صورة فيدل كاسترو


عبدالرزاق دحنون
2019 / 8 / 31 - 21:04     

صورة فيدل كاسترو النادرة رافقتني وأنا في أول سن الشباب حيث صادفتها على جدار غرفة اخي في زيارتي الأولى لمدينة دمشق صيف عام 1977، أنا القادم من بلدة ريفية صغيرة في الشمال السوري.

في ذلك الصيف أنهيت اختبارات مرحلة التعليم الإعدادي-الصف التاسع-بنجاح، وأراد والدي مكافأتي، فأرسلني لزيارة أخي الكبير الذي يدرس الصيدلة في جامعة دمشق. حمَّلني الأهل حقيبة مُتخمة بما لذَّ وطاب من لحوم مشوية ومطبوخة-حتى لا تفسد في الطريق الطويل التي سيقطعها الباص بين إدلب ودمشق- وكبّة بأصنافها وسمبوسك وحلويات، لذا كانت الحقيبة ثقيلة على ذلك الفتى الذي كنته في تلك الأيام. وحين وصلت بعد جهد جهيد إلى الغرفة التي يسكنها أخي في سفح جبل قاسيون، وأذكر ما أزال أنها في بيت شامي قديم في زقاق قريب من جامع ضريح شيخنا الأكبر مُحْيي الدين بن عربي. رأيتُ على أحد جدران الغرفة صوراً لشخصيات لا أعرفها، لفت نظري صورة في حدود الأربعين سنتمتراً طولاً والعشرين سنتمتراً عرضاً. يلفُّ سوادها بياض في الوسط كأنه هلال في ليل، أظهر المصور حرفيَّة عالية في عمله، أضاء حواف الوجه من الأمام بنور باهر وترك الباقي في سواد حالك، ثمَّ التقط الصورة من جانب الوجه الأيسر.

تتأمل الصورة ملياً، فتشك أول الأمر، هل هي صورة شخصيَّة، لتكتشف بعد حين أنها صورة مذهلة فعلاً. سألتُ أخي عمَّن يكون هذا الذي في الصورة، فقال: هذا فيدل كاسترو، ألا تعرفه؟ نعم، لم أكن أعرفه، مما زاد في غُمُوض الصورة البارعة. تركت الصورة تأثيراً عميقاً في مُخيلتي، ثمَّ رحتُ أبحث عمَّا قصد أخي من تسمية الصورة فيدل كاسترو. بعد برهة اكتشفتُ أنه من أشهر الشخصيات السياسية في القرن العشرين قاد ثورة مسلحة في جزيرة قصب السكر في الكاريبي إلى جانب رفيق دربه الثائر الأرجنتيني أرنستو تشي غيفارا. وها نحن بعد ستين عاماً على تلك الثورة نسأل هل تغيرت الصورة في جزيرة قصب السكر؟

بقيت صورة فيدل كاسترو هذه في مكتبتي بمدينة إدلب في الشمال السوري بعد أن شردتنا الحرب الضروس التي طحنت رحاها البشر والحجر. وفي الذكر الستين لانتصار الثورة الكوبية تذكرت الصورة، رحت أبحث عنها في محركات البحث على "الإنترنيت" شبكة المعلومات العالمية، لعل وعسى أصل بطريقة ما إليها. كانت فرحتي عارمة حين لمحت الصورة في أحد المواقع الأجنبية التي تجمع الصور. نعم هذه هي الصورة التي أتحدث عنها. عن جد سُررتُ بها كثيراً. مات فيدل كاسترو وترك كوبا متمسكة بخيارها الاشتراكي، فقيرة، محاصرة، يبحث شبابها عن الحرية في شوارع هافانا، نعم، والناس فيها إلى اليوم يحصلون على مخصصاتهم الشهرية من بيض الدجاج بموجب قسيمة خصصتها لهم الحكومة الثورية.

