البلشفية طريق الثورة: الفصل الخامس: سنوات الحرب – تحركات سلمية


آلان وودز
2019 / 9 / 29 - 23:24     


كانت مشاعر الاستياء ضد الحرب أكثر حدة بين النساء بالطبع، لأنهن كن من نواح كثيرة الضحايا الرئيسيات لها. أخذت الصحيفة النسائية البلشفية (رابوتنيستا) مبادرة الدعوة إلى تنظيم كونفرانس أممي للنساء الاشتراكيات اليساريات، وقدمت مقترحا بذلك لكلارا زيتكين، التي كانت آنذاك سكرتيرة المكتب الأممي للنساء، والتي عبرت فورا عن موافقتها عليه. في مارس 1915 اندلعت في أوسلو مظاهرات حاشدة للنساء ضد الحرب. وفي نفس الشهر انعقد في بيرن كونفرانس آخر للنساء الاشتراكيات الألمانيات والنمساويات المجريات، بدعوة من القياديات الاشتراكيات الديمقراطيات في الكتلة الألمانية، وذلك حرصا منهن على ألا يتفوق عليهن نظرائهن في بلدان الوفاق. انتبه لينين سريعا إلى أن تلك فرصة من أجل الدعاية للأفكار الأممية الثورية. لقد كانت تلك فرصة للقيام بعمل مهم بين النساء.

حضرت الكونفرانس 25 منتدبة من ثمانية بلدان. كان البلاشفة ممثلين بأربع منتدبات، من بينهن إينيسا أرماند وكروبسكايا. كما دافعت المنتدبة عن الحزب الاشتراكي البولندي، كامينسكايا ، بدورها عن موقف لينيني ثوري. لكن أغلبية المشاركات كن إصلاحيات متذبذبات وسطيات مسالمات.

لو أن روزا لوكسمبورغ كانت حاضرة، لكانت قد أحدثت فرقا، على الأقل في طبيعة النقاشات إن لم يكن في النتيجة النهائية. لكن روزا كانت معتقلة في سجن ألماني، واحتلت مكانها كلارا زيتكين، التي، كما توقع لينين، قدمت كل أنواع التنازلات لصالح الأغلبية من أنصار النزعة السلمية، وميعت موقف لينين وأفرغته من جوهره الثوري.

لو أن ذلك الكونفرانس تبنى موقفا شجاعا بشأن الحرب لكان بمثابة دعوة لحشد اليسار على الصعيد الأممي. كتب لينين إعلانا لذلك الاجتماع لكن لم يتم إقراره، وعوض ذلك اتخذت الأغلبية موقفا يقول: “لا يمكننا انتقاد الأحزاب”، ويجب علينا أن نقتصر على “دعم السلام”. وعندما عارضت المندوبات البلشفيات هذا الأمر وتمسكن بموقفهن، تعرضن لسيل من الانتقادات، ووصفن بأنهن عصبويات وانشقاقيات لوقوفهن في طريق الوحدة. كان لينين قد توقع مسبقا مثل هذه الاتهامات التي سبق له أن سمعها مرارا. فلطالما اتهم الإصلاحيون والوسطيون اليساريين الثوريين الحقيقيين بكونهم “عصبويين” لأنهم يرفضون المساومة على المسائل المبدئية. وفي هذا الصدد، كتب لينين إلى ألكسندرا كولونتاي قائلا:

«تؤكدين على أن “ما يجب علينا أن نطرحه هو شعار يوحدنا جميعا”. بصراحة، إن ما أخشاه أكثر من أي شيء آخر، في الوقت الحالي، هو هذا النوع من الوحدة العشوائية، والتي هي في رأيي الشيء الأخطر والأكثر ضررا على البروليتاريا».

كان لينين غاضبا ولم يدخر أي عبارة في سياق إدانته لمبادرات السلام المزعومة تلك. وبالرغم من أن كلارا زيتكين كانت صديقة له، فإنه ركز نقده بشكل خاص على الدور الذي لعبته. وقال: «كان يتعين عليها أن ترى أن الانزلاق إلى النزعة السلمية في مثل هذا الوقت شيء مستحيل. لابد من التأكيد بشدة على جميع القضايا التي هي على المحك».

لم يول لينين أي اهتمام لتهم “الانشقاق” التي وجهت له. وقال ذات مرة: «بغض النظر عن قلة عددنا، فإن الملايين سيكونون معنا»[1]. وفي رسالة أخرى إلى ألكسندرا كولونتاي، كتبها في يوليوز 1915، أكد لينين على عدم جواز إبرام اتفاقات غير مبدئية مع كاوتسكي و”اليمين” بداعي الحفاظ على الوحدة:

«في ما يتعلق بالقضايا الأممية علينا ألا نقبل بالتقارب مع هاس- برنشتاين- كاوتسكي (لأنهم في الواقع يريدون الوحدة مع أمثال زوديكوم[2] وحمايتهم، إنهم يريدون الاختباء وراء عبارات يسارية وعدم تغيير أي شيء في الحزب الفاسد القديم). لا يمكننا أن ندافع عن شعار السلام، لأننا نعتبره في أقصى الحالات شعارا مخادعا مسالما برجوازيا صغيرا، في خدمة الحكومات (التي تريد الآن أن تكون جزئيا “مع السلام” من أجل الخروج من الصعوبات التي تواجهها) وتعرقل النضال الثوري.

