من الانتفاضة إلى الثورة الاجتماعية


كريس هارمان
2016 / 9 / 19 - 20:50     

أصبحت الانتفاضات سمة دائمة من سمات عالمنا المعاصر. في [الفترة] الأخيرة على سبيل المثال أسقطت انتفاضات شعبية نظامي الحكم في كل من بوليفيا وجورجيا. وعلى مدى السنوات الخمس الأخيرة هزت ثورات شبيهة أركان كل قارات العالم.

ففي مايو 1998 تم إسقاط ديكتاتورية الجنرال سوهارتو بواسطة انتفاضة شعبية. وفي يناير 2000 أسقطت انتفاضة أخرى النظام في إكوادور. وفي أكتوبر من نفس العام أزاحت ثورة جماهيرية الحاكم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش. وبعد ذلك، في ديسمبر 2001، أطاحت ثورة شبيهة بالنظام الحاكم في الأرجنتين. وأخيراً في أفريقيا في العام [قبل] الماضي نجحت الجماهير، بعد شهور من الإضرابات الكبرى والاحتجاجات، في إزاحة النظام الحاكم في مدغشقر.

هذه القائمة لابد وأن تدحض حجج أي شخص يقول بأن الاحتجاجات الجماهيرية لا يمكنها أن تحقق أي شيء!

على أنه من المهم أن نفهم لماذا لم تحقق أي من هذه الحركات الجماهيرية التغيير الجذري المنشود. يمكننا أن نلاحظ أن كل واحدة من هذه الانتفاضات اندلعت غضباً على مظالم محدودة. ولكن الاحتجاج المحدود تحول إلى انتفاضة عندما لعب دور المفجر لاستياء شعبي أعمق وأوسع نطاقاً. فقد بدأت الانتفاضة البوليفية مثلاً باحتجاج حول صناعة الغاز، ولكنها عكست غضباً عميقاً بسبب المستويات الهائلة السائدة للفقر. وفي جورجيا امتزج الغضب بسبب الانتخابات بالغضب المتعاظم الناتج عن الفقر الشديد الذي يعانيه قسم كبير من السكان.

وفي كل الأحوال أطلقت تلك الانتفاضات فيضاناً من الأمل في التغيير الجذري وفي تحسين حياة البشر. بل وأنها نجحت أيضاً في انتزاع بعض التغييرات المهمة. فعلى سبيل المثال يعمل النشطاء النقابيون وقوى المعارضة اليوم في العاصمة الإندونيسية جاكرتا بشكل أكثر علنية مما كان عليه الحال في ظل ديكتاتورية سوهارتو.

لا شك أن مثل هذه الحريات والمساحة الأوسع المتوفرة للتنظيم الديمقراطي هي هامة جداً. ولكن لابد من الاعتراف كما ذكرنا أن أياً من هذه الانتفاضات الأخيرة لم يجلب تحولاً أوسع في المجتمع وفي حياة البشر. ففي كل الحالات نجح قسم من الطبقة الحاكمة – النخبة المترفة التي تسيطر على الثروة والقوة – في استعادة السيطرة على المجتمع.

الطبقات الحاكمة لا تتخلى عن ثروتها وسلطتها بسهولة في وجه انتفاضة اندلعت ضد نظام معين للحكم. فالانتفاضات غالباً ما تندلع في أوقات تنقسم فيها الطبقة الحاكمة حول كيفية الاستمرار في الحفاظ على سيطرتها على المجتمع في وجه الأزمات الاقتصادية والسياسية وفي وجه الغضب الشعبي. وفي مواجهة تهديد الثورة يغير أشخاص من الطبقة الحاكمة مواقفهم ويسعون إلى وضع أنفسهم على رأس الانتفاضة أو يركبون الحركة ليكسبوا السلطة لأنفسهم.

الطبقة الحاكمة يمكنها أن تتخلص من شخصيات قيادية خدمت مصالحها على مدى سنوات. وهي تنظم نفسها وتناور لكي تضمن استعادة الاستقرار لحكمها. ومن أجل تحقيق هذا الهدف نجدها تستخدم كل ثروتها وكل خبرتها السياسية معتمدة على سيطرتها على المؤسسات الحيوية مثل الجيش والإعلام. وغالباً ما يكون مسعى الطبقة الحاكمة للاحتفاظ بسيطرتها مؤيداً بقوى من خارج البلد: الشركات المتعددة الجنسيات، الحكومات الأكثر قوة في العالم، ومؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي.

