النقد العلمي المادي لمنظور الديالكتيك عند ماو تسي تونغ - 3


الأماميون الثوريون
2019 / 11 / 11 - 01:25     

كما رأينا سابقا، حاول ماو إنتاج أفكار جديد عن التناقض، ولم يستطع تجاوز خلاصات لينين، بل عمل على تحريف بعضها، لكون أسلوبه في التعامل مع الديالكتيك، لم يتجاوز المستويات الابتدائية في تعليم تعاليم الماركسية، ونحن ننتقد ذلك المنحى في التعامل مع الديالكتيك الماركسي. وحاول تبسيط الديالكتيك، بالبدء بالأفكار الأولية عن العالم، وهو يتحدث عن الشيء، باطن الشيء، علاقته بالأشياء الأخرى، وتطوه، من أجل تفسير معنى الذاتي والموضوعي والعلاقة الجدلية بينهما، في قوله :"والواقع أنه حتى الحركة الميكانيكية المسببة عن القوى الخارجية تتحقق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم بباطن الأشياء. وكذلك فإن النمو للنباتات والحيوانات وتطورها الكمي مسببان بصورة رئيسية عن تناقضاتها الباطنية. وينطبق نفس الشيء على المجتمع، فإن تطوره مشروط، بصورة رئيسية، بالأسباب الباطنية، لا الخارجية. فإن ثمة بلدانا عديدة تتسم بالعوامل الجغرافية والمناخية المتماثلة تقريبا، ومع ذلك فهي تختلف في تطورها اختلافا بينا، وتتفاوت درجات تطورها اختلافا عظيما، وإن تبادلات اجتماعية هائلة قد تجري في ذات البلد الواحد، بدون أن يطرأ أي تبدل على جغرافية هذا البلد ومناخه.".

هذا النص يبين بشكل واضح، مدى صحة ما أكدناه عن تبسيط الديالكتيك عند ماو، الذي أوقعه في خلط، بين ما يجري في الطبيعة، وما يجري في المجتمع، فما يجري بباطن الأشياء في الطبيعة، لا يماثل ما يجري بباطن المجتمعات البشرية، في أوساط المجتمعات البشرية، فالأشياء في الطبيعة قد تتأثر بالجغرافية والمناخ، وتتأثر بذلك طبعا بشكل كبير، أما الإنسان فلا يتأثر بالطبيعة إلا بشكل قليل جدا، هنا وقع الخلط لدى ماو، في محاولته مقارنة ما يجري في الطبيعة، مع ما يجري في المجتمع، وبشكل تبسيطي للديالكتيك.

إن الاشكالية التي تعرضت ماو في الحزب الشيوعي الصيني، هي أن مناضلي الحزب لم يكون ماديين فكريا بالمعنى الماركسي، مما أضطره إلى إعطائهم دروسا ابتدائية في تعليم تعاليم الماركسية، ولم يقم هنا بتطوير الديالكتيك الماركسي، كما يدعي "الماويون"، إنما أعاد ما تجاوزه الفكر البرجوازي : الفلاسفة البرجوازيون في عصر الأنوار، بل ذهب إلى إبراز الأفكار البدائية، التي تعتبر أن الطبيعة هي التي تحدد مجرى المجتمع، فالإنسان البدائي يعتبر الطبيعة هي مركز حركته، لما يصور لنا حدثا معينا، يصور الأشجار تمشي، الجبال تتحرك، والقمر يسير ..إلخ.

ومقارنة ما يجري في الطبيعة بما يجري في المجتمع، من أجل تأكيد وجود قانون التناقض في الطبيعة والمجتمع، لا يتم بشكل ميكانيكي، الذي يحاول ماو دحضه، لكن ماو يقع في نفس التفسير الميكانيكي، أو الديالكتيك الميتافيزيقي، بالخلط بين نمو النباتات في الطبيعة، وتطور الإنسان في المجتمعات، ذلك أن ماو بمحاولته تبسيط الديالكتيك، أو تعليم الديالكتيك بشكل تبسيطي لمناضلي الحزب، أوقعه في السقوط في الديالكتيك الميتافيزيقي، والتفكير الميكانيكي.

