الإقتصاد الدولي وغطاؤه السياسي (4)


فؤاد النمري
2019 / 7 / 27 - 22:45     


(رد على هذر المفلسين)

سياسيو العصر خفيفو اللسان يهذرون فيما لا نفع فيه وخاصة بعد انهيار النظام الرأسمالي في سبعينيات القرن الماضي، وما ذلك إلا لأنهم لم يعودوا سياسيين حقاً حيث السياسي الحقيقي هو من يحسن قراءة التاريخ فحاضر اليوم بكل تفاصيله الدقيقة هو الإبن الشرعي لماضي الأمس دون أدنى اشتباه ؛ ولذلك فإن قراءة التاريخ كما هو بعيداً عن كل أفكار مسبقة هي الشرط الأولي المسبق لأي بيان سياسي صادق وحقيقي .
سياسيو العصر وأولهم الشيوعيون سابقاً يهذرون بما لا نفع فيه لأنهم تخلوا نهائياً عن قراءة التاريخ . انهارت العوالم الثلاث الموروثة عن الحرب العالمية الثانية وهم في هذرهم يعمهون ؛ يتحدثون عن الإمبريالية وعن التحرر وما يتصل بهما، عن الغول والعنقاء والخل الوفي !! ما هو أثر انهيار المعسكر الإشتراكي ولماذا انهار؟ ولماذا انهار عالم الحياد الإيجابي بين المعسكرين وآلت السلطة في دولة المختلفة إلى عسكر مغامرين من درجة مرشح ظابط وما دون ؟ وهل ما زال نظام الإنتاج في الدول الرأسمالية الكلاسيكية يحقق فائض القيمة، وهل هو رأسمالي إن لم يحقق ؟ كل حديث سياسي لا يتعلق بهذه القضايا التي هي جوهر مختلف الاقتصادات ليس إلا هذراً لا نفع فيه ولا طائل منه .

انهيار العوالم الثلاث الذي لم يحسن سياسيو العصر قراءته والتعرف عليه كان النتيجة المباشرة لعجز الدول الرأسمالية الكبرى الثلاث عن مواجهة النازية الهتلرية وهروبها بعيداً عنها إلى الشمال الأفريقي لتواجه إيطاليا فقط طيلة الحرب مما اقتضى أن تستهلك الثورة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي ذاتها من أجل أن تحرر العالم من غول النازية ولولا أن استهلكت الثورة الإشتراكية ذاتها من أجل سحق النازية لأستعبد الرايخ الهتلري كل العالم لألف عام . أستهلكت الثورة التي كانت قد انعطفت بالعالم إلى مسار جديد يحرره من ربقة النظام الرأسمالي، أستهلكت وتركت العالم لا هو رأسمالي ولا هو اشتراكي، عالماً بلا اقتصاد يقيم علاقات إجتماعية مستقرة، بل في فوضى هي بالتالي فوضى الهروب من الإستحقاق الإشتراكي .
بانتهاء العوالم الثلاث انتهت معه وسائل الإنتاج الثلاث المعتمدة في كل عالم من العوالم الثلاث الموروثة عن الحرب العالمية الثانية . فشلت قوى الإنتاج فيها في أن توفر الحد الأدنى من شروط الحياة لشعوبها . نمط الإنتاج الذي لا يوفر شروط الحياة لقوى الإنتاج هو عديم الإنتاج كما اشترط ماركس ؛ ففضل القيمة هو الشرط الأولي لما يعتبر نمطاً للإنتاج ؛ نمط الإنتاج السليم القابل للحياة هو ذلك النمط الذي ينتج أكثر مما يستهلك بمقدار فضل القيمة وهو السبب المباشر للتطور الإجتماعي .
عالم اليوم يستهلك أكثر مما ينتج ولذلك تراه يستدين سنوياً أكثر من 2 ترليون دولار كي يغطي على عجزه في الإنتاج بل كل ما يمكن وصفه بالإقتصاد . وما يلزم التأكيد عليه في هذا السياق هو أن الدول الرأسمالية سابقا تتحمل أكثر من 70% من ديون العالم التي تجاوزت 75 ترليون دولارا مع أن سكانها لا يتجاوزون 10% من سكان العالم ، وهو ما يعني أن أنظمة الإنتاج فيها لم تعد تنتج فائض القيمة ولذلك هي بالقطع ليست رأسمالية رغم كل هذر سياسي العصر وأولهم الشيوعيون سابقاً بادعائهم أن النظام الرأسمالي ما زال حيّاً بل إزداد تغوّلاً . إنجماد العالم حيث هو منذ سبعينيات القرن الماصي لا يعني سوى أن العوالم الثلاث فقدت كل نظام للإنتاج ولم تعد تنتج فائض القيمة محرك التطورالإجتماعي .
ما يوصف زوراً بالإقتصاد الدولي السائد حاليا هو العجز في الإنتاج والذي تقتضي شروط الحياة تغييره والبديل الوحيد له هو الإشتراكية . حين تنهار الطبقة البورجوازية الوضيعة صاحبة الأمر والنهي في كل أرجاء عالم العصر تعتلي المسرح الدولي بصورة آلية تلك الطبقة المتخصصة بالإنتاج البضاعي وهي البروليتاريا بحكم الضرورة الحيوية للإنسانية وتستأنف البروليتاريا حينذاك رحلتها في الثورة الإشتراكية السوفياتية التي كانت قد أُستهلكت في القضاء على النازية . لذلك نقول عن نمط الإنتاج السائد اليوم أنه فوضى الهروب من الإستحقاق الإشتراكي، وهو الهروب الذي بدأته البورجوازية الوضيعة السوفياتية في خمسينيات القرن الماضي وساد العالم تبعاً لذلك بموجب قانون الوحدة العضوية للعالم غير القابلة للإنفصام .