في رأينا، ينبغي على اليسار أن يصدر إعلان مبادئ مشترك (1) يدين بلا مواربة الاشتراكيين الشوفينيين والانتهازيين، (2) يطرح برنامجا للعمل الثوري (سواء أطلق عليه الحرب الأهلية أو النضال الجماهيري الثوري، فهذا ليس مهما جدا) (3) يقف ضد شعار “الدفاع عن الوطن”، إلخ. سيكون لإصدار “اليسار” لإعلان مبادئ، باسم عدة بلدان، أهمية هائلة (بالطبع ليس بنفس العبارات الجبانة التي تبنتها زيتكن في كونفرانس النساء في بيرن؛ حيث تهربت من مسألة إدانة الاشتراكية الشوفينية!! بدافع الرغبة في “سلام” مع زوديكوم وكاوتسكي؟؟)»[3].

أياما قليلة بعد ذلك انعقد كونفرانس الشباب الاشتراكي الأممي في مدينة برن أيضا، بدعوة من الأمين العام للشبيبة الاشتراكية السويسرية، ويلي مونزينبرغ. رفضت الشبيبة الاشتراكية الألمانية والفرنسية المشاركة، بحجة أن مسألة الحرب خارج اختصاصهم. نفس الموقف عبرت عنه الشبيبة الاشتراكية النمساوية. لكن وعلى الرغم من ذلك جاء مندوبون من ألمانيا وكان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي ممثلا من قبل إينيسا أرماند وج. إ. سافاروف. وهنا أيضا كانت الأغلبية لصالح “الوسطيين”. خسر مقترح القرار البلشفي بـ 13صوتا مقابل 03 وتم تبني قرار سلمي، كما كان الحال في اجتماع النساء. إلا أن الكونفرانس قرر الاحتفال سنويا بـ “يوم أممي للشباب” (المناهض للنزعة العسكرية) وأصدر جريدة “الشباب الأممي”، التي نشرت مقالات كتبها لينين وليبكنخت.

قال لينين عن كونفرانس الشباب بأنه مفعم بالنوايا الحسنة، لكنه تجنب المسألة الأساسية أي القطع الحاسم مع الاشتراكيين الشوفينيين. لم تذهب هذه الجهود بعيدا، فالوقت لم يكن قد حان بعد. ولم تكن الظروف ناضجة بما فيه الكفاية لحدوث تحول كبير في اتجاه اليسار. قد يقال، من جهة أخرى، إن موقف لينين لم يكن يحصل على الأغلبية لأنه كان يذهب أبعد وأسرع مما يسمح به الوضع، لكن ومع استمرار الحرب دون نهاية في الأفق، تغير الواقع. بدأ التيار في العديد من البلدان يتدفق في اتجاه اليسار، وفي النهاية انعكس هذا داخل المنظمات الجماهيرية، بدءا بالنقابات التي بدأت تعكس مزاج الغضب المتنامي بين صفوف الجماهير ضد الارتفاع الرهيب في الضرائب والاستغلال والتضخم، وهو ما تم التعبير عنه في موجة من الإضرابات. في بريطانيا كان ميلاد حركة مندوبي المصانع نتيجة مباشرة لتجذر العمال من جهة والتعاون الطبقي والبيروقراطية النقابية من جهة أخرى.

كانت أول نتيجة لهذا الغليان الثوري هو تقوية التيارات الإصلاحية اليسارية والنزعة الوسطية في قيادة الأحزاب الاشتراكية. كانت التصريحات المسالمة لهؤلاء القادة تعكس بطريقة مشوهة وبائسة الرغبة الشديدة في السلام وكراهية الحرب الإمبريالية عند جماهير العمال والفلاحين والجنود والنساء. وفي يونيو 1915، نشر كاوتسكي وهاس وبرنشتاين بيانا ظهر في جريدة لايبزيغر فولكسزيتونغ، بعنوان “مطالب اللحظة”، للاحتجاج على “حرب الإلحاقات” والدعوة إلى إبرام السلام بسرعة. كان هذا الموقف المتأخر من جانب القادة الانتهازيين انعكاسا مشوها للمزاج السائد بين الجماهير. وقد حرص لينين، كلما سنحت له الفرصة، على تسليط نقد شديد للنزعة السلمية للوسطيين.

آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

هوامش:

[1]: N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p. 301 and p. 303.

[2] : ألبرت أوسكار ويلهلم زوديكوم (1871- 1944) قيادي في الحزب الاشتراكي الألماني، من أنصار الدفاع عن الوطن خلال الحرب العالمية وتحالف الحزب الاشتراكي مع البرجوازية. -المعرب-

[3]: LCW, To Alexandra Kollontai, 11/7/1915, vol. 35, pp. 193-94.