ألف باء الشيوعية - الفصل الثاني:تطور النظام الرأسمالي

بوخارين و بريوبراجنسكي
2006 / 4 / 30 - 12:16     

النزاع بين الإنتاج الصغير والإنتاج الكبير

النزاع بين رأس المال الكبير ورأس المال الصغير في الصناعة. المصانع الكبيرة، التي تشغل أحيانا أكثر من عشرة آلاف عامل وتملك الآلات الضخمة، لم تكن موجودة دائما. لقد برزت تدريجيا ونمت على أنقاض الإنتاج الحرفي والصناعة الصغيرة. ولكي نفهم لماذا حصل هذا الشيء، يجب أن ندرك أن المنافسة –أي النزاع لاجتذاب المشترين- أمر حتمي في ظل الملكية الصغيرة والإنتاج السوقي. من يربح في هذا النزاع؟ الرابح هو الذي يعرف كيف يجتذب المشترين إليه وينتزعهم من منافسيه. وأهم وسيلة لاجتذاب المشترين إليه هي بيع السلع بسعر رخيص. من هو الذي يستطيع بيع السلع بأرخص الأسعار؟ هذا هو أول سؤال يجب أن نجيب عليه. بديهي أن المنتج الكبير يستطيع أن يبيع سلعه بسعر أرخص مما يستطيعه المنتج الصغير أو الحرفي المستقل. لأن المنتج الكبير يستطيع أن يشتري مواده بسعر أرخص. وللإنتاج الكبير عدة امتيازات على هذا الصعيد. وأول هذه الامتيازات أن الصناعي الذي يملك كمية وافرة من رأس المال يستطيع شراء أفضل الآلات والتجهيزات. أما وضع الحرفي المستقل أو الصناعي الصغير فيكون صعبا في العادة. فهو لا يستطيع شراء مولدا للكهرباء، ولا يجرؤ على التفكير بشراء آلات جيدة وكبيرة لأنه لا يملك المال الكافي لذلك. ثم إن الصناعي الصغير لا يستطيع شراء أحدث الآلات. المؤسسة الكبيرة إذن تسمح بتقنية أفضل ويد عاملة أكثر توفيرا وكلفة إنتاج أدنى.

الإنتاج الكبير يسمح بالتوفير في شتى المجالات: في الأبنية والآلات والمواد الأولية والإنارة والتدفئة وكلفة اليد العاملة واستخدام النفايات، إلى آخره. لنفترض أنه يوجد ألف مشغل صغير، وأنه يوجد أيضا مصنع كبير ينتج نفس كمية السلع التي تنتجها هذه المشاغل مجتمعة. في هذه الحالة، نجد أن بناء مصنع كبير هو أسهل من بناء ألف مشغل صغير. فنسبة هدر المواد الأولية مرتفعة في المشاغل أكثر منها في المصنع. والإنارة والتدفئة أسهل في المصنع الكبير مما هي في المشاغل الصغيرة. ثم إن المصنع يفيد أكثر من المشاغل الصغيرة من شؤون التموين والتنظيف والصيانة، الخ. باختصار، إدارة مصنع كبير أكثر توفيرا في كل جوانبها من إدارة المشاغل الصغيرة.

في شراء المواد الأولية وكل ما هو ضروري للإنتاج، بتمتع رأس المال الكبير بأفضلية على غيره. الذي يشتري بالجملة يدفع أقل ويحصل على نوعية أفضل. ثم أن صاحب المصنع الكبير أكثر إلماما بالسوق، ويعرف الأمكنة التي تبيع أرخص السلع. وفي المقابل، فإن المشغل الصغير في موقع دوني عندما يدخل السوق لبيع منتجاته. إن الأفضلية التي يتمتع بها الإنتاج الكبير لا تقتصر على كونه يعرف أين تباع ارخص السلع –وهو لهذا الغرض يملك من يسافر للبحث عنها، كما يمارس عمله في البورصة حيث تصل الأخبار المتعلقة بأسعار السلع باستمرار، ويملك العلاقات التجارية التي تشمل شتى أرجاء العالم. إن الإنتاج الكبير يستطيع أن ينتظر. فلو كان سعر منتوجه بالغ الانخفاض مثلا، يستطيع الاحتفاظ في المستودعات، ريثما يرتفع. وهذا ما لا يستطيعه المنتج الصغير. فهو يعيش ليومه. حالما يبيع سلعه، يصرف المال لسد حاجاته المباشرة. المنتج الصغير لا يملك إمكانية الانتظار. فما أن ينتج سلعته، حتى يضطر إلى بيعها كيفما كان، وإلا مات من الجوع. ومن الواضح أن هذا يضعه في موقع دوني بالمقارنة مع المنتج الكبير.

ثم أن الإنتاج الكبير يتمتع بأفضلية أخرى تتعلق بالتسليف. إن الرأسمالي الكبير يستطيع الحصول على المال عندما يحتاجه. المصارف تسلف دائما للشركات «القوية» بنسبة منخفضة من الفائدة. ولكن بالكاد تجد من هو مستعد لإقراض المنتج الصغير. وعندما ينجح في الحصول على قرض، تكون فائدته مرتفعة جدا. وهكذا يقع المنتج الصغير تحت رحمة المرابي.