الدولة التي يعجز إقتصادها في إنتاج فائض القيمة لا يحق لها إصدار سندات مالية قيمتها الوحيدة هي قابليتها المؤكدة لاستبدالها بالبضاعة وأغلاها الذهب . لذلك، المجتمعات القديمة التي لم تنتج أنظمة الإنتاج فيها فائض القيمة لم تصدر سندات مالية وبقيت نقودها تسك من المعادن الثمينة كالذهب والفضة وهي التي قيمتها بذاتها بغض النظر عن هويتها وشروط مبادلتها خلافاً للسندات المالية التي تصدرها الدولة موقعة باسمها وبكفالتها لحين استبدالها بالذهب أو بأي بضاعة أخرى من بضائعها .

المسألة الكبرى التي يرفض الشيوعيون المفلسون التوقف عندها هي إضطرار إدارة نكسون إلى الإعلان في العام 71 عن خروج أميركا من معاهدة بريتون وودز 44 والتي هي من دعا لعقدها وقضت بوجوب تغطية النقد الوطني بالذهب . ما معنى إنكار الولايات المتحدة للقيمة الأسمية لسند الدولار رغم توقيعها ككفيل عليه واستبداله في السوق ببضاعة أقل كل يوم وهو النتيجة المباشرة لفقدان الغطاء للنقد !؟ ما معنى أن تنكث الولايات المتحدة بكفالتها رغم توقيعها الظاهر على سندات الدولار؟ لذلك تفسير واحد قصراً ألا وهو أن نظام الإنتاج في الولايات المتحدة لم يعد ينتج فائض القيمة، أي أنه لم يعد رأسمالياً، فنظام الإنتاج الرأسمالي هو رأسمالي لأنه ينتج فائض القيمة وهو الفائض الذي يمكن الدولة في كل الأحوال من تغطية سنداتها المالية .
استمر انهيار الدولار حتى فقدان 40% من قيمته خلال السنوات الخمس الأولى من السبعينيات وهو ما تهدد النظام في الولايات المتحدة بالإنهيار التام فكان أن استنجدت بالدول الرأسمالية الأربعة الكبرى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، فانعقد أول مؤتمر للخمسة العظام (G 5) على مستوى القمة في رامبوييه في باريس في 16 نوفمبر 75 ؛ ولما كانت حماقة إنقاذ النظام الرأسمالي تعيي من يداويها استعاض الخمسة العظام عن سلطة الرأسمالية المنتجة لفائض القيمة بسلطة الأموال غير المنتجة ولديهم تلال منها في خزائنهم فكان قرارهم بالتضامن في كفالة أسعار صرف عملاتهم في أسواق الصرف تلك الكفالة الشفوية التي تسد مسد الغطاء الذهبي كما اعتقدوا . مثل ذلك القرار الأحمق ينكر أن قيمة النقود هي من قيمة البضاعة حيث القيمة الإستعمالية للنقود هي القيمة التي تجسد قيمتها الرأسمالية وهي معايرة قيمة البضائع ولا لزوم لتلك النقود بغياب التبادل البضاعي .
ضمان سعر صرف عملات هذه الدول الخمسة الأغنى سرعان ما انتهى إلى ضمان الدولار فقط حيث التجارة الأميركية كانت أضخم وأوسع من تجارة الدول الأربعة الأخرى مجتمعة .

