الإضراب العام


إرنست ماندل
2012 / 2 / 22 - 10:41     

عرض ألقاه إرنست ماندل خلال أيام تكوينية. وهو مترجم عن النص الفرنسي الصادر في الموقع الالكتروني لإرنست ماندل http://www.ernestmandel.org

--------------------------------------------------------------------------------

إن تناولنا لموضوع الإضراب العام ينتج عن اعتقادنا أنه النموذج الأرجح، وهو بالطبع ليس الوحيد المحتمل، لانتصار الثورة الإشتراكية بالبلدان الإمبريالية. ويستلزم ذلك تحقق فرضيات أولية قوامها عدم قيام حرب عالمية خلال السنوات القادمة وعدم إنتصار فاشية أو ديكتاتورية عسكرية شبه فاشية بالبلدان الإمبريالية والحفاظ على موازين القوى بمجملها كما هي حاليا قائمة بين الأجراء والرأسمال في تلك البلدان. موازين قوى في صالح الطبقة العاملة بشكل ساحق كما لم نشهد من قبل أبدا، إذ أن نسبة الاجراء تتراوح ما بين 80% و 85% من السكان بل وتصل في بعض البلدان إلى 90%.

هذه الفرضيات غير مضمونة، طبعا، بإستمرار. فالرفاق يدركون ما أعلنت عنه حركتنا وتبنته خلال المؤتمر العالمي العاشر. لكن بقدر ما يتعلق الامر بمدى زمني معقول يشمل السنوات القادمة التي نستعد لها بقدر ما نعتقد أن تلك الفرضيات الأولية سوف تبقى، على الأرجح، على حالها. ليس هذا تأملا نظريا إنه إستدلال ومنطق داخلي لتبني هذه الفرضيات الاولية: نحن مقتنعون أن تغيرا نوعيا في المجالات التي أشرت إليها أعلاه غير ممكن إلا إذا تلقت الطبقة العاملة، مسبقا، هزيمة نكراء.

استدلالنا، إذن، هو التالي: إن تكبد هكذا هزيمة يستلزم فشل الصعود الحالي المتجه نحو الإضراب العام. ومن ثم فإنه لمبرر تماما، على عكس ذلك، تحليل الامكانات التي تؤدي إلى انتصار الصعود الحالي وتفادي تكبد الهزيمة. بل وأكثر من ذلك، فإنه لمبرر تماما تحليل التحولات والشروط التي تسمح بتحويل الإضراب العام إلى ثورات إشتراكية.


--------------------------------------------------------------------------------

أصول الإضراب العام كنموذج للثورة الإشتراكية القادمة


ليست هذه المرة الاولى، في تاريخ الحركة العمالية، التي توضع إشكالية الإضراب العام في قلب النقاش الدائر حول نموذج الثورة الإشتراكية القادمة. ويرجع تاريخ أول نقاش حول الموضوع إلى أواخر القرن 19. وقد طرحته التيارات الفوضوية لا سيما النقابات الفوضوية (النقابات-الثورية) في إطار معارضتها الصريحة للتكتيك الإشتراكي-الديموقراطي الذي تبناه في ذلك الحين أغلب الماركسيين والمتعلق بالنضال الإنتخابي والبرلماني.

انتقد الماركسيون آنذاك الأطروحات النقابية-الفوضوية إنتقادا مايزال يحتفض بجانب من الصحة نحن غير مستعدين لتجاوزه. إن الجانب الأساسي من صحة النقد الماركسي لأطروحة الاضراب العام النقابي-الثوري يكمن في بخسها لمسألة السلطة السياسية، وإعتقادها أنه يكفي الطبقة العاملة التوقف عن العمل وتسيير قادتها الخاصين للمقاولات على المستوى الإقتصادي لينهار المجتمع البورجوازي. ثمة إستهانة خطيرة بله كارثية، بأهمية مسألة الدولة ومسألة الحكومة ومسألة التسلح وضرورة تحويل الإضراب العام إلى إنتفاضة.

يظل كل هذا الجانب من النقد الماركسي للإطروحة القديمة حول الإضراب العام صحيحا تماما: لا يكفي شن إضراب عام للإطاحة بالنظام الرأسمالي.

لكن إضرابا عاما قد يكون بداية ثورة إشتراكية. حول هذا الجانب من أطروحة النقابات-الثورية، أعطى تاريخ القرن 20 بالبلدان الإمبريالية حكما مازال مقنعا بالتأكيد: قد يكون الإضراب العام، بالبلدان المصنعة، وسوف يكون على الأرجح، بداية ثورة إشتراكية. فقد تبين خطأ ما صرح به الماركسيون لا سيما الذين أصبحوا إصلاحيين فيما بعد، بشأن ذلك في أواخر القرن 19 والذي يتلخص في العبارة الشهيرة للنقابات الإشتراكية-الديموقراطية " الإضراب العام هو الحماقة العامة".فقد اتضح أن الأطروحة التي تقول أن الإضراب العام مستحيل بالأنظمة الرأسمالية، أطروحة خاطئة تماما. إن تاريخ الحركة العمالية في القرن 20 أثبت نهائيا خطل هذا الجانب من الإستدلال التقليدي للإشتركيين-الديموقراطيين.

ما ذا كان هذا الإستدلال، إذا اعتبرنا أن هناك إستدلالا وليس فقط نية مبيتة لأناس مندمجين في النظام الرأسمالي؟ ماذا كان الإستدلال الذي ارتكزت عليه حجج الإشتراكية-الديموقراطية؟

كانت نظرة ميكانيكية تماما حول التزامن المزعوم لسلسلة من سيرورات: كانوا يعلنون بضرورة أن يكون كل العمال منظمين وإشتراكيين مسبقا لإنجاح إضراب عام؛ و إذا كان كل العمال إشتراكيين ومنظمين فلن يحتاجوا إلى إضراب عام إذ سوف يتوفرون على الأغلبية في البرلمان وعلى السلطة داخل الدولة. ذلك كان إستدلالهم.

أكيد أن ذلك التزامن المزعوم للسيرورات الثلاث، لقدرات النضال والتنظيم والوعي خاطىء تماما: ذلك أن طبقة عاملة فقط أقليتها منظمة ، وضمن هذه الاقلية فقط أقلية صغيرة نسبيا من العمال غدت إشتراكية، أبانت تاريخيا عن قدرتها على خوض إضراب عام. ليس هناك من تزامن ضروري بين تلك الظواهر الثلاث.

إن الخطأ المنهجي الذي يختفي وراء ذلك التصور الميكانيكي هو بخس الدور الحاسم للغاية للعمل بإعتباره مصدرا للوعي. إنها الفكرة التي يتعين بموجبها أولا إقناع العمال فردا فردا عبر الدعاوة الفردية لجعلهم قادرين على بلوغ مستوى معين من الوعي؛ في حين بينت التجارب أنه عبر إضرابات سياسية جماهيرية ضخمة، بالضبط، ارتقى قسم كبير من الطبقة العاملة للوعي الطبقي وصار كفاحيا للغاية، وهو ما لم يكن الوصول إليه ممكنا عبر الطريقة الفردية للتربية والدعاوة.

نجم عن هذا الخطأ نقاش مستمر بين يسار الحركة العمالية ويمينها بأوربا منذ بداية القرن. وقد لعبت روزا لوكسمبورغ دورا حاسما في ذلك النقاش حتى قبل لينين أو تروتسكي بمدة طويلة: أدركت أن تقسيم الطبقة العاملة بين طليعة منظمة ومؤخرة غير منظمة تمثل نظرة بالغة التبسيط وضيقة الأفق للواقع. صحيح أنها توجد طليعة منظمة وعمال غير منظمين، لكن يتعين على الأقل إدخال عنصر ثالث في هذا التحليل لفهم الواقع: هناك ذلك القسم من العمال غير المنظمين الذي قد يتجاوز،خلال نضال جماهيري، فئة من الطبقة العاملة المنظمة التي، تبعا لتبقرط المنظمات العمالية، سوف تميل إلى السير وراء شعارات البروقراطية وتتوقف عن لعب دورها كطليعة في النضال.

ثمة سوء تأويل يعتبر أطروحة روزا لوكسمبورغ، هاته، دفاعا عن العفوية. ليس ذلك صحيحا تماما. تحتوي هذه الاطروحة، في الحقيقة، على عنصر عفوية واحد لا اكثر هو عدم اعتبار كل عامل "منظم" عاملا "طليعيا" بالضرورة، وهذه بداهة حاليا لا أحد ينكرها. ما كانت روزا لوكسمبورغ يوما عدوة للتنظيم. لقد كانت مؤيدة متحمسة جدا للتنظيم والتنظيم الثوري. لكنها تدرك، ببساطة، أن لا تماثل بالضرورة بين "تنظيم" و"طليعة" في كل الفترات ولا سيما خلال إضراب عام.

إستغرق لينين بضع سنوات لفهم ذلك، وهو ما توصل له إبتداء من سنة 1914. إنه لمعبر أن الإشتراكيين-الديموقرطيين هاجموه بعد تلك السنة بقولهم " لكنك تدمر التنظيم، أنت تتراجع عن كل ما دافعت عنه خلال 20 سنة" ورد في أحد مقالاته السجالية ضد الأممية الإشتراكية-الديموقراطية قائلا: " إبتداء من مرحلة معينة من الإنحطاط، يمكن ان تتحول، فعلا، بعض أشكال التنظيم المتبقرطة إلى عراقيل. وقد يرتقي العمال غير المنظمين إلى مستوى من الوعي يفوق مستوى أناس ظلوا سجناء منظماتهم المتبقرطة. لذلك يتعين بناء منظمة جديدة. لقد ماتت الأممية الثانية وينبغي بناء الأممية الثالثة". أما تروتسكي، فبعد أن أعلن أن أحزاب الأممية الثالثة قد غدت أحزابا لا يمكن إصلاحها، بعد صعود هتلر، استعمل تعابير مماثلة للتي وظفها لينين بعد سنة 1914 و روزا لوكسمبورغ خلال سنوات 1905-1914 بألمانيا للدفاع عن نفس الأطروحة.

لنتناول الآن إشكالية الإضراب العام كما تطرح حاليا. وسوف نقوم بعملية تحليلية وليست تاريخية. وسوف نعمل جاهدين على تحليل آلية إضراب عام والتطرق لعشرات العناصر التي تتيح تطوره الأمثل بما في ذلك نحو إنتصار الثورة الإشتراكية. سوف نتناول في قسم أخير من العرض، بعض الأمثلة التاريخية المهمة لاسيما الخاصة بالحركة العمالية البلجيكية وسأتطرق كل مرة للعوامل التي لم تتوفر لكي يحدث ذلك التطور الهائل.


--------------------------------------------------------------------------------

1. ما الإضراب العام؟
إن السمة الأولى المميزة لإضراب عام، ولعلها الأصعب على التحديد الدقيق هي: ما الفرق بين إضراب عام وإضراب واسع بسيط؟ من منطلق كمي خالص، لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال. وهنا مكمن الصعوبة. طبعا، ليس الإضراب العام إضرابا يشارك فيه العمال برمتهم، لأن ذلك لم يحدث قط ولن يحدث على الإطلاق! ومن العبث إنتظار مشاركة آخر عامل في الإضراب لإعلان أن ذلك إضراب عام. تحدثنا سنة 1960 عن إضراب عام ببلجيكا. نقل أن مليون عامل أضربوا حينها، ذلك هو الرقم الذي تقدمنا به وأعتقد أنه مبالغ فيه إلى حد ما. من الواضح عمال بلجيكا يتجاوزون المليون، فهناك مليونان ونصف المليون عامل، غير أن الحديث عن إضراب عام كان صحيحا تماما.

