تحديث الثقافة..ثقافة التحرر الإنساني -الحلقة الثانية


سعيد مضيه
2019 / 10 / 12 - 20:43     

تحديث الثقافة..ثقافة التحرر الإنساني -2
ثقافة مكافحة.. ثقافة اممية
ويحظى بالأهمية في مجال التجديد الثقافي مكافحة ثقافة الليبرالية الجديدة ، نظرا لمضامينها التي تحط من إنسانية البشر. في الحلقة التالية يتم تناول البيئة الاجتماعية الأبوية حاضنة السلفية والليبرالية الجديدة في المجتمعات العربية. يتضاعف تركيز الليبراليين الجدد على تهميج البشر حين تخفت طبول الحرب لترتفع حدة الصراع على الوعي الاجتماعي. سعت الليبرالية الجديدة لترويج ثقافة تشيع الإرباك والاضطراب الذهني والتوتر الشديد. أنتجت الليبرالية الجديدة ثقافتها التبريرية لمظاهر الفقر وقسوة العلاقات الاجتماعية وإشاعة العنف والكراهية. تكاملت حصيلة التعديلات الاقتصادية الجائرة على الجمهور العريض مع ثقافة الليبرالية الجديدة تخرب الوعي الاجتماعي من خلال المدرسة والجامعة والإعلام. فاشية الليبرالية الجديدة تسخر التربية والميديا والفنون وبرامج التسالي حواضن لثقافة العنف والكراهية والقسوة، من اجل تدعيم نظام الجور والاستلاب. يشير هذا الى أن أحد أخطر التحديات التي تواجه القوى التقدمية وشغيلة الثقافة تتمثل في مقاومة الهمجية عبر تطوير خطاب النقد وثقافة التسامح والتعاون.
تناول الراحل محمود امين العالم، المفكر الماركسي المصري، الليبرالية الجديدة، انعشت الأصوليات الدينية في إهاب حركات سياسية تتلبس لبوس الدين ، مسيحيا أو يهوديا أو إسلاميا؛ وهي في جوهرها فاشية متحالفة مع الغرب الامبريالي. وعلى غراره رفض سمير أمين، كماركسي متمرس في الجدل المادي، المواقف الأخلاقية الزائفة التي تستعمل المبادئ للتغطية على الوقائع الباردة التي عادة ما تكون غير أخلاقية. في نظر المفكرين الماركسيين سعت الدول الكبرى وتواصل المساعي لإدماج واستتباع اقتصادات البلدان النامية في بنيتها الرأسمالية وتفكيك قطاعاتها ومؤسساتها الاقتصادية العامة وتصفية الدور الإنتاجي لدولها. وسهل نجاحها في مساعيها عمليات تفكيك الروابط الإقليمية والقومية وخلخلة الهويات الثقافية وإشاعة الاتجاهات اللاعقلانية والاستهلاكية وروح الفردية . ضمن هذا التوجه يدأب الاحتلال الإسرائيلي، في تفكيك الاقتصاد الفلسطيني ومنعه من التطور ونخر الحياة الاجتماعية.
منطلقا من التحليل آنف الذكر استنتج العالم أن " جوهر معركة عصرنا المباشرة الآنية هي النضال العالمي المشترك بين القوى المنتجة والمبدعة والديمقراطية والتقدمية في العالم من أجل القضاء على الهيمنة الأميركية على الوضع الراهن غير الإنساني، وضمان حق كل بلدان العالم في اختيار طريقها الخاص للتنمية الشاملة ، الاقتصادية والبشرية والثقافية والإبداعية ، وتوفير الموارد بين مختلف الخبرات والتجارب السياسية والشمولية والثقافية بين شعوب العالم."
وفي النمسا رأى العالم جان زيغلر في ثقافة الليبرالية الجديدة " النظام العالمي المتوحش، يخلق الوفرة لأقلية صغيرة والبؤس القاتل للأغلبية... يعلمنا التاريخ انه لا يمكن أنسنة نظام يمارس فيه الاضطهاد."