إن محاولة ماو، تجاوز الفكر البرجوازي الرجعي، ومحاربته في صفوف مناضلي الحزب، يتطلب دراسة الفكر البرجوازي، الذي لعب دورا هاما في القضاء على مخلفات الفكر الإقطاعي، المرتكز على الفكر الديني، مما جعل ماو بعمله هذا، يمارس القطيعة الإبستيمولوجية مع تطور الفكر البشري، في الصين شبه الإقطاعية المتناقضة مع أوربا الثورة البرجوازية، إذ لا يمكن أن نؤسس للفهم الماركسي اللينيني، دون دراسة تاريخ تطور الفكر البشري، فالمسألة التي يريد مار معالجتها في هذا النص، تستوجب معالجتها في علاقتها بتطور الفكر البشري، من الإقطاعية إلى الرأسمالية، وبروز الاشتراكية العلمية، ويعتبر الفكر البرجوازي في هذه العملية، تقدميا في حينه، بعد انتصار المفاهيم البرجوازية على مصالح الإقطاع، قبل بروز الاشتراكية نقيض الرأسمالية.

لقد كان للتطور الهائل للقوى المنتجة بفرنسا، واستعداد البورجوازية الفرنسية، لخوض معارك الثورة البرجوازية ضد الإقطاع، من أجل تدمير علاقات الإنتاج الإقطاعية، دور هام في بناء الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين، الذين حملوا فكرا متطرفا ذد الأفكار القديمة، من الطبيعة مرورا بالدين وصولا إلى السياسة والاقتصاد، من أجل القضاء على النظام الإقطاعي، وحاربوا الفكر المثالي، ويقول ديدرو في هذا الصدد :"إن الحقيقة ليست هي الله الذي هو الطبيعة بل هي إما الله أو الطبيعة"، وحقق الماديون الفرنسيون نجاحا باهرا في تطوير الفلسفة الطبيعية، لكنهم فشلوا في مجال التاريخ، ولم يستطيعوا فك علاقة الإنسان بالمجتمع وعلاقته بأفكاره، مما جعل أفكارهم المادية التي أعطت الأهمية للطبيعة، عاجزة عن الوصول إلى العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، ويقول هيلفيتيوس :" إن الإنسان تصنعه ظروفه الاجتماعية"، مما يطرح إشكالية تغيير المجتمع، حيث إذا أراد الإنسان أن يتطور، لابد له من تغيير ظروفه الاجتماعية، التي صنعته الشيء الذي يطرح التناقض بين علاقة الإنسان بمحيطه.

وهكذا يجب أن مسألة ديالكتيكيا، دون بطر جزء مهمة من تاريخ تطور الفكر البشري، وصدق لينين لما قال أن الاشتراكية تبني نفسها من الأدوات التي خلفتها الرأسمالية، ولا يمكن الانتظار حتى المجمع كله بروليتاريا حتى نقوم بالثورة الاشتراكية، وأن البروليتاريا لما تظفر بالسلطة، تعامل العلماء الطبيعيين التي خلفتهم البرجوازية معاملة الجار للجار، على أساس أن يقوموا بالمهام التي تحملهم لها البروليتاريا، أما محاولة ماو نشر الدياليكتيك بهذا الشكل التبسيطي، إنما يندرج ضمن النظر الميكانيني للأشياء، بينما هو يريد دحض هذا التفكير، لكن بأدواته نفسها، وليس بالديالكتيك الماركسي كما طوره لينين.

هنا تكمن علاقة التناقض بين الإنسان والعالم الخارجي، الإنسان والمجتمع، ليس في تناقض مع الطبيعة، لكن في تناقض مع ظروفه الاجتماعية، ومقارنة النبات في الطبيعة، ليس كما تحدث ماو عن هذا التناقض، وما سماه ماو "باطن الأشياء"، لا يطابق بالضرورة باطن الإنسان في المجتمع، بل هو تناقض في مستوى عال، من البسيط في النباتات والطبيعة، إلى المعقد في الإنسان والمجتمع، والخلل في الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين في القرن 18، يتجلى في اعتبارهم أن الإنسان نتاج ظروفه الاجتماعية، مما يعني أن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان، وليس العكس، ويقول جون لوك :"إن أفكار الناس لا تخلق معهم بالفطرة"، وعارض أفكار ديكارت، الذي اعترف بالأفكار الفطرية، ولم يستطع الفلاسفة الفرنسيين تطوير مفهوم التاريخ، وظلوا حبيسي الفلسفة المادية الطبيعية، النظرة الميكانيكي للمجتمع، نتيجة عدم قدرتهم على القطيعة مع الميتافيزيقا، وقام هيكل، باكتشافه للصيرورة الجدلية، بحسم مسألة تطور التاريخ، لكن دون القطيعة مع مخلفات الميتافيزيقية، التي تكفل ماركسي بإزالته الديالكتيك الهغلي، وأسس الديالكتيك الماركسي.