ما الفرق بين إضراب عام وإضراب واسع فقط؟ بعض المميزات الرئيسية هي:
أ) أنه إضراب متعدد المهن ليس فقط من حيث المشاركة ولكن أيضا من حيث الأهداف.
ب) أنه إضراب ينخرط فيه القطاع الخاص بشكل واسع جدا ويشمل العناصر الحاسمة في كل عمال القطاع العام، بحيث يشل ليس فقط المعامل ولكن كذلك سلسلة من مؤسسات الدولة: السكك الحديدية والغاز والكهرباء والماء، إلخ..
ج) أن يكون المناخ –هذا صعب الإدراك لكنه يشكل العامل الأهم- الذي تكون بالبلد مناخ مواجهة عامة بين الطبقات.أي أن ترى مختلف طبقات المجتمع في المواجهة لا فقط مواجهة بين قطاع من الباترونا وقطاع من الطبقة العاملة، بل مواجهة بين البورجوازية بمجملها وبين الطبقة العاملة برمتها، حتى ولو كانت نسبة مشاركة العمال في ذلك الإضراب لا تصل إلى 100% أو90%.

قد لاحظتم، ربما، أنني لم أف ميزة أخرى يتناولها أغلب الأحيان مناضلون ومنظرون ماركسيون مهتمون بتلك المسألة. لم أذكر أن إضرابا ما ليس إضرابا عاما إلا إذا تقدم بمطالب سياسية. لماذا؟ لأن إضرابا عاما هو سياسي بشكل موضوعي بما أنه يستلزم مواجهة مع البورجوازية في مجملها ومع الدولة البورجوازية، لكن ليس ضروريا أن يكون الوعي بذلك منذ البداية. " هناك مثال حي بأوربا يؤكد ذلك، لعله الأضخم حتى سنة 1968، وهو إضراب يونيو 1938 حيث لم ترفع أي مطالب سياسية وحيث احتل العمال المعامل ورفعوا، فقط، مطالب إقتصادية ( تقليص ساعات العمل وعطل مؤدى عنها، إلخ.. وفي أقصى حد " الرقابة العمالية")، لكن تروتسكي بالذات وكل الذين، مع القليل من الصدق، تفحصوا تلك الحركة آنذاك، أدركوا أن أولئك العمال طالبوا في الحقيقة أكثربكثير مما كانوا قادرين على الإعلان عنه. وقد يشكل الحكم على طبيعة إضراب بناء على قدرة التعبير الواعي لأشخاص في فترة معينة خطأ فادحا.

إن الإعتقاد أن إضرابا ما ليس عاما إلا إذا تقدم بمطالب سياسية، يعني أن "إضرابا ليس عاما إلا إذا كان الذين يقودنه ويعبرون عن مطالبه واعون بكل ما يستلزمه". إن ذلك يقلص بشكل خطير للغاية من نسبة إستعمال مفهوم الإضراب العام. يستخلص من ذلك أن على الطليعة الثورية أن تسعى جاهدة منذ بداية الحركة للتعبير عن طبيعتها السياسية وأهدافها التي تتجاوز الأهداف الإقتصادية أو الخاصة بقطاع معين وأنه من الضروري أن يكون سعيها إلى التسييس مستمرا.


--------------------------------------------------------------------------------

2. الإضراب العام السلبي


هناك أمثلة لإضرابات سلبية في التاريخ حتى من بين الإضرابات الأكثر ضخامة: أضخم إضراب عام شهدته أوربا الغربية وأكثرها فعالية هو إضراب الطبقة العاملة الألمانية العام ضد محاولة الجنرال كاب Kapp الإنقلابية سنة 1920.و كان إضرابا شاملا في فعاليته وفي تأثيره وأوقف الحياة الإقتصادية والعمومية، لكنه كان سلبيا: عادالعمال إلى بيوتهم ولم يحتلوا المعامل سوى في بعض المناطق وفي حالات استثنائية.

ينبغي التمييز بين إضراب عام سلبي بشكل كبير حيث يقتصر العمال على التوقف عن العمل وبين إضراب عام مصحوب باحتلال المعامل يشكل خطوة كبيرة إلى الأمام (أترك جانبا الأوجه الإقتصادية فسأعود إليها بعد حين) لأنه يسمح بتظافر جهود الطبقة. إن إضرابا عاما سلبيا هو إضراب يبدد جهود الطبقة، فكل عامل يروح إلى بيته؛ هكذا ليس بالإمكان الإتصال به ولا التحدث إليه. لكن إضرابا عاما مع احتلال المعامل يعني أن مئات الآلاف أوملايين العمال، تبعا للبلد، مجتمعون داخل المقاولات مع إمكانية التحدث إليهم في كل وقت، ولهم قوة وتماسك طبقي يفوق، طبعا، نوعيا ما يوفره إضراب عام يظل خلاله كل واحد في بيته.

الخلاصة هنا عملية: ندعو بشكل منهجي، على صحفنا، لاحتلال المعامل. ونموذج الإضراب العام الذي نحاول إقناع الطليعة به هو الإضراب العام المصحوب باحتلال المعامل. سوف أعود فيما بعد إلى أوجه تنظيمية مهمة للغاية تنجم عن احتلال المعامل و تشكل حلقات حاسمة لتحويل إضراب عام مع احتلال المعامل إلى محطة أولية لأجل القيام بثورة حقيقية.


--------------------------------------------------------------------------------

3. الإضراب العام النشيط


تعود فكرة الإضراب العام النشيط كذلك إلى النقابات-الفوضوية- يتعين إرجاع الحق للذين يستحقونه- لكن النقابيين-الفوضويين قدموا عمليا براهين ضعيفة عن تلك الفكرة ونادرا ما طبقوها إذا استثنينا، طبعا، ثورة 1936بإسبانيا.
ماذا تعني تلك الفكرة؟ لا يكتفي العمال باحتلال المعامل والإحتفال كما جرى في يونيو 1936 بفرنسا أو بشكل أوسع في ماي 1968، أي الاكتفاء بجلسات للنقاش وبحفلات سينمائية ولعب الورق. وذلك ما شاهده مندوبو رابطة العمال الثورية LRT عند وصولهم إلى كوكوريلCockerill التي احتلها عمالها (لأول مرة في تاريخ بلجيكا حدث إضراب عام مع الاحتلال: دجنبر 1971 - يناير1972)، لقد كانت خيبة أمل أن نجد العمال يلعبون الورق. أكيد أن الأمر يتعلق باحتلال طبعا، لكنه مستوى بدائي من الاحتلال.

لكن ماذا يعني "إضراب نشيط "؟ هو أن ينظم العمال عملية الإنتاج تحت قيادتهم الخاصة. فيما مضى، وباستثناء الثورة الإسبانية التي ما كانت إضرابا عاما فحسب بل ثورة حقيقية، ليس هناك غير أمثلة قليلة جدا عن الاضراب النشيط. هناك حاليا منعطف مهم للغاية وسط الطبقة العاملة بأوربا الغربية: تبين حالة ليب Lip بفرنسا وكليد Clydeبأنجلترا وغلافربل Glaverbelببلجيكا أن قطاعات طليعية من الطبقة العاملة بدأت تدرك أن احتلال معمل فرصة مناسبة للقيام بأكثر من النشاط الثقافي أو لعب الورق: إمكانية تنظيم القيادة بنفسها. إنها خطوة كبيرة جدا إلى الأمام.

ونحن نولي أهمية بالغة لتلك الأمثلة ليس لاعتقادنا بإمكانية بناء الإشتراكية داخل معمل واحد ولكن لأننا نعتقد أن تلك الأمثلة، المنعزلة حاليا، من شأنها أن تتوسع وتتعمم عند خوض إضراب عام. إنه لأمر مختلف تماما أن يقوم العمال خلال إضراب عام مصحوب باحتلال المعامل بما قام به عمال ليب وغلافربل!! إنه مستوى تاريخي يفوق نوعيا كل ما شهدناه فيما مضى من إضرابات عامة. غير أنه يتعين تجنب كل إستدلال ميكانيكي، فالإنتقال إلى إضراب نشيط ينطلق من دوافع و مستويات وعي مختلفة للغاية. إن أفضل حالة هي التي يعبر فيها العمال عن رغبة واعية إلى هذا الحد أو ذاك للإستيلاء على وسائل الإنتاج، أي لتدمير الرأسمالية. إن حدوث ذلك يدعو للسرور طبعا،غير أن هناك دوافع أخرى مختلفة. أود تقديم إثنين منها:

أ) إن الإنتقال إلى الإضراب النشيط قد يكون نتيجة لما يمكن تسميته المنطق الداخلي للإضراب العام، أي الرغبة في أفضل نجاح للإضراب العام. إنه محفز لطرق النضال، فالرغبة في جعل النضال أكثر فعالية، بصرف النظر عن أهدافه على الأمد الطويل، قد تجعل الإضراب النشيط ضروريا. أستعرض فيما يلي بعض الأمثلة المرتبطة بتجربة ماي 68 بفرنسا والتي غالبا ما يتم التطرق لها:

1)إن إضرابا سلبيا كإضرب وسائل النقل يغدو، داخل مدينة كبيرة جدا، عاملا للإخلال بالإضراب إبتداء من فترة معينة: إذا توقف الميترو والحافلات والسكك الحديدية في ضواحي المدن عن العمل في مدينة مثل لندن أو باريس أو روما فذلك يعني أن الطبقة العاملة لن تتمكن من التجمع وأنه من المستحيل أن يقطع العمال 20 أو 30 أو 50 كيلومترا للإنضمام إلى مظاهرة. هكذا تولد الفكرة التي على الثوريين دعمها: ضرورة الحفاظ على الإضراب العام بقطاع النقل قصد خلق الإضطراب في الحياة الإقتصادية البورجوازية وشلها؛ لكن عندما تدعو الطبقة العاملة إلى تظاهرة مركزية في المدينة ينبغي تشغيل وسائل النقل بهدف حصري هو نقل العمال للتظاهرة وتحت رقابة لجنة الإضراب التي تسهر على أن لا تستعمل وسائل النقل سوى بهذا القصد.

2) ثمة أمثلة أخرى أهم بما أنها تتعلق بأقدس مقدسات المجتمع الرأسمالي:إن إضرابا عاما في البنوك وصناديق الإدخار، إلخ يشكل أداة أساسية لشل الحياة الإقتصادية البورجوازية لكن إذا امتد الإضراب سلبيا فإنه ينقلب على العمال. فعدد كبير من العمال يضعون مدخراتهم القليلة في صندوق معين من صناديق الإدخار التابعة للمنظمات العمالية (التعاضديات والتعاونيات) أو في حساب بنكي؛ وإذا لم يتمكن العمال من الحصول على ذلك المال فإن قدرتهم على المقاومة تتقلص. لذلك يفتتح عمال المؤسسات المالية، خلال شن إضراب عام نشيط، الشبابيك في فترات معينة تحت رقابة لجن الإضراب ويقدمون للمضربين مبالغ معينة بعد تقديم ورقة تثبت أنهم مضربون. ذلك مهم للغاية: يشرع المستخدمون في إدارة النظام البنكي والمالي.

