الماركسية فيما بعد انهيار العوالم الثلاث


فؤاد النمري
2019 / 5 / 11 - 15:32     

الماركسية فيما بعد إنهيار العوالم الثلاث

ما كان كارل ماركس ليكون أول شيوعي حقيقي في العالم لو أنه لم يدرس الفلسفة ويتعرف على ديالكتيك هيجل ومادية فيورباخ، ثم يعارضهما باكتشافه الحقيقة المطلقة موضوع كل الفلسفات الغابرة، تلك الحقيقة التي تقول أن الطبيعة بكل أشيائها هي في كل لحظة التهيوء الأخير لنفاذ قانونها العام ألا وهو الديالكتيك . بناء على هذه الحقيقة المطلقة تفجرت عبقرية ماركس فكان للفلسفة علم وللتاريخ علم له قوانينه النافذة على الإطلاق في مختلف المجتمعات البشرية على اعتبار أن البشر جميعهم هم أيضاً من أشياء الطبيعة . من هنا رأى ماركس أن التهيوء الأخير الأكثر تقدماً للمجتمعات البشرية المتمثل بالنظام الرأسمالي هو أيضاً تهيوء إجتماعي عابر سينتهي بفعل الديالكتيك المتمثل بالتناقض الإجتماعي الرئيس بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج .

أستذكر مثل هذه الحقائق الأولية لأن سواد الشيوعيين اليوم فيما بعد انهيار العوالم الثلاث لا يدركون لا وحدة العالم ولا نظام الإنتاج السائد فيه ولا التناقض الرئيس فيه . مثل هؤلاء الشيوعيين ليسوا متخلفين فقط بل باتوا أعداء مصيريين للشيوعية يهون بجانبهم سائر الأعداء الآخرين . نحن نعلم أن الإنسان لا يكون شيوعياً قبل أن يتعرّف على التناقض الرئيس الحقيقي في نظام الإنتاج السائد في مجتمعه وفي النظام الرأسمالي . فكيف يكون هؤلاء المتخلفون شيوعيين وهم لا يدركون التناقض الرئيس في مجتمعهم وفي العالم !؟
الشيوعيون فيما بعد انهيار العوالم الثلاث لم يتعرفوا على نظام الإنتاج السائد في مجتمعهم ولا تناقضاته أيضاً وما زالوا يعتقدون أن تناقضات النظام الرأسمالي لم تنحل بعد . لو كان هذا صحيحاً لما انكمشت الطبقة العاملة في الولايات المتحدة من 70 مليوناً في الخمسينيات إلى 30 مليوناً اليوم وفي بريطانيا من 30 مليونا إلى 10 ملايين فقط، وكانتا أبرز دولتين رأسماليتين . يتحدثون عن العولمة وأن العالم لم يعد خليوياً بمركز وأطراف لكنهم مع ذلك لا يتنازلون عن الإيمان بالتناقض بين العمال والرأسماليين في المراكز الكلاسيكية للرأسمالية وخاصة الولايات المتحدة . يقرون بانتقال الإنتاج البضاعي من أمريكا إلى الصين وشرق آسيا لكن تناقض الإنتاج البضاعي ما زال في أميركا ولم ينتقل مع الإنتاج إلى الصين وشرق آسيا !!

هؤلاء القوم الغفل المتطفلون على السياسة لا يعترفون بأي أثر للثورة الإشتراكية البلشفية وظهور الإتحاد السوفياتي كاقوى دولة في العالم ؛ وكما لم يكن هناك حرب عالمية غيرت شكل العالم والتناقضات العاملة فيه وكان للإتحاد السوفياتي الدور البارز في هذا .