كما تصدى المثقف الماركسي الأميركي ، هنري غيروكس، لتأثير الليبرالية الجديدة في مجال الثقافة، فقد لفت الأنظار الى تدهور التعليم الجامعي في أميركا وبلدان الليبرالية الجديدة حيث "يدرس الشباب مساقات مسلعة، ويفكرون في قيم مسلعة يطلبها الرأسمال، ويعزفون عن قيم مثل الثقة والعدالة والأمانة والاستقلالية تفتح عهد الانتعاش الثقافي وتفتح مواهب الإبداع والنقد. إن تنامي خطر تسلطية الليبرالية الجديدة تشير إلى أزمة في السياسة وأزمة معتقدات وقيم وفي الوكالات الفردية والاجتماعية. يجب أن توضع شئون التعليم في قلب أي فكرة حيوية للسياسة، يعني ان تحتل التربية المركز في أي محاولة لتغيير الوعي" . هذا النموذج التعليمي يراد له الانتشار في العالم كله. وصف غيروكس الترياق للتدهور في "تصور جامعات اماكن للتفكير، أماكن للأمن، الجامعة مكان له ما يقوله عن التفكير النقدي ، ومكان يعلم الطلبة كيف يكونون مواطنين فاعلين." وفي مقابلة مع المجلة التربوية "غلوبال إيديوكيشن ماغازين (المجلة التربوية العالمية)" افاد غيروكس ان "التربية النقدية تلعب دورا حاسما في إدراك وتحدي الكيفية التي بها يتم إدماج السلطة والمعرفة والقيم والتركيز عليها وكيف نقاومها ضمن إطار الخطاب التقليدي والمجالات الثقافية وخارجها. التربية اداة إدراك الشروط المؤسسية التي تفرض القيود على إنتاج المعرفة والتعلم والعمل الأكاديمي والعلاقات الاجتماعية".

يلقى عبء التغيير الاجتماعي على الحركات الشعبية ذات التوجه الديمقراطي. هذا الخيار يستوجب الاعتماد على الثقافة الديمقراطية المقاومة. تلتقي الثقافة المقاومة بالسياسات المقاومة لتتفاعلا؛ كلتاهما تنشد التحرر الإنساني وتمكين المجتمع. سطوة قوى المحافظة، التي تدير ظهرها للعلم وتتبنى رؤى ماضوية، تلزم قوى التقدم التركيز على منجزات العلم والاسترشاد بها في مسعى الخروج من التخلف. في الجامعات الفلسطينية تشكلت مفارقة تحمل دلالتين : الأولى قصور التعليم والتعليم الجامعي في إشاعة المعرفة العلمية بما يهبط بمنسوب الثقافة الاجتماعية ببين خريجي الجامعات ؛ والثانية قصور أحزاب التقدم في مجال التربية السياسية والثقافية لكوادرها ، خاصة بين الطلبة، بما يعوض تقزيم حيز الثقافة في مناهج التعليم وأساليبه. ثورية الحزب السياسي تتجلى في إنجاز مهمة نقل فكر التغيير الاجتماعي إلى الطبقة العاملة من خارجها. تخيل لينين الحزب الثوري يربط رسالة الحزب ارتباطا وثيقا بنظريته في الحزب الطليعي، ينصهر فيه العمال والمثقفون المحترفون السابقون في وحدة واحدة متماسكة. في رثاء ماركس قال إنجلز،" لقد علمنا الطبقة العاملة ان تعرف نفسها وان تعي ذاتها وإحلال العلم محل الأحلام" .

