في رثاء ثائر هندي أحمر


سعود قبيلات
2019 / 11 / 7 - 09:43     




«يتوق قلبي إلى الربيع

ولو للحظة.

ما حاجتي

إلى الراحة

وإلى الحياة الخالية من النار واللهيب».

«أريد أنْ أضحك من الأعماق

وأبتهج من القلب

وأحتضن بحرارة

الناس الذين أُحبّهم

ومِنْ ثمَّ، إذا اقتضى الأمر،

أريد أنْ أموت

كشجرة بلّوط ضخمة.

تصدَّعتْ في العاصفة

واُقتُلِعَتْ مِنْ جذورها».

رسول رضا.. شاعر سوفييتيّ أذريّ
(1910 – 1981)

رحل عصام التلّ. غفا غفوةً عاديّة، لكنَّها قادته إلى الالتحام بالكون ليتابع نومه في حضن الأبديّة.

حدث ذلك ببساطة؛ كما لو أنَّه غيَّر وضع نومه فقط، كما لو أنَّه سينهض في الصباح التالي كالمعتاد.

رحل عصام التلّ. رحل إنسان فذّ. عقل كبير وعميق.. عقل حيويّ ديالكتيكيّ ينفر من المواضاعات البليدة والأفكار النمطيّة المستهلكة والمقاربات السطحيّة الجاهزة.

رحل عصام المناضل الصلب الشجاع، والثوريّ الجذريّ، والوطنيّ والأمميّ الحقيقيّ. رحل بصفائه الثوريّ الذي لم يصدأ مع توالي السنين، وعزيمته التي لم تفتر حتَّى في أقسى الظروف وأصعب الأحوال.

رحل عصام الإعلاميّ والصحفيّ المتمكّن مِنْ أدواته، عالي الثقافة وعميق الفكر. لم أرَ مَنْ هو في مستوى مهنيَّته ودقّة لغته وعمقها سوى الشهيد ناهض حتَّر. وكان عصام وناهض صديقين ورفيقين حميمين ارتبطا بروابط وثيقة لم تنفصم. وكان ناهض يصف عقل عصام بأنَّه عقل استثنائيّ. وبالمناسبة، كان اغتيال ناهض بتلك الطريقة الخسيسة هو بداية انحدار عصام بخطى حثيثة نحو الرحيل النهائيّ.

حورب عصام طويلاً في رزقه.. بسبب آرائه ومواقفه الوطنيّة الشجاعة، وخسر الإعلام بذلك كفاءة كبيرة ما كان يجب أنْ يخسرها لولا أنَّ بلادنا أُخِذتْ مِنْ شعبها عنوة منذ حوالي قرن وأصبح الولاء لمَنْ أخذوها (وليس للبلاد، كما هو الحال لدى مختلف الشعوب) هو شرط الحصول على عمل، وشرط القيام بأيّ دور، وشرط التقدّم في الوظائف والمناصب، وشرط الحصول على الفتات مِنْ ثروات وطننا المنهوبة. ولم يكن عصام، باعتداده الوطنيّ الكبير وإحساسه العالي بالكرامة واحترامه الشديد لنفسه، مِن الذين يمكن أنْ يقبلوا خيار الخضوع لهؤلاء وأمثالهم.. مهما كان الثمن ومهما كانت النتيجة. لذلك، اضطرّ لتلقّط رزقة بطرقٍ عسيرة وشحيحة المردود؛ لكنّها كريمة. وظلّ يقول ويكتب ما في رأسه بصراحة ووضوح.. مِنْ دون أنْ يحسب حساباً لما يمكن أنْ يلحق به مِنْ أذىً نتيجة مواقفه المبدئيّة.

ومن المؤسف أنَّه، حين داهمه المرض، احتاج إلى «ستّين واسطة» ليحصل على شيءٍ من العلاج من الدرجة العاشرة في مستشفى حكوميّ!

وهذا في حين أنَّ أقلّ عضوٍ في حاشية العصابة الحاكمة يصيبه عارض صحيّ بسيط، يُنقَل للعلاج في أغلى المستشفيات الأوروبيّة والأميركيّة ويكبِّد الدولة مبالغ طائلة.


إنَّه ظلم ما بعده ظلم!

كان عصام سبَّاقاً في كشفه لجذر المشاكل أو «أُمّ المشاكل» في البلاد؛ فدأب منذ فترة مبكِّرة على القول بكلّ جرأة وشجاعة بأنَّه لا حلّ ما دامتْ الأوتوقراطيّة القروسطيّة مفروضة على البلاد.

