فَبْرَكَة المُستهلِكين

نعوم تشومسكي
2019 / 12 / 20 - 09:02     


صناعة الإعلانات، المُكرَّسة لخَلق مُستهلِكين، ظاهرةٌ تنامتْ في البلدان الأكثر تحرّراً، في بريطانيا والولايات المتّحدة. والسّبب واضحٌ تماماً، إذ تَبيَّنَ منذ قرنٍ أنّ السّيطرة على السكّان بالقوّة لن يعود أمراً شديد السّهولة، فثمّة قدرٌ كبيرٌ من الحريّة قد بات في متناول اليد: تنظيم العمّال، أحزاب العمّال البرلمانيّة في بلدان كثيرة، بدأت النّساء يحصلن على التحرّر، وما إلى ذلك. وبذا ينبغي لك إيجاد وسائل أخرى للسيطرة على الناس، إذ جرى الفهم والتّصريح بأنّ عليك السيطرة عليهم من خلال السيطرة على المعتقدات والمواقف. حسناً، أحد أفضل طرق السيطرة على النّاس في ما يخصّ المواقف، يكمن في ما سمّاها عالِم الاقتصاد السياسيّ العظيم ثورستاين بْلِنْ (Thorstein Veblen) «فبركة المُستهلِكين» (fabricating consumers)١.

إذا تمكّنتَ من فبركة الحاجات، وجعلتَ اقتناء الأشياء التي تكون في متناول يدك جوهرَ الحياة، فإنّ النّاس سيقعون في فخ التحوّل إلى مُستهلِكين. وإذا قرأتَ الصحافة الاقتصاديّة في عشرينيّات القرن العشرين فستجد أنّها تتحدّث عن الحاجة إلى توجيه النّاس باتّجاه الأشياء السّطحيّة في الحياة، مثل الاستهلاك المرتبط بالصّرعات، فتُبقيهم بعيدين من إزعاجك. ستجد هذه العقيدة في الفكر الثقافيّ التقدميّ كلّه، كما عند وولتر لپمَنْ (Walter Lippmann)، المثقّف التقدميّ الكبير في القرن العشرين. فقد كتبَ مقالتين تقدميّتَيْن شهيرتَيْن عن الديمقراطيّة حيث كان رأيه يقول بالضّبط: «يجب أن يوضَع الرأي العام في مكانه المناسب»، بحيث يتمكّن المسؤولون من اتّخاذ القرارات من دون تدخّل «القطيع المُحتار»٢.

وبذا يكون الناسُ المستهدفون متفرّجين لا مشاركين، فتنال عندئذ ديمقراطيّةً فاعلةً على نحو أمثل، وهذا يسري منذ أيّام مادِسن وصولاً إلى مُذكّرة پاول٣ وغيرها. وقد تفشّتْ صناعة الإعلان، مع إبقاء هذا الهدف هدفها: فبركة المستهلكين. ويسير هذا بدهاءٍ كبير.

وهذه الغاية هي ما تراها اليوم فعلياً، حيث - مثلاً - ستتّجه الفتياتُ المراهقات للتسكّع في «المولات» في مساء يوم السبت، لا إلى المكتبة أو أيّ مكان آخر. فالفكرة تتمحور حول محاولة السيطرة على الجميع، أن تُحوّل المجتمع كلّه إلى منظومةٍ مضبوطة. وستكون المنظومة المضبوطة مجتمعاً يقوم على ثنائيّة، على زوج - الزوج هما أنت وتلفزيونك، أو ربّما الآن أنت والإنترنت - بحيث يقدَّم لك ماهيّة الحياة الملائمة، ونوعَ الأجهزة التي ينبغي لك امتلاكُها. فتقضي وقتك وجهدك في امتلاك تلك الأشياء التي لا تريدها ولا تحتاج إليها. وربّما ستتخلّص منها لاحقاً، ولكن هذا هو معيار الحياة الكريمة.

لنأخذْ ما نراه في الإعلانات التلفزيونيّة مثلاً، فإذا كنتَ مهتمّاً بالمجال الاقتصاديّ، ستدرك أنّ الأسواق يُفترَض أن تكون معتمدةً على الخيارات الرشيدة التي يتّخذها المُستهلكون المطَّلعون. ولكن، لو كان لدينا منظومة كهذه، منظومة أسواق، فسنجد أنّ الإعلان التلفزيونيّ سيتضمّن معلومةً من شركة جنرال موتورز تقول: «هاك ما نريد بيعه»، لكنّ هذا ليس شكل إعلان السيّارات الذي نراه. إذ نرى الإعلان يُصوِّر بطل كرة قدم، أو ممثّلةً، فيما السيّارة تُنفّذ حركةً مجنونةً كأنْ تتسلّق الجبال أو ما شابهها. ويكون المغزى خلقَ مستهلكين جاهلين يتّخذون قرارات طائشة. هذا ما تقوم عليه صناعة الإعلان. وحينما تُدير الشركة نفسُها الانتخابات، عبر منظومة العلاقات العامّة، ستفعلها بالطريقة نفسها. إذ يريدون خلق شريحةٍ انتخابيّة جاهلة، تتّخذ قرارات طائشة، تناقض مصالح تلك الشريحة في الغالب. وهذا ما نراه كلّما تحصل إحدى هذه المهازل.

وما لم يحدث عكس هذه النّزعات التي عرضنا حدوثها ضمن المجتمع الأميركيّ، ستكون النّتيجة مجتمعاً شديد القبح. مجتمع يرتكز على مقولة آدم سميث الكريهة «كل شيء لنفسي، لا شيء للأخرين». سيكون مجتمعاً تُقصى فيه الغرائز البشريّة الطبيعيّة ومشاعر التّعاطف والتّكافل والتّضامن. هذا مجتمعٌ شديد القبح حيث إنّه أعجز عن معرفة مَن يرغب بالعيش فيه حقاً. لا أريد لأطفالي أن يعيشوا فيه.