وَحْيُ الشيوعيَّة


عبدالرزاق دحنون
2019 / 4 / 20 - 23:13     

(بمناسبة إصدار البيان الشيوعي باللهجة التونسية"

الوَحْيُ: كلُّ ما أَلقيتَهُ إِلى غيرك ليعلَمَه. والوَحْيُ في المعجمات الكتابة و النقش, ومنه قول أهل اليمن القدماء: أبقى من وحي في حجر. وهو أيضاً الإشارة والرسالة والإلهام. وأوحى أي كتب, وأوحى الله إلى أنبيائه أي أرسل إليهم الوحي بواسطة من السماء. وأوحى بمعنى أشار قال تعالى: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا".
هل تنطبق دلالة الوَحْي على الشيوعيَّة الحديثة؟ بمعنى هل هي إشارة, بشارة, رسالة, إلهام, سجَّل كارل ماركس وفريدريك أنجلز مضمونها في "البيان الشيوعي" فأصبح "البيان" مقدَّساً عصيَّ الفهم على عامَّة الناس, وبالتالي احتاج إلى تبيينٍ وتدبيرٍ و تأويلٍ وتفسيرٍ من فقهاء ومفسرين في كتب رديفة تشرح بعضها بعضاً. ومن ثمَّ أمستْ هذه الكتب -هي الأخرى-أيقونات فكرية مقدَّسة, يُحجُّ إليها وتُزار كحال كعبة لينين في الساحة الحمراء في موسكو؟ أم أن علينا تفسير العنوان الذي صنعه ماركس لكاتبه الصغير هذا ونفرِّق بين بيان "الحزب" وبيان "الشيوعيَّة" كما فعل ماركس في "نقد برنامج غوتا" و هو وثيقة تستند إلى رسالة كتبها في أوائل مايو 1875 إلى حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي الألماني.
أدهشني وأثار استغرابي ما فعله رفاقنا "التوانسة" -كتَّر الله خيرهم- فقد أصدروا في الأمس القريب "البيان الشيوعي باللهجة التونسية" ووزعوه مجاناً على عامَّة الناس بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ، بدعوى نشر الثقافة الماركسية في الأوساط الشعبية. لعل وعسى تفهم بلهجتها العاميَّة ما عجزتْ عن فهمه بالفصحى. وهي خطوة جريئة على كل حال, على ما تحمل من دلالات وتفسيرات ومقاصد ومآرب. وكان المفكر التونسي العفيف الأخضر-رحمه الله- قد عمل ترجمة سماها "البيان الشيوعي في أول ترجمة غير مزوَّرة" على حدِّ زعمه ضمَّنها تعليقات مسهبة من قاموس الفكر الماركسي. طبعتها دار الجمل وأصدرتها نسخة ضخمة فخمة تجاوز عدد اوراقها/350/ صفحة عام 2015.
هل يمكننا القول بأن "البيان الشيوعي" هو المخطط الهندسي الذي نسترشد به لبناء هيكل فهمنا لماهية الشيوعية؟ أم أنَّ فهم الشيوعية يحتاج إلى ذلك الحصاد الوفير من المراجع التي تركها لنا الأوائل من المفكرين من ماركس إلى مهدي عامل, ومن ثمَّ نسترشد "بسنَّة" أبرز قادة الثورات الشيوعيَّة في القرن العشرين: لينين, ماو تسي تونغ, كيم إيل سونغ, هوشي منه, فيدل كاسترو.
وهل علينا أن نفرق بين "الشيوعيَّة" كسلاح في يد الطبقة العاملة العالمية لنيل حقوقها من خلال اتحادها, وبين فلسفة الماركسية التي تدفع بالفكر البشري إلى حقول معرفية فسيحة. وهل يمكنني القول مثلاً أن المرء يمكن أن يكون ماركسياً ولا يكون شيوعياً؟ فأنا أعتبر أن عنترة العبسي كان شيوعياً لأنه قال: يُخْبِـركِ مَنْ شَهَدَ الوَقيعَةَ أنَّنِـي/ أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَـمِ.