ب) دافع آخر للانتقال نحوالإضراب النشيط، ينجم عن ما يمكن تسميته المنطق الإقتصادي للإضراب العام. يشل ذلك المنطق الحياة الإقتصادية برمتها. لكن الحياة الإقتصادية المشلولة خلال مدة طويلة (لا أهمية لبضعة أيام) تطرح مشاكل حيوية ومباشرة للمضربين أنفسهم. لنأخذ المثال الأكثر سخافة الذي يجري إستعراضه باستمرار: إن استمرار إضراب عام شامل لمدة أسبوع يعني أن الناس سيتضورن جوعا من جراء غياب الخبز. طبعا يغدو ذلك تماما "contraproducente" كما يقول الإيطاليون. يتعين إبتداء من فترة معينة أن تعمل آليات تسمح بحد أدنى من الإشتغال لكي تغدو إستمرارية الحياة الطبيعية للطبقة العاملة ممكنة. أما الأمثلة الثانوية فطبقت فيما قبل وهي معروفة ومهمة للغاية: طبق عمال غزيلكو (الغاز والكهرباء) ببلجيكا منذ مدة طويلة قاعدة قوامها في حالة شن إضراب، أن يراقبوا هم بأنفسهم توزيع التيار لقطعه عن المقاولات والإدارات العمومية والبنوك، إلخ؛ وتفادي قطعه عن الأسر. لأن ذلك قد يقسم الطبقة العاملة ويجعل الإضراب لاشعبيا لدى قطاعات منها. بالعكس إن كانت هناك إستمرارية للإنتاج، تحت رقابة المضربين وبما يضمن استمرار شل الحياة الإقتصادية ودون الإخلال كثيرا بمصالح جمهور المستهلكين، فإن فعالية الإضراب تتنامى بقوة.

جرى تطبيق نفس الإستدلال خلال ماي 68 على نطاق ضيق، لاسيما بمدينة نانت Nantes - لا يجب الإستهانة بهاته الأمثلة الصغيرة المعزولة- حيث سعت لجن الإضراب ومجموعات عمالية طليعية إلى تنظيم تموين المضربين عبر عملية تبادل للمنتجات مع الفلاحين. مما استلزم انطلاق الإنتاج من جديد أومواصلته والتصرف في المخزون والقيام بكل الأنشطة الإقتصادية تحت رقابة المضربين للحصول على ما يكفي من الطعام.

يمكن كذلك استحضار حالة ثانوية لم تكتس بعد أهمية للدفع بالنضالات العمالية الكبرى؛ لكن أهميتها في المستقبل ستتزايد نظرا للميل العام للتطور الإقتصادية. نقصد ما يحدث حاليا بأنجلترا مع إضراب الممرضات. إنه إضراب خطير جدا لإنه إضراب عن تقديم العلاجات وقد لا يتم علاج المرضى على أحسن وجه وقد ينجم عن ذلك وفيات: إن ذلك غير شعبي على الاطلاق في نظر جمهور واسع للغاية؛ وهذا ما تستعمله البرجوازية خلال حملتها ضد حق الإضراب وضد النقابات وضد النضال العمالي. هكذا اضطرت الممرضات للبحث عن أشكال إضراب تحول دون إلحاق الضرر بالمرضى وتبين فضلا عن ذلك قوتهم الضاربة! لإدارة وزارة الصحة. كانت إحدى الحلول التي جرى اللجوء إليها(كان هناك حالات أخرى مماثلة) شن إضراب متعلق بالتسديد، أي معالجة الجميع دون تسجيل أي شيء في السجلات ودون أن يدفع أي كان أي مبلغ مالي. ها هوذا إجراء شعبي بامتياز! يجمع بين الفعالية المالية وخلق الفوضى الإدارية! هناك سمة أخرى أكثر تقدما تكمن في كون مجموعات عمالية من بينها عمال الصناعة المعدنية ووسائل النقل قدمت دعما لذلك الإضراب واقترحت على العمال شن إضراب لأجل قضية الممرضات. تلك خطوة هائلة للأمام في التضامن الطبقي!

ما أهمية كل ذلك؟ لماذا أثير تلك الحكايات الصغيرة؟ ليس لأهمية هذه الأخيرة، فنحن لا نومن بإختراق الوعي الشيوعي في مستشفى، ولا بتنظيم الإشتراكية بمعمل واحد لكننا نعتقد بأن تكاثر تلك الأمثلة وانتشارها يخلقان الشروط الممهدة لتعميمها خلال إضراب عام.

يتعين توضيح أننا لم نشهد بعد إضرابا عاما واحدا بأوربا جرى خلاله تعميم أمثلة من هذا القبيل: يلزم خيال واسع لتصور فكرة ما قد يكونه إضراب عام شامل إلى هذا الحد أو ذاك كالإضراب العام في ماي 68، والذي قد توظف خلاله أغلب قطاعات الطبقة العاملة بمعناها الأوسع، كل تلك التقنيات: سيكون ذلك بداية لثورة إجتماعية. لذلك استعرضت كل تلك الأمثلة الحكائية والجزئية. لا تكمن اهمية هذه الأمثلة إلا بقدر ما تكون وسيلة لنشر المثال وخلق طريقة جديدة. بمجرد أن تدرك قطاعات عديدة أكثر فأكثر من الطبقة العاملة تلك الإشكالية، قد يتولد شيء جديد تماما وذلك ما نسعى إلى بلوغه.


--------------------------------------------------------------------------------

4. الإضراب العام الذي تسيره ذاتيا المنظمات العمالية التقليددية أو تقوده


هناك إشكالية جديدة: هل يجب شن إضراب عام تقوده بشكل بيروقراطي إلى هذا الحد أو ذاك المنظمات العمالية التقليدية أم خوض إضراب عام مسير ذاتيا، يعززالإستقلالية العمالية من خلال هيئات قاعدية تسير الإضراب. لن ألح على ذلك؛ فالرفاق يدركون هذه الإشكالية و نحن لا نكف عن تطويرها خلال حملاتنا الدعاوية وحتى خلال أعمالنا التحريضية اليومية. يتعين الإلحاح على أن ما نبنيه ليس حزبا- متجمدا وعصبويا؛ فإذا كنا ندعم إضرابا عاما (وكل إضراب على العموم) يقوده العمال بأنفسهم فليس ذلك بسبب أننا لا نطيق قياديي FGTB (الفيدرالية العامة لعمال بلجيكا) أو .CSCفحتى لو تشكلت قيادة CGT (الكونفدرالية العامة للشغل) أو FGTB،حصرا، من أعضاء الأممية الرابعة فسنظل نؤيد أشكال الإضراب المسيرة ذاتيا. ذلك أننا نعتقد أن إضرابا عاما لن يحقق النصر إلا عبر خلق لجن إضراب منتخبة في المقاولات وبإشراك أقصى عدد من العمال في تسيير الإضراب.

إن فكرة إضراب عام يقوده مجلس قيادة صغير كلي التحكم، حتى ولو تكون من أفضل الناس في العالم من وجهة نظر سياسية، ليست فكرة طوباوية فحسب بل وأيضا خاطئة تماما من وجهة نظر سياسية ومن وجهة نظر إجتماعية: أنها تتأسس على فهم خاطئ للطبقة العاملة وللمجتمع البرجوازي؛ فهي تفترض في العمق نفس الغموض الميكانيكي للإشتراكين-الديموقراطيين سنة 1900 الذي تحدثت عنه سابقا، أي تزامن لا واقعي لكل أشكال السيرورات.

لكي يتمكن بالفعل إضراب يشنه 10 ملايين عامل بفرنسا من تحقيق إنتصار، لا يكفي مجلس قيادة يضم 15 إلى 20 قياديا عبقريا في القمة فحسب، إذ لا بد من أقصى إشراك لأكبر عدد من المقاتلين، وعلى جميع المستويات، في قيادة ذلك الإضراب. على هذا الشكل تولد هيئات ازدواجية السلطة وتنطرح إمكانية إنتصار الثورة الإشتراكية عبرتدمير قسمة العمل بين الرؤساء والجماهير التي استقدمته البيروقراطية من المجتمع البورجوازي إلى الحركة العمالية؛ وعبراستحضار فكرة التنظيم السوفياتي - عمق فكر لينين في "الدولة والثورة" حول التنظيم السوفياتي- الداعية إلى انخراط أقصى عدد من العمال وأفراد الشعب فورا ومباشرة ودون تقسيم للعمل في التسيير اليومي لشؤونهم.

النموذج الأمثل الذي نطرحه يرتكز، كما تعرفون، على:
1) إنتخاب لجنة الإضراب من خلال جمع عام للمضربين.
2) انعقاد جموع عامة بصفة منتظمة يكون لها حق وإمكانية عزل أي عضو من أعضاء لجنة الإضراب.
3) انتخاب لجنة الإضراب لمجموعة من اللجن تكون واسعة بهدف إشراك أكبر عدد من المناضلين الحاضرين في الجمع العام في كل المهام الممكنة: تعبئة وتموين ومالية وإعلام وتنشيط ثقافي، إلخ. وتلك أمور تحدثنا عنها مطولا فيما قبل.

غير أنه يتعين تجنب أي "ترسيمة قصوية": هذا النموذج الأمثل، لن نتوفق من تحقيقه على الأرجح في كل مكان وفي نفس الوقت، فذلك يستلزم وجود مناضلين ثوريين ومستوى عال من الوعي كاف لكي يطبق النموذج على هذا النحوالأمثل. إذا جرى إنتخاب لجن الإضراب داخل عدد كبير من المقاولات فذلك مدعاة للسرور و خطوة نوعية للأمام.

سبق أن قلنا ذلك مرارا: لو لم يجر في ماي 68 سوى إنتخاب لجن الإضراب - وفيدرالياتها- في كل المقاولات، لكانت بداية الثورة، ولتحول الوضع نوعيا. إن دفعنا بإتجاه النموذج الأمثل فلأن إيجابياته واضحة كل الوضوح: توفير الشروط الأمثل للتنظيم والتنظيم الذاتي ولإشراك أقصى عدد من العمال في قيادة الإضراب ولبروز وضع ثوري في أفضل ظروف مواتية للطبقة العاملة.

سوف ندرك كذلك العلاقة الوثيقة بين الدفع نحو الإضراب العام النشيط وبين التنظيم الذاتي للإضراب. من الواضح أنه لا يمكن على الإطلاق تسيير إضراب عام عبر مكتب نقابي أو متفرغ: لأن شخصا واحدا أو شخصان لن يتمكنا ولن يستطيعا أبدا داخل معمل تنظيم الإنتاج والتموين وربط علاقات مع المقاولات المزودة بالمواد الأولية، إلخ. إن ذلك أمر مستحيل: ما إن يصير الإضراب نشيطا حتى يصبح ضروريا إشراك أكبرعدد من العمال في قيادة الإضراب وفي العديد من القرارات التحكيمية. إن الإضراب النشيط بطبيعته حافز قوي للغاية للتنظيم الذاتي للإضراب كما بينته أمثلة ليب وغلافربل-جيلي وعدد من الأمثلة الأخرى خلال الشهور الماضية.


--------------------------------------------------------------------------------

5. من لجان الإضراب إلى المجالس العمالية


إن لجنة إضراب، بل و حتى اللجنة المركزية للإضراب، لا تتجاوز بعد مجال الإضراب، أي مجال رفض كامن وليس بعد فعلي للنظام السياسي (للدولة) للبرجوازية، وسأعود لذلك لاحقا لكونه شكل موضوع سجال مع الرفاق اللامبارتيين بفرنسا خلال ماي 68.

كيف يمكن الإنتقال من لجان الإضراب إلى المجالس العمالية؟ ما هو الفرق النوعي بينهما، رغم أن مجلس العمال ينجم عن لجنة الإضراب بنسبة 99% مثلما أول سوفيات ببتروغراد. هناك عنصران يبدوان، على أساس التجربة التاريخية- ينبغي الانتباه إلى أن تجارب المستقبل قد تكون أغنى من تجارب الماضي-، محددان في ذلك التحول وهما:

1) الإتحاد الفيدرالي، يعني تجاوز ضعف بذرة السلطة العمالية التي تنمو على مستوى معمل: لم يشكل إضراب ليب Lipرفضا للنظام الإقتصادي البرجوازي أو للدولة البرجوازية في مجملها. لكن توحد 50 معملا شبيها بليب Lipفي فيدرالية وشنها إضرابا في فرعين أو ثلاثة فروع صناعية، فذاك مختلف نوعيا! لاسيما إذا طال ذلك جزئيا النظام البنكي والكهرباء ووسائل النقل العمومية، إلخ.

