هل ستتحقق نبوءة زعيم الثورة البلشفية وتندلع ثورة اشتراكية عالمية؟!


هيفاء أحمد الجندي
2019 / 11 / 14 - 09:27     

لم يكن لينين مخطئاً ، عندما توقع ، قيام ثورات ، في البلدان المتخلفة المستعمرات وأنصاف المستعمرات ، وهو الذي واجه خصومه بكل صلابة وثقة قائلاً لهم: يا لكم من حمقى سوف تعلمكم قارة آسيا درساً لن تنسوه!
وبالفعل، لقد لقنت الانتفاضات الشعبية ، التي اندلعت في الأطراف، خصوم لينين من الليبراليين ، درساً ما أظنهم نسوه! وبذلك ، تكون حركة التاريخ ، قد انتصرت لأطروحات لينين النظرية العبقرية والاستشرافية ، مخالفاً بذلك ماركس الذي اعتبربأن العالم لا يستطيع أن يتقدم ، وينطلق إلى الأمام ، إلا من خلال اتباع خطوات أوربا ، ولم يكن يتصور التاريخ ، خارج هذه القارة ، إلا بوصفه مسيرة جارية على نسقها ، ومخالفاً أيضاً تروتسكي ، الذي طغت الرؤية الأوربية على تنظيره للثورة العالمية ، والذي انتظر المعجزة من الغرب المتقدم.
لم يتمرد لينين ، على النسق الثوري الأوربي، إلا لأنه قرأ ماركس، قراءة روسية نابعة من خصوصية التركيب الاقتصادي- الاجتماعي الروسي ، المتخلف الفلاحي وضمن قانون التطور اللامتكافىء ، فضلاً عن تحليله العبقري واللافت لظاهرة الامبريالية ، لا نبالغ البتة إذا قلنا بأن اللينينية ، هي ماركسية عصر الامبريالية ، إذ تابع لينين ، ما كان قد بدأه ماركس، من تحليل لآليات نمط الإنتاج الرأسمالي ، وكما جاء في سفره العبقري "رأس المال" وبمجلداته الثلاث ، حيث صاغ نظريته الاقتصادية ، حول الأزمات ، على قاعدة الرأسمالية الصناعية ورأسمالية التنافس ومعتبراً ، بأن المكان الوحيد ، الذي ينتج فيه فائض القيمة ، هو كدح العمال، في العملية الإنتاجية ، وكتب أيضاً عن ولادة رأس المال ، والتراكم البدائي ، الذي قام على إبادة السكان المحليون ، ونهب الكنوز ودور النظام الاستعماري، في إنضاج التجارة وعملية الملاحة ، وتغذيته للشركات الاحتكارية التي أغرقت المستعمرات بالبضائع والسلع .
وفي معرض تحليله للامبريالية ، اعتبر لينين ، بأن ما يميز هذه المرحلة هو تصدير رأس المال ، خلافاً لتصدير البضائع ، ونشوء ظاهرة الاحتكارات ، وعندما يتم تصدير رأس المال ، هذا يعني تصدير قيمة ، يراد منها أن تحقق قيمة زائدة في الخارج.
بيد أن، ما يلفت النظر، في تحليل لينين ، إشارته إلى بروز، ظاهرة الهجرة في زمن الهيمنة الامبريالية ، وصراعها على اقتسام العالم اقتصادياً ، وانتقال العمال و نزوحهم ، من البلدان الأكثر تأخراً ، حيث الأجور المتدنية ، واليوم باتت حركة قوة العمل ، والهجرة ، شديدة الانتشار و صعبة الالتقاط ، هجرة قوة عمل شابة متعلمة وكفوءة ، إضافة إلى هجرة العمالة الزراعية الهامشية الخدماتية ، وهؤلاء المهاجرون ، ساهموا في نسف الحدود ، ولم تعد المسألة مقتصرة ،على تدويل الانتاج و الرساميل والتي وصفها سمير أمين ، بالعملية المبتورة ، لأنها تقتصر على حركة انتقال السلع والرساميل، دون قوة العمل التي تعمل وفق آلية قانون القيمة المعولمة.
وزد على ذلك ، أن قوة العمل المهاجرة ، من العالم الثالث ، ستشكل في العالم الأول مدينة أكواخ وضواحي بائسة ومغلقة ، في الوقت الذي يتم فيه ، نقل العالم الأول ، إلى الثالث ، على شكل سندات وبنوك وقروض!
