط لينين وكأنه ايقونة يكون عرضها الدائم للزوار هو بمثابة قبرها الدائم. حضور الجثة هنا هو فقط علامة لتأكيد غياب او انتهاء لينين: الحقيقة الايجابية تنفي نفسها في نفس اللحظة: ما هو+ هو −--- في واقع الحال: نعم يمكنكم الرجوع الى لينين, ولكن فقط من خلال تعظيم جثة محنطة او من خلالي, من خلال ستالين!

ما يهدف له الكتاب هو امر آخر تماما. هذه العودة الديالكتيكية إلى لينين لا تهدف إلى إعادة تمثيل "الأزمنة الثورية القديمة الجيدة" ولا تغيير التكيف العملي الواقعي للبرنامج القديم مع "الظروف الجديدة". بل تهدف إلى تكرار "الظروف اللينينية" في الظروف العالمية الحالية." انها إعادة اختراع المشروع الثوري اللينيني في ظروف الإمبريالية والاستعمار والحروب- بشكل أدق، بعد الانهيار السياسي الإيديولوجي للعصر الطويل من التقدمية في كارثة 1914. عرف المؤرخ الشيوعي الكبير واكبر مؤرخ في عصرنا، إريك هوبسباوم, مفهوم القرن العشرين بأنه الفترة بين 1914، نهاية التوسع السلمي الطويل للرأسمالية, وعام 1990 الذي دشن ظهور الشكل الجديد للرأسمالية العالمية بعد انهيار الكتلة الشرقية. ما فعله لينين عام 1914، يجب أن نفعله في عصرنا.

The Age of Extremes: The Short Twentieth Century, 1914-1991
Eric J. Hobsbawm
https://reviews.history.ac.uk/review/28

يتبع