إن منطق الإتحاد الفيدرالي الأفقي( داخل مدينة) أو العمودي (داخل فرع صناعي) -والمدينة أهم من الفرع لكونها تفضي إلى إحتداد طابع الرفض- يستلزم تحويل لجن الإضراب تلك إلى هيئات ازدواجية السلطة إذا تجاوز ذلك الإتحاد الفيدرالي مستوى معينا.

2) العنصر الثاني الضروري هو أن تتمتع هيئات الإتحاد الفيدرالي للجن الإضراب بسلطات تتجاوز سلطات تسيير الإضراب. وهذا العنصر وإن كان الإتحاد الفيدرالي يتيح إمكانيته فهو لم يتحقق بعد.

إن لجنة إضراب مركزية يقتصر عملها على تنظيم الإضراب وتوزيع الأموال أو المؤن على المضربين وإصدار جريدة للتحريض على الإضراب قد تكون مع ذلك منسجمة مع سلطة برجوازية غير منقسمة. ذلك أمر ممكن وإن كان مستبعدا. لكن لجنة إضراب مركزية تتمتع بسلطات تتجاوز مجرد تسيير الإضراب وتبدأ في تنظيم الإنتاج وتوزيع ديون أو أموال انطلاقا من بنوك وتنظيم وسائل النقل العمومية وتوزيع الكهرباء وتتمتع بإختصار بسلطات فعلية، إن لجنة إضراب من هذا القبيل تتوقف عن كونها لجنة وفقط لقد غدت مجلسا عماليا وجهاز سلطة بدأ العمل.

إن ولادة جهاز ازدواجية السلطة يبرزه واقع أن بعض السلطات التي عادة، داخل المجتمع البورجوازي، ما تنفذها البورجوازية وأجهزتها كالنظام البنكي أو الدولة البورجوازية، تضطلع بها تلك الهيئات. قد يكون ذلك ضئيلا، والكل يعرف الرواية التي سعيت إلى نشرها بأوربا، إن لم يكن في العالم، والتي لامني عليها الرفاق بلييج كثيرا: إن قيادة FGTB بلييج، خلال الإضرابان العامان لسنتي 1950 و1960، حين أشرفت على تنظيم السير بمدينة لييج ومنعت مرور السيارات والشاحنات التي لا تحمل خاتم FGTB ، مارست في الواقع سلطة عمومية.هكذا تعرف السائقون على سلطة عمالية مختلفة كليا عن سلطة الدولة البورجوازية. إن ذلك جنيني للغاية لكن واقعي.

مرة أخرى، لا أهمية للرواية في حد ذاتها بقدر ما يهم تزويد ذاكرة الطبقة العاملة ومخيلتها الجماعية بأمثلة مشابهة، وتعويد بنيتها الذهنية لأن ذلك النوع من الأمثلة من شأنه أن يتكرر ويتعمم في الإضراب العام القادم وتكون له أهمية بالغة حقا في خلق مجالس عمالية، وهيئات سلطة عمالية معارضة لسلطة البورجوازية.


--------------------------------------------------------------------------------

6. ازدواجية السلطة الإقتصادية و ازدواجية السلطة السياسية
تقليديا، اعتبر مفهوم ازدواجية السلطة حصرا مفهوما سياسيا، وقد مارست مدرسة "زينوفييف-ستالين" تأثيرا عميقا في هذا الصدد على الحركة العمالية. والرفاق الماويون هم حاليا نتاج كاريكاتوري لهذا التأثير. فهم يمتلكون تصورا تبسيطيا شفافا جدا: "التروتسكيون لا يفهمون أن السوفيتات لايمكن أن توجد إلا خلال وضع ثوري وأنها تمثل هيئات سلطة ثورية. لكن حاليا يغيب وضع ثوري، لذلك فإن الثرثرة حاليا حول الرقابة العمالية وحول ازدواجية السلطة، كلام فارغ أو أسوأ من ذلك هو ممارسة إصلاحية"، إلخ.

ندرك ما هو باطل في هذا الإستدلال: أنه يتجنب كليا التحدث عن الوضع المميز لنضال عمالي يتسع ويتعمم (أي وضع ثوري)، وكذا عن الطريقة التي يمكن ويجب على الثوريين التدخل بها خلال وضع قبل-ثوري. خلف هذا المفهوم الماوي يختفي، في الواقع، تقليد قديم قدري وميكانيكي وكاوتسكي ومناهض للينينية يتصور أن الوضع الثوري يسقط من السماء، وأنه نتاج شروط موضوعية لا يمكن لفعل الطليعة العمالية أن يمارس عليها أي تأثير.

على العكس، نحن نؤكد أنه عبر الدفع بتطبيق وتعميم تجارب الرقابة العمالية والسعي إلى تعميم وتحويل لجن الإضراب إلى مجالس عمالية نحول، عبر هذا التدخل، وضعا قبل-ثوري إلى وضع ثوري. ونشكل، هكذا، عامل تبلور ومحفزا لولادة وضع ثوري. تبنى تروتسكي فكرة جريئة وأكثر تجديدا، فيما يتعلق بألمانيا في بداية الأزمة الإقتصادية الكبيرة،: "علينا تفادي مماثلة ازدواجية السلطة وهيئات ازدواجية السلطة مع السوفييتات من النوع الكلاسيكي الناجم عن ثورة 1917. فليس مستبعدا موضوعيا ، في الوضع الملموس بألمانيا سنة 1930، أن تغدو مجالس المقاولات (هيئات شرعية في إطار مؤسسة ويمارWeimarالبرجوازية- إرنست ماندل) التي تهيمن عليها النقابات، هيئة ازدواجية السلطة".

علينا أن نكون متيقظين كفاية بهذا الصدد. من المؤكد أن مماثلة ازدواجية السلطة مع هيئات سوفياتية مطابقة لسوفيتات الثورة الروسية أو الثورية الألمانية هو خطأ لا ينبغي اقترافه. هناك على الأقل مثال تاريخي من مستوى كبير: كانت لجان الميليشيات بإسبانيا في يونيو 1936، هيئات ازدواجية السلطة حقيقية ذات أصول ومواقف أخرى مختلفة عن أصول ومواقف السوفييتات الروسية والألمانية. وفي انجلترا، وبالنظر لخصوصية بنية الحركة العمالية هناك، لا يمكن استبعاد أن تشكل هيئات مختلفة كثيرا عن السوفييتات التقليدية دور هيئات ازدواجية السلطة.

يعتمد رفاقنا الإنجليزيون على ما يغدو مسألة ثابتة حاليا، على الأقل على المستوى المحلي، بأنجلترا: كل مرة يحل وضع نضال متفاقم للغاية على المستوى المحلي تخلق منظمات جبهة موحدة " لذلك الغرض" تضم مندوبي المعامل الأكثر كفاحية، ليس الجميع بالضرورة؛ وتضم الفروع النقابية المحلية الأكثر كفاحية، ليس الجميع بالضرورة؛ وتضم أحيانا الفروع المحلية لحزب العمال ، ليس الجميع بالضرورة؛ وتضم ممثلي المنظمات الثورية المنغرسة محليا والفاعلة.

تفيد حجة البُودنغ، عند الإنجليز، أن دليل امتلاك الحلوى هو أكلها. إذا كانت تلك الهيئة قادرة على تعبئة مجموع الطبقة المحلية، فذلك يتماثل مع سوفييت محلي. أما إذا تعلق الأمر فقط بهيئة تضم الطليعة وتعبئ من نسبة 10% إلى 15% من الطبقة العاملة، فهي جبهة موحدة يسارية ( مناهضة للرأسمالية كما نقول في بلجيكا). علينا أن لانستبعد بروز هيئات من هذا النوع بالبلدان حيث الأغلبية العظمى من الطبقة العاملة منتظمة بطريقة أو بأخرى بالمنظمات التقليدية؛ وهذا بالطبع هو الشرط الضروري لكي يتكمن تجميع من ذلك النمط من لعب دور فعلي يتطابق مع دور بنية سوفياتية.

أريد أن أشير بعد أن ذكرت "منتظمة"، أن تلك الحالة إستثنائية للغاية بأوربا. وأعتقد أنه خارج إنجلترا- وربما أيضا السويد، التي معلوماتي عنها قليلة- ليس هناك حالة من ذلك القبيل. أما فرنسا فأكيد أنها بعيدة كل البعد عن تلك الحالة. لو جمعنا كل ما ذكرته أعلاه، في أغلب المدن الفرنسية، لشكل ذلك ثلث أو ربع الطبقة العاملة. نفس الشيء بالنسبة لإيطاليا وبلجيكا. يستلزم ذلك مستوى من تنظيم وتأطير الطبقة العاملة - ليس أن يصوت في انتخابات ولكن أن يكون العامل منظما ويلبي دعوة ...- لا يتوفر إلا في انجلترا: في أغلب المراكز الصناعية الكبرى، يمكن بالفعل قول أن الطبقة العاملة برمتها، بشكل من الأشكال، منظمة داخل النقابات وحزب العمال، بقدر ما النقابات تابعة لذلك الحزب. وحتى بالنسبة لإنجلترا، فإن وضحت رأيي توضيحا عميقا، فإني أعتقد بالأحرى أنه خلال خوض إضراب عام قد تبرز لجان إضراب منتخبة بدلا من هيئات من ذلك النوع. لكن لايجب إستبعاد كلي لإحتمالا من ذلك النوع لأنه يظل ممكنا منطقيا بالنسبة للحركة العمالية الإنجليزية.

إن التمييز مهم للغاية بين هيئات - سواء كانت منتخبة أو غير منتخبة فليس ذلك هو الحاسم- يكمن دورها في تأمين بعض السلطات الإقتصادية وواقع الإنتقال إلى رفض سلطة الدولة البورجوازية. لماذا تلك المسألة حاسمة وصعبة للغاية؟ لأننا نصطدم بالتمييز بين ميل موضوعي و طفرة نوعية معينة في الوعي. بحكم قوة الأشياء وبحكم المنطق الداخلي البسيط للحركة قد يضطر العمال الإشتراكيون-الديموقراطيون أو العمال الذين تربوا على الخروتشوفية ، رغما عنهم للقيام بمجموعة من الأمور التي استعرضتها سابقا (من النقطة 1 إلى 4)، بما في ذلك الإضراب النشيط واستئناف اشتغال البنوك لتقديم أجور المضربين. لكن هناك نقطة يصبح فيها ذلك صعبا، إن لم يكن مستحيلا: أي عندما يجب إختيار الإصطدام مع المؤسسات الديموقراطية البورجوازية ورفضها بشكل علني وواعي. ذاك سبب فشل كل الثورات إلى حد الآن بأوربا الغربية.

هناك مثال كلاسيكي، مثال معروف جدا لأنه يتعلق بانجترا حيث تتطور الأمور بفجائية أكبر . حين كانت الحركة العمالية الإنجليزية في قمة قوتها، عشية الحرب العالمية سنة 1921، حينما ابرمت النقابات الثلاث الكبرى تحالفا وقررت خوض إضراب مشترك ( الصناعة المعدنية والمناجم ووسائل النقل) كان بإمكانه أن يكون، في سياق تاريخي مختلف، أقوى بما لا يقاس من إضراب سنة 1926. حين كانت حركة " شوب-ستيوار" "shop-stewar" (من نوع شبه سوفياتية ) منغرسة على شكل واسع وسط المعامل الإنجليزية، استدعى لويد جورج، القائد الأكثر ذكاء ضمن البورجوازية الإنجليزية، القادة الثلاثة الرئيسيين لنقابات "التحالف الثلاثي" وقال لهم: " ندرك أنكم قادرون على شل البلد برمته، وندرك أنكم أقوى للغاية منا وندرك أنه لا يمكننا إستعمال جيشنا للتدخل ضدكم لأن أغلبية الجنود قد يرفضون تلك الأوامر، لكن عليكم الإختيار: إنني أمثل أغلبية الأمة والبرلمان، هل أنتم مستعدون لخوض إضراب عام ضد أغلبية الأمة والبرلمان، وأنتم لا تسطيعون خوضه إلا إذا كنتم مستعدين للحلول محلهما وخلق سلطة أخرى، بنية دولة أخرى غير تلك الناجمة عن البرلمان والاقتراع العام. فهل أنتم مستعدون لذلك ؟"

لست مضطرا لتوضيح ردود أولئك النقابين البيروقراطيين، فالكل قد أدرك ذلك.