وكان يوضّح باستمرار بأنَّه لا يجوز أنْ تبقى السلطات كلّها محصورةً بيد شخص واحد هو الملك، وبأنَّ الشعب الأردنيّ يستحقّ نمط حكمٍ ديمقراطيّاً حقيقيّاً، يكون الشعب فيه هو مصدر السلطات فعلاً لا قولاً فقط، والمسؤوليّة مقترنةً بالمساءلة، ويكون حقّ اتّخاذ القرار بيد أشخاص منتخبين من الشعب مع خضوعهم التامّ لمراقبته ومحاسبته، وبأنَّه يجب إنهاء التبعيّة، وإطلاق عجلة التنمية الوطنيّة، وبناء اقتصاد البلاد بالاستناد إلى المصالح الوطنيّة ومصالح الأغلبيّة الشعبيّة، وأنَّه لا تنمية ولا نهوض مِنْ دون أنْ يكون عمادهما توفير الحاجات الأساسيّة للناس.

وظلّ عصام، حتَّى آخر يومٍ مِنْ حياته، معادياً للإمبرياليّة والصهيونيّة وتوابعهما، مناهضاً للتطبيع ولكلّ مشاريع الاستسلام، ومنحازاً للمقاومة في مواجهة غطرسة العدوّ الصهيونيّ، ومكافحاً للاستغلال والقهر والاستبداد والفساد، ونصيراً جذريّاً للفقراء وكراماتهم وحقوقهم وتحقيق شروط إنسانيّتهم، وثابتاً على قيم الحريّة والعدل والديمقراطيّة والتحرّر الوطنيّ والتقدّم الاجتماعيّ والاشتراكيّة.

ومِنْ ناحية أخرى، كان عصام – ومن المؤلم أنْ أقول كان – إنساناً مرهفاً جدّاً، مقبلاً على الحياة، وذوّاقاً جيّداً لجماليّاتها، وشغوفاً بمختلف أنواع الفنون الراقية. وكانت لديه قدرة تثير الإعجاب على استخلاص أرقى المعاني الإنسانيّة وأعمق القيم الفكريّة من الأعمال الإبداعيّة المميَّزة.

وأنا أتذكّر، هنا، ملاحظاته النقديّة العميقة التي كان يتفاعل بها مع مختلف أنواع الفنون. وأتذكَّر، بشكلٍ خاصّ، مداخلاته الذكيّة في عروض النادي السينمائيّ الذي كان يديره الراحل حسّان أبو غنيمة في ثمانينيّات القرن الماضي.

ربطت بين الرفيق عصام وبين الرفيق أحمد جرادات بدايةً، ثمّ بيني وبينهما، علاقة صداقة وثيقة، وعلاقة رفاقيّة مديدة ووطيدة، وتقارب فكريّ وثقافيّ كبير. ولنا الكثير من الذكريات العزيزة المشتركة والتجارب السياسيّة والثقافيّة المشتركة.

في انتفاضة نيسان المجيدة في العام 1989، شمل النظام باعتقالاته التعسّفيّة – كما هو معروف – طيفاً واسعاً من المناضلين القوميين واليساريين. وبالصدفة المحض، فشلت حملة الاعتقالات في الوصول إلى كاتب هذه السطور وإلى الرفيق عصام وشقيقي سالم وشقيقي سليمان وقريبي محمّد زعل القبيلات، رغم أنَّها استهدفتنا جميعاً في مَنْ استهدفتهم ورغم أنَّهم بحثوا عنّا في عمّان وفي المحافظات.

وبالنتيجة، تجمّعنا – بمساعدة الرفيق وليد هلسة – في بيت سرّي في عمّان، وشرعنا بالعمل؛ حيث رحنا (عصام وأنا) نكتب البيانات التحريضيّة ضدّ النظام، ويأخذها وليد ويشرف على طباعتها بنسخ كثيرة، ثمّ يجري توزيعها في عمّان والمحافظات؛ بل إنَّنا – رغم كوننا مطلوبين – كنّا نشارك في توزيعها ليلاً في أماكن مختلفة مِنْ عمّان.

لا أقول وداعاً يا رفيق عصام؛ فذكراك العطرة ستبقى بيننا ما حيينا، ونعدك بأنَّ نظلّ محافظين على القيم النبيلة نفسها التي طالما ناضلنا سويّاً مِنْ أجلها.. مهما تطلّب ذلك مِنْ أثمان باهظة وتضحياتٍ فادحة.

