الإقتصاد الدولي وغطاؤه السياسي


فؤاد النمري
2019 / 7 / 16 - 21:49     

الإقتصاد الدولي وغطاؤه السياسي
(رد على هذر بعض المفلسين)

سياسيو العصر هم أشبه ما يكونون بالسحرة الذين يأخذون لباب المتفرجين فيخرجون من القبعة مرة أرنب وأخرى حمامة وثالثة باقة ورود . ينادي بعض السياسيين السحرة بالحرية بعد أن لم يعد هناك أي معنى للحرية، وآخرون منهم يطالبون بالديموقراطية البورجوازية دون وجود للبورجوازية، وعامتهم ينادي بالعدالة الإجتماعية التي لا يتعرف عليها إطلاقاً علم الإقتصاد، وبخدمة الشعب رغم انعدام مختلف أدوات خدمة الشعب . بدل خفة اليد لدى السحرة هناك لدى سياسيي العصر خفة اللسان .
الفحص السريري لمرضى خفة اللسان يقول أن هذا الداء الخطير الذي يحرم السياسي من التعقل وصفاء الرؤية يتأصل في جهل السياسي خفيف اللسان بوحدة العالم . الحقيقة الأساس التي تقوم عليها مختلف البنى الإقتصادية والسياسية هي وحدة العالم العضوية غير القابلة للإنفصام . الحقيقة الأساس التي سبق ماركس لاكتشافها وبنى عليها كل عمائره المدهشة تقول أن العالم غدا وحدة واحدة لا تنفصم منذ أن أشرقت شمس الرأسمالية على العالم . فالفلاح المصري الذي يزرع القطن كان مرتبطاً إرتباطاً عضويا مع عامل النسيج في بريطانيا في خط إنتاج واحد، حياة أحدهم مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بحياة الآخر .
وحدة العالم العضوية التي تجلّت مع شروق شمس الرأسمالية ستتجلى بالمثل مع غيابها . مع تعالي شمس الرأسمالية تتعاظم طبقة البروليتاريا وهو ما يقضي بالتالي لأن تغيب شمس الرأسمالية من خلال ثورة البروليتاريا تحطم علاقات الإنتاج الرأسمالية والبروليتاريا بطبيعتها لا تمتلك أية علاقات للإنتاج . العمال أثناء العبور الإشتراكي إلى الشيوعية ليسوا مأجورين بل يعملون تطوعاً دون أجر ودولتهم تتكفل بمعاشهم المناسب .