كل هذه الأفضليات المرتبطة بالإنتاج الكبير تفسر لماذا لا يد للإنتاج الصغير من الانهيار في المجتمع الرأسمالي. إن رأس المال الكبير يسحق المنتج الصغير ويسلبه زبائنه، ويدفع به إلى الإفلاس بحيث يتساقط إلى مصاف البروليتاريا أو يتحول إلى مجرد متشرد متسكع. وفي حالات عديدة، يتشبث المنتج الصغير بالحياة. يصارع صراعا يائسا. يمارس العمل اليدوي بنفسه، ويجبر عماله وأفراد عائلته على بذل أقصى طاقتهم. لكنه يضطر في آخر المطاف إلى الانسحاب أمام الرأسمالي الكبير. وفي حالات عديدة تجد أن رب العمل الذي يبدو مستقلا هو في الواقع تابع كليا لرأس المال الكبير، يعمل لصالحه، ولا يجرؤ على أن يخطو خطوة واحدة بدون موافقته. والمنتج الصغير غالبا ما يكون واقعا في شباك المرابي. وبسبب تبعيته له، تجد أن يعمل لصالحه. أو تجده يعتمد عليه لبيع سلعه. وفي حالة أخرى، تجده تابعا للمتجر الذي يعمل من أجله. هنا يتحول المنتج الصغير إلى عامل مأجور في خدمة الرأسمالي الذي يملك المتجر الكبير، رغم احتفاظه باستقلاله الشكلي. وقد يمده هذا الرأسمالي بالمواد الخام وحتى بأدوات العمل... هنا يتضح أن العامل المنزلي بات يدور في فلك رأس المال.

وهناك شكل آخر من أشكال الخضوع لرأس المال: تجمع ورشات التصليح الصغيرة حول مشروع كبير. فتتحول هذه إلى مجرد لبنات صغيرة في هذا البناء الضخم.. ويصبح استقلال هذه الورشات استقلالا شكليا ليس إلا.

ونجد أحيانا أن أرباب العمل الصغار، والحرفيين المستقلين، والعاملين المنزليين، والباعة، أو الرأسماليين الصغار، عندما يطردون من أحد فروع الإنتاج أو التجارة، يلتجئون إلى فرع آخر لم يتمكن رأس المال الكبير من بسط سيطرته الكاملة عليه. وفي حالات عديدة، يتحول الذين أصابهم الانهيار إلى تجار صغار وباعة متجولين وما شابه.

وهكذا، فإن الاتجاه العام لرأس المال الكبير، هو الحلول محل الإنتاج الصغير في كل مكان. فتولد المشروعات الضخمة التي تشغل واحدة منها الألوف بل عشرات الألوف من العمال. إن رأس المال الكبير قد بات سيد العالم. وهو يحل محل المنتج الصغير الآخذ بالانقراض.

النزاع بين رأس المال الصغير ورأس المال الكبير في الزراعة. إن الصراع بين الإنتاج الصغير والإنتاج الكبير الدائر في الصناعة يتكرر في الزراعة، في ظل النظام الرأسمالي. مالك الأرض، الذي يدير أملاكه مثلما الرأسمالي يدير مصنعه. الفلاح الغني، الشره والمقتر. الفلاح المتوسط. الفلاح الفقير، الذي يعمل أحيانا عند مالك الأرض أو الفلاح الغني. والعامل الزراعي –هذه السلسلة الزراعية يمكن مقارنتها بالسلسلة الصناعية المكونة من الرأسمالي الكبير، الرأسمالي الصغير، الحرفي المستقل، العامل المنزلي، العامل المأجور. وكما في المدن، كذلك في الريف تقدم الملكية الكبيرة عددا من الأفضليات على الملكية الصغيرة.

يسهل إدخال الوسائل الزراعية الحديثة إلى مزرعة كبيرة. وفي المقابل فالفلاح الصغير لا يستطيع أن يتزود بالآلات الزراعية... الحرفي المستقل لا يفكر بالاستعانة بالآلات الباهضة الثمن في مشغله الصغير. لا مال لديه لشرائها. ثم إنه لا يستطيع استخدامها بحد أقصى من الفاعلية حتى ولو حصل على المال اللازم لشرائها. كذلك فالفلاح لا يستطيع شراء جرارا مثلا. ذلك أن الجرار لا يفيده، ولو أمتلك المال اللازم لشرائه، لأنه يتطلب مساحة كبيرة من الأرض لكي يقدم كامل مردوده، وهو عديم الفائدة على قطعة أرض صغيرة.

وفي العادة، نجد أن زراعة مساحات واسعة من الأراضي هي وحدها التي تسمح بمشاريع الري وتجفيف المستنقعات ومد الأنابيب في الحقول لجر المياه الإضافية وبناء سكك الحديد الخفيفة وغيرها. ففي الزراعة، كما في الصناعة، يسمح الإنتاج الكبير بتوفير الكثير من أكلاف الإنتاج في مجال الأدوات والآلات والتجهيزات وقوة العمل والمحروقات والإنارة، إلى آخره.

وبالإضافة لذلك، فإن صاحب مزرعة كبيرة يجد جدوى في الاستعانة بخبراء زراعيين، وهذا ما يمكنه من فلاحة أرضه حسب الوسائل العلمية.

وما انطبق على الصناعة في مجالي التسويق والتسليف، ينطبق أيضا على الزراعة. المزارع الكبير أكثر إلماما بوضع السوق، وهو قادر على الانتظار ريثما تحين الفرص المناسبة لبيع محصوله، وهو يستطيع سد كل احتياجيه بثمن أرخص كما يستطيع بيع منتجاته بأغلى سعر. أما المنتج الصغير، فلا يبقى أمامه إلا الصراع بأقصى ما يمكن من قوة. فالإنتاج الصغير قادر على الاستمرار فقط عبر العمل المضني والتقتير على النفس والبقاء دائما وأبدا على شفير الجماعة. فهذه وحدها هي الشروط التي تضمن له البقاء في ظل النظام الرأسمالي. ثم أن الإنتاج الصغير يعاني الكثير من جراء الضرائب المرتفعة. ذلك أن الدولة الرأسمالية تلقي بكل ثقلها على المالك الصغير. ويكفي أن نتذكر هنا ما الذي كان يعنيه النظام الضريبي القيصري بالنسبة للفلاحين -«بيعوا كل ممتلكاتكم، إذا كان هذا يؤمن دفع الضرائب التي عليكم».

