تماهي الشيوعيين مع الممارسات الفاشية (4) مذكرات شيوعي


محمد يعقوب الهنداوي
2019 / 8 / 31 - 05:06     

خرجت من معتقل قصر النهاية الرهيب يوم 24 كانون الثاني 1972 وصادف في منتصف العطلة الربيعية للمدارس، أو ما نسميه عطلة نصف السنة. وكان هذا يعني انه فاتني كل الفصل الأول وامتحاناته، إضافة الى امتحانات نصف السنة وتخلفي عن زملائي في كل الدروس التي فاتتني، ولم تبق لي سوى ثلاثة أشهر من السنة الدراسية ومواجهة امتحانات البكالوريا النهائية حيث كنت في الصف السادس العلمي وهي مرحلة التمهيد لدخول الجامعة. وما ان انتهت العطلة حتى كنت في باب المدرسة قبل بدء الدوام لمقابلة المدير.

كان استقبال المدير والمدرسين مذهلاً، فما ان علموا أنني كنت سجينا بتهمة الشيوعية حتى أخذوني بالأحضان والقبلات وطمأنوني الى ان كل شيء سيكون على ما يرام وانهم يفخرون بأنني من طلبتهم. ولم يكن استقبال زملائي الطلاب أقل حفاوة واحتفالية وحميمية وفرحا، باستثناء اثنين منهم هما سلام إبراهيم كبة (ابن المفكر الاقتصادي الكبير إبراهيم كبة) وكامل عبد الرحيم الذي كان يعتبرني من أصدقائه المقربين من قبل فصار يتحاشاني بكل السبل رغم أننا ندرس في الصف نفسه.، وكنا من قبل زملاء في نفس الصف لسنتين سابقتين.

كان في طليعة أساتذتي المرحبين والداعمين أستاذ اللغة الإنكليزية عبد الأزل عبد الرزاق، ومدرس الرياضيات نصر عباس عمارة (شقيق الشاعرة الجميلة لميعة عباس عمارة) وأحمد نصيف الجنابي مدرس اللغة العربية الذي انتحى بي جانبا ليصارحني بأنه رغم كونه من جماعة الاخوان المسلمين لكن رجل فكر وليس رجل تعصب وانه يحب الشيوعيين وكل أعداء البعث والقومية، ومدرس الكيمياء أستاذ يحيى الذي لا أذكر اسمه الكامل لكنه كان معروفا كمناضل شيوعي وشخصية علمية رصينة وموضع احترام الجميع ومدرس الفيزياء إبراهيم الشيخ، وغيرهم. ولم تكن مفارقة ان اجتمعت أشهر وأفضل الكفاءات التدريسية في مدرستنا (إعدادية النضال) آنذاك إذ كانت تعتبر من أفضل مدارس العراق وأرقاها الى جانب الإعدادية المركزية للبنين واعدادية الحريري للبنات، وكان المدرسون فيها هم في الأغلب نفس مؤلفي المناهج المدرسية وواضعي أسئلة البكالوريا.

استدعاني مدير المدرسة، وأستاذنا في اللغة الإنكليزية أيضا، عبد الأزل عبد الرزاق الى مكتبه وقال بصوت خافت ورصين

- أنا وجميع الأساتذة فخورون بك وسعداء بعودتك وسنعمل كل ما يمكننا لتذليل أية صعوبات تواجهك، وقررنا أن نعتبرك من الطلبة المؤجلين لامتحانات نصف السنة، وسيكون عليك أداء الامتحانات بعد شهر ريثما تستقر وتتابع الدروس، وأية درجات تحصل عليها سنضع لك ما يقابلها أو أعلى منها للفصل الأول، وعليك أنت أن تجتهد لأداء امتحانات الفصل الثاني والاستعداد للبكالوريا وأريد منك أن تكون من بين المتفوقين رغم ادراكي لصعوبة ظروفك.

