الماركسية في ركودها وتقدمها ( في ذكرى ولادة كارل ماركس )


عواد احمد صالح
2019 / 5 / 9 - 15:41     

في الخامس من ايار 1818 ولد كارل ماركس اعظم مفكر ثوري في تاريخ العالم المعاصر معلم البروليتاريا والاب الروحي للشيوعية المعاصرة .. بعد مرور كل هذه السنوات ماذا يا ترى حري بنا ان نقول نحن الماركسيين ؟؟ هل مجرد الثناء على ماركس والماركسية والتأكيد على المسلمات النظرية والسياسية ؟ ام استخلاص الدروس من النجاحات والاخفاقات التي لازمت حركة الطبقة العاملة وتجاربها الناجحة والمحبطة .؟؟
لابد ان نقول ان الأخفاقات والهزائم هي اليوم اكبر من النجاحات ليس بسبب طوباوية او مثالية فكر ماركس كما يدعي الكثيرون وبعضهم من المحسوبين على هذا الفكر ، بل ان تجارب الواقع العملي وقوة ودهاء وعظمة البرجوازية العالمية وشراستها وهمجيتها في الدفاع عن مصالحها الطبقية في محاولة تأبيد المجتمع الطبقي وانقسام البشر الى طبقات مستغلة ومستغلة هي اكبر من كل الحقائق العلمية والاجتماعية التي جاءت بها الماركسية واقوى من كل ادعاء باحترام كينونة ووجود وحقوق الأنسان الذي تزعم الأيديولوجيا البرجوازية الدفاع عنه .
لنتذكر ماذا فعلت الرأسمالية طيلة قرن ونصف خلت بحق البشرية وماذا ارتكبت من حروب ومجازر سنكتشف ان الارقام فضيعة ومهولة .. مقابل كل ادعاءات مفكري البرجوازية وقوى اليمين ومزاعمهم الرخيصة في الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وصب اللعنات على جميع الانظمة التي حكمت باسم الماركسية والأسراف في تعداد سلبياتها وهفواتها ونعتها كأنظمة شمولية مستبدة وتوتاليتارية ... الخ الخ - لسنا هنا بصد تقييم تلك الانظمة ولا بصدد التغطية على الاخطاء التي حصلت- ولكن .. ولكن قياسا الى فضائع الرأسمالية تبدو تلك التجارب افضل واقل سلبية بما لايقاس .
واليوم تحاول كل قنوات الثقافة والفكر الرأسمالي وجميع وسائل الاعلام المأجورة والمبتذلة قتل الروح والمبادرة الثورية لدى عمال العالم ومحو الذاكرة الثورية المتمثلة في استذكار واستلهام الروح الثورية لجميع التجارب والثورات البروليتارية بدءا من كومونة باريس وانتهاء باعظم ثورة في كل العصور ثورة اكنوبر الروسية . وذلك بنعتها مرة بصفة اوهام ومرة بصفة محاولات للقفز فوق الواقع او محاولات لحرق المراحل ومره بصفة تجارب فاشلة او استبدادية .. وذلك من اجل تحقير الماركسية والسخرية منها والإساءة الى شخص ماركس نفسه في محاولات مستمرة للتغطية على عيوب النظام الرأسمالي والجرائم التي ارتكبتها الامبريالية بحق البشرية .
واذا كانت الماركسية قد اخفقت حتى الان بتحقيق حلم البشرية في إقامة مجتمع لا طبقي وإزالة العمل المأجور وراس المال ومحو التفاوت بين الشعوب الفقيرة والغنية وإزالة اضطهاد الأمم الكبيرة للأمم الصغيرة فان هذه المباديء ماتزال راهنة ومطلوبة واكثر انسانية من كل ادعاءات الأيديولوجيا البرجوازية حول حقوق الانسان . ان مقولات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل الرأسمالية هي مقولات كاذبة لأنها مقولات طبقية لا يمكن ان تتجاوز التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي الموجود بين البشر .
ان صراع الماركسية كمنهج وفكر وعقيدة نقدية انسانية مع الأيديولوجيا الرأسمالية غدا اليوم صراعا فكريا واخلاقيا .. فالماركسية بربرية كما يصفها مؤلف كتاب "نهاية التاريخ" .. وهي " تعقيد" :كما يشير عنوان كتاب كلود لوفور وامام " صنمية" العقيدة الماركسية المدعى عليها خلقت الأيديولوجيا الرأسمالية باسم الحرية صنميات هائلة : انواع شتى من النزعات الرجعية ، أعادت بعث الأديان والتعصب الديني والطائفي والعرقي وما يسمى الخصوصيات الثقافية ((نفخ الروح في مختلف ألوان التعصب القومي والاقليمي والعرقي ونمو النزعات الخصوصية العشائرية والدينية . لقد اججت العولمة المتوحشة عنانَ النزعات الخصوصية وكره الأجانب ، ان طغيان العولمة الرأسمالية وهيمنة الولايات المتحدة عالميا طيلة المرحلة السابقة ينمي بشكل مضطرد نزعة محلية نكوصية تقوم على العودة الى الماضي والتعلق الأعمى بالهويات والخصوصيات المحلية .))