تمكنت ألمانيا النازية من تفكيك أكبر امبراطوريتين امبرياليتين، الفرنسية وقد أحتلت فرنسا، والبريطانية وقد حوصرت بريطانيا وراء بحر المانش . وهكذا يمكن القول أن التناقض الرئيس في النظام الرأسمالي لم يعد موجودا أو فاعلاً كما كان قبل الحرب ولذلك سخر ستالين في العام 49 من تشكيل حلف شمال الأطلسي العدواني بالقول .. " لن نحاربكم وسنتغلب عليكم بالمنافسة السلمية " وقد ثبت في الحرب أن قوى الحرب للدول الغربية مجتمعة هي أبعد بكثير عن مقارنتها بقوى الحرب السوفياتية ؛ وكان تشيرتشل يعي ذلك جيدا ولذلك دعا في خطابه الشهير في مدينة فولتون الأميركية أمام الرئيس ترومان في مارس آذار 46 إلى تشكيل جبهة ثقافية حضارية للشعوب الناطقة بالإنجليزية بوجه الحضارة السلافية بقيادة الإتحاد السوفياتي وليس حلفاً عسكريا كما فعل وزير الخارجية العمالي آرنست بيفن (Ernest Bevin) الذي كان عميلاً مأجوراً للمخابرات الأميركية وهو من أسس دائرة المخابرات الخارجية (MI6) ضد الشيوعيين ملحقة بوزارة الخارجية رغم أن الشعب في بريطانيا صوت في الانتخابات لحزب العمال تقرباً للإتحاد السوفياتي دون أن يعلم أن ثمة خائناً مأجوراً في قيادة حزب العمال هو ارنست بيفن . لقد أكد ستالين في المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي في أكتوبر 52 أن انهيار النظام الإمبريالي سيتم في وقت قريب . وهو ما يعني أن التناقض الذي سيلعب الدور الرئيس فيما بعد الحرب مباشرة وحتى انهيار الإمبريالية في العام 72 هو التناقض ما بين الشعوب في الدول المستعمرة والتابعة ضد مراكز الرأسمالية فكان أن تحررت سوريا ولبنان في العام 46 وتحررت الهند في العام 47 كما تحررت الصين في العام 49 . وما بين العام 52 و 72 استقلت عشرات الدول فكان أن أصدرت الأمم المتحدة في العام 72 إعلاناً يؤكد على أنه لم يعد هناك أي أثر للإمبريالية في العالم، وتم حل لجنة تصفية الإستعمار التابعة للأمم المتحدة تبعاً لذلك .

أما وقد استقلت كافة الدول في العام 72 وما قبله فلم يعد هناك أي مصرف لتصريف فائض الإنتاج الذي يجسد فائض القيمة المتحقق بالضرورة في مراكز النظام الرأسمالي ولذلك انهار النظام الرأسمالي على أرضه، حيث النظام الرأسمالي لا يعمّر دون تصدير فائض الإنتاج المجسد لفائض القيمة إلى أسواق خارجية .

ما الذي فيه الشيوعيون اليوم وقد تحقق انهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات بعد أن بدأ مشروع لينين بالتفكك منذ إلغاء الخطة الخمسية الخامسة خلافاً للقانون والنظام لصالح برنامج التسلح الكثيف دون مبرر في سبتمبر ايلول في العام 53 كما ادعى بيان مشبوه صادر عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بالرغم من أن كل عضو في اللجنة المركزية يعلم جيداً أنه لا يحق له إعادة النظر في قرارات المؤتمر العام للحزب فما بالك بالإلغاء !!

كان مشروع ماركس وإنجلز للثورة الإشتراكية العالمية يستند في العام 1847 لدى كتابة البيان الشيوعي (المانيفيستو) على تفكيك التناقض الرئيس الواحد الوحيد في النظام الرأسمالي ألا وهو قوى الإنتاج ضد علاقات الإنتاج، أي بين العمال من جهة والرأسماليين من جهة مقابلة . بعد سبعين عاما لم يتحقق خلالها مشروع ماركس وإنجلس في الثورة الشيوعية برز مشروع لينين وقد ارتكز على تفكيك ثلا ث تناقضات كما شرح ستالين في أسس اللينينية ؛ فبالإضافة إلى التناقض الأساس (عمال/ رأسماليين) هناك تناقض في غاية الأهمية هو بين (قوى الإمبريالية/ شعوب المستعمرات) وتناقض ثالث قد يلعب دورا هاما في حالات كثيرة وهو بين قوى الإمبريالية نفسها في تنافسها على الأسواق . عبر هذا التناقض الأخير استطاع البلاشفة أن يستولوا على السلطة في دولة عظمى هي روسيا القيصرية ويبنوا دولة اشتراكية عظمى كانت محل فخار البشرية قاطبة هي الإتحاد السوفياتي الذي شكل مظلة حمابة لثورة التحرر الوطني في العالم كله .