ويمكن القول أن الإنتاج الصغير في الزراعة قادر على مقاومة الفناء والاندثار أكثر منه في الصناعة. في المدن، نلاحظ اندثار معظم الحرفيين المستقلين وغيرهم من المنتجين الصغار مع أن الزراعة الفلاحية، في كافة أنحاء الريف، لا تزال قادرة على الصمود والحياة. ورغم ذلك، فان الإفقار المتزايد لأكثرية سكان الريف يسير قدما إلى الأمام، مع إنتاجه ليست بوضوح نتائجه في المدن. قد يبدو أحيانا أن مشروعا زراعيا معينا هو مشروع صغير، بالقياس إلى مساحة الأرض التي يحتلها، لكنه يكون في الواقع مشروعا ضخما نظرا لحجم رأس المال الموظف فيه ولكونه يشغل عددا لا بأس به من العمال. هذا هو الحال مثلا بالنسبة إلى البساتين المجاورة للمدن التي تنتج للسوق. ومن جهة ثانية قد تجد أحيانا أن الذين يبدون وكأنهم مجرد ملاك صغار هم في معظمهم عمال مأجورين يعملون في المزارع المجاورة أو في الأعمال الموسمية أو حتى في المدن نفسها. أن المصير الذي يلاقيه الفلاحون هو نفس المصير الذي لاقاه الحرفيون المستقلون والعاملون المنزليون. فالبعض منهم يتحول إلى «كولاك» (أي تجار خمر ومرابين وفلاحين أغنياء يوسعون ممتلكاتهم تدريجيا). والبعض الآخر يناضل للحفاظ على مركزه. أما الباقي فينهار، يبيعون الأبقار والأحصنة [5]، وأخيرا يضطرون لبيع قطعة الأرض نفسها. ويستقرون في المدن أو يعملون كعمال زراعيين. هكذا فـ«الذي لا حصان له» يتحول إلى عامل مأجور، بينما «الكولاك» -أي الفلاح الذي يستخدم الأجراء، يتحول إلى مالك أرض كبير أو إلى رأسمالي.

وهكذا ففي الزراعة أيضا تنتقل كميات واسعة من الأراضي والأدوات والآلات والماشية والأحصنة وغيرها إلى يد حفنة من ملاك الأرض الرأسماليين يعمل عندهم ملايين العمال الزراعيين ويتبع لهم ملايين من الفلاحين.

تبعية البروليتاريا. «جيش العمل الاحتياطي».
عمل النساء والأحداث.

في ظل الرأسمالية، تنمو عملية تحول جماهير الشعب إلى عمال مأجورين. ويسقط إلى مصاف البروليتاريا جميع الذين انهاروا تحت ضغط رأس المال الكبير، من حرفيين، وعمال منزليين، وفلاحين، وتجار ورأسماليين صغار، ومع تزايد تمركز الثروة وانحصارها بين أيدي حفنة من الرأسماليين، تتزايد عملية تحول جماهير الشعب إلى عبيد مأجورين للرأسماليين.

وبسبب التفسخ الدائم للطبقات والفئات الوسطى، يزيد عدد العمال دائما عن حاجات رأس المال. لذا يجد العمال أنفسهم مقيدين للرأسمالية. لا بد للعامل من أن يعمل لحساب الرأسمالي. وإذا ما رفض، يستطيع رب العمل إيجاد المئات من أمثاله للحلول محله.
وهناك سبب آخر يفسر هذه التبعية غير انهيار فئات متجددة من السكان. فالذي يعزز من سيطرة رأس المال على العمال هو عملية قذف العمال «الفائضين» إلى الشارع وتحويلهم إلى قوة عمل احتياطية. كيف يتم ذلك؟ إنه يتم على الشكل التالي: رأينا منذ قليل كيف يسعى صاحب المصنع باستمرار إلى خفض كلفة الإنتاج. وهذا هو السبب الذي يدفعه باستمرار إلى الاستعانة بالآلات الجديدة. لكن الآلة تحل محل اليد العاملة، وتحول قسما من العمال إلى «عمال فائضين». وإدخال الآلات الجديدة يعني صرف قسم من العمال. وهكذا يصبح قسما من عمال المصنع عاطلين عن العمل. وبما أن الآلات الجديدة تدخل باستمرار إلى هذا الفرع من الإنتاج أو ذاك، فمن الواضح إذن أن البطالة موجودة باستمرار في ظل الرأسمالية. ذلك أن الرأسمالي ليس معنيا بإيجاد العمل للجميع، أو توفير السلع لهم؟ فهدفه هو مضاعفة أرباحه. لذا، فإنه يسعى إلى صرف العمال غير القادرين على إنتاج الأرباح التي كانوا ينتجونها له من قبل.

والواقع أن كل مدينة كبرى من مدن الأقطار الرأسمالية تضم عددا كبيرا من العاطلين عن العمل ويشمل هؤلاء عمالا صينيين ويابانيين، وهم فلاحون منهارون توافدوا من أقاصي المعمورة بحثا عن العمل. كما نجد الشبان الوافدين لتوهم من الريف وأصحاب الحوانيت والحرفيين السابقين. كذلك نجد عمال الصناعات المعدنية والطباعة والنسيج، ممن عمل في المصانع طوال سنوات ثم قذفت به الرأسمالية إلى الشارع بعد إدخال الآلات الجديدة. ويشكل هؤلاء جميعا مخزونا احتياطا من قوة العمل تحت تصرف رأس المال، أو ما أسماه ماركس «جيش العمل الاحتياطي».