وحيث ان المجتمع الفلسطيني يواجه احتلالا عنصريا أخضعه لنظام أبارتهايد جائر ، متذرعا بأن شعب فلسطين انصاف متوحشين لا يستحقون المعاملة الإنسانية، وذلك لتبرير عمليات تهجيره من وطنه ، فإنه يواجه وضعا خاصا . نشرت مجلة "الحقيقة البشعة"، وهي مجلة اميركية نقدية، ان "اعتناق فكرة عن العرب أنصاف متوحشين هي مقدمة سيكولوجية ضرورية لتدمير إنسانية الشعب المنوي إبادته واضطهاده وطرده". الشعب الفلسطيني يواجه خطر تذويب ثقافته تمهيدا لاقتلاعه. كتب إدوارد سعيد ، "الفلسطينيون يناضلون ضد طمسهم وإخفائهم ، وهو المصير الذي قاوموه منذ البداية؛ ومن ناحية أخرى فإنهم يناضلون ضد القوالب النمطية التي حشرتهم فيها وسائل إعلام – العربي المقنع بالكوفية الذي يقذف الحجارة – الهوية المرتبطة بالإرهاب والعنف". وأعد حميد دباشي ، الاستاذ بجامعة كولومبيا في نيويورك، وحرر كتاب "أحلام وطن..عن السينما الفلسطينية"، وفي مقدمته يشير الى " ما نشهده في الأفلام الوثائقية الفلسطينية، على سبيل المثال، ليس عملا عاديا عبارة عن جمع شهادات حول التاريخ العابر، إنما نجد خوفا معينا من ضياع، ونظرة مثيرة للقلق على الأقل، والحفاظ على سجل مستدام من الذاكرة المهددة بالانقراض. وهذا يمثل أبلغ ما نراه في الأفلام الوثائقية الفلسطينية". لعل نفس القلق يسري في أعمال الكتاب والباحثين الاجتماعيين والفنانين الفلسطينيين . وفي مجال آخر يلاحظ " حكاية الفلسطينيين من البؤس وهضم الحقوق دون انقطاع أو إنكار ، من خلال امل يتحدث عن اليأس ، من خلال ضحك يخفي الغضب، ومن خلال عبث جدي يتجاوز مرحه الكئيب الأسود حول سرقة أرض لشعب عظيم وترويع شعب كامل وإرهابه ليغادر وطنه ، ومن ثم يوصف هذا الشعب بالعنف والإرهاب"
ساهم في تقديم مادة الكتاب "احلام وطن" كل من المخرج السينمائي ميشيل خليفي والمخرج عمر القطان والمفكر جوزيف مسعد. الكتابات ترشد مجمل النشاط الثقافي الفلسطيني: الأول يشترط في الفن انتماءه للمستضعفين، يحررهم من قيود التخلف والقهر والاستعباد والاستغلال." لا يعترف الفكر بالحدود ، فهو حر كالريح ..دعونا لا ننسى اننا نتحدر من خلفية تعود الى العالم الثالث، الذي يغص بالفقر؛ لذلك طالما كانت ثقافة الفقراء بنظر الاعتبار في ذهني على الدوام تدفعني لإيجاد حلول تجعل مني مبدعا خلاقا ". ينبهنا خليفي الى ظاهرة وجودية تنمي نزعة الاستغلال بما يتماهى مع الطبقات المستغِلة. الكثيرون يولدون ولديهم ميزات يعتبرونها مصدر سلطة تنمي نزعة استغلال الآخرين أو اضطهادهم. يرعى المجتمع الطبقي تلك النزعات ، مظاهر للتماهي مع القاهر ، قد تتفاقم لتتحول الى تماه فكري يعد انتصارا ساحقا للقهر الاجتماعي. يمضي خليفي الى القول، " نحن نمارس الاضطهاد ضد الشرائح المهمشة، وبناءً عليه فالتحرر عملية ذات شقين: التغلب على الإخضاع الوطني لنتحرر من الأشكال الداخلية للقمع الاجتماعي أيضا؛ يتزامن التحرر الاجتماعي مع التحرر الوطني، تحرر المجتمع مرادف لتحرر الفرد".