كان ذلك الترحيب والتشجيع والدعم الصريح فوق كل ما تخيلت أو توقعت، فشكرته ورجوته أن يشكر أساتذتي عني ووعدته أن أكون عند حسن ظنه وظنهم. ونجحت بجميع الدروس من الدور الأول بالفعل.

كانت نتائج امتحانات البكالوريا الإعدادية تنشر في الصحف اليومية وقتها، وظهر قبولي في (أكاديمية الفنون الجميلة) ببغداد رغم أني كنت من خريجي الفرع العلمي ولم اضعها ضمن خيارات التقديم للدراسة الجامعية. لكني ما ان عرفت بموقعها حتى تشبثت بها إذ كانت بنايتها في منطقة الوزيرية على مسيرة عشر دقائق فقط مشيا على الأقدام من (مطابع يحيى ثنيّان) التي كنت أشتغل فيها عاملا آنذاك وتقع مقابل (دار الطلبة) في باب المعظم، وكذلك على مسيرة أقل من أربعين دقيقة مشياً من بيتنا.

والتقيت في تلك الأثناء برفاقي في خليتنا القديمة، وكنا نعيش في نفس المنطقة تقريبا، فطمأنتهم الى ان كل شيء على ما يرام فيما يخص مجموعتنا لكن الأيام المقبلة ستكون قاسية على شعبنا وعلينا بصفة خاصة، وانه يتوجب علينا أن نحتاط بصورة مضاعفة من ملاحقات البعثيين ومخبريهم، ونظرا للأعداد الكبيرة من رفاقنا المناضلين الذين شهدت اعتقالهم في قصر النهاية وأخبار اعدام الكثيرين منهم بدا لي ان من غير المناسب على الاطلاق محاولة الاتصال أو قبول التواصل والارتباط بأية مجموعة أو أشخاص من خارج مجموعتنا الصغيرة واقترحت، بدلا من ذلك أن نتفرغ قدر ما نستطيع لدراسة الفكر الماركسي بعمق وتجنب المصادمات العرضية اللا مجدية.

كان الشارع العراقي يتداول وقتها بصوت مسموع وصريح أخبار التقارب والتعاون بين الحزب الشيوعي (الأم) وبين البعثيين وحتمية التحالف بينهما وخصوصا مع التوجهات "الاشتراكية" للبعثيين واتفاقاتهم الاقتصادية والعسكرية مع موسكو وتوقيع معاهدة الصداقة البعثية السوفييتية وغيرها. وبلغ الأمر بأصدقائنا القدامى وزملاء الدراسة من أنصار الحزب الشيوعي أن يتهجموا علينا ويتهموننا بمعادة الشعب والطن لأننا كنا نشكك بنوايا البعثيين ونرفض فكرة التقارب أو التعاون معهم. وبلغ من شدة انزعاج بعض زملائنا القدامى من أمثال (سلام إبراهيم) و(سلام عمارة) وغيرهما أن هددونا علنا بالإبلاغ عنا قائلين حرفيا:

- لدينا تعليمات من الحزب (ويقصدون الشيوعي العراقي) بالإبلاغ عن أي شخص ينتقد الحكومة والتحالف معها ورفع تقارير عنه الى منظمة حزب البعث في المنطقة مباشرة لأنكم أعداء للعراق ولمسيرته الاشتراكية، ولولا أنكم من أصدقائنا وزملائنا القدامى ونعرفكم جيدا لما أبلغناكم هذا لكن اعتبروها إنذارا نهائيا لكم.

أما حين تم الإعلان عن تمثيلية "تأميم النفط" فقد بدأ هؤلاء يهللون ويصرخون بأعلى أصواتهم ان "صدام حسين شيوعي" وانه يقود العراق لبناء الاشتراكية.

وطبعا أخذنا حيطتنا من هؤلاء وتحاشينا من ثمّ محاورتهم أو الدخول معهم في أي جدال أو حديث سياسي.