وبسبب وجود جيش العمل الاحتياطي هذا، واستمرار البطالة، تتزايد تبعية الطبقة العاملة باستمرار. ويعمل رأس المال، بمساعدة الآلات الجديدة، على استخراج المزيد من الذهب من كد بعض العمال، بينما يقذف بالباقي، بالعمال «الفائضين»، إلى الشارع. ولكن المقذوفين إلى الشارع يتحولون إلى سوط بيد الرأسمالي، يستخدمه للسيطرة على العمال الذين لا زالوا يعملون.
(إن جيش العمل الاحتياطي تربة تنمو فيها الوحشية والأدقاع والمجاعة والموت والجريمة. فالذين ينقطعون عن العمل لسنوات يبدأو بالإدمان على الشراب ويتحولون إلى متسولين متسكعين. وتوجد في المدن الكبيرة –كلندن ونيويورك وهمبرغ وبرلين وباريس- أحياء بأكملها يقطنها العاطلون عن العمل... ويفقد ساكنو هذه الأحياء الصفة البروليتارية، ليتحولوا إلى فئة جديدة نسي أفرادها كافة مهارات العمل. إن هذه الفئة التي ينتجها المجتمع الرأسمالي تسمى «البروليتاريا الرثة»).

كذلك يؤدي دخول الآلات إلى الاعتماد على عمل النساء والأحداث. وهو أرخص من عمل الرجال وبالتالي أكثر إدرارا للربح بالنسبة للرأسمالي. في السابق، أي قبل دخول الآلات، كان الإنتاج يتطلب مهارات معينة. وفي بعض الأحيان، كان لا بد من فترة تدريب طويلة لاكتساب هذه المهارات. الآن يستطيع حتى الأطفال تشغيل الآلة. وكل ما هو مطلوب منهم تحريك الذراع أو القدم إلى أن يمتلكهم التعب. وهذا هو السبب الذي أدى إلى انتشار عمل النساء والأحداث بعد اختراع الآلة. والواقع أن النساء والأطفال، على العموم، يقاومون الاضطهاد الرأسمالي بنسبة أقل مما يقاومه الرجال. إنهم أكثر استعداد للطاعة والخضوع، ولتصديق كلام الكاهن أو قبول كل ما يقوله لهم الممسكون بزمام السلطة. من هنا يلجأ أصحاب المصانع في الكثير من الأحيان إلى استبدال العمال الذكور بالنساء، ويجبرون الأطفال على تحويل دمائهم إلى أرباح.

(في عام 1913، بلغ مجموع عدد النساء العاملات (وليس فقط العاملات اليدويات) الأرقام التالية: فرنسا 6800000، ألمانيا 9400000، النمسا- المجر 8200000، إيطاليا 5700000، بلجيكا 930000، الولايات المتحدة 8000000، إنكلترا 6000000. أما في روسيا، فإن عدد العاملات في تصاعد مستمر. كانت النسبة 25 بالمئة من مجموع عمال المصانع عام 1900. وارتفعت إلى 21 بالمئة عام 1908. وإلى 45 بالمئة عام 1912. ويزيد عدد النساء عن عدد الرجال في بعض فروع الإنتاج. ففي صناعة النسيج مثلا، بلغ عدد العاملات عام 1912: 453000 عاملة (بالنسبة إلى مجموع قدره 870000 أي ما يزيد عن النصف(25 بالمئة). كذلك، ارتفع عدد العاملات بشكل ملحوظ خلال الحرب).

إن عمل النساء يؤدي إلى تفكك الأسرة العمالية. فماذا يحل بالحياة العائلية عندما تضطر الأمهات، وغالبا الأطفال، للذهاب إلى العمل؟

عندما تدخل المرأة المعمل، عندما تتحول إلى عامل مأجور، تتعرض، مثلها كمثل الرجل، لكل مصاعب البطالة. يقذفها الرأسمالي إلى الشارع، فتضطر للانضمام إلى الجيش الاحتياطي الصناعي. ينتج عن ذلك البغاء، عندما تبيع المرأة جسدها لأي عابر سبيل. المرأة العاملة بلا طعام ولا عمل ولا مأوى. وحتى لو وجدت عملا، فالأجور لا تكفي لسد الجوع... كل هذه العوامل تدفعها إلى زيادة مدخولها ببيع جسدها. وبعد وقت، تصبح هذه مهنة اعتيادية. وهكذا تولد فئة من المومسات المحترفات.

مع تحسين الآلات المخترعة، وبناء مصانع أكبر من المصانع الموجودة، وزيادة كمية السلع في المجتمع الرأسمالي يتزايد القهر الرأسمالي ويتفاقم انحطاط وإدقاع جيش الصناعة الاحتياطي وتتعمق تبعية البروليتاريا لمستغليها.

ولو أن نمط الملكية السائد هو الملكية الجماعية، بدل الملكية الفردية، لكانت الأوضاع مختلفة كل الاختلاف. ولكان البشر يخفضون ساعات العمل اليومية، ويوفرون قوتهم، ويقتصدون في الجهد المبذول، ويتمتعون بالتالي بالمزيد من الرفاه. عندما يدخل الرأسمالي الآلة، يكون شاغله الشاغل هو الربح. وهو لا يفكر بتخفيض ساعات العمل اليومية، لأن ذلك يجر عليه الخسارة. ذلك أن الرأسمالي لا يستخدم الآلة لتحرير البشر، بل للامعان في استبعادهم. ومع نمو الرأسمالية، ينفق الرأسماليون كميات إضافية من رأس المال على الآلات، والأبنية الضخمة، والأفران الكبيرة وما شابه. ومن جهة ثانية، تتضاءل باستمرار كمية رؤوس الأموال المدفوعة على شكل أجور. في السابق، عندما كان العمل اليدوي هو الطاغي، كان الرأسماليون ينفقون جزءا قليلا من مالهم على الأنوال وغيرها من الآلات. وكانت معظم نفقات رأس المال تتخذ شكل الأجور المدفوعة للعمال. العكس هو الصحيح الآن، حيث ينفق القسم الأكبر من رأس المال على الأبنية والآلات. والنتيجة أن الطلب على الأيدي العاملة لا يتماشى مع تزايد عدد العمال، أي أنه لا يكفي لاستيعاب جميع الذي يحولهم نمو الرأسمالية إلى عمال مأجورين. ومع تسارع وتيرة التقدم التقني في ظل الرأسمالية، تتزايد وحشية قهر رأس المال للطبقة العاملة، وتزداد صعوبة إيجاد العمل، لا بل أن الاستمرار في الحياة بحد ذاته يزداد صعوبة.

