النقد العلمي المادي لمنظور الديالكتيك عند ماو تسي تونغ - 5


الأماميون الثوريون
2019 / 11 / 16 - 18:43     

وفي نفس السياق، وفي مسألة التناقض، هل تقسيم الواحد إلى اثنين يتم عبر التناقض الباطني فقط ؟ أم أن دخول جزء خارجي هو الذي يحدث هذا التحول الكبير ؟ مما يؤدي إلى تقسيم الواحد إلى اثنين، وإحداث افجار هائل وغير مجرى الحروب الإمبريالية ؟ وهل يبقى التناقض الباطني أساسيا بشكل مطلق ؟ أم أن صفته الأساسية تبقى نسبية ؟

وفي الجزء الأول من كتاب "في التناقض" بعنوان "نظرتان إلى العالم"، تتضح في أطروحة ماو، بساطة الأسلوب في تناول مسألة التناقض، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، حيث لم يستطع الغوص في ديالكتيك القضايا العلمية في العلوم الطبيعية، العلوم الحقة، كما فعل لينين في 1916، خلال الحرب الإمبريالية الأولى.

وبعد سنة من تاريخ وضع كتاب "في التناقض"، وفي 1938، عرفت العلوم الفيزيائية تطورا هائلا، على مستوى تفاعلات مكونات الذرة، خاصة ذرة اليورانيوم، عبر تأثير امتصاص نترون واحد من طرف هذه الذرة، وتسمى هذه العملية انفلاق Fission، الذي يؤثر على نواة هذه الذرة، ويتم تقسيمها إلى جزأين غير مستقرين، واثنين أو ثلاثة نترونات مستقلة، مما ينتج عنه إشعاع هائل، يؤدي إلى انفجار هائل، بملايين درجات الحرارة، التي تحرق الأخضر واليابس : نواة القنبلة الذرية، التي تم إسقاطها على اليابان في غشت 1945، التي وضعت حدا للحرب الإمبريالية الثانية، والحرب الإمبريالية اليابانية على الصين، دون أن ننسى دور الاتحاد السوفييتي في تلك الحرب.

وقد يتحول هذا الإشعاع إلى طاقة هائلة، في التناقض بين إيجابية الإشعاع وسلبيته، في التناقض بين الضدين، في ظل الوحدة، كما أنه كلما تم امتصاص نترون من النترونات المستقلة، كلما حدث انشتار وانفجار، وهكذا إلى نهاية عملية امتصاص النترونات، كما وقع في حالة القنبلة النوويةA ، حسب ارتفاع سرعة امتصاص النترون، وحسب انخفاض سرعة الامتصاص، يتحول الإشعاع إلى طاقة هائلة، غرام واحد من اليورانيوم يعطى أكثر، مما يعطيه إحراق عدد كبير من أطنان الفحم الحجري.

حسب الديالكتيك، في المطلق نسبي، وفي النسبي مطلق، ونحن لا نريد، هنا، أن نؤكد ما إذا كان التناقض الباطني هو الأساسي أم لا، بقدر ما نريد أن نؤكد أن، في كل ما هو أساسي، يوجد ثانوي، وأن الثانوي يتحول إلى أساسي، حسب نوعية الصراع، مستواه، ودرجة تطوره، فكما يتحول النسبي إلى مطلق، في درجة معينة، حسب أهميته في عملية الصراع، فإن الثانوي يصبح أساسي، في مستوى معين من الصراع، وهكذا يكون الديالكتيك الماركسي، من العام إلى الخاص، وفي الخاص يوجد العام، وتناول التناقض في هذا المثال، يعتبر مستوى عال من الديالكتيك، في الطبيعة، في المادة، في الحركة داخل المادة، ويمكن نقله من الطبيعة إلى المجتمع، كما لا يمكن حصره في هذه النقطة بالذات.

وكما قال لينين :"يستطيع التفكير البشري بحكم طبيعته أن يعطينا وهو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة إلى مجمل الحقيقة المطلقة هذه، ولكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارة وتضيق طورا من جراء نمو المعرفة اللاحق."، وبعد كل نتيجة علمية، يطرح تساؤل، يعطينا اطلاقة جديدة، للتفكير في المسائل العلمية المستقبلية، التي يستمر العلم بالخوص فيها، إلى حين الوصول إلى نتائج جديدة متطورة، متقدمة على ما سبقها من نتائج، ذلك ما لم نلمسه في كتاب "في التناقض".

لقد سبقت مضمون هذا الكتاب، نتائج أعمال لينين الغزيرة، العميقة والمتطورة إلى حد بعيد، يمكن اعتمادها، كانطلاقة علمية جديدة في علم الديالكتيك، في عصر الإمبريالية، بكونها استنتاجات عامة، تضم إلى حد بعيد، المسائل الخاصة، بالتطور في مجال الصراعات الطبقية، التي حاول ماو في كتابه هذا، الإحاطة بها، لكن بشكل لم يضف أي جديد لاستنتاجات لينين، بقدر ما قام بتبسيطها، لكن في تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، في حقل العلم، علم الديالكتيك، أرقى ما يمكن أن تصل إليه المعرفة البشرية، باعتباره مفتاح جميع الاشكاليات العلمية، المطروحة في الطبيعة والمجتمع.

