كتلة الدوما - البلشفية طريق الثورة


آلان وودز
2019 / 4 / 19 - 21:10     

البلشفية طريق الثورة

الفصل الخامس: سنوات الحرب

كتلة الدوما


آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي


«في جلسة مجلس الدوما، بتاريخ 26 يوليوز 1914، تبنى النواب بالإجماع قراراً يعلنون فيه استجابتهم "لدعوة ملكهم، للوقوف دفاعا عن بلدهم وشرفه وممتلكاته". وكان المعارضون الوحيدون هم المناشفة الستة وخمسة من البلاشفة إضافة إلى نواب الترودوفيك، حيث غادروا الجلسة ورفضوا التصويت على ميزانية الحرب (على الرغم من أن كيرينسكي عبر على موافقته على الحرب الدفاعية). كانت تلك "أيام رائعة في أوائل غشت"، وبدا أن روسيا قد "تحولت بالكامل"، كما كتب السفير البريطاني».[1]






كان المخبر مالينوفسكي قد استقال فجأة قبل الحرب بقليل، وذهب إلى الخارج، فبقي خمسة نواب بلاشفة فقط هم: باداييف وبتروفسكي ومورانوف وسامويلوف وشاجوف، الذين كان موقفهم محفوفا بالمخاطر على نحو متزايد.

بقي الفريق البرلماني لبعض الوقت نقطة محورية مهمة للعمل. كان المخبر مالينوفسكي قد استقال فجأة قبل الحرب بقليل، وذهب إلى الخارج، فبقي خمسة نواب بلاشفة فقط هم: باداييف وبتروفسكي ومورانوف وسامويلوف وشاجوف، الذين كان موقفهم محفوفا بالمخاطر على نحو متزايد. أدى ضغط الجماهير البرجوازية الصغيرة إلى انهيار فوري للتحالف مع الترودوفيك. فقد أعلن كيرينسكي أن الترودفيك سيدعم الحرب بنشاط، ومن هنا جاءت محاولاته فرض موقف "الدفاع عن الوطن" على الطبقة العاملة. في الواقع كان أغلب العمال معارضين للحرب، على عكس الفلاحين الذين دعموا الترودوفيك. وقد اضطر النواب البلاشفة، الذين صاروا يشعرون بالعزلة، إلى الاقتراب من المناشفة، وهو الأمر الذي أثار استياء لينين. كان تشخيدزه، زعيم الفريق المنشفي في مجلس الدوما، قد بدأ يتبنى موقفا شبه يساري، مما سهل التقارب المؤقت مع البلاشفة. وقع النواب البلاشفة داخل الدوما تحت ضغط شديد من قبل النزعة الشوفينية وحمى الحرب. لم يكن موقف النواب البلاشفة ثابتا على الإطلاق، وكانوا يميلون إلى تجاهل الاختلافات الموجودة بينهم وبين المناشفة الذين كانوا بدورهم قد صاروا يتجهون نحو تبني موقف الدفاع عن الوطن. وتحت تأثير كامينيف، صار النواب البلاشفة يخففون من موقف الانهزامية الثورية وحاولوا أن يلطفوا من حدة صياغات لينين. في البداية تبنى فريقا البلاشفة والمناشفة في الدوما نفس الموقف من الحرب. وتمت قراءة القرار المشترك بين الفصيلين في مجلس الدوما. والذي كان، على حد تعبير كروبسكايا، مصاغا "بكلمات جد حذرة وترك الكثير من الأشياء دون أن يتحدث عنها"[2]. لكنه كان كافياً لإثارة هتافات الاحتجاج من باقي أعضاء المجلس.