* * *

أكاديمية الفنون الجميلة

كانت (أكاديمية الفنون الجميلة) ملحقة بجامعة بغداد إداريا وتعتبر واحدة من كلياتها. أما تنظيميا فكانت متميزة في كل شيء تقريبا. فمن حيث شروط القبول، كانت وزارة التربية العراقية تحيل اليها أعدادا من الطلاب المتخرجين حديثا (سواء من الإعدادية أو من معهد الفنون الجميلة) استنادا الى رغبة أولئك الطلاب بالدرجة الأولى، والمعبّر عنها في طلبات التقديم، إضافة الى معدلات درجاتهم في امتحان البكالوريا. وتقوم لجنة الاختبار في الكلية بمقابلة كل واحد من أولئك الطلاب وتحدد مدى موهبته وقدراته وصلته بالفن وصلاحيته للدراسة في هذه الكلية. وكان عدد المقبولين الجدد في كل عام لا يتجاوز المائة طالبة وطالب بينما يحال الباقون الى كليات أخرى وفقا لمعدل درجاتهم.

يتوزع الطلاب المقبولون وفقا لاختصاصاتهم ومواهبهم. فطلاب قسم الفنون المسرحية يدرسون تاريخ المسرح وفنون التمثيل بشكل عام للسنتين الأوليين ثم يقسمون بعد اجتيازهم السنة الثانية بين فرعي (التمثيل) و(الإخراج) وفقا لرغباتهم ومهاراتهم خلال العامين الأولين. بينما يتوزع طلاب الفنون التشكيلية على فروع (الرسم) و(النحت) و(الديكور) و(التصميم) و(السيراميك). وكان جميع أفراد الكوادر التدريسية لمختلف الفروع والأقسام من ذوي الخبرة السيرة الذاتية المشهودة والمعروفين جيدا في الأوساط الثقافية بمنجزاتهم المميزة.

كانت مناهج التدريس جيدة وتتوزع على الجانبين النظري والتطبيقي، إذ يتوجب على طلاب المسرح الانصهار في البوتقة العامة للعمل المسرحي نظريا وعمليا وقراءة ومتابعة مختلف المناهج المسرحية العالمية وأبرز ما أنتجته من أعمال بدءا من الاغريق وصولا الى اللامعقول (العبث). وكان على الجميع أن يقدموا في كل فصل مشاهد تمثيلية من اختيارهم أو اختيار أستاذهم ويخضع تقييمهم للجنة من الأساتذة في نهاية الفصل أو العام الدراسي. إضافة الى وجوب مشاركة الطالبة أو الطالب في دروس تطبيقية الزامية بعد الظهر لما لا يقل عن ساعتين يوميا يقومون فيها بأداء أدوار تمثيلية في مسرحيات من إخراج زملائهم في الصفوف المنتهية (الثالث والرابع) من قسم الإخراج، وكانت هذه الدروس الإلزامية عبارة عن "بروفات" يومية تسمى (درس المشاركة) وتشكل الدرجة التي يحوزها الطلاب فيها مركز الثقل الأساس في درجاتهم النهائية، فمن لا ينجح في اختبارات المشاركة يعتبر راسبا لذلك الفصل الدراسي.

ومع نهاية الفصل الدراسي يتم تقديم تلك العروض التطبيقية على مسارح الكلية حيث تكون الدعوة عامة لحضورها من داخل الكلية وخارجها وتكون العروض بحضور واشراف لجان من الأساتذة الذين يضعون علامات النجاح أو الفشل لكل طالبة أو طالب وفقا للأداء. وكان طلاب قسم (الإخراج) يتولون مهام اختيار وإخراج تلك الأعمال بموافقة واشراف أساتذتهم، ويكون مستوى التقييم النهائي هو الذي يحدد استحقاق الطالب لشهادة التخرج أو عدمها.