يقول بعض الاكاديميين وشرائح من المثقفين ممن وضعوا انفسهم في خدمة الطبقات المالكة ، ان الماركسية والشيوعية قد اضحت " قديمة " وعتيقة" .. ويتنكر امثال هؤلاء لحقائق مازالت قائمة ، ان قوانين الحركة التاريخية للمجتمع الطبقي ما تزال قائمة . الفوارق الطبقية والفوارق بين الامم والصراعات القومية والحروب . ان حاجتنا لا تكمن في اجراء أي مراجعة او تعديل في الرؤية النظرية للماركسية واعتبارها قديمة ، طالما كان الصراع الطبقي قائما وطالما ان القوانين الأقتصادية - الأجتماعية للرأسمالية لم تتبدل ،.. اننا لا نزال بحاجة الى استخدام المنهج الماركسي بشكل خلاق وغير حرفي او دوغمائي في دراسات الظواهر الجديدة ومعضلات المرحلة التاريخية الراهنة .
ورغم التشويه والدعاية البرجوازية فان الماركسية كانت وما تزال نظرية عقلانية وديمقراطية تخاطب العقل والشعور الانساني والحس السليم مقابل كل انواع الخرافات الدنيوية والدينية وغيرها التي ترهن الانسان للقدر وسلطة المجهول وتحجب التفكير المنطقي والعقلاني ملقية كل اعباء ومشاكل الأنسان على القوى الغيبية والقدرية ، ان الماركسية هي اعادة الخيار للأنسان في تحديد مصيرة ونمط حياته الاقتصادي والاجتماعي ايضا مقابل كل الفلسفات والأفكار المثالية والرجعية القديمة والجديدة التي ليس لها علاقة بما هو اجتماعي وانساني بقدر ما تهدف الى تبرير ما هو قائم وتشييد ابراج عاجية وعوالم مثالية يتحصن فيها مثقفو الطبقات السائدة تعبيرا عن استعلائهم وبيروقراطيتهم . لقد جعلت الأيديولوجيا البرجوازية وفي سياق نزعتها المزعومة للتجديد والتطوير الفكر والثقافة الانسانية مادة استهلاكية مثل البضاعة تنتج وتستهلك ولابد في كل مرحلة من وجود بضاعة جديدة ، أنتجت كما هائلا من تلك الأفكار والفلسفات المثالية والرجعية على سبيل المثال لا الحصر ( الوجودية ، البنيوية ،وغيرهما ) لكي تهيل التراب على ماركسية ماركس وعلى جوهرها النقدي العملي الثوري والاجتماعي.
الماركسية هي صوت العمال و الفقراء والكادحين وبنت الانسان الذي يطمح ان يتجاوز عالم الغرائز المادية والسيكولوجية : الانانية ، حب التملك ، مجموعة الغرائز العدوانية والتدميرية التي تصنعها الايديولوجيات البرجوازية الدينية والسياسية ، وهي تستعيض عن تلك الغرائز وتحاول تربية البشر على تجاوزها من خلال حب الجماعة والايمان بالتحرر والمساواة بين البشر وتكافؤ الفرص واعطاء كل فرد حقه في العيش والتمتع بالثروات المادية والحصول على مستوى حياتي لائق ومشرف لا بمجرد الوعظ والوعد ولكن بتحقيق ذلك بشكل عملي على ارض الواقع : التعبيرعن مسار الحركة التاريخية والقوى الاجتماعية الفاعلة صاحبة المصلحة في تغيير الواقع: البروليتاريا الذات الثورية المغيرة للعالم القديم .وكما يقول البيان الشيوعي : (( ان مفاهيم الشيوعيين النظرية لا تقوم قطعا على أفكار، او مبادئ، ابتكرها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مُصلحي العالم. إنّها تعبير عام عن الشروط الموضوعية لصراع طبقيّ قائم عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا .)) ،
ولقد حاولت الماركسية ومازالت تحاول انتشال الانسان من ملكوت الضرورة الى ملكوت الحرية . ان الرأسمالية في مراحل نموها الاولى في عصر تراكم راس المال احدثت ثورة هائلة في قوى الانتاج ووفرة هائلة في القيم الأستعمالية وتشغيل اعداد كبيرة من العمال اما اليوم فان الراسمالية الراهنة في ازمة مزمنة . الازمة الاقتصادية التي يعيشها المجتمع البشري ناجمة اليوم عن ان آليات اشتغال المنظومة الراسمالية التي وصلت الى طريق مسدود . الاستثمارات تزداد حجما باستخدام اعداد اقل واقل من العمل البشري بسبب استخدام التطور التكنولوجي والعلم كقوة انتاج. الثروات اليوم تتراكم في بيد حفنة قليلة ومعدودة من البشر ولا تعود على شكل اجور الى العاملين . هنا يزداد حجم البطالة والافقار على مستوى عالمي .. ان هدف الاستثمار صار يجنح الى جني الارباح ووضعها في جيوب الرأسماليين . لذلك صار امر ملحا ومحتوما انهاء التشكيلة الراسمالية المدمرة ، ولابد ان يدرك الجميع ان احد أهم وابرز أهداف ومساعي الماركسية هو الغاء هذا النظام المجحف وغير العادل نظام التفاوت الطبقي والاحتكار واعادة توزيع الثروة عل المجتمع ككل بدون افراد قلائل يملكون ثروات هائلة واغلبية محرومة . ان الانسان مازال مغتربا ومضطهدا ويعيش عقد التشيؤ واستلاب العمل والخضوع للأنظمة الوظيفية الطويلة والصارمة ..فهو محكوم بهاجس فقدان العمل والبطالة ، لقد تجاوز البروليتاري في الغرب الراسمالي عصر المجاعة المادية لكنه لم يتجاوز عصر القلق والخوف وهاجس الحروب الكامنة في البنية العامة للنظام الرأسمالي ، فالرأسمالية دائما بحاجة الى الحرب لتجديد اليات اشتغالها وتجاوز مراحل الركود والأزمات الدورية .
