نقد الدين هو الشرط الأولي لعموم النقد


فؤاد النمري
2019 / 7 / 1 - 22:58     

نقد الدين هو الشرط الأولي لعموم النقد
Criticism of religion is a prerequisite to all criticism

هذا ما كتبه ماركس في العام 1844 في "مساهمة في نقد فلسفة الحق لدى هيجل" .
هذه القاعدة الماركسية تستحق الإستعادة في كل حين وخاصة بعد انهيار العوالم الثلاث الموروثة من الحرب العالمية الثانية وما تلا ذلك الإنهيار من إفلاس فكري وسياسي ما زل سائداً حتى اليوم وقد تمكن من عقول عامة السياسيين والمثقفين وخاصة شيوعيو البورجوازية الوضيعة وسدّ بالتالي مختلف آفاق التطور ليس في العالم العربي فقط بل وفي العلم كله، وهو ما استولد في العالم العربي ما يسمى ب"الصحوة الإسلامية" التي يفاخر بها المتأسلمون .
من أجل مقاومة ذلك الإفلاس برز عدد من الكتاب ينتقدون الإسلام إعتقاداً منهم أن الدين، والإسلام بشكل خاص، هو بعينه السبب في الإفلاس السياسي رغم أن العكس هو الصحيح . فالعوالم الثلاث الموروثة من الحرب العالمية الثانية – موروثة من الحرب وليس من الدين – انهارت قبل أن يكون هناك في الفضاء الفكري والثقافي تيار ديني ذو شأن في العالم، ومنه العالم العربي أيضاً، وهو ما يؤكد أن الدين لا يورث التخلف بل التخلف هو ما يورث الدين .
برز في فضاء الفكر في العالم العربي كتاب قصروا نقدهم على الإسلام، وهم الأفاضل كامل النجار وأحمد القبانجي وسيد ألقمني وضياء الشكرجي وسمير لبيب إعتقاداً منهم أن الإسلام والدين بشكل عام هو سبب التخلف .
اقتصر نقد هؤلاء الكتاب على نقد الدين الإسلامي بشكل خاص لأن ما يدعى بالصحوة الإسلامية ترافقت تماما مع شيوع الإفلاس السياسي ؛ ويُذكر في هذا المقام إنقلاب أنور السادات على النهج الوطني لعبد الناصر وتحوّله إلى الأسلمة بعد أن أفلس سياسيا واقتصاديا وأعلن أن 99% من أوراق القضية الوطنية لمصر هو في يد الولايات المتحدة – والباقي 1% بيده والشعب المصري لا دور له – وهكذا، أعلن السادات إفلاسه التام أولاً ثم تحول إلى الأسلمة وأخذ يسمي نفسه الرئيس المؤمن محمد أنور السادات .

الكتاب الأفاضل أعلاه انتهجوا في نقدهم الدين على التأكيد أن معظم الأفكار الرئيسية في الدين الإسلامي، وفي الدين بصورة عامة، تتناقض مع مختلف القياسات المعروفة . لكن هذا بحد ذاته ليس نقضاً للدين، فالدين هو دين لأن الأفكار الرئيسية فيه، وفي أي دين، تتناقض مع مختلف القياسات المعروفة ولولا ذلك لما أصبح ديناً . وعليه فإن الشرط الأولي للدين هو تناقضه مع القياسات في الواقع الدنيوي، ولذلك فنقد الدين بهذا النهج، بتناقضه مع القوانين العلمية والمعايير الدنيوية، لن يؤدي إلى نتيجة ولن يعمل على مكافحة التدين ومن ثمّ التخلف . المتدينون وعلى رأسهم قادة الإكليروس يعلمون تماماً أن الأفكار الرئيسية في الدين تناقض القواعد العلمية المعروفة ومع ذلك يؤمنون بها، يؤمنون بالله الرحمن الرحيم وهذا لا يمنعهم من الإيمان بأن ألله الرحمن الرحيم لديه أيضاً سعير جهنم يعذب فيه الملايين من خلقه إلى أبد الآبدين تعذيباً يفوق التصور الأمر الذي حدا ببابا روما الحالي فرنسيس إلى نفيه مؤخراً بالقول أن الله الرحمن الرحيم لا يمكن أن يكون بنفس الوقت سادياً على هذه الصورة الفظيعة المرسومة في الإنجيل قبل القرآن ؛ بل يصل الأمر بأئمة الأزهر، وهم يدرسون قواعد اللغة العربية في جامعة الأزهر ويمنحون الشهادات العليا في فقه اللغة العربية، ومع ذلك يسكتون سكوت الأموات على عشرات الأخطاء اللغوية الواردة في القرآن .
نقد الدين من داخل الدين واستعراض تناقضاته مع القياسات الدنيوية المعلومة كما هو نهج الكتاب الأفاضل أعلاه لا يقاوم التدين ومنه "الصحوة الإسلامية" بل الأحرى أنه يفاقم التدين لأن المتدينين صغارهم وكبارهم سواء بسواء ما عبدوا الله إلا لأنه ذو جبروت يتعدى كل الحدود والقياسات التي يعلمها البشر . ذلك هو سر العبودية، عبودية الإنسان لكائن جبار يتواجد خارج الطبيعة التي هي من خلقه وإدارته، وهو الله الذي يحيي ويميت ويبعث ببعض الأنام إلى نعيم الفردوس وبمعظمهم إلى سعير جهنم يذيقهم عذاباً يفوق التصور !!

