البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – المناشفة وثورة فبراير


آلان وودز
2019 / 12 / 25 - 14:01     

البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – المناشفة وثورة فبراير


الثورة، بطبيعتها، حدث يحرك المجتمع من أعماقه، ويوقظ ملايين الجماهير المتخلفة سياسيا والخاملة إلى العمل السياسي. وفي بلد متخلف، يغلب عليه الفلاحون مثل روسيا، كان هذا يعني إيقاظ الفلاحين وغيرهم من فئات البرجوازية الصغيرة في المدينة والريف. وقد لعب ضغط الجماهير البرجوازية الصغيرة دورا هائلا خلال المراحل الأولى للثورة. انعكس ذلك في نظام الانتخاب داخل السوفييتات. في البداية، كان يحق للعمال في بتروغراد الحصول على ممثل واحد مقابل كل 1000 ناخب، بينما كان الجنود ينتخبون ممثلا واحدا عن كل سرية. وقد أعطى نظام التصويت هذا غلبة ساحقة للجنود، أي الفلاحين، على ممثلي العمال داخل السوفييتات. كان هناك 2000 ممثل عن الجنود مقابل 800 عن العمال. في بداية الثورة غرق البلاشفة في هذا البحر من الفلاحين المفتقدين لأي تكوين سياسي والذين كانوا أميين في أغلبهم. وبدافع من عقليتهم البرجوازية الصغيرة كانوا يميلون إلى انتخاب ممثليهم من بين “المثقفين” و”السادة الذين يعرفون كيف يتحدثون”، والذين كانوا في أغلبيتهم الساحقة من أبناء الطبقة الوسطى الديمقراطية (كان كثير منهم من صغار الضباط) الذين انجذبوا على نطاق واسع إلى الأحزاب الاشتراكية والإصلاحية المعتدلة، أي المناشفة والاشتراكيين الثوريين.

كان أبرز قادة المناشفة -دان وتشخيدزه و تسيريتيلي- من أنصار الدفاع عن الوطن، إلا أنه كانت هناك مجموعة صغيرة من المناشفة الأمميين -مارتوف ومارتنوف وغيرهما- الذين عارضوا الحرب. في البداية انتقلت هذه العناصر الإصلاحية اليسارية أو “الوسطية” (الوسطية بمعنى أنها تقف بين الماركسية والإصلاحية) إلى معسكر اليسار، لكنها، كما هي العادة دائما، لم تكن تريد القطيعة التامة مع أنصار الدفاع عن الوطن، وبالتالي انتقلت لاحقا إلى معسكر اليمين. كان الجناح اليميني للمناشفة هو الذي حدد خطهم السياسي في عام 1917، على عكس ما كان عليه الحال في عام 1905. لم يلعب “اليسار” عندهم أي دور مستقل، ولم يكن يمكنه ذلك. كان التيار الثوري الوحيد المنسجم هو الحزب البلشفي، الذي استقطب إلى صفوفه، كما لاحظ لينين لاحقا، أفضل العناصر داخل الحركة العمالية الروسية. وقد وجد أفضل الإصلاحيين اليساريين طريقهم، بشكل أو بآخر، إلى صفوف الحزب البلشفي. بينما اختفى الآخرون دون أن يتركوا أي أثر.

الزعماء المناشفة والاشتراكيين الثوريين، الذين سيطروا على السوفييتات في البداية، كانوا من الناحية العملية قد وصلوا إلى القيادة دون أن ينتخبهم أحد. لكنهم في البداية تفوقوا على البلاشفة بفعل مجموعة من المزايا: كانت لديهم “الأسماء الكبيرة” من برلمانيي الدوما، والأشخاص المعروفين عند الجماهير من خلال الصحافة الشرعية خلال سنوات الحرب. كما أنهم عرضوا ما بدا وكأنه “الطريق الأسهل للحل” على جماهير العمال والفلاحين المفتقدين للوعي السياسي والذين تدفقوا للتو على الساحة وهم مشبعون بالأوهام بخصوص الديمقراطية البرجوازية. كان هؤلاء الزعماء البرجوازيين الصغار مرعوبين من الثورة وكانوا منذ الوهلة الأولى حريصين على تسليم السلطة إلى القادة “الطبيعيين” للمجتمع، أي البرجوازية[1].