في الحقيقة سأستدرج المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه ليقول ما عنده، فهو صاحب خبرة كبيرة في هذا الشأن وقد كان رفيق فيدل كاسترو وأرنستو تشي غيفارا، وله كتاب مشهور سماه (ثورة في الثورة) عن التجربة الكوبية. واليوم وقد اقترب من الثمانين عاماً من عمره يقول، وتراني أتفق معه في الرأي:

"إن إحدى مفارقات الثورات أنها تؤدي إلى إبطاء سير الأشياء، بعد تسارع كبير في البداية، قبل أن يتحول لاحقاً إلى منظومة مكابح ثقيلة. هناك في الثورات مناسبات كثيرة للفرح والبهجة، ولكن أيضاً للحزن والعزاء. وعلى المدى الطويل تتحول البهجة إلى مرارة، وأحياناً كثيرة إلى كوابيس. الثورات التكنولوجية فقط، تشذُّ عن هذه القاعدة، لأن لا عودة فيها البتة إلى الوراء. لن نعود إلى الشمعة بعد أن اخترعنا الكهرباء، ولا إلى السفن الشراعية بعد أن ابتكرنا المحركات. الإنترنت غيّر وجه العالم. هنا تقبع محركات التاريخ الحقيقية الضامنة الوحيدة لتقدم لا رجعة فيه إلى الوراء، سواء كان جيداً أو سيئاً"

كان أخي قد قصَّ صورة فيدل كاسترو من مجلة حصل عليها من أحد المراكز الثقافية الأجنبية في دمشق، وعلقها في جدار الغرفة إلى جانب صور كيم إيل سونغ وماو تسي تونغ وهو شي منه وأرنستو تشي جيفارا ولينين وتروتسكي وستالين وماركس وأنجلز. وقد تعرفت إلى هذه الأسماء فيما بعد من قادم الأيام، ورحتُ أُعلقها، أنا الآخر، على جدار غرفتي في مدينة إدلب، وأضفت إليها صور أنجيلا ديفيس وريجيس دوبريه وباتريس لومومبا وسلفادور أليندي وعبد الفتاح إسماعيل وجورج حبش وغسان كنفاني وبابلو نيرودا وناظم حكمت والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وهادي العلوي البغدادي وعلي الشوك. ولكل صورة من هذه الصور حكاية تستحق سرد قصتها وتتبع الأثر الذي تركته في حياتي.

هذه التشكيلة من الصور شكلت الأرضية التي حملت فيما بعد توجهي السياسي وقادتني إلى طرق ودروب بعضها كان معبداً سهل المسالك وبعضها الآخر كان سالكاً بصعوبة. لقد لعبت صورة فيدل كاسترو دوراً محورياً في حياتي فاهتديت في تلك الأيام إلى كتاب طبع في دار النهضة بفرعيها في بيروت وبغداد كان قد صدر في بداية سبعينات القرن العشرين عن الثورة الكوبية هو مذكرات أرنستو تشي جيفارا مترجمة عن الإسبانية. كان المترجم فطناً حيث صاغ الترجمة بلغة عربية فصيحة مشحونة بالحماس الثوري. وأنت تقرأ الكتاب كأنك تُشاهد فيلماً مصوراً عن هؤلاء الشباب الذين امتشقوا السلاح للدفاع عن الحرية والعدالة. وهذا ما دفع الفتيان من أمثالي للبحث عن الكتاب فوجدت نسخة وحيدة منه مصادفة في مكتبة "وحيد قباني" في مدينة إدلب في شارع شكري القوتلي قرب سينما الزهراء التي عرضت أول الأفلام عن الثورة الكوبية. حضرنا الفيلم وكنا ما نزال تلاميذ مدارس في المرحلة الابتدائية.

تلك الأيام كان العمل الفدائي في أول توهجه يملأ النفوس حبوراً. من كان يُصدق أن "غريب" ابن حارس حارتنا الليلي كان فدائياً عند "أبو عمار" يقتحم الليل في بعض الأوقات قادماً من ساحة المعارك مع العدو الصهيوني، مرتدياً بذَّة الفدائي المرقطة ملتحفاً بذلك الشماخ الفلسطيني المشهور المنقط بالأبيض والأسود. هل كان "غريب" فلسطينياً؟ أنا لا أعرف حتى اليوم لأننا في تلك الأيام لم نكن نسأل الشخص ما دينك أو ما طائفتك أو ملتك أو بلدك أو هل كنتَ تُعلِّق على جدار غرفتك صورة فيدل كاسترو؟


موقع صورة فيدل كاسترو النادرة التي تحدث عنها المقال:
https://www.pinterest.ch/pin/675258537851034075/