مبكراً في نهار الرأسمالية العالي نادى ماركس وإنجلز عمال العالم للقيام بثورة اشتراكية . حاول عمال باريس 1871 القيام بتلك الثورة وانتهت ثورتهم بمأساة فظيعة، ليس بسبب قوى الرجعية العدوانية في ألمانيا فقط والتي فتك جيشها بعشرات ألوف العمال، بل أيضاً بسبب النقص في وعي العمال الثوري وقد ثبت أنه حتى في مركز النظام الرأسمالي لم يصل العمال إلى مستوى القيام بثورة اشتراكية بعد مرور قرن طويل على تطور وتكامل النظام الرأسمالي . بعد زهاء نصف قرن وفي العام 1917 قام عمال روسيا بقيادة البلاشفة وعلى رأسهم لينين بالثورة الإشتراكية الناجحة التي استشرفها ماركس وإنجلز . لقد برهنت ثورة البلاشفة الإشتراكية من خلال تجارب صعبة عديدة توالت ما بين 1917 – 1953 على أنها هي الثورة التي استبشرها ماركس وإنجلز والتي نقلت العالم فعلاً إلى مسار جديد هو مسار الإشتراكية .
سخرت الأقدار مر السخرية من قوى الإشتراكية العالمية وقيادتها البلشفية فكانت قد قضت معاهدة فرساي 1919 بمنع ألمانيا من انتهاج النظام الرأسمالي وهو ما حكم بتحول قوى الإنتاج الكبرى في ألمانيا إلى النازية ساعدها في ذلك خيانة الحزب الإشتراكي موئل الخيانة للطبقة العاملة، ثم اعتماد انكلترا برئاسة تشيمبرلن وفرنسا برئاسة دالادييه سياسة الترضية (Appeasement) مع هتلر وموسوليني في مؤتمر ميونخ 1938 . ثم رفض بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة فيما بعد عقد تحالف مع الاتحاد السوفياتي ضد ألمانيا النازية الأمر الذي اضطر ستالين لعقد اتفاقية عدم اعتداء مع هتلر في 23 أوغست 39، وأخيراً عزوف بريطانيا والولايات المتحدة عن المواجهة الحربية مع ألمانيا الهتلرية . وهكذا تُرك الإتحاد السوفياتي وحيداً يواجه قوى النازية والفاشية مدعومة بكامل الموارد المادية والبشرية في القارة الأوروبية .
عظم المهام الحربية التي ألقيت على كاهل الاتحاد السوفياتي تطلب منه تحويل كامل اقتصاده الإشتراكي السلمي إلى اقتصاد حربي ووقف سياسة الصراع الطبقي وجمود النشاط الحزبي . انتصر الإتحاد السوفياتي في الحرب لكن كلفة ذلك كانت كبيرة جداً لم يتحمل الحزب الشيوعي ثقلها . لقد خسر الحزب صفوفه الأولى في التصدي للعدوان النازي المفاجئ فكان أن تقدمت البورجوازية الوضيعة وغدا الجيش أقوى من الحزب . عجز الحزب وخاصة بعد اغتيال ستالين بالسم في 28 شباط فبراير 53، في العودة إلى المسار الإشتراكي وآلت كل السلطة للعسكر أعداء الإشتراكية .

قوى الرجعية ملأت فضاء العالم تهليلاً وترحيباً بالإنقلاب البائس الذي قامت به البورجوازية الوضيعة السوفياتية بقيادة العسكر في خمسينيات القرن الماضي غير أن اللعلعة في الفضاء لن تغير الواقع على الأرض . مضى زهاء سبعة عقود على ذلك الإنقلاب الرجعي دون أن يحقق الإنقلابيون سوى التراجع والإنكفاء حتى عادت روسيا وريثة الإتحاد السوفياتي رغم كل ثرواتها الطبيعية الهائلة إلى مصاف دول العالم الثالث تعتاش على تصدير المواد الخام . البورجوازية الوضيعة بقيادة الجيش التي قامت بالإنقلاب على الإشتراكية لا تمتلك وسيلة إنتاج تؤمن للمجتمع في روسيا أدنى حاجاته الحيوية ؛ هي ضد الإشتراكية لكنها أيضا ضد لرأسمالية فهي وكما قال ماركس في البيان الشيوعي تشد دائماً عجلة التاريخ إلى الخلف . تعطيل الثورة الإشتراكية التي كانت قد نقلت العالم إلى مسار جديد كان السبب في انهيار العوالم الثلاث التي ورثناها عن الحرب وقد انهارت حتى القاع . العوالم الثلاث تمايزت قبل الإنهيار بوسائل الإنتاج، العالم الأول إنتهج الإنتاج الرأـسمالي والعالم الثاني الإنتاج الإشتراكي والعالم الثالث في طور التطور . انهيار العوالم الثلاث يعني أول ما يعني انهيار وسائل الإنتاج فيها وقد تم على حساب الرأسماليين في العالم الأول وعلى حساب البروليتاريا في العالم الإشتراكي وعلى حساب البورجوازية الدينامية في العالم الثالث .
بانهيار وسائل الإنتاج في العوالم الثلاث هبط الإنتاج المادي هبوطاً مروعاً في العالم وهبطت بالتوازي معه قيمة النقود وتبعاً لذلك هبط الصراع الطبقي حتى الحضيض وخاصة أن مجمل الخدمات وتساوي 75% من إنتاج العالم يجري تبادلها خارج السوق وهو ما انعكس في تقادم ميكانزم السوق وتهرؤها والتي وقودها الصراع الطبقي وهو ما يسمح للسياسيين خفيفي اللسان أن يشتطوا في ابتداع أفكار من خيالاتهم المفلسة .