وقد كانت هناك أسباب أخرى لتمكن المناشفة والاشتراكيين الثوريين من احتلال الصدارة بعد فبراير. فبروليتاريا بتروغراد، التي كانت متأثرة بشدة بالبلشفية سنوات 1912-1916، تعرضت لتغيير عميق في تكوينها خلال الحرب، فلم يكن لتلك الفئات التي دخلت المصانع مؤخرا نفس مستوى الوعي أو التقاليد الذي كان يتمتع به عمال عام 1905 الذين حلت محلهم. يشرح تروتسكي ذلك قائلا:

«كانت هيمنة مثقفي الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى انعكاسا لحقيقة أن الفلاحين، الذين استدعوا فجأة إلى المشاركة في الحياة السياسية المنظمة، من خلال آلية الجيش، قد اكتسحوا بأعدادهم الهائلة البروليتاريا ودفعوها جانبا. والأكثر من ذلك هو أنه عندما ارتفع قادة الطبقة الوسطى إلى الذروة على يد جماهير الجيش القوية، فإن الطبقة العاملة نفسها، باستثناء أقسامها المتقدمة، صارت بشكل حتمي مشبعة بنوع من الاحترام السياسي لهم وحاولت الحفاظ على العلاقات السياسية معهم خوفا من أن تجد نفسها منفصلة عن الفلاحين، وهو الشيء الذي كان خطيرا للغاية، لأن الجيل الأكبر سنا ما يزال يتذكر درس 1905 ، عندما تعرضت البروليتاريا للسحق، بسبب أن جماهير الفلاحين الهائلة لم تأت في الوقت المناسب للمشاركة في المعارك الحاسمة. هذا هو السبب الذي جعل الجماهير البروليتارية، خلال المرحلة الأولى من الثورة الجديدة، تظهر قبولها للايديولوجيا السياسية للاشتراكيين الثوريين والمناشفة، خاصة وأن الثورة كانت قد أيقظت الجماهير المتخلفة من العمال، وبذلك جعلت من التجذر اللفظي للمثقفين ما يشبه مدرسة إعدادية لها»[2].

كانت الشخصيات البارزة في سوفييت بيتروغراد: تشخيدزه ، وكيرنسكي -رئيس مجلس السوفييت- وسكوبيليف، جميعها من المناشفة وأنصار الدفاع عن الوطن. وفي اللجنة التنفيذية للسوفييت، كان هناك 12 آخرين، إلى جانب اثنين فقط من البلاشفة: شليابنيكوف وزالوتسكي. وبناءً على اقتراح من البلاشفة تم توسيع اللجنة التنفيذية لتشمل ثلاثة ممثلين من كل حزب: المناشفة والبلاشفة والاشتراكيين الثوريين. وبهذه الطريقة تمت إضافة مولوتوف وك. إ. شتوكو، للبلاشفة وب. إ. شتوخكا عن الاشتراكيين الديمقراطيين اللاتيفيين. في 09 مارس، صار العدد الإجمالي للبلاشفة دخل السوفييت هو 40. كان الجيش بدوره ممثلا داخل السوفييت. أرسل الجنود مندوبين عنهم إلى قصر توريد، بمن فيهم ممثلون عن الجنود في الجبهة. كان ذلك يعني، في الواقع، أنه ولأول مرة يجلس ممثلو الفلاحين إلى جانب إخوانهم البروليتاريين. وكان هذا بالفعل تطبيقا عمليا للوحدة الثورية بين البروليتاريا والفلاحين.

أصدر السوفييت جريدته الخاصة، إيزفستيا (الخبر)، والتي صدر العدد الأول منها في 28 فبراير تحت إشراف ي. م. ستيكلوف. وهكذا تشكل أخيرا برلمان الشعب الثوري المسلح! لم يكن في إمكان أي قوة على الأرض أن تمنعه من الاستيلاء على الأرض والمصانع وإنشاء جمهورية ديمقراطية حقيقية للكادحين. كان يكفيه أن يقرر فعل ذلك. لكن كانت هناك عقبة واحدة فقط وهي أنه تعين على العمال والفلاحين أن يكونوا واعين بقوتهم. إلا أن هذا الوعي كان ما يزال مفقودا. وبهذه الطريقة ظهر وضع “ازدواجية السلطة” الغريب.

وقد شرح تروتسكي أسباب ازدواجية السلطة قائلا:

«كانت “الجبهة الموحدة” المشكلة من المناشفة والاشتراكيين الثوريين تسيطر على السوفيات وكانت السلطة في أيديها في الواقع. كانت البرجوازية مصابة بالشلل السياسي التام لأن العشرة ملايين جندي، الذين أرهقتهم الحرب، وقفوا بأسلحتهم إلى جانب العمال والفلاحين. لكن أكثر ما كان قادة “الجبهة الموحدة” يخشونه هو “إخافة” البرجوازية و”دفعها” إلى معسكر الردة الرجعية. لم تجرؤ الجبهة الموحدة على معارضة الحرب الإمبريالية ولا على مس البنوك أو الملكية الإقطاعية للأراضي أو المتاجر أو الشركات. كانت تضيع الوقت وتطلق الجمل العامة بينما كانت الجماهير تفقد صبرها. بل وأكثر من ذلك، فقد قام المناشفة والاشتراكيون الثوريون بنقل السلطة مباشرة إلى حزب الكاديت، الذي كان الكادحون يرفضونه ويحتقرونه»[3].