اما عمر القطان فيلفت الانتباه الى ضرورة المبادرة لإنشاء منظمات أممية للتضامن، بحيث تساهم الثقافة الفلسطينية بنشاط وفعالية في مكافحة التمييز العنصري و العدوان ."أصبح النضال الفلسطيني من اجل الحرية في فلسطين يتم كثيرا من خلال الثقافة الحية، أي من خلال عملية سلمية غير مسالمة ، وحازمة في إدخال فلسطين في ركب العالم ، ليس كقوة سلبية مبسطة ، ولكن كطاقة إنسانية مليئة بالتحديات والتعقيدات والجمال. يسرد عمر القطان التفاعل بين الحراك الشعبي والجهد الثقافي في التأثير على الصعيد الدولي." إذ استطاعت الجماهير على نطاق دولي، بفضل انتفاضة 1987، رؤية المزيد عن فلسطين، على الرغم من ان هذه الرؤية كانت شبه محصورة في إطار الانتفاضة. أدي ذلك الى زيادة التعاطف العالمي مع الفلسطينيين، وربما ساهم بشكل كبير في إجبار القوى العظمى على معالجة المشكلة الفلسطينية بالحد الأدنى. لكن من المؤسف أن الحقائق المتشابكة خلف الأحداث ، التي تظهر على شاشات التلفزيون، ناهيك عن أصوات الفلسطينيين المشاركين في الصراع أصبحت تدريجيا تخضع لمصطلحات التقارير الإخبارية".
على الضد من التأثير الإيجابي للحراك الشعبي الفلسطيني ، شرح القطان عوامل ضعف التأثير الذي تركه فيلم ميشيل خليفي "حكاية الجواهر الثلاث"، الذي التقطت مشاهده في قطاع غزة؛" رغم الواقع العنيف والمروع المنقول في فصل الشتاء البارد، والذي يعاني منه الأطفال، الى جانب قسوة الاحتلال الإسرائيلي، فقد بدت هذه الأمور المريرة في نظر العالم الذي أعمته نشوة ‘عملية السلام’ ، وكأنها جوانب من فترة خلت، ولا داعي لإثارتها. لم يبرح العنف المجتمعات الفلسطينية والعربية خلال سنوات اوسلو وبعدها". هنا يتوضح لغز اوسلو ، الذي بادر شمعون بيريز بالدعوة له، حيث غطى شبح السلام على التوسع الاستيطاني المكثف بالضفة.
ونحا ذات التوجه جوزيف مسعد؛ " ينبغي أن نكون جزءًا من واحدة من أكثر الحركات الفكرية دينامية وتقدمية ، سواءًا اكانت حركات ثقافية أو جمالية او فلسفية ، وينبغي أن نجعل من هذا العالم مكانا مناسبا لنا ، وأن نتحمل المسئولية عن مصيره. توجه هام في الثقافة الفلسطينية أن لا تجعل قضيتها عالة على التضامن الدولي؛ بل تساهم باقتدار ، نظرا لكونها في صدام مباشر مع العنصرية والأبارتهايد. تكتسب الطروحات السابقة أهميتها في ضوء التجاهل ، الذي يبدو متعمدا، لحركات التضامن مع العدالة في فلسطين . الإعلام العربي والفلسطيني مقصر في التعريف بتعاظم حركات التضامن العالمية مع شعب فلسطين ، مخاطرة بالتعرض لردود فعل تتهمها باللاسامية، مدعومة بقوة ونفوذ الرأسمال الاحتكاري الدولي وشعبوية عنصرية العرق الأبيض. حتى داخل الولايات المتحدة باتت حركة التضامن مع القضية الفلسطينية تؤرق اللوبي اليهودي وعملاء وزارة الشئون الاستراتيجية الإسرائيلية الناشطين بقوة في الولايات المتحدة.
يتبع الحقة الثالثة والأخيرة