وجاء في محاولة ماو "في التناقض"، دراسة التناقض في النظرة إلى العالم، من وجهة نظر المادية، في تناقض مع وجهة النظر المثالية، وأكد أن الديالكتيك المادي يدعو إلى "دراسة تطور الشيء في باطنه ومن حيث صلته بالأشياء الأخرى، وذلك بمعنى أنه ينبغي النظر إلى تطور الشيء على أنه حركته الباطنية والذاتية والحتمية، وأن كل شيء يرتبط في حركته بالأشياء الأخرى التي تحيط به ويتبادل معها التأثير. فالعلة الأساسية في تطور الشيء إنما تكمن في باطنه لا خارجه، في تناقضه الباطني. وهذا التناقض الباطني موجود في كل الأشياء، وهو الذي يبعث فيها الحركة والتطور.".

لكن ماو، هنا، في هذا النص، لم يفسر لنا كيف نشأت هذه الأشياء، التي يتحدث عنها وعن تطورها الباطني، في انطلاقتها الأولى في الطبيعة، التي نعرف جميعا أنها موطن هذه الأشياء، كما هو الشأن بالنسبة للإنسان، والتناقضات الباطنية في الأشياء، لم تولد دفعة واحدة، إنما هي نتيجة الصراع في الطبيعة، في تفاعلات مكونات المادة، من تكون الذرات الأولى، والجزيئات الأولى، والأجسام الأولى، في أشكلها المختلفة : الصلبة، السائلة والهوائية، وفي أشكالها الحيوية : نشوء المادة الحيوية، عند النبات والحيوانات، وفي أعلى تطور المادة الحيوية عند الإنسان، وكيف أن التطور لم يشمل الإنسان دفعة واحدة، بل يختلف تواتره بين المجتمعات البشرية، بشكل صارخ، ذلك ما جعل ماو يتكلم عن "المجتمعات المتخلفة"، ولكن دون أن يوضح لنا ماذا يقصد ب"التخلف"، هنا يظهر بوضوح المستوى الابتدائي في تعليم تعاليم الماركسية في كتاب "في التناقض".

لم يستطع ماو المغامرة في عمق الأشياء، في تناقضاتها الداخلية، التي سماها الباطنية "الأساسية" في التطور كما قال، ذلك أنه لم يستطع تجاوز خلاصات لينين في نقده للتجريبيين، في الخوض في المسائل العلمية، في العلوم الطبيعية، في العلوم الدقة، في علاقتها بالديالكتيك الماركسي، في انعكاس المادة في ذهن العلماء الطبيعيين، بعد أزمة الفيزياء، التي جعلت العلماء الفزيائيين البرجوازيين، يرجعون بالديالكتيك المادي إلى الخلف، من ماركس إلى بركلي، من المادية إلى المثالية، وحسم لينين الصراع مع المثاليين الذاتيين، العلماء التجريبيين اللاعرفانيين، وطور الديالكتيك الماركسي إلى أعلى مستوياته : المذهب الماركسي اللينيني.

وفي كتابه هذا، "في التناقض"، يقوم ماو باستعارة بعض أقوال لينين، حول الديالكتيك، لكن دون أن يقول أنه قد تم تجاوزها، ودون أن يقر أنه طور الديالكتيك الماركسي إلى أعلى مستوياته، كما يقول "الماويون" اليوم، إن ما قام به ماو، باعترافه، في قول الناشر أن الغرض من هذا الكتاب، هو محاربة الفكر المثالي في صفوف مناضلي حزبه، الذي انتشر بشكل خطير في صفوفهم، وهذا الكتاب محاولة لتبسيط الديالكتيك الماركسي عند لينين، لكن ماو يقع في التناقض، حيث منهجه التبسيطي أوقعه في الأخطاء العلمية.

والخطأ الأساسي في فكر ماو، في هذا الكتاب، هو اعتقاده أنه يمكن تغيير الفكر المثالي، بإنتاج أفكار علمية مادية، مما أوقعه في المثالية الذاتية، حيث لا يمكن تغيير المجتمع، من باطنه، من داخله، دون تغيير الأساس الاقتصادي لهذا المجتمع، فمحاربة الأفكار الرجعية، لا يتم فقط بنشر الأفكار التقدمية، خاصة وأن المجتمع الصيني مجتمع شبه إقطاعي، مما يؤكد أن الحزب الشيوعي الصيني في 1937، لم يستطع بعد ربع قرن، نشر الماركسية في صفوف مناضليه، وذلك راجع ليس لنشر الأفكار البرجوازية المتسمة بالمثالية والرجعية فقط، كما جاء في الكتاب، إنما كذلك، لضعف تطور المجتمع الصيني.