ليس ما رأه ماركس مستقبلاً، إلا حقبتنا نحن، وفق تعبير انطونيو نيغري و التحول الذي طرأ على قوة العمل ، وعمليات استيعاب العلم والتواصل واللغة في صلب قوة الإنتاج، ما لبثا أن أعادا تحديد ، أبعاد ظاهرة العمل الكلية ، وأفق الإنتاج الكلي.
يقول أنطونيو نيغري :"ثمة قوى جديدة ، ومواقف جديدة لعمل عاطفي ، يميز قوة العمل، بمقدار ما يميزها العمل الكلي ، لقد باتت قوى الإنتاج اليوم ، سياسية حيوية ، وبات فائض القيمة ، يتحدد بالمشاعر المخترقة ، بالمعرفة وبذكاء العقل بالمقدرة المجردة على الفعل ، فإنتاج السلع ، يميل لأن يكون قابلاً للتحقق الكلي".
لا ضير من القول ، بأنه و بعد الثورات العلمية والتكنولوجية ، والتي رافقت الصناعة الكبيرة ، حدثت تغييرات جوهرية ، في بنية الطبقة العاملة ، أدت إلى تقلص دور دورها ، في الإنتاج و تبدلت بنيتها الطبقية.
وكان التحليل الماركسي الكلاسيكي ، يعتبر بأن البروليتاريا ، هي القوة الرئيسية بين سائر قوى الإنتاج، وأن شراء قوة العمل ، هو المصدر الرئيسي لفضل القيمة وكان ماركس يردد و يقول ، بأن المجتمع الحديث ، بأسره ، يعيش عالة على قوة عمل البروليتاريا ، بيد أنه وبعد استخدام الآلات وثورة التقانة ، تقلص دور البروليتاريا ، وبرز العلم كقوة انتاجية جديدة ، وقد وجدت هذه الواقعة ترجمتها في ما اصطلح الاقتصاديون على تسميته "التركيب العضوي للرأسمال " ولم يعد إهمال العلم ،كقوة انتاجية مستقلة ، والذي أحدث تغييراً في وظائف العمل وسيرورته مجدياً ، إذ لم تعد الطبقة العاملة اليوم ، مؤلفة من عمال وحسب ، بل من شرائح عمالية متمايزة أو متعارضة ، وشريحة من أصحاب الاختصاص المهني العالي، والعمال المختصين وأنصاف المختصين.
لم تعد الطبقة العاملة ، موجودة بالمعنى الكلاسيكي الصناعي للكلمة ، لأن قوة العمل اللامادية المتضمنة في الاتصالات ، والتعاون وإنتاج العواطف والمشاعر إضافة إلى الأعمال الهامشية ، التي بات يمتهنها قطاع كبير، من الذين أطلق عليهم المفكر الماركسي ديفيد هارفي "البريكاريا " وهي تشمل العمالة الموسمية والمؤقتة وهذه لا تعدو كونها ، أعمالاً مأجورة وليست منتجة ! إذ ليس بالضرورة أن يكون العمل المأجور منتجاً ، معتمدين على تحليل ماركس ، وكما ورد في الجزء الأول من رأس المال "إن كل عامل منتج هو عامل مأجور، ولكن ليس كل عامل مأجور هو منتج والتمايز بين العمل المنتج ، والغير المنتج ، يتوقف حصراً ، إذا كان العمل يبادل لقاء النقود، كنقود أو لقاء النقود ، كرأسمال وتحديد العمل المنتج، يرتكز على واقع أن إنتاج رأس المال ، هو إنتاج فائض قيمة ، أي عمل محدد اجتماعياً يتضمن علاقة خاصة بين شاري العمل وبائعه.
وبعد التحول ، الذي طرأ على قوة العمل والرأسمال ، لا ضير من القول ، بأن استنتاجات ماركس حول ثورية البروليتارية ، ودورها في انجاز الثورة، يحتاج إلى مراجعة عامة ، على ضوء تطورات الامبريالية العالمية ، وهيمنة رأسمالية الاحتكارات المعممة ، ويمكن اعتبار، كل الفئات الاجتماعية المتضررة من سياسات خصخصة الأرباح و تعميم الخسائر ، هي الطبقة الثورية والتي سيقع على عاتقها إشعال الثورة العالمية ، والتي انطلقت شرارتها من الأطراف ، التي تتعرض فئاتها المهمشة ، للاستغلال المزدوج وهي دون سواها من يتحمل وزر وتكلفة الصراع الامبريالي ، ويمكن لظروف البؤس هذه ، أن تخلق أوضاعاً ثورية وتضع أي بلد على أبواب الثورة الاجتماعية ، وليس ديمقراطية بورجوازية ، وفق ما ارتآه لينين والذي حارب النزعة اللفظية الثورية ، في مسألة فهم الثورة العالمية وفهمها فهماً تاريخياً عينياً وبدالة تناقضات العصر الامبريالي ، وهو الذي منحنا الطاقة الثورية الكامنة في الأزمات ، والآليات الذاتية المعادية للامبريالية ، وطرح الثورة على مراحل وبدون توقف ، ولا سيما ، في الأطراف المهمشة ، لأن البعد المعولم للاحتكارات بات يستحوذ على الريع ، ويضع يده على كل الموارد الطبيعية والثروات .