إن الترجمة الأكثر مأساوية لنفس المنطق، يتمثل في حالة ألمانيا حيث أسست بالفعل مجالس عمالية في كل المعامل وكل المدن وحيث انهار جهاز الدولة البورجوازية تقريبا (في الواقع لقد استولت الطبقة العاملة على السلطة) وحيث قررت أغلبية الإشتراكية -الديموقراطية داخل تلك المجالس العمالية عن طيب خاطر الدعوة إلى إنتخابات عامة لتشكيل برلمان بورجوازي ونقل السلطة التي يضطلعون بها إلى ذلك البرلمان البورجوازي. ليس هذا إجراما فحسب إنه غباء أيضا! لقد كانوا مقتنعين من حصلوهم على الأغلبية في تلك الإنتخابات البرلمانية. لكنهم لم يحصلوا حتى على تلك الإغلبية (حصلوا على44% من الأصوات).وهم لم ينقلوا سلطة المجالس العمالية،على الاقل، إلى حكومة إشتراكية-ديموقراطية بل إلى أحزاب بورجوازية.

هكذا جرى تصفية الثورة الألمانية خلال ثلاثة شهور (نونبر 1918 إلى فبراير 1919): بعد دعوة مجلس ويمار Weimar التأسيسي للإنعقاد، لم تبق سوفييتات. هذه نقطة لارجعة فيها: يستلزم تحويل مجالس عمالية بدأت في الإضطلاع بعدد معين من السلطات الإقتصادية، إلى هيئات ترفض بوعي سلطة المؤسسات البرلمانية الديموقراطية البورجوازية للدولة البورجوازية، طفرة نوعية في الوعي، إذ لا يمكن حفز أغلبية العمال للقيام بثورة إشتراكية دون أن تدرك هي ذلك. إن ذلك وهم كلي.

يتعين أن يحصل تطور حاسم في مستوى وعي غالبية الطبقة العاملة من مستوى إصلاحي إلى مستوى ثوري أو شبه ثوري، وهناك مجموعة من الشروط الملائمة لذلك:

1) تسارع عام لتجربة إدراك الأحداث خلال مرحلة ثورية؛ ليس ذلك أمرا يسيرا. الكل يدرك تصور لينين وتروتسكي: "يتعلم العمال، خلال ثورة، في يوم أكثر مما يتعلمونه في سنة أو خمس سنوات خلال مرحلة غير ثورية". إنهم يتعلمون أكثر لأن هناك المزيد من النشاطات الجماهيريةالمميزة، طبعا، لمرحلة ثورية.

2) إن دور الحزب الثوري حاسم تماما خلال هكذا ظروف. لا يمكن تصور- ولم يسبق لذلك أن حدث- أن تكتسب غالبية الطبقة العاملة وعيا مناهضا للرأسمالية وثوريا دون الدور الحاسم والقيادي للحزب الثوري. بل إنه، خلال مرحلة ثورية، قد يتحول الحزب الثوري و ينتقل إلى وتيرة أسرع للغاية من وثيرته خلال مرحلة هادئة نسبيا.

3) لكن، رغم أن ذلك قد يبدو غريبا، فسوف أقدم مع ذلك خلال هذه السيرورة برمتها الدور الحاسم لعامل ثالث يلعبه العدو.
إن الوضعية الصعبة للغاية هي الوضعية التي لا يقوم العدو بأي شيء. وهناك مثال تاريخي هو مثال البورجوازية الإيطالية. فحينما احتل العمال في شمال إيطاليا كل المعامل الكبرى بالمنطقة خلال الإضراب الكبير الشهيرلنونبر 1920. قال جيولوتي، الوزير الأول الإيطالي في تلك المرحلة، وكان مثل لويد جورج أحد قياديي البورجوازية الإيطالية الأكثر مكرا، " احتل العمال المعامل وهم مسلحون (على الأقل عمال توران Turin) ذلك خطر على حياة الدولة. إن الخطوة المفيدة التي نستطيع القيام بها هي أن لا نقوم بأي شيء". نأمل، بعبارات أخرى، أن لا يكونوا هم بأنفسهم من يتخذ مبادرات حاسمة لأجل خطوة حاسمة إلى الامام. ذلكم ما حصل بالضبط: عقدت إجتماعات خلال ستة أيام للقيادات النقابية وقيادة الحزب الإشتراكي والمجالس العمالية - كان الشيوعيون ما يزالون حينها داخل الحزب الإشتراكي- وجرى نقاش ماينبغي التركيز عليه: الرقابة العمالية أو لا، ماذا سنطلب من الباطرونا ومن الحكومة، إلخ. لكن الحركة أنهكت نفسها بالنقاشات الداخلية والجمود والشلل وعدم القدرة على أخذ المبادرة الحاسمة للقيام بالتغيير الذي استعرضته أعلاه.

لو ارتكبت البورجوازية الإيطالية خطأ دفع العصابات الفاشية بالهجوم على المعامل آنذاك أو شن قمع عسكري، لكانت نسبة قيام ثورة كبيرة بالتأكيد: إذ كان العمال مسلحين وكانوا يمتلكون القوة المادية للإستيلاء على السلطة وللرد على أي استفزاز من الجانب الآخر. لكن أخذ المبادرات بأنفسهم، دون استفزاز، والقطع بأنفسهم مع المؤسسات الديموقراطية البورجوازية فما كانوا واعين بذلك وما كانوا يتوفرون على الإرادة ولا القيادة اللازمة لذلك.

يتعين استنتاج خلاصة هامة للغاية، رغم أن فيها نقاش، لكنها نتاج تجربة الإضرابات العامة بأوربا الغربية: من الضروري العمل على الحفاظ على هيئات السلطة العمالية المنبثقة عن الإضراب العام وعلى إقامة وضمان استمرار بنية ازدواجية السلطة وعلى فتح مرحلة ازدواجية السلطة. لأنه من اللحظة التي نتفوق في إقامتها، من المستبعد ألا يسعى العدو، مجبرا، إلى مهاجمتها عاجلا أو آجلا. وهكذا سيجري التحضير لرد عمالي متمركز بطريقة أكثر فعالية مما لو طلب من أولئك العمال، الذين حققوا لتوهم تقدما تنظيميا هائلا، إدراك كل ما يترتب سياسيا وثوريا عن قراراتهم؛ إن هكذا إدراك مستبعد على الأقل في غالبية البلدان حيث الطبقة العاملة تحت تأثير الإصلاحية و الإصلاحية الجديدة.

وبعبارات أخرى، فإن الاحتمال الأرجح، هو خلق ازدواجية سلطة حقيقية،أي سلطتان جنبا إلى جنب خلال فترة إنتقالية؛ المجالس العمالية -جنين السلطة السوفييتية- من جهة والبرلمان والمؤسسات البورجوازية من جهة أخرى. وسوف يتعلق الأمر بمعرفة خلال أي فترة وتحت أي شكل وبأي حجة سوف يجري إقناع أغلبية العمال بالقطع بترو وبوعي مع الأخيرة للإرتكاز على الأولى.

كل هذا معد للتطبيق إذا كانت أغلبية العمال تحت تأثير الإيديولوجيا الإصلاحية أو الإصلاحية الجديدة. أما إذا كان العمال، في أغلبيتهم، شيوعيين ومناهضين للرأسمالية وتروتسكيين وثوريين وماويين إلخ؛ فحتى قبل ولادة ازدواجية السلطة سيحول العمال مجالسهم العمالية علانية إلى سوفييتات وسوف يستولون على السلطة. لكن ذلك إحتمال مستبعد للغاية في كل البلدان الأوربية تقريبا، بإستثناء حالة إسبانيا وحتى في هذه الحالة ينبغي الحذر بشدة.


--------------------------------------------------------------------------------

7. المركزة
نواجه هنا ظاهرة تكتسي أهمية بسيكولوجية بالغة قلل لينين من قيمتها، بلا ريب، عندما سعى إلى نقل عدد من تجارب الثورة الروسية إلى أوربا الغربية: الطبقة العاملة بأوربا الغربية ممركزة منذ أمد طويل داخل منظمات عمالية ونقابية وسياسية. وعندما كان يحل الرفيق بوساداس Posadas بأوربا وينتقد العمال بقوله: "هل تعرفون؟ عليكم أن تتعلموا كيف تتمركزون"، كان يلقنهم مسألة أدركوها منذ 75 سنة.

فالتجربة التي عاشها العمال مزدوجة و سلبية جزئيا للأسف: أكيد أن المركزة تزيد من القوة لكن الشكل الملموس للمركزة قوى البيروقراطية، وكلما تمركزت حاليا منظمة جماهيرية كلما تبقرطت.لاتوجد بأوربا برمتها حالة تعكس هذه القاعدة.

والحال أننا وضحنا، إلى حد بعيد، أن المسألة الإيجابية بحق في إضراب عام، هي أنه يحرر قوى الإستقلال الذاتي العمالي القادرة على تقويض الرقابة البيروقراطية على الطبقة العاملة والحركة العمالية. من المحتوم تقريبا أن ذلك الإستقلال الذاتي العمالي سوف يتميز في البداية بدرجة مهمة من اللامركزة، ، إن ذلك انتفاض ضد البيروقراطية أكثر مما هو ضد البرجوازية ودولتها؛ غير أن المسألتين، وبقوة الأشياء، مترابطتان إرتباطا وثيقا.

ذلك يعني أن السعي لمركزة المبادرات التي سوف تتخذ لن تكون أمورا بديهية سوى عبر خطاب يتبنى التروتسكية أو داخل مدرسة للأطر. لنأخذ مثالا من الثورة الإسبانية ( يتعين غالبا الرجوع إليها لأنها التجربة الأغنى التي شهدناه في الدول الإمبريالية حتى الآن): إن الهيئات المشابهة للهيئات السوفياتية التي أسسها العمال عفويا خلال الأيام الأولى للثورة ما كانت تحمل نفس الإسم بمختلف المدن: ففي كاتلونيا حيث كانت الحركة أكثر تقدما، سميت بشكل عام " لجن الميليشيات الشعبية" ( ليس في كل مكان). و في مناطق أخرى بالبلد، سميت على وجه مخالف بـ " لجنة الإنتاج" و" لجنة محلية" و"لجنة المعمل" و" مجلس عمالي" و "لجنة الجبهة الشعبية"، إلخ. ما كان الإسم مسألة شكلية فحسب،إنه يخفي وظيفة مختلفة وتشكيلة مختلفة ووعيا ذاتيا مختلفا باختلاف من أطلقوه ومن يمثلهم. أما توحيد تلك اللجن برمتها خلال 24 ساعة خلال مؤتمر وطني، فما كان مستحيلا وحسب بل ولم يتحقق أبدا وما كان ذلك صدفة!