أما طلبة (الفنون التشكيلية) فكانوا، إضافة الى تقديم اختباراتهم الدورية ونصف السنوية، يقدمون اطروحات تخرجهم على شكل معارض فنية كبيرة تشمل كل ساحات وحدائق الكلية وجدرانها الداخلية والخارجية فتتحول البناية كلها الى عرس فني كبير ودعوة لعموم الناس لحضورها ومشاهدة عروضها. وفي تلك الأعراس الفنية السنوية تبرز المواهب وتتميز الطاقات والقدرات والجهود وتستقبل البلاد والمؤسسات الفنية والإعلامية جيلا جديدا من الفنانين الناجحين.

أي ان طابع الروح الجماعية والعمل الجماعي كان مهيمنا على مناهج الدراسة وخصوصا في قسم المسرح. أما طلبة الفنون التشكيلية فكانوا يساهمون في تلك العروض من خلال تصاميم الملابس والديكور واللوحات الفنية وغيرها من الفعاليات ضمن تخصصاتهم، وكان الجميع يشعر بدوره في تحقيق الإنجازات النهائية. بينما كانت الدروس النظرية تتراجع الى دور تكميلي ومساند، وبموجب تلك الآليات كان الجميع يجتهد ليقدم الأفضل حتى ان الغش والتكرار كان سريع الافتضاح ويكون مرتكبهما موضع سخرية واستهزاء.

ورغم كل هذه الجدية في المناهج والاختبارات، لم يبرز في العراق سوى أسماء معدودة من الفنانين المحترفين الجيدين، بل وحتى أعمال هؤلاء كانت تدخل في باب التقليد واستنساخ المنجزات الغربية ولا تحمل الكثير من الجدة والابتكار، ولم تقدم للحياة الفنية في العراق أية أعمال تتجاوز وصف "التسلية" الى مرتبة الابداع الفني إلا نادرا.

أما منذ السبعينيات والعقود اللاحقة فانتهت تلك الجدية وحلت محلها الحزبية والفساد والمحاباة وتحولت الكلية بكل أقسامها وفروعها الى مجرد مؤسسة عقيمة لا تختلف عن أية مؤسسة رسمية أخرى في البلاد ويسودها الابتزاز الجنسي والمالي، حتى ليمكن القول بلا تردد ان جميع خريجي الكليات والمعاهد الفنية في العراق منذ السبعينيات الى اليوم لم يستحقوا شهاداتهم إلا في حالات استثنائية قليلة. ومن الناحية العملية لم يضيفوا شيئا للفن على الاطلاق، وخصوصا أولئك الذين حازوا على شهادات الدراسات العليا من الماجستير والدكتوراه ويتشدقون بوضع علامة الدال + نقطة (د.) قبل أسمائهم الكريمة، ومعظمهم يشتري "اطروحات" التخرج جاهزة ومطبوعة بخمس نسخ من مكتبات باب المعظم وشارع المتنبي ببضعة مئات من الدولارات. بل وسرق بعضهم أعمالا كاملة وانتحلها لنفسه لينال بها شهادته كما فعل (سلام الأعرجي) حين سرق قصائدي الدرامية وقدمها على المسرح كما هي تقريبا لينال بها شهادة الدكتوراه.

ومع ان تلك الكلية الأولى توسعت من حيث الأقسام والفروع وتكاثرت الكليات المشابهة لها في البلاد حتى أصبح في كل محافظة عراقية (كلية فنون جميلة) خاصة بها، فقد ترافق تكاثرها مع انحطاط جارف ومفجع تجعل من المخجل مقارنة ما تنتجه اليوم بالأعمال القليلة التي شهدتها البلاد في فترة الستينيات وما قبلها. أما كوادرها التدريسية الحالية فأغلبهم ليس مؤهلا ليكون حتى معلماً في الابتدائية. وليس أدلّ على هذا من الواقع البالغ الانحطاط والابتذال الذي تعيشه البلاد ومؤسساتها الثقافية والإعلامية اليوم ناهيكم عن انحدار الذوق العام الى أدنى مستوياته.