إذا كانت عملية انفلاق Fission، تعطينا انفجارا هائلا، فإن عملية انصهار Fusion، تعطينا انفجارا أقوى بكثير، ذلك ما توصل إليه علم الفيزياء النووية، من اكتشاف جد متقدم : القنبلة الهيدروجينية Bombe H، التي تتم عبر ثلاث عمليات متتالية : انفلاق ـ انصهار ـ انفلاق Fission-Fusion-Fission، مما يحدث انفجارا يبلغ تأثيره مستويات عالية جدا، حدود دائرة شعاعها يصل إلى 100 كلم، وتبلغ فيه الحرائق الدرجة الثالثة، وتم تفجيرها في 1952.

لا نستعرض هنا، نوعية الأسلحة النووية، إنما نستعرض عملية التناقض، في مستوى عال، وهنا نشير إلى أن الصين فجرت أول قنبلة نووية في 1964، لكن هذا لا يعني أن امتلاك القنبلة النووية، يعني تطور المجتمع الصيني، إلى مستوى تطور العلوم الطبيعية، خاصة علوم الفيزياء، فكيف يمكن ترجمة تطور العلوم الطبيعية إلى علوم الاجتماع ؟ عبر الماركسية طبعا، عبر الديالكتيك الماركسي، الذي طوره لينين إلى مستوى عال، المذهب الماركسي اللينيني، ليس عبر تلقينه، إنما عبر تطوير القوى المنتجة، ذات الصفة الثورية، لتحطيم علاقات الإنتاج القديمة، من الرأسمالية إلى الاشتراكية.

إن ما يسمى في علوم الحرب الحديثة بوسائل الدمار الشامل، وتطورها كما شاهدنا فيما سبق، لا يمكن إهماله في شأن التطور الاجتماعي، ذلك ما قامت به روسيا، الصين، الهند وباكستان، التي امتلكت السلاح النووي، وأصغر هذه البلدان كوريا الشمالية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة، أن هذه البلدان في مستوى واحد من التطور الاجتماعي مع بلدان متقدمة أخرى، رغم أنها شبه متساوية في مستوى التطور التكنولوجي في مجال الصناعة النووية، فرغم أن اليابان لم تمتلك هذه الوسائل المدمرة، إلا أنها في مستوى عال من التطور الاجتماعي، كما هو الشأن بالنسبة لسويسرا والدول الإسكندنافية، نتحدث هنا عن مستوى العيش وتطور العلوم، لكن يبقى النظام المهيمن في مجمل هذه البلدان، هو الرأسمالية الإمبريالية، فهذه البلدان جميعها في وحدة مع أمريكا والدول الأوربية الأخرى، مع التفاوت في التطور على مستوى الدولة الاحتكارية، في ظل التناقض الداخلي، في الصراع في ظل هيمنة الرأسمال المالي العالمي، على السوق التجارية العالمية، حول تقسيم العمل، حول السيطرة على باقي البلدان المضطهدة، شبه المستعمرة، المستعمرة بشكل غير مباشر.

إن ما أرهق ماو في مرحلة الصين شبه المستعمرة، شبه الإقطاعية، خلال الحرب الوطنية الثورية، في 1937، التناقض الداخلي في المجتمع الصيني، قد عرف تطورا هائلا، اليوم أصبحت الصين في الصفوف الأولى للدول الإمبريالية، لكنها في ظل دولة تضطهد الطبقة العاملة بالصين، في ظل الاستغلال الرأسمالي، في نفس الوقت الذي تقوم فيه دولة الصين الاشتراكية الإمبريالية، باستغلال البلدان المضطهدة بإفريقيا، محاولة أن تقوم مقام فرنسا الاستعمارية، بشكل من الأشكال، في ظل يخلوا من الاستغلال الرأسمالي، فأين وصل التناقض الباطني اليوم في المجتمع الصيني ؟ ذلك ما يمكن أن نعالجه، على ضوء قانون التطور اللامتطافئ في النظام الرأسمالي، الذي اكتشفه لينين، كأحد القوانين الأساسية في الرأسمالية، باعتبارها نظاما تناحريا، كما أقر ماركس ذلك.

كان هيغل يعتقد أن الصيرورة التاريخية محددة مسبقا، وأن حركة الصيرورة الجدلية يحكمها نفي النفي الضروري، في علاقته بالضرورة التاريخية، وأكد ماركس وجود نفي النفي، لكن باعتباره أحد الحلول الممكنة، حيث يمكن أن يكون الحل حسب نفي النفي أو عكسه، النفي، ذلك ما جعل هيكل يقول بالضرورة التاريخية الموجودة مسبقا، نتيجة تفسيره المثالي، وبذلك أسس ماركس القانون الأساسي الثاني وهو النفي ونفي النفي، وهنا يمكن أن نقول أن ماو في تصوره لتطور المجتمع الصيني، قد ذهب مذهب هيغل.

القانون الأساسي الثاني، في عملية تطور المجتمعات البشري : النفي ونفي النفي، يمكن أن يساعدنا على فهم التناقض الداخلي في المجتمع الصيني اليوم، وكيف استحال نفي النفي إلى ضده، في سيرورة الثورة الصينية، بتركيز الرأسمال المالي في المجتمع الصيني، إلى مستويات عليا، تحول فيها حزب ماو تسي تونغ الشيوعي، إلى الحزب الشيوعي الإمبريالي، أي الشيوعي قولا، والإمبريالية فعلا، كما قال لينين.