أهم ما انتهت إليه الحرب العالمية الثانية هو إنحلال التناقضات الكبرى الثلاث التي استدعت المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية العالمية دون الانتصا النهائي للثورة . في الإتحاد السوفياتي مركز الثورة الإشتراكية استطاعت البورجوازية الوضيعة السوفياتية بقيادة الجيش "الأحمر" تفكيك النظام الإشتراكي في الخمسينيات . وفي السبعينيات بدا واضحاً انهيار النظام الرأسمالي فكان أن أفلست أميركا فعلياً وقد باتت الحصن الأخير للنظام الرأسمالي إذ فقدت الغطاء للدولار في العام 71 وانهزمت هزيمة مذلة في فيتنام في العام 74 . وانهار العالم الثالث نتيجة لانهيار المعسكر الإشتراكي وقد بات الإتحاد السوفياتي لا ينتج غير الأسلحة التي لا تحتاجها شعوب العالم الثالث . بدأ انهيار العالم الثالث بخيانة السادات لمشروع ناصر التحرري والإرتماء بحضن الإدارة الأميركية .

القانون الأساس في علم المادية الديالكتيكية يقول أن تطور الشيء هو النتيجة الحتمية للتناقض في الشيء ذاته . فهل انحلال التناقضات الثلاث أو الأحرى إنعدامها فيما بعد الحرب العالمية الثانية يعني بالنتيجة أن العالم لم يعد يتطور !؟ في مواجهة مثل هذا الإشكال المعاكس للطبيعة لا بد من الإعتراف بالأزمة الحادة التي تأخذ بخناق العالم وتحول دون تطوره . يكفي هنا الإشارة إلى حقيقتين دامغتين تؤكدان تخلف العالم بدءاً بسبعينيات القرن الماضي . منذ السبعينيات والعالم يستدين كل سنة 2 ترليون دولارا كي يتحاشى الإنهيار الأمر الذي لا تفسير له غير تراجع قوى الإنتاج وهو الدالة القطعية على التخلف بالرغم من كل الدعاوى الكاذبة حول التقدم في المعلوماتية والتقنيات التي لم تنعكس في الإنتاج . أما الحقيقة الثانية الدالة على التخلف والإنحلال فهي اعتبار أصل القيمة (Value) هو الدولار الأميركي وليس قوى العمل كما يقول القانون الأساس لعلم الإقتصاد مع أن مجموع قوى العمل الأميركية لا تنتج أكثر من 20% مما تستهلك . فأخذ العالم يحول كل إنتاجه إلى الدولار بما في ذلك التجارة الداخلية لمختلف البلدان علما بأن الدولار الأميركي عملة مكشوفة ؛ الولايات المتحدة نفسها لا تتكفل بتسديد قيمتها الإسمية إستناداً لقرار الهيئة المؤقتة لصندوق النقد الدولي في اجتماعها في جمايكا في يناير 76 القاضي بإلغاء الغطاء للنقود استجابة لقرارات أول مؤتمر قمة للخمسة الرأسماليين الكبار (G 5) في رامبوييه في نوفمبر 75 . وهكذا باتت الولايات المتحدة تتحكم بالتجارة العالمية وتفرض عقوبات حتى على دول عظمى كالصين وروسيا رغم أنها كانت أول دولة تعلن إفلاسها في العام 71 وهو ما استدعى خروجها من معاهدة بريتون وودز فكان أن فقد الدولار 40% من قيمته التبادلية قبل العام 75 . عالم يتجاهل أصل القيمة هو عالم محكوم قطعاً بالتخلف إن لم يكن بالخروج إلى الفوضى بعيداً عن سكة التقدم .
نكتفي بالإشارة إلى حقيقتين أساسيتين للنظام العالمي الحالي تدمغانه بالتخلف دون ذكر الإشارات الجانبية الأخرى لمظاهر تخلفه كالإرهاب وتلوث البيئة وتجارة الرقيق والمخدرات وغسل الأموال، وما هو أدل من كل هذا قيام عصابات شبه عسكرية لاختطاف السلطة في معظم بلدان العالم الثالث وخاصة في الستينيات، وما كان لينتهي ذلك بغير ما سمي "الربيع العربي" الذي لم ينتهِ إلى لإزهار بسبب تخلف قوى الإنتاج ليس في بلدان العالم الثالث فقط بل أيضاً في العالم كله .