لقد أثار سلوك الاشتراكيين الديمقراطيين الروس في مجلس الدوما انتباه قادة الأممية الاشتراكية، الذين كانوا قد بدأوا بالفعل يقومون بدور عملاء صريحين لحكوماتهم. في وقت ما من شهر غشت توصل الفريق البرلماني ببرقية من الاشتراكي البلجيكي إيميل فاندرفيلد، رئيس مكتب الأممية الاشتراكية، الذي كان قد دخل الحكومة كوزير للدولة، وكان يدعوا رفاقه الروس إلى اتباع خطواته. يصير نفاق الرجل أكثر إثارة للاشمئزاز إذا أخذنا في الاعتبار أنه قبل بضعة أشهر فقط، أي في ربيع 1914، كان قد زار روسيا في مهمة لتقصي الحقائق، وبالتالي كان على معرفة جيدة بالطبيعة القمعية للنظام القيصري الروسي. لكنه صار، وراء ذريعة الحاجة إلى "هزيمة النزعة العسكرية البروسية"، يدعوا الاشتراكيين الديمقراطيين الروس إلى تأجيل معارضتهم للنظام القيصري إلى ما بعد الحرب:


«تعتبر هزيمة النزعة العسكرية البروسية - أنا لا أقول ألمانيا التي نحبها ونحترمها- مسألة حياة وموت بالنسبة للاشتراكيين في أوروبا الغربية... لكن في هذه الحرب الرهيبة التي تلحق بأوروبا بسبب تناقضات المجتمع البورجوازي تجد البلدان الديمقراطية الحرة نفسها مجبرة على الاعتماد على الدعم العسكري من طرف الحكومة الروسية.

إن فعالية هذا الدعم أو عدم فعاليته يعتمد إلى حد كبير على البروليتاريا الثورية الروسية. بالطبع أنا لا أستطيع أن أملي عليكم ما يجب عليكم فعله، أو ما تمليه مصالحكم؛ أنتم وحدكم من يستطيع تقرير ذلك. لكني ألتمس منكم - ولو كان فقيدنا جوريس على قيد الحياة لكان سيؤيد ملتمسي- تبني نفس الموقف المشترك للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا... نعتقد أنه يجب علينا جميعا أن نتحد لدرء هذا الخطر وسنكون سعداء لو نعرف رأيكم حول هذه المسألة، وأكثر سعادة إذا اتفق مع موقفنا».[3]

إن هذه الكلمات المراوغة، التي حملت توقيع "إميل فاندرفيلد، مندوب العمال البلجيكيين إلى مكتب الأممية الاشتراكية والوزير البلجيكي منذ إعلان حرب"، هي بالتأكيد واحدة من أبشع الأمثلة عن المكر الدبلوماسي في التاريخ. لكنها مع ذلك تسببت في جعل النواب المناشفة في مجلس الدوما يترددون في موقفهم المعارض للحرب الذي تبنوه في البداية. اندلع نقاش عنيف داخل الفصيل حول كيفية الرد على الرسالة، وفي النهاية أصدروا بيانا يمثل تخليا واضحا عن الموقف السابق المناهض للحرب. وبعد أن وصفوا مظاهر معاناة الشعب الروسي في ظل القيصرية، خلصوا إلى أنه:


«على الرغم من هذه الظروف، فإنه مع الأخذ في الاعتبار الأهمية الدولية للصراع الأوروبي وحقيقة أن الاشتراكيين في الدول المتقدمة يشاركون فيه (!)، مما يمكننا من الأمل (!) في أنه يمكن أن يصب في مصلحة الأممية الاشتراكية (!!)، نعلن أننا لا نعارض الحرب بعملنا في روسيا».[4]

لقد تابع لينين سلوك القادة البلاشفة في بتروغراد بقلق متزايد. كان يشعر بخيبة أمل خاصة من رد فعل نواب الدوما الضعيف على برقية فاندرفيلد. قال ماكين في هذا الصدد:


«يمكن أن نستخلص من خلال بعض الأدلة أن لينين لم يكن راضيا عن موقف رفاقه من الحرب. لقد امتنع عن انتقاد بيان الفريق البرلماني بشكل علني، لكنه قام، في مراسلات ما زالت لم تنشر حتى الآن، بانتقاد رد البلاشفة على فاندرفيلد».[5]