تشبث المناشفة والاشتراكيون الثوريون بالليبراليين البرجوازيين، بينما تشبث هؤلاء الأخيرون بما تبقى من النظام القديم. العمال والفلاحون، الذين كانوا قد استيقظوا للتو على الحياة السياسية، كانوا يسعون جاهدين لإيجاد طريقهم، وكانوا ما يزالون يفتقرون إلى الخبرة والثقة بالنفس للاعتماد على قوتهم الخاصة. لقد أدرك لينين على الفور أهمية السوفييت باعتباره “حكومة شعبية حقيقية”، لكن هذا التصور كان كتابا مغلقا بالنسبة لقادة جميع الأحزاب، بمن فيهم، البلاشفة أنفسهم في البداية. كانت الأولوية الرئيسية بالنسبة لليبراليين البرجوازيين هي استعادة “النظام” و”إعادة الأمور إلى طبيعتها”. إلا أن العمال والجنود رفضوا بشكل غريزي إلقاء سلاحهم أو التراجع خطوة إلى الوراء، بعد أن قطعوا شوطا طويلا، واتجهوا نحو السوفييت بحثا عن التوجيه والقيادة. ومع تزايد الشكوك، جاء وفد من الجنود ونواب البحارة إلى قصر توريد لتقديم مطالبهم إلى السوفييت. كان اثنان من أعضاء هذا الوفد (أ. م. باديرين وأ. د. سادوفسكي) من البلاشفة.

لم تكن تقلبات قادة البلاشفة في بتروغراد تعكس موقف العمال البلاشفة الذين كانوا على اتصال أكثر بالمزاج السائد داخل المصانع والثكنات. طالب البلاشفة في منطقة فيبورغ باستيلاء السوفييت على السلطة. وبطبيعة الحال رفض قادة السوفييت ذلك بمبرر أن الثورة كانت “برجوازية” وأن الطبقة العاملة “غير مستعدة” بعد لتولي السلطة. كان السياسيون البرجوازيون يناورون من أجل هزيمة الثورة. وبينما دعا الشوفينيون الصريحون إلى انضمام قادة السوفييت إلى حكومة مع البرجوازية، فضّل المتسترون منهم (تشخيدزه وسوخانوف وستيكلوف) البقاء خارج الائتلاف، لكنهم عارضوا في نفس الوقت استيلاء السوفييت على السلطة، وعوض ذلك قالوا بأنه على السوفييت أن “يراقب” الحكومة البرجوازية من الخارج. كانت هذه المحاولة للجمع بين النار والماء استباقا للموقف الذي اتخذه فيما بعد الوسطيون الألمان الذين دافعوا عن خلق نظام مختلط تتواجد فيه مجالس العمال (السوفييتات) جنبا إلى جنب مع الحكومة البرجوازية. وهو نفس الموقف الذي دافع عنه ستالين وكامينيف.

كانت سياسة المناشفة تتعارض مع رغبة الجماهير، لكن هذه الأخيرة كانت ما تزال تفتقر إلى الخبرة السياسية وساذجة وشديدة الثقة في قادتها. كان الخطباء المناشفة و”الأسماء الكبيرة” يثيرون الرهبة عندها ويسكتون شكوكها. وباسم “الوحدة” و”الدفاع عن الديمقراطية” ووحدة جميع “القوى التقدمية”، وما إلى ذلك، أكدوا على أن الطبقة العاملة لا يمكنها أن تحول المجتمع “من تلقاء نفسها”، وكل تلك السلسلة من الخزعبلات التي يستعملها بشكل دائم القادة الإصلاحيون لإقناع العمال بأنهم عاجزون عن تغيير المجتمع، وأنه يجب عليهم أن يتحملوا إلى الأبد حكم رأس المال. لقد جادلوا بأن السوفييت سوف “يضغط على الليبراليين البرجوازيين” من أجل أن يعملوا لمصلحة العمال.

آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

هوامش:

[1] : كتاب Istoriya الذي يصف انتفاضة فبراير، دون أي أساس، بأنها كانت مبادرة بلشفية بحتة، يقف عاجزا عن تفسير لماذا كان المناشفة والاشتراكيون الثوريون هم المستفيدين الرئيسيين منها!

[2]: L. Trotsky, The Russian Revolution, in The Essential Trotsky, pp. 27-28.

[3]: L. Trotsky, Lessons of October, in Writings 1935-36, pp. 167-68.