ماذا لو علم الناس أن الله ذا الجبروت الهائل ليس مشغولا بتصرف الإنسان على كوكب الأرض في مجرة فيها مئات ملايين الشموس وآلاف ملايين الكواكب وهي إحدى مئات ملايين المجرات وأن الله الذي يدير كل حركة في هذه الأكوان التي لا حدود لها لا يمكن أن يستهين بشغله وبوقته ليتحسب أن زيداً أو عمرواً في كوكب الأرض استذكره بالشكر أم لم يستذكره، ماذا لو علم الناس كل ذلك !؟ - الإجابة المنطقية على هذا التساؤل الإفتراضي هي أن زيداً أو عمرواً لن يستذكرا الله على الإطلاق طالما أنه لا يستذكرهما وهما ليسا بحاجة إليه .
هذا ما يؤكد أن الدين ما كان ليكون لولا الخوف من سعير جهنم، والأحرى من القمع على يد الدولة، فالدين قد خُلق بدءاً كأداة للقمع بيد السلطة العليا ؛ فكان أول دين ظهر في التاريخ هو "الله الملك" !! فعندما قصرت أدوات القمع المتاحة لملك المدينة إدعى أنه هو بشخصه ليس مثل خليقة عبيده في المدينة بل هو "الله" الذي على السكان أن تطيع أوامره وتخشى غضبه فكان الفرعون هو الله. وقد تحدرت عبر التاريخ بدعة الله الملك حتى القرن العشرين فكان ملك اليابان هو الله وكان الدالاي لاما يقوم مقام الله لدى البوذيين في التبت . وانحدر الملك الإله عبر التاريخ ليكون الملك النبي كما كان النبي داؤود والنبي سليمان والنبي محمد ثم بعدها الملك الخليفة لدى العرب وذي الحق الإلهي في أوروبا، وانتهى الأمر ليكون رئيس الدولة هو الرئيس الديني كما في بريطانيا وفي مصر . الدولة لم ولن تتخلى عن الدين كأداة فعالة من أدوات القمع ولذلك فحالما نقل الكاتب ناهض حتر رسم كاريكاتير لإله الدواعش هب رئيس الوزراء في الأردن يأمر الشرطة بالإقتصاص الشديد من ناهض حتر وهو ما انتهى إلى اغتياله في المحكمة التي أمر بها رئيس الوزراء . وهكذا فالنتيجة التي تستوجب الخلوص إليها هي أن الخوف الشديد من عسف السلطة العليا هو الرحم الذي يتخلّق فيه الدين أكان سماوياً أم أرضياً .
أنا لا أدعو إلى الكف عن نقد الدين فنقد الدين هو الشرط الأولي لعموم النقد، بل أدعو لنقد مختلف ذي أثر فعال في واقع التدين المنفلت من عقاله باسم الصحوة الإسلامية . لم تكن ما يدعى بالصحوة الإسلامية إلا بعد أن بات الناس يخشون على مستقبلهم في الحياة بعد إنسداد كل الآفاق المحيطة إثر انهيار العوالم الثلاث خلال الربع الثالث من القرن العشرين، وخاصة انهيارالثورة الإشتراكية الذي بدأ في العام 53 حين تولى الجيش كل السلطة في موسكو وانقلب على الإشتراكية، إذّاك لم يكن أمام العرب غير "الإسلام هو الحل" وأمام الروس والسلافيين غير الرجوع إلى الأرثوذوكسية فيعمل مالنكوف بصالتي في الكنيسة بعد أن كان في العام 53 أمينا عاما للحزب الشيوعي السوفياتي، وأمام الأمريكان غير المسيحية الصهيونية .
مقاومة موجة التدين المتعاظمة فيما بعد الإنهيارات يجب أن تتركز على نزع الخوف من نفوس الشعوب القلقة على مستقبلها والشعوب الخانعة لعسف السلطة . الشعوب التي لا تخشى سلطات القمع ولا تخشى المستقبل لا تتدين . فبعد إلتحام أنوار عصر التنوير بالرأسمالية التجارية وانفتاح الآفاق أمام شعوب أوروبا الغربية فيما بعد القرن السادس عشر بدأت تلك الشعوب تتحرر من قيد الدين .