الصدام بين الأقسام المختلفة للمسيطرين على السلطة والثروة والاندفاعات الكبرى للحركة الجماهيرية التواقة إلى تحقيق تغييرات واسعة النطاق لا يتم حلهما في يوم وليلة. ففي الأرجنتين احتاج الأمر إلى حوالي ثمانية عشر شهراً، بدءاً من انتفاضة ديسمبر 2001، حتى استطاعت الطبقة الحاكمة أن تؤمن شكلاً ما من النظام المستقر. وفي غضون تلك الفترة تتابع على السلطة سلسلة من الرؤساء، بينما توالت موجات من الاحتجاجات جنحت بخطط أولئك الذين على قمة المجتمع بعيداً عن أهدافها. وقد أُجبر النظام أيضاً على تقديم بعض التنازلات.

في كل مكان كانت الاستراتيجية الرئيسية لأولئك الذين يحاربون من أجل إعادة تأسيس سلطة المترفين هي السعي لتبديد واحتواء القوة الدافعة للحركة الجماهيرية.

فلننظر مثلاً إلى الحالة الإندونيسية. مجلة "داخل إندونيسيا"، وهي إصدار باللغة الإنجليزية يغطي الأحداث في هذا البلد، وصفت انتفاضة 1998 على الوجه التالي: "كان هناك انفجار للمجتمع المدني. أجبرت المظاهرات في كل أنحاء البلاد المسئولين المحليين الفاسدين على ترك مناصبهم. واحتل الفلاحون الأراضي التي انتزعت منهم في الماضي. وتم تكوين عدد لا حصر له من الأحزاب السياسية الجديدة والنقابات العمالية والمؤسسات المناهضة للفساد، إلى جانب عدد كبير آخر من المنظمات".

في مواجهة هذا الوضع، لم يكن هناك خيار أمام أقسام من النخبة الحاكمة، كانت قد أيدت لأزمان طويلة النظام الحاكم، عدا تقديم التنازلات. ولكن في نفس الوقت كان هؤلاء يعملون على احتواء وتحجيم أي تغيير حقيقي. مقال "داخل إندونيسيا" يكمل: "نجحت انتخابات يونيو 1999 إلى حد كبير في تدجين الطاقة الموجهة ناحية الإصلاح. تحول مركز الأحداث من الشارع إلى البرلمان؛ من التعبئة إلى التشريع القانوني. انبثقت في الأقاليم تحالفات جديدة بين الأحزاب الجديدة من جانب والجيش ومجموعات البيزنيس والمجموعات البيروقراطية من جانب آخر. ولأن الحد الفاصل بين الإصلاحيين وبين المدافعين عن النظام السائد أصبح مموهاً وغير واضح، فإن حركة الإصلاح فقدت قوة دفعها".

هذا يعني أنه لم يحدث تغيير جذري في حياة الملايين الذين أشعلوا انتفاضة 1998. لإحداث هذا النوع من التغيير كان لابد من السيطرة على روافع القوة الاقتصادية ومن التخلص من التراتبية القديمة التي سيطرت على الدولة. للأسف لم تحقق انتفاضة إندونيسيا، أو أي من الانتفاضات الأخرى، هذا. مجلة "داخل إندونيسيا" تقول في هذا الشأن: "في 2002 ارتفع عدد العمال المفصولين بـ34%. حتى الحكومة باتت تعترف أن عدد العاطلين سوف يصل غالباً إلى 40 مليون بحلول نهاية 2004".

وفي حين أن التفاصيل تختلف بشكل كبير من بلد لآخر، فإن الإطار العام للمعركة يتشابه في كل مكان: حركة جماهيرية يتم تدجينها بواسطة جناح من أجنحة الطبقة الحاكمة. سبب رئيسي لهذا هو الافتقار إلى قوة سياسية ذات حجم معتبر تدافع عن مصالح الجماهير العريضة والناس العاديين، وتناضل من أجل تغيير اجتماعي واسع النطاق.

في بعض الحالات كانت هناك نماذج جنينية لقوى بمقدورها الإتيان بهذا النوع من التحول. في الأرجنتين كانت هناك لجان الأحياء، وازدهار لأشكال من الديمقراطية القاعدية في بعض المناطق، وحركة "البيكيتيروس" الجماهيرية التي تنظم العاطلين، وأيضاً سيطرة العمال على مصانع هجرها الرأسماليون. ولكن هذه القوى والتنظيمات لم تستطع أن تربط نفسها بقوة الطبقة العاملة ذات التأثير الحاسم. كان بمقدور هذا الربط أن يخلق حركة لها من العمق الاجتماعي والعضلات الاقتصادية ما يمكنها من فرض إرادة أغلبية المجتمع ككل على قلة المترفين.