* * *

مع أواخر أيلول 1972 اكتملت إجراءات التسجيل وتوزيع الطلاب على الصفوف وبدأت المحاضرات الأولى التي كان يغلب عليها طابع التعارف بين الطلبة وبينهم وبين الأساتذة. وكان في صفنا 22 طالبا منهم أربع فتيات هنّ (دعد أحمد) و(نسرين جورج) و(نورية حسين) و(سامية جواد)، وكان واضحا ان جميع الأساتذة تقريبا من أوساط يسارية وحضور متميز منهم (إبراهيم جلال) و(سامي عبد الحميد) و(جعفر علي) (جميل نصيف التكريتي) و(عاتكة الخزرجي)، وكذلك معظم الطلبة الذين كان لبعضهم خبرات وثقافة مسرحية سابقة، ولكن كان بيننا أيضا أربعة سيكونون من أحقر البعثيين هم (مصطفى تركي السالم) و(عدنان تقي) و(عبد السلام العياش) ورابع اسمه (عماد).

ومنذ ساعات التعارف الأولى بدأ بيني وبين (سامية) نوع من التآلف والانجذاب، وفي أحاديث عابرة بيننا أهديتها نسخا من بعض أشعاري، وكنا نتحدث عنها عندما ناداني (ماهر كاظم) الذي كان من طلاب صفنا أيضا قائلا: أريدك في موضوع مهم جدا.

فاستأذنت من الفتاة وذهبت اليه حيث كان يقف وحده مستندا الى جدار (كافتيريا) الكلية أو (النادي) كما كنا نسميه.

قال: أقدم لك نفسي، أنا (ماهر كاظم) وشقيقي المؤلف المسرحي المعروف (عادل كاظم) ونحن عائلة شيوعية معروفة، وأنا هنا مع منظمة الحزب الشيوعي ونحن نعرفك جيدا ونعرف تاريخك المشرف وأنك كنت سجينا في قصر النهاية ومعروف أنك لم تقدم أية اعترافات أو معلومات، والآن نريدك أن تعمل معنا...

قلت: أعمل معكم أين؟

قال: في منظمة الحزب الشيوعي هنا في الكلية....

قلت: أنا مجرد طالب عادي لا علاقة لي بالسياسة ولست مهتما بالعمل معكم ولا أريد أن أدخل في أية حوارات كهذه. وموضوع قصر النهاية قصة معقدة لا شأن لك بها ولا أريد أن أتكلم عنها، فأنا أدرس في النهار في الكلية وأعمل بعد الدوام لإعالة أهلي ونفسي.

قال: نعرف أنك تشتغل عامل مطبعة في مطبعة (يحيى ثنيّان) في باب المعظم وراقبناك ونعرف عنك كل شيء فلا تتهرب.

وبعد بضعة جمل مختصرة أخرى قال:

- هذا تبليغ رسمي لك باسم منظمة الحزب في الكلية وعليك أن تعمل معنا شئت أم أبيت...

ضحكت قائلا: هذه أول مرة في حياتي أسمع ان الشيوعيين يفرضون على الناس أن ينتمون لحزبهم رغما عنهم.

ردّ صارما: لا تتذاكى ولا تجادل. ستعمل معنا يعني ستعمل معنا، وإلا سندمرك تماما...

قلت: لا شأن لي بك وبحزبك فأنا حر في ما أفعل ولن تستطيع قوة في الكون أن تجبرني على انتماء لا أرغب به أو العمل في حزب لا ايمان لي به، ثم أنتم متحالفون مع البعث واذا أردت الانضمام الى جهة سياسية فلماذا لا أنضم للبعثيين ما دمتم واحدا؟ فهم على الأقل سلطة الحكم وأنتم تابعون لهم...

قال: بلا إطالة ولا ثرثرة، سأعطيك مهلة يومين. يومان فقط وعليك الموافقة. وإذا بقيت مصرا فلن تلوم إلا نفسك لأننا سنعمل على تحطيمك تماما، وهذا آخر إنذار لك.

وتركني ومضى.