إن الحركة الاجتماعية في تحولات دائمة مع وجودها في بنية معينة/نوعية معينة، هذه البنية التي، في تغيرها وتحولها تؤدي إلى التحول الكمي، الذي لا يمكن ملاحظته إلا عندما يصل إلى مستوى معين، الذي يتحول فيه التحول الكمي، إلى تحول نوعي ابتداء من مستوى المعين، و لا يحصل ذلك بكيفية تدريجية، بل يحدث في شكل قفزة نوعية، يبرز فيها التحول النوعي نتيجة التحول الكمي، الذي وصل إلى مستوى عال يحتم ضرورة التحول النوعي/الكيف، فالتحول الكمي للصناعة في القرن 17، عندما وصلة مستوى معين، حدث تحول نوعي/الكيف في الحياة الاجتماعية وظهرت الطبقة العاملة، وظهر معها الصراع الطبقي بين العمل والرأسمال، والحركة الاجتماعية يحكمها منطق الجدلية، بين العمل والنظر، الذي يحيلنا إلى الجدلية بين النظرية الثورية والممارسة الثورية، حيث نجد أن في كل حركة اجتماعية عمل ونظر، وفي كل نظر عمل ونظر، فالمفكرون المبدعون حينما يصنعون إبداعاتهم الفكرية، تصبح عملا ملموسا، الذي ينطلق من الفكرة إلى الإنجاز، كما أن في كل عمل نظر وعمل، حيث أن الفئات المحسوبة على العمل، أثناء إبداعها، تفكر وتعمل، وتنتج لعملها نظرا، في تفاعل دائم مع العمل، الذي يغني النظر وينفي تناقضات الحركة الاجتماعية، ولتطور العمل تأثير عظيم على تطور النظر، الذي يسعى إلى التوافق مع العمل، في حركة دائمة من أجل تطوير الحركة الاجتماعية.

وهكذا نرى أن وراء كل قفزة نوعية تحول كمي، كما هو الشأن عند التحول الذي وقع في مجال العمل الحرفي، الذي وصل إلى مستوى معين لبروز العمل المأجور، وبالتالي ظهور الطبقة العاملة، وظهور الرأسمال ، كما أن وفرة السلع نتيجة تطور العمل الحرفي، أدى إلى بروز فائض في السلع، التي لا حاجة للإقطاع لاستعمالها، والتي تم تحويلها إلى بضائع يتم تجارتها في الأسواق، وظهر بذلك العمل التجاري، وبالتالي ظهور الرأسمال التجاري، و نرى كذلك أن الحركة الاجتماعية في تناقضاتها، التي تصل إلى مستوى معين، تكون في حاجة إلى الانتقال إلى بنية اجتماعية معينة عليا، كما أن أساليب الإنتاج في البنية الإقطاعية، قد تحولت بدخول الصناعة، مرحلة جديدة، مما حتم تطور التجارة، وأصبح من اللازم حدوث قفزة نوعية، من الحركة الاجتماعية ذات البعد الفيودالي، إلى الحركة الاجتماعية ذات البعد الرأسمالي، ومن الحركة الفكرية المثالية، إلى الحركة الفكرية المادية، فكان لا بد من إسقاط نمط الإنتاج الإقطاعي، وتغييره بنمط الإنتاج الرأسمالي، ذلك ما حدث في القرن 18، مع نجاح الثورة البورجوازية، وانتصار المفاهيم البورجوازية على مصالح الإقطاع.

هكذا وضع ماركس الديالكتيك الماركسي، من خلال دراسته لتاريخ تطور المجتمعات البشرية، عبر تطور الحركة الاجتماعية، التي أثرت على تطور الحركة الفكرية، من الديالكتيك الميتافيزيقي إلى الديالكتيك المادي، ومن الماركسية إلى الماركسية اللينينية، مع تطور الديالكتيك الماركسي إلى مستوى أعلى، من طرف لينين عبر أعماله، في جميع المستويات : المعرفية، السياسية، الاقتصادية، التنظيمية وبناء الوطن الاشتراكي.