أفضل مثال لدولة كان يمكن فيها تحقيق تغيير جذري هو بوليفيا. ذلك أن مكون أساسي من مكونات انتفاضة أكتوبر [2003] كان الطبقة العاملة – بالذات عمال مناجم القصدير ذوي التأثير الهائل. بعد الانتفاضة بأيام عُقد اجتماع حاسم لممثلي النقابات والمنظمات الجماهيرية. أوضح النقاش أثناء الاجتماع كيف أن كثير من العمال والفقراء كان لديهم شوق للسيطرة على المجتمع بأنفسهم. أحد المتحدثين قال "لقد غيرنا الرئيس، ولكن الرجل الثاني في النظام القديم لازال في السلطة. لقد كسبنا معركة، ولكننا لم نكسب الحرب بعد". متحدث آخر قال أنه في غمار الانتفاضة "ضحى العمال بحياتهم ببسالة. ولكنهم حصلوا فقط على تغيير دستوري. أولئك الذين انتفضوا أرادوا شروطاً أفضل للحياة وشكل آخر للدولة. نحن نحتاج إلى أن يستحوذ المستغَلون على السلطة".

ولكن عناصر محورية أخرى دافعت على الوجه المقابل عن أن نوعا ما من "الوحدة الاجتماعية" بين الحركة الجماهيرية والنظام الجديد هو أمر مطلوب. وللأسف الشديد استطاعت هذه الأصوات الهيمنة، ووصل الاجتماع لاتفاق حول "تراجع تكتيكي" بهدف إعطاء النظام الجديد الوقت. سمح هذا بالطبع للحكومة وللطبقة الحاكمة من ورائها أن يبقوا على قيد الحياة، وتم تبديد القوة المحتملة للانتفاضة.

في كل انتفاضة كبرى دارت نقاشات شبيهة. وفي معظم الأحوال، في الانتفاضات التي اندلعت في السنوات الأخيرة، لم تكن هناك قوى ذات شأن تدفع الحركة إلى الأمام. حتى في بوليفيا، لم تكن القوى الدافعة إلى الأمام متحلية بالقدر الكافي من القوة والتصميم لتحسم الأمر لصالحها.

ولكن إذا ما نظرنا في أحداث التاريخ، وفي الثورات التي نجحت في السابق في تحقيق تغيير جوهري، فإن صورة مختلفة جداً تظهر.

ثلاث ثورات غيرت التاريخ وحققت تحولات اجتماعية ذات أثر بعيد: ثورة إنجلترا في أربعينات القرن السابع عشر، وثورة فرنسا في عام 1789 وما بعدها، والثورة الروسية عام 1917. في كل واحدة من تلك الثورات دارت نقاشات تتشابه مع تلك التي دارت في بوليفيا. ولكن الفارق أنه كانت هناك قوى منظمة لها نفوذ حقيقي داخل الحركة الجماهيرية تدافع بشكل واضح عن دفع الثورة إلى الأمام وضد أي شكل من أشكال الحلول الوسط.

في إنجلترا كان هناك قادة مثل أوليفر كرومويل و"جيش النموذج الجديد" الذي أسسه وأيضاً مجموعات راديكالية كـ"الليفيليرز". وفي فرنسا كان هناك اليعاقبة الثوريون بقيادة أشخاص مثل ماكسيميليان روبسبيير ولوي أنطوان سان جوست. وفي روسيا كان هناك الحزب الاشتراكي البولشفي تحت قيادة لينين وترو تسكي.

صحيح أن الطريقة التي سُتخاض بها صراعات العالم المعاصر تختلف كثيراً في مواضع جوهرية عن صراعات الثورات السابقة. ولكن صحيح أيضاً أن انتصار تلك الثورات يتضمن درساً رئيسياً: الانتفضات هي فقط نقطة البداية للثورة الاجتماعية الحقيقية، وفي غمارها تحارب كل أنواع التيارات من أجل فرض نفوذها. ولذلك، فلضمان النجاح لابد لهؤلاء الذين يسعون إلى تغيير بعيد المدى أن يتحدوا سوياً ويعملوا بشكل متجانس.

هذا لا يعني الانفصال عن الحركة، أو سعي البعض لتنصيب أنفسهم كـ"قادة" من تلقاء نفسهم. إنه يعني التقارب والاتحاد بين أولئك المنغمسين في الحركة الذين يتبنون رؤية واحدة لمجتمع مختلف جذرياً، وذلك بهدف بلورة الدروس من خبرات بعضهم البعض ومن خبرات التاريخ. إنه يعني وجود حزب يعمل بشكل منصهر وموحد من أجل مناقشة وإقناع المناضلين الآخرين المنغمسين في الحركة بضرورة دفعها إلى الأمام. وفي نهاية المطاف فإنه يعني إقناع الغالبية بضرورة السيطرة بأنفسهم بشكل مباشر على المجتمع مما يمهد لعملية تغييره من قمته إلى أسفله.

هذا هو ما نعنيه عندما ندافع عن أهمية بناء حزب ثوري اليوم. إن هذا درس غاية في الأهمية. فالانتفاضات الأخيرة أوضحت لنا أنه بينما نحن نعيش في عصر الحروب، فإننا أيضاً نعيش عصر الثورات.