أود أن أشير إلى بعض الطرق التي قد تحرز عبرها تلك المركزة تقدما:

1) ثمة طريق هام للغاية، يتمثل في الطريق الإقتصادي الذي تناولته سابقا: حين يتم الانتقال إلى الإضراب النشيط، هناك داخل منطق الإضراب النشيط قوة مركِزة هائلة علينا أن نشددد عليها. من المستحيل استئناف الإنتاج داخل مقاولة دون ربط علاقة مع مقاولات النقل والمواد الأولية والتوزيع والطاقة. ثمة إذن قوة مركزة وتنسيق تخلق بشكل آلي تقريبا. تلك حجة إضافية للإشارة إلى أهمية الإنتقال إلى الإضراب النشيط لتحويل إضراب عام إلى منطلق سيرورة نحو الثورة الإشتراكية.

2) عامل آخر مهم للغاية نميل إلى التقليل من أهميته وهو مركزة وسائل الإتصال. لم تعد المراكز التي تشكل عصب المجتمع تلك التي كانته قبل 60 عاما. لم تعد محطات القطار مراكز عصبية. كان الإستيلاء على محطات القطار فكرة منطقية بالنسبة للعمال سنة 1917، أما اليوم، وفي العديد من البلدان، فلم يعد لذلك أية أهمية. المراكز العصبية اليوم هي مراكز وسائل الإتصال والراديو والتلفزة وما يرتبط بها: المطبعات ( يتعين عدم الإستهانة بها لاسيما تلك التي يجري فيها طبع الأموال) والأبناك والبريد إلخ....إذا تفحصنا هذه العناصر فإننا نرى قوى المركزة التي قد تخلقها خلال إضراب عام.

ومن وجهة نظر إمكانية قيام ثورة إشتراكية، فإن منعطف إضراب ماي 68 العام ما أدركه أحد تقريبا: حين استولى العمال على كل المقاولات خلال الأيام الأولى للإضراب وفرضوا عليها رقابة، بما في ذلك مقاولات الإتصالات اللاسلكية، لم يبق ولا هوائي antenne للإتصالات اللاسلكية بباريس لم يراقبه المضربون- حتى هوائيات الإتصالات اللاسلكية التابعة لوزارة الداخلية ووزارة الدفاع الوطني. لكن التدخل العسكري الوحيد الذي قامت به الحكومة الديغولية كان بغية تحرير هوائي بباريس لصالح وزارة الداخلية: كان تدخل 100 من رجال الشرطة CRS كافيا. لو كانت هناك قيادة أخرى للإضراب – باستحضار "لو" يمكن طبعا القيام باشياء أخرى كثيرة- لو كان العمال يملكون وعيا آخر، ولو أدركوا الأهمية الحاسمة للأمور، لواجهوا حجز ذلك الهوائي. والحديث عما كان سينتج عن هكذا مقاومة- ظافرة دون شك- ليس له أية فائدة.

علينا أن ندرك أن درجة الشلل التي يفرضها إضراب عام على الدولة البورجوازية، في ظل إجراءات مركزة من النوع الذي تحدثنا عنه، تفوق نوعيا كل ما شهدناه من قبل. هذه أحد السمات الأكثر إستعصاء على فهم الذين ينتقدون التكنلوجيا المعاصرة إنتقادا خاطئا أحادي الجانب ويعتبرونها فقط قوة اضطهاد واستغلال– وهي بالفعل كذلك في ظل النظام الرأسمالي- والذين لا يدركون أن التكنولوجيا بالذات تجعل المجتمع البورجوازي أكثر قابلية للعطب أمام نضال الأجراء الموحد والمعمم.

كيف كان القمع البورجوازي منذ 50 أو 60 سنة؟ كان يتم عبر إطلاق بضعة آلاف من المرتزقة المسلحين على السكان. خلال تلك الفترة، كان الخيار وحيدا: مواجهة السلاح بالسلاح. لكن المجتمع الحالي أكثر قابلية للعطب، إذ هناك وحدات متحركة بإتقان لكن متصلة برمتها بالراديو والتليكس إلخ... مع عدد محدود جدا من المراكز العصبية. هكذا تنتقل المركزة بعد حجز هوائيات وسائل الإتصال برمتها وبعد وضع حد لإمكانية التواصل، إلى معسكر البروليتاريا والثورة وتنزع المركزة كليا من الثورة المضادة.

خلال الأيام الأولى للإضراب العام في ماي 68، وصلنا إلى وضع حيث ما عاد وزير الداخلية يتوفر على أية وسيلة للإتصال مع الولاة. وبلغ الوضع مرحلة تثير الضحك لكون الكتاب والضاربين على الآلات الكاتبة والمستخدمين و موظفو الولاة أضربوا عن العمل. فالمسألة ما عادت تتعلق بعدم إمكانية اتصال وزير الداخلية مع الولايات فحسب بل أن ذلك ما عاد يجدي نفعا: يتعين الإتصال مباشرة مع الوالي أو أحد مساعديه لتبليغ خبر ما.

إنه لمن الاهمية بمكان إدراك الدور الحاسم لهذه المراكز العصبية، أي وسائل الإتصال، في نقل المركزة لمعسكر العمال وشل معسكر البورجوازية والثورة المضادة. إن الإضراب السلبي المتحول إلى إضراب نشيط في تلك المجالات هو مركزة أوتوماتيكية. تصوروا التحول إلى الإضراب النشيط خلال إضراب عام يشنه مستخدمو قنوات الراديو والتلفزة يعني ذلك أن قنوات الراديو والتلفزة في خدمة الإضراب مع قوة مركزة لا يمكن وصفها. تدرك الثورة المضادة ذلك بالطبع: استهدف كل عصيان مسلح مضاد للثورة خلال الخمسة عشرة (15) سنة الأخيرة الإستيلاء قبل كل شيء على قنوات الراديو. كانوا يدركون أن تحكم الشعب والعمال في قنوات الراديو والتلفزة سيمنح قوة جبارة لمركزة سلطة عمالية.

أكيد يمكن استخلاص دروس للمستقبل: فحول تلك المراكز العصيبة سيقع أول امتحان للقوى. سوف لن تتسلى قوات الدرك ببلجيكا بادىء ذي بدء بطرد مضربي Cockerill أو ACEC - سيكونون مصابين بالجنون لو كانت تلك أولويتهم. لن يتمركزوا كذلك حول محطة القطار Waremme أو محطة قطارالحدود Haine-Saint-Pierre. بل سوف يتجهون إلى المراكز الكبرى لوسائل الإتصال وقنوات الراديو والتلفزة البلجيكية والبريد والبنوك الكبرى: فهناك سيتقرر المجرى العام للاحداث خلال المرحلة اللاحقة.

وحول مسألة الدفاع الذاتي عن هذا النوع من المؤسسات التي، بسبب طبيعتها، تعني انتقال جزء هام من السلطة من معسكر إلى آخر ،يمكن أن يرتقي وعي عدد أكبر من جمهور العمال إلى مستوى إدراك ضرورة عدد من الأمور التي لا يجري إدراكها حين تطرح بطريقة عامة مجردة.


--------------------------------------------------------------------------------

8. وفاء وإخلاص الطبقة العاملة تجاه المنظمات التقليدية ومسألة الإستيلاء على السلطة


يتعلق الأمر بالتمفصل بين كل ما تحدثت عنه حتى الآن بخصوص تطور ازدواجية السلطة الناتجة عن الإضراب العام من جهة وبين الوفاء السياسي التقليدي للطبقة العاملة من جهة أخرى والمفضي إلى مسألة الصيغة الحكومة الإنتقالية الشهيرة. هكذا يواجهنا التناقض الأساسي في شكله الأكثر وضوحا وحدة.

موضوعيا، تطرح مسألة الإضراب العام مسألة السلطة السياسية. موضوعيا تشكل لجان الإضراب المنظمة في اتحاد فيدرالي هيئات ازدواجية السلطة. موضوعيا فلجن إضراب، منظمة في اتحاد فيدرالي شرع في تقلد سلط تتجاوز مجرد تنظيم الاضراب، تبدأ في التصرف كهيئات سلطة. لكن كل ذلك للأسف منسجم مع الظاهرة الأخرى المتمثلة في أن أغلبية العمال الذين انتخبوا تلك اللجن ودعموها يستمرون علاوة على ذلك في مساندة أحزاب إصلاحية تظهر ميزتها المناهضة للثورة بطريقة أكثر ضررا خلال تاريخ الحركة العمالية، خلال وضعية من ذلك النوع بالضبط.

أن حكم التاريخ بهذا الصدد واضح على الإطلاق فقد حدث ذلك كل مرة. هكذا انتخب العمال الروس سوفييتات في كل مكان في فبراير-مارس 1917 واختاروا فيها أغلبية تتشكل من المناشفة والإشتراكيين الثوريين اليمينيين، أي الإصلاحيين. وانتخب العمال الألمان في كل مكان في نونبر 1918 مجالس عمالية واختاروا فيها أغلبية تتشكل من الإشتراكيين الديموقراطيين. أسس العمال الإسبان مجالس في كل مكان بإسبانيا في يوليوز 1936، لكن كانت الاغلبية العظمى من أعضاء تلك اللجان تتشكل من إشتراكيين ديموقراطيين وفوضويين وأعضاء الحزب الشيوعي، يعني أعضاء منظمات ما كانت تدرك طبيعة ازدواجية السلطة، لكي لا نقول ضرورة إستيلاء تلك اللجن على السلطة. علينا إذا إدراك ذلك التناقض الذي لايمكن نفيه بواسطة أقوال.

لا يكننا قول أنه "طالما لم يقطع العمال بشكل واع مع الإصلاحية، فلن يشكلوا قط سوفييتات". فتلك الفكرة كذبها التاريخ. كما لا يمكن قول أنه: " طالما لم يقطع العمال مع الإصلاحية فعليهم ألايشكلوا سوفييتات"، تلك الفكرة هي تقريبا نظرية الماويين. لانه فقط عبر تشكيل سوفييتات وفي ظل وضع ثوري تتمكن أغلبية العمال من القطع مع الإصلاحية. هناك تكمن إذا الصعوبة الحقيقية، التناقض الحقيقي الذي يجد تعبيره الأكثر وضوحا في مسألة السلطة.

لأنه لا يمكن إقناع العمال أن على تلك الهيئات استلام كل السلطات، إذا عارضت تلك السلطة الأحزاب التي مازالوا أوفياء لها. إنه من الوهم كذلك توقع أن ينتهي الأمر بتلك الأحزاب إلى الإستيلاء على السلطة تحت ضغط العمال. لا يمكن نفي هذا الإحتمال الهامشي مسبقا وبشكل نهائي لكنه مستبعد للغاية، أما بالنسبة لأوربا الغربية فإنه غير وارد. حتى الآن قدمت الحركة العمالية حلان للخروج من ذلك التناقض. يظل ذانك الحلان وهما مقترحان لحل المسألة، وحدهما الصحيحان.

1) على المستوى الدعاوي، هناك تكتيك البلاشفة المشهور والكلاسيكي سنة 1917 الذي يقول للعمال: "أنتم منظمون داخل مجالس عمالية، وتتوخون أن تستولي على السلطة. علاوة على ذلك مازالت لديكم أوهام داخل الحزب الإشتراكي-الديموقراطي. طالبوا حزبكم بأن يستولي على السلطة في إطار السوفييتات".

أصر على أن تحريضا من هذا القبيل له دينامية مختلفة تماما، في وضعية ثورية حيث توجد مسبقا هيئات ازدواجية السلطة، عن دينامية تكتيك يدعو العمال بالتصويت لصالح الأحزاب العمالية، وعن تكتيك مطالبة الحزب العمالي للوصول للسلطة ببريطانيا عبر الإنتخابات؛ فهذا التكتيك الاخيرمفيد لأهداف دعاوية لكن ديناميته مختلفة. أعتقد أنه لا مناص لنا مستقبلا من المرور عبر نفس الطريق. لكن الإحتمال الوحيد حيث يكون بالإمكان تلافي المرور من تلك المرحلة هو أن تشكل المنظمات الثورية منذ البداية أغلبية داخل الطبقة العاملة، لكن ذلك احتمال غير وارد ونعتبره مستبعدا إن لم يكن مستحيلا في السنوات القادمة.