السياسيون السحرة خفيفو اللسان يرسمون بخيالاتهم المفلسة النظام الدولي الماثل اليوم . هؤلاء المفلسون لا يحسنون بالطيع قراءة التاريخ الحقيقي لمفاعيل الحرب على النازية ولكأن معاهدة فرساي 1919 التي حبّرها الإنجليز وخلقت النازية في ألمانيا هي التي حكمت بانهيار العوالم الثلاث فيما بعد نهاية الحرب العظمى التي كلفت البشرية خسائر هائلة ما كانت لتتحملها لولا أن الثورة الإشتراكبة كانت قد تطورت في الإتحاد السوفياتي خلال عشرين عاماً فقط وجعلت من دولته العمالية أقوى دولة في الأرض . كانت ألمانيا النازية قد هزمت أكبر إمبراطوريتين استعماريتين،بريطانيا وفرنسا، دون جهد حربي يذكر واحتلت كامل القارة الأوروبية قبل أن تعلن الحرب على الإتحاد السوفياتي في 22 يونيو حزيران 1941 . كان الإتحاد السوفياتي العقبة الأخيرة أمام الرايخ الهتلري الثالث في استعباد العالم لألف عام – استعباداً وليس استعماراً فألمانيا النازية لم تكن تنتج غير الأسلحة – استخدم هتلر كل موارد القارة الأوروبية المادية والبشرية في حربه على الإتحاد السوفياتي وهو ما تسبب في تكليف الإتحاد السوفياتي خسائر تفوق كل الحسابات : 27 مليون إنسان منهم 9 ملايين جندياً و 106400 طائرة و 83500 دبابة تهديم آلاف المدن ومئات آلاف القرى . تلك كانت كلفة تحرير العالم من عبودية الرايخ لألف عام – ما يثير السخط والحنق اليوم ليس هو تناسي أفضال الإتحاد السوفياتي في تحرير البشرية من عبودية الرايخ لألف عام بل الإسفاف السفيه في الهجوم على النظام السوفياتي وبعض السفهاء يعزو هزيمة الهتلرية للبرد القارس في روسيا .

القراءة العلمية لمفاعيل الحرب على النازية تقول أن الثورة الإشتراكية البلشفية التي نقلت العالم إلى مسار جديد هو مسار الإشتراكية كانت قد استهلكت كل قواها الكامنة لسحق النازية ولذلك لم تعد قادرة على استئناف العبور الإشتراكي بعد أن خمد الصراع الطبقي وتعطل نشاط الحزب الشيوعي لأربعة عشر عاماً وغدت بذلك الطبقة البورجوازية الوضيعة وطليعتها الجيش (6.5 مليون جندياً) أقوى من الحزب المتقادم وخاصة بعد أن رفض مؤتمر الحزب العام في أكتوبر 52 مقترح ستالين في تغيير كامل قيادة الحزب وكان الإقتراح الذي دفع بتلك القيادة المتقادمة لتدبير اغتيال ستالين وهو ما يسّر للجيش القيام بانقلاب على الإشتراكية والرجوع بالإقتصاد السوفياتي إلى اقتصاد الحرب وإلغاء الخطة الخمسية (51 – 55) التي قضت بتحويل اقتصاد الحرب إلى الإقتصاد المدني الإشتراكي، وهكذا لم يعد الإتحاد السوفياتي ينتج غير الأسلحة . إغتيال الثورة الإشتراكية التي كانت الأساس الراسخ القوي الذي سيُبنى عليه العالم الجديد، عالم الإشتراكية، أفضى إلى انحراف العالم إلى منحدر فوضوي لا قرار له .

(يتبع)