فوضى الإنتاج. المنافسة. الأزمات

إن مآسي الطبقة العاملة تتكاثر باستمرار بنسبة التقدم في التقنية الإنتاجية. وفي ظل الرأسمالية يؤدي هذا التقدم إلى زيادة أرباح الرأسماليين. وبدل أن يعمم المنافع على الجميع، يجلب البطالة والخراب للعديد من العمال. إلا أنه توجد أسباب أخرى لهذا البؤس المتزايد.

لاحظنا سابقا أن المجتمع الرأسمالي مخلخل البنيان. الملكية الفردية تسيطر عليه. والخطة معدومة فيه. فكل صاحب مصنع ينظم عمله بالاستقلال عن الآخرين. وهو يصارع خصومه، و«ينافسهم» على كسب الزبائن.

والسؤال الآن: هل يضعف هذا الصراع أم يتصاعد مع نمو الرأسمالية؟

للوهلة الأولى يبدو أن الصراع يضعف. ولكن الحقيقة أن عدد الرأسماليين يتقلص باستمرار. والسمك الكبير يلتهم السمك الصغير. في السابق، كان هنالك عشرات الألوف من أصحاب المشاريع يصارع بعضهم البعض، وكان الصراع حادا ومريرا. وبما أن عدد المتنافسين قد انخفض، يخيل للمرء أن المنافسة فقدت الكثير من حدتها. الواقع أن العكس هو الصحيح. صحيح أن عدد المتنافسين قد انخفض، لكن كل واحد منهم بات أقوى بكثير مما كانه المتنافسون في السابق. من هنا فالصراع يتفاقم بدل أن يضعف، ويصبح أكثر شراسة بدل أن يخفت. وحتى لو أمكن لحفنة من الرأسماليين السيطرة على العالم، فإن الحكومات الرأسمالية ستبقى في حالة تناحر فيما بينها. وهذا ما انتهى إليه الأمر بالفعل. فالصراع يدور حاليا بين تكتلات من الرأسماليين، وبين الدول الممثلة لهم. وبالإضافة لذلك، فالرأسماليون يتناحرون الآن ليس عبر تنافس الأسعار وحسب وإنما بواسطة القوة المسلحة أيضا. من هنا، عندما نقول أن المنافسة تخفت مع نمو الرأسمالية، فإن ذلك يصح فقط بالنسبة لعدد المتنافسين. أما المنافسة نفسها فتزداد شراسة وتخريبا في كافة المجالات.

يبقى علينا أن نعالج ظاهرة إضافية، هي تعاقب ما يسمى «الأزمات». ما هي الأزمات؟ وما طبيعتها؟ يمكن الإجابة على هذين السؤالين بالشكل التالي:

يحدث أن ينتج النظام الرأسمالي كميات إضافية من السلع. فتنخفض الأسعار. ولكن يتعذر، مع ذلك، تصريف كل السلع. وتمتلئ المستودعات بشتى أصناف المنتجات التي لا تجد من يشتريها. ولا حاجة للقول أن ثمة العديد من العمال الجائعين. لكنهم لا يحصلون على أي من هذه المنتجات، لأنهم لا يستطيعون شراء ما يزيد عن مشترياتهم العادية. هنا تقع الكارثة. في أحد فروع الإنتاج تنهار المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ويقفلها أصحابها. ثم تنهار المؤسسات الكبيرة. لكن هذا الفرع من الإنتاج كان أصلا يشتري السلع من فرع آخر، وهذا الثاني كان يشتري سلعه من فرع ثالث. فالخياطون مثلا يشترون الأقمشة من منتجي الأقمشة، وهؤلاء يشترون الصوف بدورهم من مصانع الغزل، وهكذا دواليك. وعندما تضيق الأحوال بالخياطين، يفقد صانعو الأقمشة زبائنهم. ينهار صانعو الأقمشة، وينعكس انهيارهم على المصانع التي تمدهم بالصوف. وهكذا فإن المصانع والمشاغل لا تلبث أن تقفل أبوابها، وتقذف بعشرات الألوف من العمال إلى الشارع. تكتسب البطالة حجما لم يكن لها من قبل. ويتدهور مستوى معيشة العمال. ومع ذلك. فثمة فائض من السلع في البلاد، والمستودعات تضيق بها.

هكذا كانت الحال باستمرار قبل الحرب. تزدهر الصناعة. وتعمل الصناعات بوتيرة سريعة. وفجأة تقع النكسة. يعقبها البؤس والبطالة وشلل الإنتاج. وتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي بعد فترة. وتأتي مرحلة من النشاط المكثف لا تلبث أن يعقبها نكسة جديدة. وتتجدد هذه الدورة إلى ما لا نهاية.

كيف نفسر هذه الحالة العجيبة حيث البشر ينحدرون على أدنى دركات الإدقاع وسط نعيم الثروات؟

الجواب ليس باليسير. ولكن لا بد من مجاولة.

قلنا سابقا أن المجتمع الرأسمالي يتسم بفوضى الإنتاج. كل صاحب مصنع ومشروع ينتج لنفسه، على مسؤوليته الخاصة. والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن تزيد السلع المنتجة عما هو مطلوب، أي أن تتولد حالة من فائض الإنتاج. عندما كان الإنتاج معدا للاستهلاك المباشر وليس للسوق، لم يكن هنالك خطر الفائض في الإنتاج. العكس صحيح بالنسبة إلى الإنتاج السلعي. ففي ظله، ينبغي على كل صاحب مصنع أن يبيع منتجاته أولا بأول، لكي يستطيع شراء ما يحتاجه لمواصلة الإنتاج. وإذا حدث أن توقفت الآلات في فرع من الفروع، بسبب الفوضى في الإنتاج، لا يلبث هذا الخلل أن ينتقل من فرع إنتاجي إلى آخر، فتتولد أزمة شاملة.