ونظراً لشدة حمى الحرب ليس من المستغرب أن يتأثر نواب مجلس الدوما أيضا. لكن الشيء المحدد في آخر المطاف لم يكن تلك التذبذبات، بل واقع أنه كان من الممكن تصحيحها بسرعة. إذ بعد ترددهم الأولي استعاد الفريق في مجلس الدوما رباطة جأشه وبدأ في تبني موقف مبدئي ضد الحرب. رفض النواب الاشتراكيون الديمقراطيون التصويت لصالح ميزانية الحرب وألقوا خطابات ضدها في مجلس الدوما، وانسحبوا احتجاجا من الغرفة. وبعد ذلك تصرف أعضاء الفريق بشجاعة، وقاموا بزيارة المصانع وإلقاء خطابات مناهضة للحرب في اجتماعات العمال. كان نشاطهم يمثل، خلال الأشهر الأولى للحرب، أساس عمل الحزب.

وكتب تروتسكي معلقا على سلوك فريق الدوما قائلا:


«لم يكن الفصيل البلشفي في مجلس الدوما، الذي كان ضعيفا بسبب طبيعة أعضاءه، في مستوى المهام التي طرحتها الحرب. لقد عملوا، جنبا إلى جنب مع النواب المناشفة، على صياغة بيان وعدوا فيه "بالدفاع عن ممتلكات الشعب ضد جميع الهجمات مهما كان مصدرها". وهو الاستسلام الذي استقبله أعضاء الدوما بالتصفيق. لم تتبن أي من منظمات أو مجموعات الحزب داخل روسيا موقف الانهزامية الذي دافع عنه لينين في الخارج».

لكنه في نفس الوقت يضيف:


«غير أن نسبة أنصار النزعة الوطنية بين البلاشفة كانت ضئيلة. وعلى عكس النارودنيين والمناشفة، عمل البلاشفة منذ عام 1914 على نشر تحريض مطبوع وشفهي ضد الحرب بين الجماهير. وسرعان ما استعاد النواب البلاشفة رباطة جأشهم وجددوا عملهم الثوري - الذي كانت السلطات على دراية كبيرة به، بفعل نظام استخباراتي متطور للغاية. يكفينا أن نعلم أنه عشية الحرب، كان ثلاثة، من بين سبعة أعضاء في لجنة الحزب في بيترسبورغ، يعملون لصالح المخابرات».[6]

كان العمل الثوري يعاني باستمرار من رقابة الشرطة التي كانت قد تسللت إلى أعلى مستويات الحزب. كان مجرد محاولة تنظيم الاجتماعات -بما فيها الاجتماعات الصغيرة- في الداخل تؤدي إلى اعتقالات جديدة. لقد توقف الحزب عن العمل فعليا، باستثناء نشاط محدود على المستوى المحلي. لم يتم عقد أي اجتماع وطني حتى نوفمبر 1914، حين تم تنظيم لقاء في منزل ريفي صغير خارج بيترسبورغ، برئاسة كامينيف، الذي كان قد جاء من فنلندا. انعقد اللقاء في ظروف من السرية القصوى في منزل أحد العمال في ضاحية معزولة من بيترسبورغ. لم يحضر الاجتماع إلا أعضاء الدوما بالإضافة إلى بعض المندوبين عن المنظمات المحلية - من بتروغراد (كما صارت سان بيترسبورغ تسمى لتجنب استخدام اسم ألماني) وخاركوف وإيفانوفو- فوزنسينسك، إضافة إلى ممثل واحد عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي اللاتيفي. لا توجد تقارير عن ذلك اللقاء بسبب أن الشخص الذي كان يتوفر عليها تعرض للاعتقال. وعندما اجتمع المندوبون أخيرا، بعد قضائهم لساعات عديدة في محاولة التهرب من مراقبة الشرطة، قدمت تقاريرهم صورة قاتمة عن وضع المنظمة. ويتذكر باداييف، الذي كان حاضرا في ذلك اللقاء إلى جانب بقية أعضاء الدوما البلاشفة، قائلا:


«لقد عانت خلايا الحزب بشدة وكذلك المنظمات الشرعية؛ كان حزبنا، زعيم البروليتاريا ودليلها، شبه محطم. ومع ذلك فإن الهيكل العظمي كان ما يزال قائما، وما زال هناك بعض العمل الحزبي، والذي كانت مسألة توسيعه مرتبطة بمسألة الحفاظ على الفريق البرلماني الذي كان بمثابة مركز وأساس المنظمة بأكملها».[7]

تمت مناقشة موقف لينين بشأن الحرب، ووفقا للرواية "الرسمية"، فقد تم تبنيه بعد إدخال "تعديلات صغيرة" فحسب. لكن في الواقع لم يكن نواب مجلس الدوما مقتنعين نهائيا بموقف لينين الانهزامي. وفي وقت لاحق، عندما تمت محاكمتهم، قاموا جميعا، باستثناء مورانوف، بالتنكر له. كانت الضربة الأشد هي التي ستأتي بعد ذلك. وعلى الرغم من جميع الاحتياطات المتخذة، كان اللقاء معروفا للشرطة. في اليوم الثالث [04 نوفمبر]، عندما كان المندوبون ما يزالون يناقشون أطروحات لينين عن الحرب، انكسر الباب بركلات رجال الشرطة الذين ألقوا القبض على جميع الحاضرين و "قلبوا المكان" رأسا على عقب. تم إطلاق سراح نواب مجلس الدوما بعد وقت قصير، لكنهم لم يظلوا طلقاء لفترة طويلة. لقد تمكنوا من إتلاف الوثائق، لكن في المساء كان كل الفريق البلشفي قيد الاعتقال. كانت تلك هي الضربة النهائية. وبعد القضاء على النقطة الوحيدة التي كانت تسمح بحشد قوات الحزب المبعثرة، صار الوضع ميؤوسا منه. بعد إلقاء القبض على نواب الدوما الخمسة، كتب لينين إلى أ. ج. شليابنيكوف قائلا:


«هذا مريع. من الواضح أن الحكومة قد قررت أن تنتقم من المجموعة الاشتراكية الديمقراطية العمالية الروسية، ولن تتوقف عند أي حد. يجب علينا أن نكون مستعدين للأسوء: تزوير الوثائق وتلفيق التهم وفبركة "الأدلة" وشهادات الزور والمحاكمة خلف الأبواب المغلقة، إلخ، إلخ».[8]

في ظل ذلك الجو العام للاكتئاب والخوف، لم يؤدي اعتقال نواب مجلس الدوما إلى أي احتجاجات جماهيرية. كتب رئيس مكتب الأوخرانا في بتروغراد في تقرير لرؤسائه أن "العمال قد تفاعلوا بشكل خامل، وحتى ببرود" مع الاعتقالات[9]. لم تلق المحاولات التي قام بها البلاشفة لتنظيم الاحتجاجات أي صدى، باستثناء إضراب لمدة نصف يوم في المعهد النفسي العصبي. بدت حظوظ الحزب عند أدنى مستوياتها. ومع تصفية فريق الدوما، أصبح العمل في روسيا أكثر صعوبة من ذي قبل. صار من الصعب بشكل متزايد الحصول على متعاونين ذوي خبرة في روسيا. وبحلول يناير 1915، كانت الاعتقالات قد جرفت معظم أعضاء الحزب. وقد كانت التهمة هي نفسها دائما: "التحريض ضد الحرب". كانت الطرق التي يمكن من خلالها إيصال الرسائل والدعاية طويلة وخطيرة، وتزايدت قوة الرقابة البوليسية مع استمرار الحرب. عندها انتقل مركز الثقل إلى الخارج. لكن هناك أيضا كانت المشاكل تتضاعف.

هوامش:


1: L. Kochan, Russia in Revolution, pp. 176-77.

2: N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p. 285.

3: A.Y. Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p. 208.

4: Ibid., pp. 208-209.

5: R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p. 366.

6: L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p. 59.

7: A.Y. Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p. 212.

8: LCW, To A.G. Shlyapnikov, 28/11/1914, vol. 35, p. 175.

9: R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p. 370.