ذلك القرار الغبي الأحمق تنكر لكل وسائل الإنتاج الحقيقي البضاعي ليدعي أن القيمة (Value) تتأصل في النقود !! لكن الحقائق على الأرض تفضح مثل هذا الإدعاء الأحمق حيث قيمة الدولار اليوم هي نفس قيمة 3 سنتات من دولار 1970 مع أن أصحاب مثل هذا الإدعاء الأحمق يدعون أيضاً أن إنتاج الولايات المتحدة تضاعف عدة مرات عن إنتاجها في العام 1970 . وذلك القرار الغبي للدول الخمس الأغنى أحلّ الدولار محل الذهب وفصل كل نقود العالم عن قيمتها البضاعية ونسبها للدولار فباتت جميع دول العالم تغطي نقدها بالدولار بدل الذهب وهو ما مكّن أميركا لأن تبيع أوراقاً خضراء بقيمة الدولار 2 سنتيغرام من الذهب بعد أن كانت قيمته في نهاية النظام الرأسمالي 50 سنتيغرام . تجارة أميركا فيما بعد السبعينيات لم تعد الإتجار بقوى العمل كما هو النمط الرأسمالي بل باتت الإتجار بالدولار، طباعة الدولار وبيعه إلى العالم بقيمة 2 سنتيغرام من الذهب مع أن كلفته لا تتعدى كلفة الحبر والورق . تلك هي اللصوصية وليس الرأسمالية ؛ لصوصية بخاطر أهل البيت !!
ما يبعث في النفس ليس الدهشة والاستغراب فقط بل الهزؤ والسخرية أيضاً من الواقع فيما بعد انهيار النظام الرأسمالي في العالم . ففي الستينيات لم تكن الولايات المتحدة الرأسمالية العظمى تسيطر سياسياً على ثلث العالم إذ كان هناك المعسكر الإشتراكي وهو ثلث العالم وكان أيضاً معسكر الحياد الإيجابي وهو ثلث العالم أيضاً، والمعسكران خارج نفوذ الولايات المتحدة، أما الثلث الثالث وهو مجموعة الدول الرأسمالية لم تسيطر الولايات المتحدة على معظمها . ذلك عندما كانت الولايات المتحدة الحصن الأخير للنظام الرأسمالي . أما بعد انهيار الرأسمالية في سبعينيات القرن الماضي شاءت الظروف نتيجة لاستهلاك الثورة الإشتركية في الحرب وهو ما يسّر إنقلاب البورجوازية الوضيعة السوفياتية بقيادة العسكر على الثورة الإشتراكية في العام 53، شاءت أن تؤول قيادة نظام النقد العالمي للولايات المتحدة ليس بسبب قوة الدولار إذ كان قد خسر الدولار 40% من قيمته فيما قبل العام 75 لكن بسبب تضامن الدول الخمسة الأغنى في رامبوييه في كفالة أسعار صرف عملاتها ثم الغطاء الصيني وهو الأهم حيث بدأت الصين الإنتاج الكثيف ومبادلة كل إنتاجها بالدولار وفقاً لمؤامرة نكسون – دنغ هيساو بنغ في العام 72 . الولايات المتحدة تطبع الدولار لكن الصين هي من يقرر اليوم القيمة الرأسمالية للدولار وهو ما يرغمها على خنق 5 ترليون دولار في خزائنها غير قابلة للمبادلة .
وهكذا أمسكت أميركا بالجيوسياسة الدولية وهي من يقرر توزيع دولاراتها في العالم وتستطيع أن تعاقب أياً من بلدان العالم عن طريق منع تحويل عملته إلى الدولار . كان الإنتاج البضاعي هو ما يحدد الجيوسياسة العالمية، أما اليوم بعد انهيار النظام الرأسمالي القائم على إنتاج البضاعة فقد غدا الدولار وهو مكشوف رسمياً ومفرغ من كل قيمة حقيقية هو ما يقرر الجيوسياسة العالمية . توزيع الدولار على سطح الكرة الأرضية هو ما يرسم النظام العالمي الماثل .
لو أن الولايات المتحدة ظلت بعافيتها الرأسمالية وظل الدولار بقيمته الرأسمالية والتي كانت تساوي قيمة 50 سنتيغرام من الذهب الخالص لما آلت كل أمور العالم للولايات المتحدة ولما استطاعت الولايات المتحدة أن توزع الدولار كيف تشاء ولتم توزيع الدولار وفق القيمة البضاعية حيث تكون ؛ ولما انفصلت قيمة النقود المختلفة عن قيمتها البضاعية واحتفظت بقيمتها في مبادلتها مع الدولار . نقود العالم المختلفة اليوم لا قيمة بضاعية لها اليوم كما يحكم القانون الدولي للنقد بل قيمتها تتمثل بنسبتها للدولار، كم تساوي من الدولار وليس من البضاعة أو الذهب . الدولار في منشئه مفصول تماما عن قيمته البضاعية، عن الذهب، فكيف يمكن أن يكون خارج الولايات المتحدة ذا قيمة بضاعية !؟ كيف يمكن الحديث عن أدنى نظام اقتصادي عندما تفقد البضاعة قيمتها إزاء الدولار رغم هبوط الدولار 25 ضعفاً خلال نصف قرن إذ كان يساوي 50 سنتيغرام من الذهب في العام 70 واليوم لا يساوي أكثر من 2 سنتيغرام وتشتريه الصين ب 2 ملليغرام فقط !؟