ولهذه الأزمات مفعول كاسح. كميات كبيرة من السلع تصاب بالتلف. وينهار بقية المنتجين الصغار، كأن يفعل مكنسة حديدية لا ترحم. وقد يتفاقم الوضع إلى حد انهيار المؤسسات الكبيرة.
بالطبع، تتحمل الطبقة العاملة العبء الأكبر الناتج عن هذه الأزمات.

بعض المصانع تقفل أبوابها نهائيا، وبعضها يخفض الإنتاج، والبعض الآخر يقفل أبوابه مؤقتا. وبذلك يتكاثر عدد العاطلين عن العمل. وينمو جيش الاحتياط الصناعي، يرافقه تفاقم الفقر في أوساط الطبقة العاملة. ففي ظل الأزمات نجد أن أوضاع الطبقة العاملة، السيئة أصلا، تصبح أسوا مما كانت عليه من قبل.


نمو الرأسمالية وتبلور الطبقات. احتدام الصراع الطبقي.

قلنا إن المجتمع الرأسمالي يحكمه تناقضان أساسيان ويعاني من علتين أساسيتين. فهو أولا «فوضوي» أي ينعدم فيه التنظيم. وهو مكوّن، ثانيا، من مجتمعين متناحرين (من طبقتين اجتماعيتين متناحرتين). كذلك لاحظنا أنه مع تطور الرأسمالية تؤدي فوضى الإنتاج، التي تعبر عن نفسها بالمنافسة، إلى المزيد من النزاع والاضطراب والفوضى. ويزداد تفكك المجتمع بدلا من أن يتضاءل. هذا كله وليد انشطار المجتمع إلى شطرين وقسمته إلى طبقات. فمع تطور الرأسمالية، يستمر هذا الانشطار الطبقي. تتكدس ثروات العالم في جهة، أي معسكر الرأسماليين، أما في الجهة الثانية، أي معسكر في المقهورين، فيتراكم البؤس والمرارة والدموع. ويولد جيش العمل الاحتياطي فئة من الأفراد المنحطين، ضحايا الفقر الذي يسحقهم. ولكن حتى الذين يعملون في مهن ثابتة، يتميزون بوضوح، في نمط حياتهم، عن الرأسماليين. والواقع أن تمايز البروليتاريا عن البرجوازية ينمو باستمرار. في السابق، كانت هنالك فئة من الرأسماليين الصغار تربطها صلات وثيقة بالبروليتاريا، تعيش في مستوى معيشة أحسن بقليل من مستوى معيشة البروليتاريين. الأمر مختلف الآن. فأسياد رأس المال يعيشون بطريقة لم يكن ليحلم بها إنسان من قبل. صحيح أن مستوى معيشة العمال قد تحسن مع تطور الرأسمالية. منذ نشأة الرأسمالية حتى مطلع القرن العشرين، عرف العالم ارتفاعا عاما في الأجور. لكنه شهد خلال الفترة ذاتها نموا أسرع لأرباح الرأسماليين. وها أن بونا شاسعا بات يفصل بين الجماهير الكادحة والطبقة الرأسمالية. فالرأسمالي بات يعيش حياة مختلفة كل الاختلاف عما قبل. وهو لا ينتج شيئا بنفسه. ومع تطور الرأسمالية، يرتفع المركز الاجتماعي لحفنة من الرأسماليين البالغي الثراء، وتتسع الهوة بين هؤلاء الملوك غير المتوجين وبين ملايين البروليتاريين المستعبدين.

قلنا أن أجور العمال ارتفعت بشكل عام. لكن الأرباح تزايدت بنسبة أكبر. ولهذا السبب فإن الهوة بين الاثنين اتسعت بدل أن تتقلص. والحقيقة أن الأجور آخذة بالانخفاض منذ مطلع القرن العشرين، بينما الأرباح أخذت تتزايد بوتيرة مرتفعة. هذا يعني أن السنوات الأخيرة شهدت نموا سريعا في التفاوت الاجتماعي.

ومن الواضح أن هذا التفاوت الاجتماعي، النامي باستمرار، سيؤدي عاجلا أو آجلا إلى الصدام بين العمال والرأسماليين. فلو كان التمايز بين الطبقتين يسير باتجاه التقلص، ولو كان مستوى معيشة العمال يقترب باطراد من مستوى معيشة الرأسماليين، لأمكننا التطلع إلى نظام يسوده «السلام على الأرض والخير لبني البشر». لكن الحقيقية أن العامل، في ظل الرأسمالية، يزداد ابتعادا، يوم بعد يوم، عن الرأسمالي بدلا من أن يقترب من مستواه.

والنتيجة الحتمية لذلك هي احتدام الحرب الطبقية بين البروليتاريا والبرجوازية.

وتنشأ الحرب الطبقية من تضارب المصالح بين البرجوازية والبروليتاريا. فهذه المصالح يستحيل التوفيق بينها، مثلما يستحيل التوفيق بين مصالح الذئب والحمَل.

فمن الواضح أن مصلحة الرأسمالي تكمن في بذل أكبر عدد ممكن من ساعات العمل وبأقل الأجور. لذا، فبديهي أن تناضل الطبقة العاملة، منذ وجدت، من أجل زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل.

إن هذا النضال لم ينقطع ولم يخمد في وقت من الأوقات. وهو لا يقتصر، على كل حال، على النضال من أجل زودات أجور تافهة. فحيثما تطور النظام الرأسمالي، ازداد الاقتناع لدى الجماهير الكادحة بضرورة القضاء على الرأسمالية. وبدأ العمال يتباحثون في كيفية استبدال هذا النظام البغيض بنظام عادل ورفاقي يرتكز إلى العمل. ذلك هو أصل الحركة الشيوعية للطبقة العاملة.