غير أنه يتعين الاحتياط للصياغة الدقيقة لذلك الشعار الحكومي الإنتقالي بحيث ينسجم مع حقيقة الوفاء السياسي للطبقة العاملة، فهذا الوفاء قابل للتغير. هناك حاليا بأوربا الغربية ميل - ربما لاحظنا ذلك ببلجيكا قبل رفاقنا بالبلدان الأخرى- متمثل في تحول وفاء الطبقة العاملة من الأحزاب التقليدية الهرمة نحو النقابات. تجسد نقابة FGTB الشكل الإصلاحي التقليدي الكلاسيكي ببلد كبلجيكا أكثر بكثير من PSB(الحزب الاشتراكي البلجيكي)، وتجسده بإيطاليا النقابات أكثر بكثير من الحزب الشيوعي، إن لم نقل الحزب الإشتراكي الديموقراطي.

ينبغي عند صياغة الشعار الحكومي استحضار الثقل الحقيقي للنقابات. وفي بعض الحالات، المنظمات النقابية حتى قبل المنظمات السياسية التقليدية. نتذكر أننا ببلجيكا، خلال مرحلة كلها إبتداء من الإضراب العام سنة 1960، تبنينا كشعار حكومي انتقالي شعار" حكومة عمالية مرتكزة على النقابات". كان ذلك منسجما مع واقع الطبقة العاملة والحركة العمالية ببلجيكا. لايجب تقديم أحكام مسبقة حول المستقبل، فهذه المسألة ملموسة للغاية وتتغير بتغير واقع الطبقة العاملة ولا يمكن الاجابة عنها انطلاقا من مخطط أو نص كتب منذ 40 سنة بل من خلال الواقع الملموس للمرحلة التي نتواجد فيها بكل بلد.

2) الوجه الآخر لحل ذلك التناقض، هو الوجه التنظيمي. حين يتعلق الأمر بأزمة ثورية حادة، وعندما يشن إضراب عام يشل البلد برمته وتأسس هيئات ازدواجية السلطة، فإنه يجري تجميع بسرعة فائقة وإعادة تشكيل بسرعة فائقة داخل الطبقة العاملة والحركة العمالية. يشكل ذلك اللحظة الملائمة للنزعة الوسطية في تاريخ الحركة العمالية. تبرز قوى وسطية ذات آفاق متابينة، ذات منطلقات متفاوتة تتقاسم ، بشكل عام، قاسما مشتركا بسرعة بالغة خلال النضال، قاسم مشترك إيجابي- غير أني لا أتحدث هنا عن الوسطية بالمعنى السلبي بل الإيجابي لأن الأمر يتعلق بالقوى التي تنطلق من الإصلاحية نحو الثورة.

تشكل مهمة خلق وحدة عمل بين الثوريين والوسطيين حول بعض المسائل الرئيسية لإرساء السلطة العمالية المهمة التنظيمة الأكثر أهمية. خلال الثورة الإسبانية تعلق الامر باليسار الفوضوي واليسار الإشتراكي والحزب العمالي للتوحيد الماركسي(POUM) والتروتسكيين. وخلال الثورة الألمانية بين يسار الحزب الإشتراكي المستقل والحزب الشيوعي وبعض القوى الفوضوية-النقابية. و خلال الثورة الروسية بين الحزب البلشفي ويسار الحزب الإشتراكي-الثوري.

طبعا، فالوضعية الأمثل هي التي يهيمن فيها الحزب الثوري منذ البداية داخل ذلك التجمع، إذ لن تكون هناك مشاكل كثيرة، في هذه الحالة يمكن الاقتداء بمجريات الاحداث في روسيا. لكني أسمح لنفسي بتقديم توقع متشائم؛ فأنا لا اعتقد أن ذلك سيتكرر غالبا بأوربا الغربية. لا أقول ذلك نتيجة لتشاؤم تلقائي ولكن لأن الوضع الإستثنائي بروسيا كانت نتاج ماض يتعين تفسيره: تمكن الحزب البلشفي من بسط هيمنته داخل أقصى اليسار الروسي لأنه كان يهيمن مسبقاعلى الطبقة العاملة برمتها عشر سنوات من قبل.

فعشية الحرب العالمية الأولى كان الحزب البلشفي يبسط هيمنته على الحركة العمالية الروسية سواء إنتخابيا أوصحفيا أو نقابيا أومن حيث عدد الأعضاء. هناك تحقيق مشهور أجراه إميل فندرفالد Emile Vandervelde أحد ألد أعداء البلاشفة الذي حل بروسيا بإسم مكتب الأممية الإشتراكية خلال بداية 1914 اعترف فيه أن البلاشفة أغلبية من جميع النواحي داخل الطبقة العاملة الروسية.

فما جرى في روسيا مسألة تختلف كليا عما يوجد حاليا بأوربا الغربية. إذ أن التيار الثوري الذي بسط هيمنته داخل الطبقة العاملة الروسية عندما كانت تلك الأخيرة أقل فعالية، فقد هيمنته مؤقتا حينما امتد التيار الثوري نحو الشعب برمته في فبراير-مارس 1917 وبسطها مرة ثانية بسرعة كافية بعد ستة أشهر. كان بإمكانه القيام بذلك لتوفره على أطر داخل كل معمل ولمكتسبات انغراسه وسط الطبقة العاملة.

ليس هذا حال الطليعة الثورية حاليا بكل بلدان أوربا الغربية. في ظل هذه الشروط، ورغم ماقد يتيحه صعود ثوري ورغم الإعتقاد أن قوانا ستتضاعف عشرة مرات أو حتى خمسين مرة وهو أمر ممكن في ظل هكذا صعود، فإنه من المستبعد أن نكون، على الفور، أقوى من التيارات الوسطية المنبثقة عن التيارات الجماهيرية الكبرى. كان الحزب الشيوعي الألماني يضم سنة 1919 و1920 حتى مؤتمر هال 15000 إلى 25000 عضو ويسار الإشتراكيين المستقل 300000 إلى 500000 عضو. ذاك كان ميزان القوى. أما في إسبانيا كان الـ POUM - مع كل الإنتقادات التي يمكن إصدارها في حقه- والتروتسكيون يضمان 4000 إلى 6000 عضو واليسار الإشتراكي والفوضوي 200000 إلى 300000 عضو. إنه نفس ميزان القوى.

من المستبعد مستقبلا مشاهدة موازين قوى مختلفة جذريا في بداية صعود ثوري. ذلك يعني أن تفادي كل عصبوية اتجاه تلك التيارات اليسارية مسألة حيوية لانتصار الثورة وأنه يتعين إيجاد الأشكال التنظيمية لخلق جبهة موحدة للثوريين داخل الجبهة الموحدة للمنظمات العمالية. عندما اقول جبهة موحدة للثوريين، أعني جبهة حزب الثوريين وبين الوسطيين فكل الذين لم ينخرطوا في الحزب الثوري هم، بالتعريف، وسطيون.

تجسدت تلك المسألة بفرنسا في ماي 1968: إذ جرى نوع من جبهة موحدة. وهي التي اتخذت كل المبادرات النضالية من مظاهرات ضخمة وإجتماعات إلخ...ولعب رفاقنا فيها دورا نموذجيا وبدون أية عصبوية. تشكل تلك المرحلة بداية إختراقهم لأقصى اليسار الفرنسي كقوة مهيمنة سياسيا. أعتقد أن ذلك ما يتعين علينا تطبيقه. لكن ذلك لم يتحقق بإيطاليا على سبيل المثال. خلال الصعود الكبير للإضرابات سنة 1969 لم تنجح مختلف المجموعات والمجموعات الصغيرة الثورية مطلقا في تشكيل حد أدنى من جبهة موحدة بينها. وهو ما تعمل عليه حاليا وفي ظل مرحلة تراجع وبشكل يميني، لكن ذلك كلاسيكي. نتج عن ذلك عواقب وخيمة بإيطاليا.

استشهد بالمثال الأكثر فجاعة. حينما تشكل مجلس ممثلي العمال بفيات Fiatفي أواخر 1969 بمبادرة من مجموعات أقصى اليسار، شارك في مؤتمر عمالي وطني 3000 عامل ثوري، أما رفاقنا الذي كانوا أقلية صغيرة فقد صارعوا "حتى الموت" لدفع الثوريين للمبادرة لنقل تجربة "فيات" داخل مقاولات إيطالية أخرى. كانت هناك إمكانية للقيام بذلك لأن القوى الموجودة كانت قادرة على ذلك. لكن كل المجموعات الماوية والعفوية عارضت ذلك بعد الإدلاء بحجج غبية ونموذجية في يسراويتها: " كلنا مندوبون" " لا نحتاج إلى مندوبين" " نتوخى تحرير الجماهير"، إلخ. ماذا كانت النتيجة؟ تمكنت البيروقراطية النقابية من تعميم تكوين لجن محل الطليعة الثورية واسترجعت بذلك رقابتها على الحركة التي كان الإفلات كليا من قبضتها ممكنا. وكانت النتيجة المنطقية: نفس الذين كانوا يصيحون سنة 1969 " كلنا مفوضون" يساندون حاليا البيروقراطية النقابية في مناورتها لإدماج المجالس العمالية داخل الجهاز النقابي.

يبين ذلك المثال كذلك أن النضال لأجل تكوين جبهة موحدة لأقصى اليسار في إطار النضال لأجل تكوين جبهة عمالية موحدة، يستلزم التخلي عن العصبوية، ولكن أيضا عدم الإصطفاف الميكانيكي والتبعي حول المواقف اليسراوية والإنتهازية التي قد تدافع عليها مختلف التيارات داخل تلك المجموعة.

ما هي حظوظ الثوريين؟ سوف أقدم بعض الأمثلة التاريخية. إن تجميع يسار الحزب الإشتراكي المستقل والحزب الشيوعي سنة 1922 قد أتاح الحصول على الأغلبية داخل نقابة عمال الصناعة المعدنية بألمانيا، بما في ذلك الأغلبية داخل القيادة (أكبر نقابة ألمانية). في شهر شتنبر-أكتوبر 1936، حصل الـ POUM ويسار الفوضويين النقابيين واليسار الإشتراكي على أغلبية مطلقة وسط لجان الميليشات بكطلونيا. إذا كنا ننتقد POUM أو القيادة اليمينية للحزب الشيوعي الألماني خلال 1922-1923، فليس لكونهم مروا من تلك المراحل للحصول على الأغلبية داخل الطبقة العاملة بل لأنهما لم يستفيذا من تلك الفرص السانحة لطرح مسألة السلطة وحلها. ليست هناك وسائل أخرى لحل تلك المسألة، ولا يمكن حلها بأقلية صغيرة ضد أغلبية الطبقة العاملة بالبلدان الإمبريالية.


--------------------------------------------------------------------------------

9. التسليح العمالي والدفاع الذاتي


حتى حينما يتوفر أقصى اليسار مسبقا على أغلبية داخل المجالس العمالية، وحتى عندما تكون البرجوازية ضعيفة وغير منظمة، وحتى عندما تنتقل الطبقات الوسطى أكثر فأكثر إلى جانب الطبقة العاملة لاعتقادها أن هذه الأخيرة ستنتصر - يشكل كل ذلك مميزات لأزمة ثورية تنضج- فإن مسألة الإستيلاء على السلطة لن تحل دون حل مسألة التسلح. ولمسألة التسلح سمتان يتعين الربط بينهما لحلهما:
1) مسألة تسليح الطبقة العاملة.
2) مسألة تفكك الجيش البرجوازي.
ترتبط المسألة الأولى بالثانية إرتباطا وثيقا. بدون بداية تسليح الطبقة العاملة، فإن تفكك الجيش البرجوازي لن يتجاوز عتبة دنيا. لقد قال تروتسكي في هذا الموضوع كل ما كان يتعين قوله، كل ما هو كلاسيكي حول قوة الإنضباط وسط الجيش البرجوازي، الذي لن يتفكك كليا إلا حين يجد الجندي الفرد حماية، بما في ذلك حماية عسكرية في موضع آخر، هذا من جهة. من جهة أخرى، فإن الدفاع الذاتي العمالي لن يتجاوز عتبة أدنى معينة بدائية بما فيه الكفاية إذا لم يتفكك الجيش البرجوازي على نطاق واسع.