الإقتصاديون الفرحون بما يسمونه زوراً "الإقتصاد" الدولي القائم هم ليسوا إلا من مجندي البورجوازية الوضيعة وليسوا من الرأسماليين فالرأسمالي لا يرى الدولار إلا بقيمته البضاعية الذي تفرزه الدورة الرأسمالية (نقد – بضاعة – نقد) حيث النقد في نهاية الدورة يزيد عن النقد في البداية وهو فائض القميمة، القلب الذي يضخ دماء الحياة في جسم النظام الرأسمالي .
أما الشيوعيون المفلسون وقد تأكد إفلاسهم بعد انهيار الإتحاد السوفياتي رغم أنه كان قد تحقق حين اصطفوا وراء خروشتشوف مرتداً على الإشتراكية، هؤلاء الشيوعيون المفلسون يغطون إفلاسهم بادعاء التحول إلى النضال ضد الإمبريالية الأميركية . لكن الحقيقة الدامغة، وهي أن الولايات المتحدة لم تكن يوماً إمبريالية وقد كرست كل عوائد اقتصادها بإدارة مجرم الحرب عدو الإنسانية ترومان لمقاومة الشيوعية وليس ممارسة السياسات الإمبريالية . منذ سنين طويلة والولايات المتحدة هي أكبر مستورد في العالم للبضائع ورؤوس الأموال بعد أن استهلكت كل مقدراتها في مقاومة الشيوعية، وهذا قمين بأن يفري العيون الوقحة لهؤلاء المفلسين .
(إنتهى)