وأسأل هُنا كيف للعامل البسيط المسلم أو المسيحي أو اليهودي أن يتدبر أمره مع الشيوعيَّة وهو يعيش في بيئة دينية؟ وهل يمكننا القول بأن الشيوعيَّة كالدين تعيش في بيئة مُتحضرة غنية كما تعيش في بيئة مُحافظة فقيرة ؟ بمعنى يمكنك ان تجد شيوعياً يعيش في مدينة بيرن عاصمة سويسرا وتجد شيوعياً آخر يعيش في بيوت الصفيح في كلكتا في الهند. والسؤال الأخطر, و الذي لا زال يقلقني من سنوات عديدة, ما الفائدة المرجوة من وجود الأغنياء وأصحاب رأس المال في الحزب الشيوعي؟
ماذا نفعل كي نفهم الشيوعيَّة فهملاً معقولاً؟ هل ننتسب إلى حزب شيوعي؟ فعلنا ذلك, وكانت النتيجة "صفر مكعب" لم نفهم. نقرأ ماركس-أنجلز؟ فعلنا ذلك أيضاً وكانت النتيجة "نَجَحَ شحط" يعني مع المساعدة. وفي هذا الصَّدد أذكر "مُلْحَة" نقلها المفكر والباحث العراقي هادي العلوي تقول: إن مسؤولاً في اليمن الجنوني -أيام عبدالفتاح إسماعيل-كان يضع على حائط مكتبه شهادة ببرواز مذهَّبْ حصل بموجبها على درجة مئة بالمئة في "الديالكتيك" من الاتحاد السوفييتي في أيام الرفيق ليونيد بريجينيف. علَّق العلوي: لو قُدِّر لكارل ماركس نفسه أن يدخل هذا الامتحان لما حصل على هذه الدرجة.
هل قرأتم مجلدات لينين "العشرة" بغلافها الأزرق التي ترجمتها دار التقدم عن الروسية ونشرتها بالعربي في سبعينات القرن العشرين؟ نعم, فعلنا وحفظناها عن ظهر قلب. وماذا كانت النتيجة؟ عملياً -في تجارب أحزابنا الشيوعية- رسبنا في الامتحان وانفض الخلق من حولنا, وأمسينا لاحول لنا ولا قوة. شراذم هُنا وهُناك. وفي دولنا الاشتراكية التي حاولنا فيها أن نكون مخلصين للشيوعيَّة كذلك الأمر فشلنا, فهي تجربة فاشلة بكل تأكيد, وهذا الفشل يفقأ العين, وأوضح ما يكونه بين الكوريتين اليوم.
مهما كانت أسباب هذا الفشل, والمسؤول عنه, لا نستطع أن نفعل فعل النعام-مع أنني لم أر النعام يفعلها, يغرس رأسه في الرمال حتى لا يرى عدوه- ولكنني أسأل نفسي أولاً: هل الشيوعيَّة إناء ينضح بما فيه؟ بمعنى "طنجرة طبيخ" نأكل مما وضعنا فيها, لأننا في الأحلام أو "اليوتوبيا" نأكل ما نشاء, أما في الواقع فنحن نأكل مما طبخناه في طناجرنا, فأنت لن تأكل سمكاً من طنجرتك التي وضعت فيها بيضاً مسلوقاً. وكذلك في المثل "نحصد ما نزرع" فأنت لن تحصد قمحاً إذا زرعت شعيراً.
في ظني أن الأمر كذلك, الشيوعيَّة في الصين غير ما هي في كوريا الشمالية, وهي في الهند غير ما هي في فنزويلا, وهي في كندا غير ما هي في السنغال وهي في روسيا غير ما هي في السعودية. تضحك؟ والله العظيم "كان صرحاً من خيال" يحمل اسم "الحزب الشيوعي في السعودية" قرأتُ بعضاً من بياناته في ثمانينيات القرن العشرين في مجلة "الهدف" الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. هل كان في بالنا ان نجرِّب زراعة الشيوعيَّة في السعوديَّة؟