إنعدام تناقضات العالم الكبرى الثلاث التي أسست لمشروع لينين في مطلع القرن العشرين قبل أن يبدأ الربع الأخير من نفس القرن هو حكم قطعي للتاريخ يؤكد النجاح التام لمشروع لينين الذي انتهى إلى تفكيك التناقضات الثلاث التي بررت شرعيته ؛ وقطع طريق عبور الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي في الخمسينيات لا يعني إنتهاء المشروع إلى الفشل كما يعتقد الكثيرون . بعد انهيار العوالم الثلاث في سبعينيات القرن الماضي لم تنجح أي دولة في العالم بما في ذلك الصين في الإرتكاز على نظام إنتاج ثابت ومستقر وهو ما يعني أن ليس بعد انهيار الإمبريالية سوى الإشتراكية .
الإشكال الحدي الذي يهرب من مواجهته الجميع وأولهم الشيوعيون المفلسون هو كيف لدول العالم أن تسكن وتستقر على نظام إنتاج ثابت وقابل للحياة ؟ بعض المفلسين يهربون إلى الإدعاء يأن النظام الرأسمالي لم ينهر بل تجاوز أزماته من خلال التطوير النوعي لأدوات الإنتاج . لو صح مثل هذا الإدعاء السخيف لتعمقت أزمة النظام الرأسمالي كما أكد ماركس بأن التطور المستمر لأدوات الإنتاج من شأنه أن يعمق أزمة النظام الرأسمالي حيث يتناسب التطور تناسباً طردياً مع ميل معدل الربح إلى الهبوط مما يدفع بالرأسمالي إلى العزوف عن توظيف أمواله في الإنتاج الرأسمالي وحتى لو ضمن لإنتاجه أسواقاً مفتوحة . ذلك ما يتجلى اليوم بكل وضوح فتتجه معظم الأموال إلى المضاربة في البورصة وليس في الإنتاج .

أطروحة انحلال التناقضات الثلاث التي عملت على تقويض النظام الرأسمالي دون الوصول إلى النظام الإشتراكي لا تستقيم إلا إذا أكدنا تحديداً التناقض البديل حيث سنة التطور للأشياء جميعها وأخصها المجتمعات البشرية، بل حتى وجودها ذاته قائم أصلاً على التناقض في داخلها . فما هو التناقض الرئيس العامل اليوم في المجتمعات البشرية كافة ؟ ما هو التناقض الرئيس الذي حل محل تناقضات النظام الرأسمالي المنحلة ؟ الدلالة الكبرى التي تدلنا على تحديد هذا التناقض البديل هي أن التغيرات المتلاحقة في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم هي ما يمكن أن يوصف بالإنحلال والرجوع إلى الخلف كما سلف وأشرنا . ليس هناك ما يشير إلى تقدم العالم سوى ما تدعيه قوى الرجعية من ثورة معلوماتية حسابية رغم أن هذه الثورة الحسابية لا تحسب مظاهر تخلف العالم .

التناقض البديل في عالم اليوم وهو ما يعمل على انحلال المجتمعات البشرية وتخلفها قائم بين منتجي الخدمات وهم البورجوازية الوضيعة من جهة ومنتجي البضائع وهم فلول البروليتاريا من جهة مقابلة والتي بدأت تعاني منذ الخمسينيات من حرب ضارية تشنها عليها البورجوازية الوضيعة السوفياتية سابقاً والروسية اليوم . يتمثل هذا التناقض الطارئ على مسار التاريخ في التبادل بين الخدمات والبضائع . تستولي البورجوازية الوضيعة على أكثر من 75% من إنتاج البروليتاريا في العالم مقابل أقل من 20% من الخدمات تحصل عليها بروليتاريا العالم . لكن كيف يتم هذا والقيمة التبادلية تحددها ميكانزما السوق . السوق اندثرت مع اندثار النظام الرأسمالي كما أن الخدمات لا قيمة تبادلية لها حيث هي تستهلك تماماً حال إنتاجها ولا تصل السوق .
مثل هذا التبادل غير السوي والظالم يؤدي بالضرورة إلى انفلاش طبقة البورجوازية الوضيعة في العالم مقابل انكماش طبقة البروليتاريا الأمر الذي يشكل صمام أمان فعلي ضد التقدم إلى الإشتراكية البروليتارية . لكن، ولما لا تنتج البورجوازية الوضيعة سبباً واحداً من أسباب الحياة التي يعود إنتاجها جميعها إلى البروليتاريا فإن هذا التناقض الطارئ على التاريخ سرعان ما يصل إلى النقطة الحرجة ويتفجر عندها فتهوي طبقة البورجوازية الوضيعة في العالم إلى القاع في ليلة ليلاء ويبزغ صبح عصر جديد .