بيان الشيوعيَّة


عبدالرزاق دحنون
2019 / 4 / 17 - 11:31     

الشيوعيَّة أو المشاعيَّة كما فهمتها واحدة من أنضج أفكار كارل ماركس و التي سعت كي تقترب من حلم البشر في العدل الاجتماعي والسلطة البسيطة الخالية من أجهزة القمع والتي يُدير فيها الناس شؤونهم بأنفسهم. أليس مُدهشاً للفكر البشري أن يطرح ماركس وأنجلز -نظرياً على الأقل-اضمحلال الدولة في العهد الشيوعي؟ هي فكرة غاية في الثورية تمخض عنها رأي ماركس في الدولة والتي هي هيئة للسيادة الطبقية, تمارس عملها من خلال مؤسسات الجيش والأمن والمخابرات والشرطة, وهذه الهيئات وجدت في الأساس لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى. لذلك يؤكد أنجلز بأن الدولة في المرحلة الشيوعيَّة لا عمل لها و ستذهب إلى حيث يجب أن تكون في متحف العاديات إلى جانب المغزل اليدوي والفأس البرونزيّة.
1
عدتُ إلى العلَّامة البغدادي هادي العلوي حيث يؤكد بأن كلمة "شيوعيَّة" اشتُقتْ في العربية على المصدر الصناعي من الشيوع, وهو الفعل الازم للفعل المتعدي إشاعة, وأدى هذا الاشتقاق المستحدث إلى أوهام كثيرة ضارة, حيث اعتقد الكثير من الناس أن الشيوعيَّة بدعة من بدع العصر الحديث جاءتنا من الغرب, والاسم قد يكون حديثاً والمسمى قديماً, ولا ملازمة بين الاسم والمسمى لأن الاسم متغير وجذر الفعل ثابت.
2
شيوعيَّة, مشاعيَّة, تسبيل, هي اسماء مترادفة لمسمى واحد. والمشاعيَّة بالتعريف الاقتصادي تضاد الملكية فالمشاع لا يُملك ويتشكل تاريخ الشرق من الصراع بين المشاعيَّة والتملك. والتسبيل عند أهل الشرق يعني وضع المال, أو ما يَنُوب عنه, في السبيل, الذي هو الطريق, أو جعله في سبيل الله, أي توزيعه على عباد الله. والمصطلح أورده فيلسوف المعرة بقوله في اللزوميات:
ففرق مالك الجم
وخل الأرض تسبيلا
وماء السبيل مرفق عام يُقدم ماء الشرب مجاناً للناس وهو من أشكال المشاعيَّة في الشرق. وقد ذكر الباحث المؤرخ فايز قوصرة في كتابه "من إبلا إلى إدلب" أحد عشر سبيلاً في مدينة إدلب في الشمال السوري تتوزع في حاراتها حين كان الماء عزيزاً في منتصف القرن الثامن عشر.
4
و قرأتُ في كتاب "نزهة الأنام في محاسن الشام" للعلَّامة عبدالله بن محمد البدري الذي عاش في القرن الرابع عشر أن أصحاب البساتين في غوطة دمشق كانوا يضعون الفواكه في أجران حجرية ضخمة على أبواب البساتين ومن يحتاج من أبناء السبيل يأخذ منها حاجته. وفي البساتين من يزرع أشجاراً للفقراء يعرفونها بالتكرار وغالباً ما تُزرع على تخوم الدروب ليتناولها الدَّرابة . وكان جدي عثمان دحنون-رحمه الله- والذي ظلَّ فلاحاً مرابعاً بلا أرض، حيث رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في الشمال السوري في ستينات القرن العشرين مُدعياً بأن هذه الأرض مَكْس، فهي حرام، في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنَّة" مع ذلك ظلَّ يحمل من حصته من ثمر التين والعنب وخضار الصيف إلى بيوت الفقراء والمساكين.
5
على الشيوعيين أن يستلهموا من هذه الأفكار ما يتناسب مع عصرنا الحالي ليستطيعوا الاندماج في واقعهم الاجتماعي المعيش. بمعنى أن يكون حضورهم في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية غالباً على الحكي السياسي, وحتى لا تقتصر فعالياتهم على العمل الأيديولوجي في الأحزاب و الذي تهرب الخلق منه هروب السليم من الجربان. ولا أعتقد بأن الأحزاب الشيوعية القائمة لا تزال تستطيع حمل "فكرة الشيوعية" والسير بها إلى نهاية سعيدة. وأظن بأن تجديد طرق العمل لا محيد عنه, وأحسبها بادرة طيبة أن يكون للشيوعيين مطاعم شعبيَّة في الأحياء الفقيرة, بسيطة في شكلها, مجانيَّة في تعاملها مع الخلق, منتشرة في أرجاء البلاد, يجلس على موائدها من شاء, ليأكل ما شاء, كما يشاء, دون حسيب أو رقيب. وإطعام الجياع مهمة جليلة تستحق من الشيوعيين العمل عليها في كفاحهم اليومي. لأنني أعتقد بأن الشيوعي عنده وجدان وضمير وشجاعة وقيم وأخلاق وإيمان. وهو في الأصل "مناضل اجتماعي" لا تحكمه السياسة بل يحكمه الضمير والوجدان. و لينظر كل شيوعي إلى ما آلت إليه أحوال الخلق في هذا الزمن الأغبر والذي من المفترض -من كل شيوعي- أن يكون مع الخلق ضد من يسعى لإذلالهم في معيشتهم.
6
أذكر حادثة تعود بالزمن إلى عام 1934 عندما كان الجيش الأحمر للعمال والفلاحين الصينين يقوم بتحرك استراتيجي كبير, من مقاطعة جيانغشي في الجنوب إلى الشمال, في مسيرته الشهيرة التي قطع فيها 12500 كم. مرَّ الجيش الأحمر بمقاطعة هونان وأقام بعض أفراده في بيوت الفلاحين. عندما غادروا هذه البيوت قَطَعَ كل فرد من الجيش الأحمر لحافه إلى جزئين, أخذ جزءاً, وقدم الجزء الآخر للفلاحين الفقراء. بعد خمسين عاماً من ذلك, زار أحد الصحفيين هذه المقاطعة, حيث حكى الفلاحون هناك له هذه القصة, وقالوا: الشيوعيون هم أولئك الذين قطعوا ألحفتهم لتقديم نصفها للفقراء.
7
ترمي الشيوعيّة -في التصوّر النهائيّ- لإنهاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولتحقيق العدالة الاجتماعيّة والمساواة في الحقوق السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لجميع البشر، وتمكين الحرية والديمقراطية من العمل في مفاصل المجتمع, وتصفية دور الدّولة الاستبداديّ و التي هي من الأساس أداة الهيمنة والقمع الطبقي, و الدولة في العموم-من خلال مؤسساتها- هي سلطة غاشمة تفرض القهر والجوع والذل على الخلق أو العامة أو الرعاع أو الطبقة العاملة في المعامل والمزارع, بحيث لا ترحم ولا تترك الخلق لرحمه الله. الشيوعيَّة تستند في رؤيتها وطريقة عملها إلى الوقائع، و تُشدّد على الموضوعيّة، لأن الواقع أشياء عنيدة على حدِّ تعبير لينين، وبالتالي تحاول أن تجذب و تقود جماهير غفيرة -وقد تفشل في ذلك- إلى الحراك السياسي للخلاص نهائياً من عبودية رأس المال ورتق فتقه الذي يتمثل في هذا الفارق الكبير بين الأغنياء و الفقراء على كوكب الأرض.