ان الماركسية لم تكن في يوم ما عقيدة دينية او دوغمائية جامدة تريد اخضاع الانسان والواقع لمجموعة من الأشتراطات النظرية او الحقائق النهائية.. انها عقيدة نقدية جدلية مبنية على اساس نقد الواقع غير الانساني والدفاع عن متطلبات البشر عموما ، ومن الناحية النظرية ترتكز الماركسية الى ارقى القيم والافكار والمقولات الفلسفية التي رافقت نشوء الرأسمالية ونتجت عنها وهي تسير دائما في خط المجتمع الأنساني خط التحرر والمساواة والحرية والرفاه .
ولئن كانت الماركسية في يوم ما في القلب من السياسة العالمية فلأنها كانت فلسفة الممارسة الثورية . ومن المآخذ عليها انها اعطت للتجارب والممارسات المشوهه ثيابا تنكرية وانحطت بفعل الممارسات البيروقراطية والانتهازية الى محض أيديولوجيا تبريرية وتقريظية بعيدة عن الواقع وعن حاجات الناس .. لكنها اليوم وبعد سقوط جميع النسخ المشوهه ومن خلال نشاط وعمل التيارات الرديكالية واليسار العمالي والأجتماعي عادت لتربط نفسها من جديد بالواقع ومن خلال المعاينة والنقد : نقد آليات اشتغال الرأسمالية المعاصرة وازماتها المزمنة والظواهر الجديدة الناجمة عنها .. ظاهرة النيوليبرالية ومحاولات الهيمنة الامريكية عالميا الصراع بين الدول الكبرى ( اميركا ، الصين ، فرنسا ، روسيا ، بريطانيا ) لأقتسام مناطق النفوذ وتشكيل اقطاب متنافسة ومتصارعة ، ظاهرة الارهاب والأسلام السياسي ، صراع الأديان والأثنيات والاعراق والطوائف . ان السمة التي تطبع عصرنا الحالي عالميا كما سبق ان قلنا في مقال سابق " انه عصر الصراعات والحروب الرجعية الشرسة والتوتر الشديد بين المجموعات الدينية والمذهبية والعرقية وصعود الحركات الدينية في ظل تدخلات الامبريالية الاميركية والغربية والصراعات الجديدة بين الاقطاب الراسمالية الناشئة ".
ان الماركسية تقترب في المرحلة الحالية اكثر فاكثر من المجتمع وتعود اليه كأداة فاعلة للتعبير عن الحاجات الطبقية والانسانية ولابد من ادماج الفكر بالممارسة الثورية للتعبير عن الفاعلية الاجتماعية للحركة الماركسية. الخروج من دائرة التنظير الى دائرة الواقع يتم عبر الاندماج بالحركات العمالية و الاجتماعية الكبرى والتعبير عن مطاليبها واهدافها العملية في اطار كل مجتمع ووفقا لظروفة وحاجاته وفي السياق العام لعصرنا الذي يشهد تحولات وتغيرات كبرى ، فلقد تشكلت الماركسية منذ البداية علما ثوريا ونقديا مرتبطا بممارسة الطبقة العاملة الحديثة في صلب حركة شاملة تهدف الى تحويل المجتمع البرجوازي الى مجتمع اشتراكي اكثر عدالة وانسانية يخلو من الأضطهاد والاستغلال .
ان الماركسية لم تكن يوما ما ايديولوجيا بالمعنى السائد والمبتذل لمفهوم الأيديولوجيا بل هي نظام للفكر والعمل مرتبط بتغيير الواقع الطبقي والأجتماعي وعلى اساس حاجات ومتطلبات ذلك الواقع .