عرف العمال هزائم عديدة خلال مسيرتهم النضالية. غير أن النظام الرأسمالي يحمل في أحشائه بذور انتصار البروليتاريا النهائي. لماذا؟ لأن تطور الرأسمالية يؤدي إلى تحول أوسع جماهير الشعب إلى بروليتاريين. وانتصار الرأسمالية الكبيرة يؤدي إلى خراب الحرفيين المستقلين والتجار الصغار والفلاحين، ويضخم صفوف العمال المأجورين. ومع كل خطوة من تقدم الرأسمالية، يتكاثر عدد البروليتاريين. فهي مثل وحش الأسطورة المتعدد الرؤوس: كلما قطعت له رأسا نبت له عشرة رؤوس جديدة. عندما تقمع البرجوازية انتفاضة عمالية، تدعم بذلك النظام الرأسمالي. لكن تطور الرأسمالية اللاحق يحمل خراب الملاك والفلاحين الصغار بالملايين، ويقذف بهم تحت أقدام الرأسماليين. وهو بذلك يزيد عدد البروليتاريين، أعداء الطبقة الرأسمالية. والواقع أن تزايد قوة الطبقة العاملة ليس محوريا وحسب. فالطبقة العاملة تزداد تماسكا أيضا. لماذا يحصل ذلك؟ لأن تطور الرأسمالية يزيد عدد المصانع الكبيرة. وكل مصنع كبير يضم ألف عامل، وأحيانا عشرة آلاف. يعمل هؤلاء العمال جنبا إلى جنب، ويتعرفون على أشكال الاستغلال التي يمارسها رب العمل الرأسمالي عليهم. ويتعرف كل عامل على زملائه العمال كأصدقاء ورفاق له. وخلال عملهم الموحد في المصنع، يتعلم العمال كيف يوحدون جهودهم وقواهم. وهذا ما يسهل الاتفاق فيما بينهم. لذلك نقول أنه مع تطور الرأسمالية لا يتكاثر العمال وحسب، وإنما يتعزز تضامن الطبقة العاملة أيضا.

مع تسارع انتشار المصانع الكبيرة، يتسارع نمو الرأسمالية، كما يتسارع انهيار الحرفيين المستقلين والعمال المنزليين والفلاحين. وبالتالي يتسارع نحو المدن الكبيرة التي تضم ملايين السكان. وأخيرا، فالمدن الكبيرة تكدس كميات هائلة من البشر على رقعة ضيقة نسبيا، وأكثرية هؤلاء تنتمي إلى البروليتاريا الصناعية. تعيش هذه الجماهير في الأحياء البائسة من المدينة، بينما حفنة الأسياد، المالكة لكل شيء، تعيش في القصور الفخمة. كذلك يتقلص عدد أفراد هذه الحفنة باستمرار، بينما العمال يتكاثرون ويتعزز التضامن فيما بينهم.

في ظل ظروف كهذه، لا بد لاحتدام الصراع من أن يؤدي على انتصار الطبقة العاملة في نهاية المطاف. فلا بد للعمال من أن يصطدموا بطبقة الأسياد عاجلا أم آجلا، غير آبهين بتضرعات وبأضاليل البرجوازية، فيقضون عليها، ويدمرون حكومة اللصوص التي تحميها، ويتبنون نظاما جديدا، نظاما شيوعيا قائما على العمل. وهكذا فالرأسمالية، في سياق تطورها نفسه، تؤدي حتما إلى ثورة البروليتاريا الشيوعية.

(إن صراع البروليتاريا الطبقي ضد البرجوازية يتخذ عدة أشكال. وقد برزت، خلال هذا الصراع، ثلاثة أشكال رئيسية. أول شكل هو النقابات التي تضم العمال حسب مهنهم. والثاني هو التعاونيات المعنية بالتوزيع بالدرجة الأولى، ذلك أن هدفها هو تحرير العمال من قبضة الوسطاء والتجار. وأخيرا هناك الأحزاب السياسية للطبقة العاملة (الاشتراكية، والاشتراكية-الديموقراطية، والشيوعية) التي يقوم برنامجها على قيادة الطبقة العاملة في نضالها من أجل استلام الحكم. ومع احتدام الصراع بين الطبقتين، تزداد أهمية تركيز كافة قطاعات حركة الطبقة العاملة على هدف واحد –الإطاحة بالدولة البرجوازية. وأن قادة الحركة العمالية الذين أدركوا هذه الضرورة على نحو أفضل، شددوا دائما على ضرورة التعاون الوثيق بين كافة تنظيمات الطبقة العاملة. فأشاروا، مثلا، إلى أهمية وحدة العمل بين النقابات والأحزاب البروليتارية السياسية، وأعلنوا أن النقابات لا يمكن أن تبقى «حيادية» (أي غير مبالية بالشؤون السياسية). وقالوا أنه على النقابات أن تسير جنبا إلى جنب مع الأحزاب السياسية للطبقة العاملة.

مؤخرا اتخذت الحركة العمالية أشكالا جديدة، أهمها مجالس مندوبي العمال (السوفييت)، التي سوف نتحدث عنها تكرارا في هذا الكتاب).

وهكذا، فمن خلال دراستنا لتطور النظام الرأسمالي، نستخلص النتائج التالية:

مع تطور الرأسمالية.
يتقلص عدد الرأسماليين لكنهم يزدادون ثراء وقوة.
يتكاثر العمال باستمرار ويتوثق التضامن العمالي، ولكن ليس بالنسبة نفسها لتكاثر عددهم، الأمر الذي يؤدي إلى اتساع الهوة بين العمال والرأسماليين.
لذا يؤدي تطور الرأسمالية بالضرورة إلى الصدام بين الطبقتين، أي يؤدي إلى قيام الثورة الشيوعية.