حين جاءني بعد يومين كانت تبدو عليه واضحة ملامح الصرامة والعدوانية فتبادلنا بضعة جمل متوترة كررت له فيها رفضي للعمل معهم، فختمها بقوله:

- اخترت بنفسك أن ترفض العمل معنا وسنفعل كل شيء لتحطيمك ولتعرف منذ الآن أننا سنطلق عليك في الكلية لقب "الشرطي" وسنحذر الجميع من التعامل معك لأنك جاسوس للبعثيين.

ومع دخولي من باب الكلية في اليوم التالي كان معظم زملائي يتحاشاني ويتهرب مني ويشيح بوجهه عني إذا اتجهت اليه ويرفض حتى ردّ التحية، بل وعملوا على قتلي كما فعلوا مع الراحل (رحمن سلمان) الذي استدرجوه الى سهرة معهم في القسم الداخلي في ساحة الأمين (في بناية المصرف العقاري) وبذلوا معه آخر جهودهم لإقناعه بالعمل معهم، وحين رفض بشكل قاطع تشاجروا معه وألقوا به من الطابق السابع، ثم اتصلوا بالشرطة للإبلاغ عن انه "انتحر".

كان شابا فقيرا ووحيدا لأمه الأرملة، وكان رساما مبدعا رغم انه لم يك قد بلغ العشرين يوم ارتكبوا جريمتهم بحقه، وحين جاء جثمانه في تابوت تحمله سيارة تكسي في طريقه الى المقبرة كانوا جميعا واقفين على باب الكلية وشتموه وسخروا من موته بكل وقاحة، وكان أبرز هؤلاء:

حيّاوي جمعة وجواد الأسدي ويوسف الناصر ورياض النعماني وماهر كاظم وعدنان اللبان وطالب الشطري وطه رشيد وقاسم الساعدي وعادل كامل وياقو زيا وداود زيا وسلام الصكر وكافي لازم وأناهيت سركيس وقاسم علوان وقاسم حسن كريمد وماهر جيجان وآخرون لم أعد أذكر أسماءهم.

لكنهم لم يكتفوا بذلك بل حاولوا قتلي مرة أخرى نجوت منها بإعجوبة مما سأورد تفاصيله لاحقا.

كان البعثيون في هذه الأثناء يستقطبون الطلاب المرتزقة من مختلف البلدان العربية ويمنحونهم امتيازات هائلة لم يحلموا بنيلها حتى لو تخرجوا وشغلوا وظائف كبيرة في بلدانهم، وكانت المهمة الأساسية لهؤلاء هي اختراق الأوساط الجامعية واستدراج الفتيات الى فخاخهم اللئيمة وتسقيطهن وربطهن لمخابرات السلطة واستخدامهن لاختراق التنظيمات الطلابية والحزبية المعارضة للبعثيين، وتسابق جماعة الحزب الشيوعي العراقي على التملق لهؤلاء الطلاب المرتزقة، فما أن يزعم أحد هؤلاء أنه يحب الشيوعية أو يريد أن يصير شيوعيا حتى يرحبون بهم في أوساطهم وتنظيماتهم وأباحوا لهم كل أسرارهم الحزبية والتنظيمية بل وحتى الشخصية. وعلى أية حال فقد حولت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تنظيماتها الى مكاتب لتنظيم الحفلات والسفرات الترفيهية لا أكثر.

وطوال عامين، هما كل ما استطعت احتماله في تلك الظروف بين ملاحقة البعثيين ورصدهم وبين ممارسات هؤلاء الشيوعيين الفاشست الذين أحالوا حياتي جحيما وجعلوا من المستحيل على شاب لم يبلغ العشرين من عمره كان يحلم بالحياة الجامعية وأجوائها المنفتحة وعلاقاتها المتنورة، أن يستمر. فتركت الكلية وبغداد وأمي وكل أحبتي ومستقبلي بسبب حزب المثقوبين هذا.

(وثمة تتمة....)

* * *