ينبغي كذلك إدراك أن هذه المسألة سياسية وليست تقنية. كل من يحاول طرح تلك المسألة على أنها مسألة تقنية سوف ينتهي عاجلا أو آجلا بإعلان أن الثورة مستحيلة. ذلك هو موقف ريجيس دوبري بعد إستخلاص الدروس من الثورة الشيلية: " إننا لا نتوفر على عدد كاف من الربابنة ( من يستطيع تكوين ربابنة؟ -إرنست ماندل). ما كان عدد كاف منهم سنة 1973 ولا سنة 1972 ولا سنة 1971. فلو شرعنا في تسليح العمال باكرا لقصف الطيارون من قبل". في آخر التحليل ذاك هو تحليل الستالينين خلال النقاش الذي دار بيننا وبين قياديي الحزب الشيوعي البلجيكي "ما وقع كان حتميا". لا أريد الخوض في مسألة الشيلي، لان ذلك ليس موضوعنا.

كان هناك نقاش مماثل، أكاديمي طبعا، حول ما قد يحدث في ماي 1968 لو دأب العمال على طرح مسألة السلطة. إن المسألة الأساسية هي مسألة سياسية وليست تقنية. وهي مسألة صعبة للغاية يتعين إدراك صعوبتها، وكل الذين يتقدمون بحلول تقنية إنما يحاولون تجاوز الصعوبة بالهروب إلى الأمام.

أين تتجلى الصعوبة؟ إنها نفس الصعوبة التي أشرت إليها من قبل بخصوص البرلمان. تماشيا مع تقاليد الحركة العمالية بأوربا الغربية -بإستثناء محتمل حول حالة إسبانيا - فإن العمال ليسوا مستعدين لحمل السلاح. يبدو لهم ذلك فكرة لاعلاقة لها بواقع تجربتهم. إنها مبتورة فعلا، ليس هناك أدنى شك في ذلك! يتعين إذا إيجاد الوسائط الضرورية لإدخالها في تجربة وإدراك العمال. تلك أهمية مسألة الدفاع الذاتي ومسألة النضال ضد الفاشية والتجارب الواضحة لفرق المضربين وأهمية توسيع هذه التجارب. لأنه عبر تلك التجارب فقط يغدو ذلك أكثر واقعية بالنسبة لجمهور أوسع. لن أتطرق لمسألة إعداد الأطر ودور المنظمة الثورية في هذا الموضوع فقد كتب عنها ما يكفي. فالعدو هو بالذات من يقلص جزئيا من درجةالصعوبة الكبيرة للغاية لهذه المسألة.

إذا سلكت البرجوازية ودولتها سلوكا سلبيا تماما بخصوص الإضراب العام المرفوق باحتلال المعامل وبمجالس عمالية وببداية تنظيم العمال الإنتاج بأنفسهم وبالإستيلاء على وسائل الإتصال؛ في هذه الحالة سوف لن يرتقي الوعي كثيرا نحو طريق حمل السلاح. لكن سوف ندرك بعد تلخيصنا لتلك الظروف برمتها أن ذلك مستبعد: إذ أن ردا سريعا جدا للبرجوازية حتمي قطعا، يتخذ، في البدء، شكل إستفزاز مسلح ثم يصير أكثر فأكثر شدة. إن مسألة دور الطليعة الثورية ضروري لفهم هذه التجارب وخلق طفرة في وعي العمال وفي تنظيمهم على أرضية الدفاع الذاتي المسلح.

هكذا يواجه الإضراب العام مع الإستيلاء على المعامل وولادة هيئات ازدواجية السلطة، الوضعية التي تطرح فيها الإنتفاضة والإستيلاء على السلطة على جدول الأعمال. إن إعداد الثوريين بهذا الشأن هو إعداد سياسي أساسا، أما الوجه التقني للمسألة فلا ينبغي التغاضي عنه لكنه ثانوي.

لم تفشل الثورات برمتها بأوربا الغربية خلال الخمسين سنة الأخيرة لأن الإعداد التقني غير كاف بل لوجود ثغرات على المستوى السياسي. إن نجاح الطبقة العاملة الإسبانية في نزع سلاح كل التكنات بالمدن الكبرى لايعود لتوفرها على تقنيات متطورة للغاية، بل لأنها استطاعت تنظيم هجوم ضخم وهائل. أما فشلهم في الإستيلاء على السلطة، فليس لأن الوسائل التقنية التي يتوفرون عليها في يوليوز انعدمت في شتنبر، ولكن ببساطة لافتقارهم لفهم سياسي بخصوص الطليعة والقيادة السياسية حول هذا الموضوع.

أريد أن أختتم باستعراض مثالين عن الثورة الألمانية؛ أعني المرحلتين اللتين طرح فيهما الإستيلاء على السلطة بشكل ملموس. المثال الأول مرتبط بالإضراب العام ضد المحاولة الإنقلابية للجنرال كاب Kapp سنة 1920؛ فقد أفضى الشعور الذي أثارته المحاولة الإنقلابية و فشلها بعد ثلاثة أيام من الإضراب العام، إلى طرح الحزب الإشتراكي الديموقراطي وخصوصا النقابة، للمرة الأولى والوحيدة بألمانيا، لمسألة الحكومة العمالية.

أطلق لوجان Legin، الكاتب العام للنقابة الألمانية مسألة تأسيس حكومة تتشكل من النقابات والحزب الإشتراكي الديموقراطي وحزب الإشتراكيين الديموقراطيين والحزب الشيوعي. واقترف الحزب الشيوعي خطأ فادحا لأنه لم ينتهز الفرصة لخوض حملة تحريضية من اجل التطبيق الفوري لذلك المطلب. لاسيما أن العمال كانوا مسلحين من جديد في جزء من ألمانيا (الروهر والساكس (Ruhr et Saxe لمواجهة المحاولة الإنقلابية. خلال تلك الفترة المحددة، كان من الممكن خلق إختراق.إن ما أفضى إلى تضييع هكذا فرصة ليس انعدام الأسلحة والقوى التقنية بل غياب التبصر السياسي.

يتعلق المثال الثاني بمرحلة شتنبر-أكتوبر 1923. لا يسمح الوقت بالحديث مطولا عن سنة 1923 التي تشكل منعطفا في تاريخ أوربا. في صيف 1923، أطاحت الطبقة العاملة الألمانية، من خلال الإضراب العام، بحكومة المستشار كونو Kunoالمحافظة. في تلك المرحلة انشغل الحزب الشيوعي بالحصول على الأغلبية وسط النقابات الكبرى وداخل عدد كبير من مجالس المقاولات. كان مشروع أحد قادة الحزب الشيوعي، براندلير Brandler، هو الإستيلاء على السلطة. كان مشروعه محفوفا بالصدف لكنه ليس أبلها. إنه مشروع مقسم على ثلاثة مراحل. بادئ ذي بدء، يشكل الحزب الشيوعي حكومة ائتلاف داخل إقليمين وهما الساكس Saxeوتورانج Thuringeمع اليسار الإشتراكي. ثانيا: يوظف المواقع وسط تلك الحكومات لتشكيل ميليشيات عمالية مسلحة. ثالثا: يعتمد على هذا " الحرس الأحمر" للإعداد للإنتفاضة داخل ألمانيا برمتها.

طبعالم يكن ذلك المشروع سريا، فالكل علم بذلك بما فيه البرجوازية، إذ نوقش علانية في صحف الحزب. لكن ما كان يجعل النقطة الثانية عرضة للهجوم هوبالطبع أن البرجوازية سوف تواجه بمجرد ما سوف يطبق الوزراء الشيوعيون عملية تسليح العمال، وذلك ماحصل! ما إن جرى اتخاذ أول إجراء: تأسيس "الحرس الأحمر"، حتى دخل رايشير Reichwehr إلى ساكس Saxe وتورانج Thuringeوحل الحكومتين معا. تلك سمة تقنية من سمات المسألة، وبإمكاننا مناقشتها.

ما هي حاليا السمة السياسية الحاسمة من بعيد؟ لقد كانت ساكس Saxeوتورانج Thuringeإقليمين يحكمهما وزراء أولين منتميان لليسار الإشتراكي-الديموقراطي، وكانت النقابات تساند الحكومتين مساندة كلية. شكل الهجوم العسكري على تانك الحكومتين إهانة وإعتداء على الحركة العمالية المنظمة بألمانيا. كان من الممكن الاستفاذة من ذلك النجاح التكتيكي، الثانوي مع ذلك، بالإقليمين، شرط أن يكون قد تم إعداد الحزب الشيوعي والطليعة العمالية، بشكل منهجي، لدخول غمار امتحان القوى على المستوى الوطني، بما في ذلك على مستوى التسليح.

لكن الرفيق براندلير لم يقم بذلك. إذ أنه كان مترددا حول تلك المسألة ولاسيما حول إدراك ما إذا كان الوضع ملائما لامتحان القوى. لقد واجه الصعوبة على الطريقة الكلاسيكية للوسطية: هكذا دعا إلى عقد مؤتمر للمجالس العمالية ولجن المعامل وطرح عليه السؤال التالي: "هل أنتم مستعدون لمقاومة الرايشير Reichwehr بحمل السلاح؟ كان الجواب معروفا سلفا. لكن علي أن أخبركم، لأن ذلك دليل على النضج المميز للوضع، أن حوالي 40% من المؤتمرين أيدوا فكرة المقاومة المسلحة في مؤتمر من هذا النوع.

كان تروتسكي قد لخص الوضع بقوله: " إذا تردد جمهور من المناضلين العمال أمام قائد متردد بدوره يقول لهم: " أنا مستعد لإتباعكم، ما هي المبادرات التي سوف تتخذونها؟ " على المرء طبعا ألا يأمل استيلاءهم على السلطة". طبعا كان لزاما أن تكون العلاقة معكوسة: قيادة حازمة للغاية قادرة على إقناع جماهير مازالت مترددة أنه ثمة مخرج وحيد وتحديد ذلك المخرج بشكل واضح واتخاذ مايلزم من مبادرات للسير نحوه. ذلك ما فعله البلاشفة سنة 1917. إن المسألة الحاسمة قطعا هي إعداد الشروط الذاتية الضرورية لتبني الطبقة العاملة بأغلبيتها لضرورة امتحان قوى حاسم ضد البرجوازية.

إن منطق هذا العرض برمته هوأن إضرابا عاما، إضرابا نشيطا، إضرابا عاما ينجم عنه انتخاب مجالس عمالية هو تحضير لدخول غمار هكذا امتحان قوى، وأن هناك مؤهلات كبيرة للغاية لظفر الطبقة العاملة. وأنه كلما كانت دولة ما مصنعة، كلما تقدمت تقنية السيرورات المجتمعية، كلما تزايدت مؤهلات الظفر بجانب معسكر الطبقة العاملة.

لكن العامل الحاسم في التحليل الأخيرهو أي من المعسكرين سيأخذ المبادرة العملية. إن أخذ المبادرة في الفعل، ولو ليوم واحد، ودحر العدو في لحظة حاسمة، يغير موازين القوى كليا. هنا تكمن الأهمية الحاسمة للحزب الثوري وللعامل الذاتي في تغيير مجرى التاريخ !