ذات مرَّة، وقد كنتُ في زيارة خارج البلاد، تذكَّرتُ عصام وتذكّرتُ الظلم الذي وقع عليه وتذكّرتُ قيمته الفكريّة والثقافيّة العالية، في مقابل الحال المتردّي جدّاً الذي يسود في وسطنا الإعلاميّ والثقافيّ، فكتبتُ مقالاً بعنوان «عصام»، حاولت فيه أنْ أوضِّح – لمن لا يعرف – ماذا يمثِّل عصام في المجال الإعلاميّ والثقافيّ والفكريّ. كان ذلك في تاريخ 14 – 11 – 2014، وقد نُشِرَ المقال في حينه في جريدة «الرأي».

أضع، تالياً، هذا المقال لمَنْ يريد أنْ يطَّلع على هذا الجانب المهمّ مِنْ أدوار عصام التلّ:

كلَّما فكَّرتُ في حال الوسط الثقافيّ في بلادنا، ورأيت العديد من الأسماء المتصدِّرة لواجهته الآن بالادِّعاء وبغير وجه حق، قفزتْ إلى ذهني صورة المثقَّفين الحقيقيين والمبدعين المميَّزين الذين تواروا خلف ركام الواقع الثقافيّ البائس طائعين مختارين.

لا أنوي أنْ أسرد هنا كلَّ الأسماء التي أبعدها الزحام (وغيره) من الميدان، ولكنَّني سأكتفي بالتذكير بنموذجٍ واحد، فقط، منها لا يختلف في تقييمه الإيجابيّ أحدٌ ممَّن عرفوه. إنَّه صديقي ورفيقي القديم عصام التلّ، الكاتب والصحفيّ والمناضل والمثقَّف الذي انسحب من المشهد العامّ وتوارى، منذ سنوات، في بيت أسرته القديم في إربد.

لقد عمل عصام في العديد من الصحف الأردنيَّة باللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، ومِنْ أبرزها الـ«جوردان تايمز» التابعة لـ«الرأي»، وقبل ذلك في التلفزيون الأردنيّ – القسم الإنجليزيّ، وسواهما. وكان، في أثناء مباشرته لعمله الصحفيّ، مهنيّاً محترفاً من الطراز الأوَّل. لغته دقيقة ومنقّحة وخالية من الثرثرة والصيغ البلاغيَّة البليدة؛ وتناوله لمواضيعه يتميَّز بحِرْفيَّة عالية ومستوى فنيّ رفيع.

يدخل عصام مواضيعه مباشرةً، متجنّباً التمهيدات النمطيَّة التي لا ضرورة لها، ليعبِّر في كلّ جملة، بل وفي كلّ كلمة، عن فكرةٍ ذكيَّةٍ ولامعة. وعندما تقرأ له شيئاً تشعر أنَّ كلماته منتقاة بعناية شديدة وليس فيها ما هو مجانيّ. وكنتُ دائماً أستمتع إلى أبعد حدّ بالتألق الجماليّ والعمق الفكريّ لكتاباته، سواء منها ما كان يُنشر في الصحف العلنيَّة المعروفة أو ما كان يُنشر في الصحف الحزبيَّة السريَّة.

لم يكتب عصام الكثير من النصوص الأدبيَّة؛ ولكنَّ القليل الذي كتبه منها كان مميَّزاً جدّاً ويرسخ في ذهن قارئه طويلاً؛ في حين أنَّك قد تجد، لدى البعض، الكثير من الكتابات الأدبيّة التي تحمل اسمه، ولكنّك لا تجد مِنْ بينها ما يرسخ في الذهن، كما أنَّك لا تخرج منها بأيّ قيمة فكريَّة أو جماليَّة مضافة.

وهو، فوق هذا وذاك، مثقّف عميق وذكيّ، واسع المعرفة والاطِّلاع. وأهمّ مِنْ ذلك، أنَّه نموذج حقيقيّ للمثقَّف العضويّ الحقيقيّ بالمفهوم الغرامشيّ. ولقد كان دائماً مشغولاً بهموم بلاده وأمّته وبقضايا الإنسان في كلّ مكان.

من المؤسف أنَّ موهبةً فذّة، كهذه، وطاقة فكريَّة لامعة مِنْ هذا الوزن الكبير، لا تجد لها مكاناً لائقاً بين هذه الجموع المتزاحمة.. هذه الجموع التي يكثر بينها المزيَّفون، والمتطفِّلون على الحياة الثقافيَّة والإعلاميَّة، بلا وجه حق.