إن إمبريالية اليوم ، باتت تنظم وعلى نطاق عالمي ، الاستغلال الممنهج لكل شعوب الأرض المهمشة ، ولكن استغلال الأطراف لا حدود له ، وهذا يفسر اندلاع الثورة اليوم ، في التخوم وليس في المراكز.
لن تكون المعركة سهلة ، بين القوى الشعبية الثورية ، التي تطمح إلى إحداث التغيير الجذري ، وبين الامبرياليات ، والتي ستعمل على تفكيك وسحق الانتفاضات ومن خلال اتباع التكتيكات المعهودة إياها ، أي دق الأسافين ، بين الشعوب الثائرة كي تقطع الطريق على اندلاع الثورة العالمية ، كاللعب على سياسات الهوية وتصعيد خطاب الكراهية والعنصرية ، إزاء قوة العمل المهاجرة ، ولن نكون رومانسيين إذا خلصنا الى استنتاج ، مفاده ، بأنه لن تنفع، شتى الأساليب ، التي يمكن أن تنتهجها الإمبريالية وخاصة وأن ساعة انهيارها قد زفت ، لأن أزمة الرأسمالية اليوم ، ليست أزمة مالية فقط ، وفق تعبير سمير أمين ، ولا هي مجموع الأزمات المتراكمة ، لنظام ولكنها أزمة الرأسمالية الامبريالية الاحتكارية والتي تتعرض سيطرتها العليا المنفردة للمساءلة ، من قبل الطبقات الشعبية ، في المراكز والأطراف ، والتي تدفع ضريبة سياسات الطبقة الواحدة ، المسيطرة مالياً وليس اقتصادياً ، وهذه الأوليغارشية والتي ما انفكت ، تبحث عن منافذ خارجية تمتص فوائض رساميلها ، العائمة في البنوك ولم تجد وتاريخياً ، هذه المنافذ إلا في هذا الشرق ، وعلى حساب تدمير أحياءه الفقيرة ونزع ملكياتهم ، بالقوة وطردهم وإجبارهم على الهجرة ، من الأطراف إلى المركز ولا أجد أعمق وأبلغ ، من توصيف ماركس ، لولادة رأس المال والتي وسمها بأنها ولادة ، تنزف دماً وقذارة ومن جميع مسامها والرأسمال هذا ، لم يكف ومنذ ولادته هذه ،عن إنتاج فيض نسبي من العمال ، وهذا شرط ضروري لعملية التراكم ، والتي تأخذ شكلاً حاداً في أوقات الأزمات وهي المعادل للإفقار المطلق .
كم كان محقاُ ، "ديفيد هارفي" عندما كتب مستنيراً بما كتبه ماركس في "رأس المال" بأن التطور الرأسمالي ، قتل المدينة التقليدية ، والتي سقطت ، ضحية الحاجة المستمرة ، للتخلص من رأس المال المتراكم.
غني عن البيان القول ، بأن قوة العمل العالمية ، الماديةاللامادية والتي تتعرض لاستغلال رأس المال المعولم ، ستكون القوة الاجتماعية الثورية الصاعدة والتي باتت تحتل الفضاء العام ، ولكن ينقصها التنظيم وإيجاد لغة نضالية مشتركة فيما بينها ، لغة قادرة ، أن تسهل عملية التواصل والتلاقي والتشابك ، أي بناء أممية جديدة ، تواجه رأس المال المعولم ، ولن تفضي هذه المواجهة ، بين النقيضين إلا إلى التغيير الجذري ، إذ لم تعد تجدي ، التسويات الاجتماعية ، والنزعات التوفيقية الديمقراطية ، والحلول الوسط ، بين الطبقات الشعبية ، وشرائح من بنية الهيمنة البورجوازية ، والتنظيم وحده دون سواه، سيقطع الطريق على مشاريع الإصلاحيين وكل أشكال التسويات والمساومات .
لن تفضي نظرية تحليل لينين للإمبريالية ، إلا إلى اندلاع الثورة الاشتراكية الجديدة!