تراكم وتمركز رأس المال من مسببات الشيوعية

رأينا كيف أن الرأسمالية تحفر قبرها بيدها. ذلك أنها تولد حفاري –البروليتاريين. ومع نموها يتكاثر أعداؤها اللدودون ويتوحدون ضدها. لكن الرأسمالية لا تكتفي بإنجاب أعدائها. إنها تمهد أيضا لولادة تنظيم جديد للإنتاج الاجتماعي، تمهد لقيام نظام اقتصادي جديد رفاقي وشيوعي. كيف تفعل ذلك؟ سوف نجيب على هذا السؤال بسرعة.

قلنا سابقا أن رأس المال يتكاثر باستمرار (المادة بعنوان «رأس المال»). يضيف الرأسمالي إلى رأسماله قسما من فضل القيمة الذي يستخرجه من الطبقة العاملة. وبذلك يتكاثر رأس المال. ولكن إذا تكاثر رأس المال، فهذا يعني أن الإنتاج يجب أن ينمو كذلك. إن تكاثر رأس المال، وتجمعه في أيدي الرأسماليين هو ما نسميه تراكم أو تمركز رأس المال.

قلنا أيضا (في المادة بعنوان «النزاع بين الإنتاج الكبير والإنتاج الصغيرة») إن تطور الرأسمالية يؤدي إلى انهيار الإنتاج الصغير والمتوسط، إلى خراب المنتجين والتجار الصغار والمتوسطين، ناهيك بالحرفيين المستقلين. الذين يبتلعهم الرأسمالي الكبير جميعا. وهكذا الذي كان بحوزة الرأسماليين الصغار والمتوسطيين يفلت من أيديهم ويجد طريقه، بأشكال مختلفة، إلى جيوب الرأسماليين الكبار. وهكذا ينمو رأس مال كبار الرأسماليين باستمرار بفضل الكميات التي يحصلون عليها من الرأسماليين الأقل منهم شأنا. وتتراكم رؤوس الأموال الآن في يد فرد واحد بينما كانت في السابق تتراكم في أيدي عدة أفراد. وبعد خراب الرأسماليين الصغار، ينهب المنتصرون رؤوس أموالهم. إن هذا التراكم لرؤوس أموال كانت موزعة سابقا هو ما نسميه تمركز رأس المال.

إن تمركز رأس المال –أي تراكمه في يد قلة من الرأسماليين –لا يعني فورا تمركز الإنتاج. لنفترض أن أحد الرأسماليين استخدم ما راكمه من فضل قيمة لشراء مصنع صغير من جاره، وأنه سيَّر هذا المصنع بالطرق التقليدية القديمة. لقد حصل التراكم هنا لكن الإنتاج لم يطرأ عليه أي تغير. في العادة، تسير الأمور بطريقة مختلفة. فالرأسمالي يعيد النظر بأساليب الإنتاج لجهة تطويرها كما يزيد الإنتاج (لأن ذلك أكثر إدرارا للربح بالنسبة إليه)، أي أنه بوسع مصنعه. ولا ينتج عن ذلك توسع رأس المال وحسب وإنما ارتفاع الإنتاج نفسه. هكذا يجري الإنتاج على نطلق واسع، مستخدما كميات كبيرة من الآلات، جامعا عدة آلاف من العمال. وقد يكفي دزينة من مثل هذه المصانع لسد حاجات بلد بأكمله لسلعة معينة. العمال هنا ينتجون من أجل المجتمع كله. وبتعبير آخر نقول أن العمل صار عملا اجتماعيا. ومع ذلك فالسيطرة والربح لا يزالان بيد حفنة من الرأسماليين.

إن هذا التمركز في الإنتاج يمهد الطريق للإنتاج التعاوني والجماعي بعد انتصار الثورة البروليتارية.

ولو لم يتحقق تمركز الإنتاج، لو أن البروليتاريا تسلمت الحكم في زمن يتم الإنتاج فيه داخل مئة ألف مشغل صغير لا يستخدم الواحد أكثر من عاملين أو ثلاثة عمال، لاستحال عليها تنظيم هذه المشاغل على نحو فعال، وتجميع الإنتاج. فكلما قطع تطور الرأسمالية أشواطا جديدة، كلما ارتفعت نسبة تمركز الإنتاج، كلما بات أيسر على البروليتاريا أن تدير الإنتاج بعد انتصارها.

لذا نقول أن الرأسمالية لا تخلق أعداءها اللدودين وتمهد الطريق إلى الثورة الشيوعية وحسب، لكنها تبني الأساس الاقتصادي لتحقيق المجتمع الشيوعي أيضا.

===========
هوامش
[1] الأحصنة في روسيا كانت تستخدم للحراثة و«الذي لا حصان له» تعبير يطلق على الفلاح الفقير. –المترجم-
[2] «بوتيلوف» احتكار للسلاح في روسيا، و«كروب» في ألمانيا، و«أرمسترونغ» و«فايكرز» في إنكلترا...
[3] أي الذين يتمتعون ب«حرية» بيع قوة عملهم لرب العمل الذي يختارونه. –المترجم-
[4] الشرح هنا يتناول الوقف من الدفاع عن الوطن في ظل الرأسمالية الاحتكارية التي تحولت إلى قوة استعمارية. ولا يتناول بالطبع مهام الطبقة العاملة في حروب الدفاع عن الوطن، أو في الحروب الوطنية التحررية، ضد الغزو الاستعماري. -المترجم-

****

نسخ إلكتروني: جريدة المناضل-ة
ملاحظة:
بقية الفصول تجدونها على موقع جريدة المناضل-ة تبعا للرابط التالي
www.al-mounadhil-a.info/article.php3?id_article=566&artsuite=1#sommaire_1