من الأخطاء الشائعة هي أن الدين، أي دين، إنما هو ركن من أركان البناء الفوقي الذي يتأسس على البناء التحتى الذي هو وسائل الإنتاج . في الحقيقة التي كرسها التاريخ أن الدين هو وافد طارئ وغريب على وسائل الإنتاج وعلى مختلف أركان البنى الفوقية ؛ يتوظف الدين في تعطيل وظيفة البنى الفوقية في انعكاسها الإيجابي على البنى التحتية . من هنا بالضبط تتجند الدولة في استخدام كل وسائل القمع في حماية الدين، والدولة هي المؤسسة التي تبتدع مختلف أدوات القمع ومنها الدين لمنع تطور البناء التحتي، وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج . وليس أدل على ذلك من أن الأديان الرئيسة في عالم اليوم تتشارك في الإدعاء القائل .."لا تسقط شعرة من رأس الإنسان إلا بإذن الله" وينادي المتأسلمون بالشعار "الإسلام هو الحل" ومنهم بعض المشعوذين ينتظرون "المهدي" يعود إلى الحياة ويصلّح الحياة بقواه الخارقة . جميع هذه الدعاوى الخرقاء ليست طارئة على الحياة فقط بل ومعادية لها في الصميم لتقول أن التغيير في المجتمع لا شأن لأحد به غير الله وعبثاً يجهد التقدميون وأنصار التغيير .
الدين عالم موهوم لا علاقة له بالواقع وبحقائق الحياة ولذلك هو أعجز من أن يعكس أي أثر على البنى المختلفة في أي مجتمع . قوى التخلف تتجدد في البناء التحتي لأنها مغروسة في طبيعة النظام القديم والدين ليس من طبيعته بالطبع . العامل المسلم والعامل المسيحي والآخر اليهودي يذهبون كل صباح إلى العمل، نفس العمل، ويعودون كل مساء إلى البيت يحملون نفس الإحتياجات للعائلة . أن يعطل أحدهم يوم الجمعه والأخر يوم الأحد والثالث يوم السبت فذلك لا يغيرشأناً من شؤون الحياة، وهو ما يقطع أيضاً بأن الدين ليس له أدنى علاقة بشؤون الحياة فثلاثتهم يعملون كأجراء 40 ساعة كل أسبوع .

من كل ما تقدم أعلاه نستأذن ربابنة نقد الدين بأن نستعير عنوان إحدى مسرحيات شكسبير (love’s labour’s lost) أي "جهد المحب الضائع" لنقول أن نقدهم للدين، مساهمة منهم بمقاومة التخلف، لن يأتي بنتيجة، وأن الذين يرحبون بقراءتهم إنما هم ملحدون أصلاً لكنهم يخشون إعلان إلحادهم تجنباً لعسف الدولة الشديد، فالدين لم يكن يوما إلا أداة قمع بيد السلطة الحاكمة . لو أن الدول العربية تسمح بحرية الإعتقاد كما الحال في الدول الغربية لما بقي أكثر من 10% من السكان يؤمنون بأي دين ؛ بل وحتى في السعودية حيث السيف البتار يحمي الإسلام، يشكو شيوخ الإسلام من أن 20% من الشباب السعودي ملحدون .
لذلك نأمل من ربابنة النقد الديني أن يسلّطوا نقدهم على إنكار السلطات لحرية العقيدة في العالم العربي، والدعوة لكامل الحرية بنقد الدين على سعة النقد كما في الغرب، والتركيز من جهة أخرى في البحث عن الأسباب الحقيقية في انسداد آفاق التطور الإجتماعي التي ليس منها الدين فالتدين هو نتيجة الإنسداد وليس من أسبابه.